تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

باعتبار المانع ، ولا نعني من الشكّ باعتبار المقتضي إلاّ الشكّ في الاستعداد أو مقداره ، ومرجع منعه المتقدّم إلى إنكار الاستصحاب فيما شكّ في استعداده أو مقدار استعداده للبقاء ، وهو إنكار لحجّيته في الشكّ باعتبار المقتضي ، فيكون عدولا عمّا اختاره أوّلا.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك : بأنّ الشكّ في الاستعداد أو مقداره قد يكون لاشتباه الوصف مع معلوميّة الموصوف ، بأن يكون ذاتا معيّنة يشكّ في استعداده أو مقدار استعداده للبقاء ، وقد يكون لاشتباه الموصوف بأن يكون ذاتا مردّدة بين نوعين معلومي الوصف مع اختلافهما في مقداره. والمعهود المتداول من الشكّ في المقتضي في ألسنتهم ما كان من قبيل الأوّل ، والقول بحجّية الاستصحاب فيه لا ينافي منع جريانه فيما هو من قبيل الثاني ، ومحلّ البحث من هذا القبيل.

ويتوجّه إليه حينئذ : أنّه يرجع إلى إنكار استصحاب القدر المشترك وهو ضعيف ، وسيأتي تحقيق القول فيه.

وثاني ما يرد عليه : نقض إنكاره الاستصحاب في المفهوم المردّد بالنبوّة المطلقة ، فإنّها بحسب الواقع ونفس الأمر لا تخلو عن النبوّة المؤبّدة والنبوّة المغيّاة إلى غاية منقضية ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة ـ بمعنى الغير المقيّدة ـ ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الدوام والتوقيت. فإجراء الاستصحاب في إحداهما دون الاخرى تحكّم.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك أيضا : بإبداء الفرق بينهما بأنّ المطلقة يحكم فيهما بالاستمرار إلى أن يثبت الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة الّتي استمرارها غير محرز.

وفيه : أنّ الإطلاق في النبوّة المطلقة ـ بمعنى الغير المقيّدة المقتضي للحكم بالاستمرار ـ إن اريد به الظهور الّذي هو من أحوال الخطاب اللاحقة له ولو بانضمام حكم العقل بقبح الإغراء فالحكم بالاستمرار صحيح ، غير أنّه خروج عن ضابط الاستصحاب ، إذ لا مجرى للاستصحاب مع إطلاق الدليل. وإن اريد به الإهمال الناشئ عن إجمال الخطاب باعتبار عدم وضوح دلالته على إطلاق ولا تقييد ، فلازمه كون قضيّة النبوّة الثابتة به مهملة ، ومرجعها إلى المفهوم المردّد الّذي لا يتّجه فيه الحكم بالاستمرار بمقتضى أصله.

وثالث ما يرد عليه : أنّه يلزم من أصله الّذي ذكره اختصاص جريان الاستصحاب في الأحكام الغير المحدودة بحدود معيّنة بالحكم المطلق وعدم جريانه في مطلق الحكم ، فكثيرا مّا يتردّد الحكم الشرعي بين المطلق والمؤبّد والموقّت فوجب أن لا يجري فيه

٣٨١

الاستصحاب ، فلا وجه لإطلاق القول به في الأحكام.

ولو اعتذر بوجود الفارق ـ وهو الغلبة ـ بين الأحكام والنبوّات كما ينساق ذلك من تضاعيف كلامه ، بدعوى : أنّ الغالب في الأحكام المطلقات الّتي أراد فيها الشارع استمرارها ولو من مجرّد الوجود فيظنّ البقاء في محلّ الشكّ لأجل هذه الغلبة ، والغالب في النبوّات النبوّة المغيّاة بغاية معيّنة فلا يظنّ البقاء في مورد الشكّ لأجل هذه الغلبة.

لدفعه ـ مع ما يرد على دعوى الإطلاق من الترديد المتقدّم ـ : أنّ غلبة الإطلاق في الأحكام لا ينفي ندرة وجود المفهوم المردّد ، كما أنّ غلبة المغيّاة في النبوّات لا ينافي كون الفرد النادر هو المطلق لا المفهوم المردّد ، ولا يعيّن كون ذلك المطلق هو غير محلّ الاستدلال بالاستصحاب ، ولا يقضي بكون محلّ الاستدلال ـ أعني نبوّة موسى أو عيسى ـ من المفهوم المردّد لينهض ما ذكر في الجواب ردّا على المستدلّ ، فالأولى أن يجاب عنه بوجوه اخر غير ما ذكروه :

الأوّل : أنّه إن أراد من التمسّك بالاستصحاب إقامة الدليل الإقناعي لنفسه من دون قصد إلى إلزام الخصم.

فيرد عليه : أنّ الاستصحاب من الاصول الّتي يشترط في العمل بها الفحص عن الدليل ، والمفروض أنّ الفحص في اصول الدين ممكن بل متيسّر لانفتاح باب العلم فيها بحكم الضرورة والعقل المستقلّ ، القاضي بلزوم التكليف بغير المقدور من التكليف فيها بالعلم لو لا انفتاح بابه بوجود الطرق العلميّة ، مع قطع النظر عن الإجماع ونصوص القرآن الواردة في وعيد الكفّار وتعذيبهم وخلودهم في النار ، الكاشفة عن تمكّنهم من العلم وتقصيرهم في تحصيله ، وتمسّكه بالاستصحاب حينئذ إمّا أن يكون قبل الفحص فغير معتبر ، وإن كان بعد الفحص بما هو حقّه وعلى الوجه الّذي ينوط به إتمام حجّة الله تعالى على خلقه وبه ينقطع العذر فغير جار ، لكون الفحص على الوجه المذكور مؤديّا إلى العلم بأحد الطرفين لا محالة ، ومع العلم لا معنى للاستصحاب.

وإن أراد منه إلزام الخصم على بطلان دينه ، أو على حقّيّة دين المستدّل.

فيرد عليه : أنّ الاستصحاب الملزم للخصم ما يحرزه الخصم ، وهو موقوف على إحراز شروطه الّتي منها اليقين السابق والشكّ اللاحق ، واليقين بثبوت نبوّة موسى أو عيسى في زمانهما وإن كان حاصلا للمسلمين إلاّ أنّ الشكّ في بقائهما وارتفاعهما في زمان

٣٨٢

محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منتف بالنسبة إليهم لأنّه أمر وجداني وليس في أنفسهم شكّ في نسخ هذه النبوّة بنبوّة نبيّهم ، وشكّ الكتابي إن كان لا يصلح موضوعا لاستصحاب المسلم [ فالاستصحاب الّذي توهّمه الكتابي وفرضه من عند نفسه لا ينهض لإلزام المسلم على بطلان دينه ولا على حقّيّة دين الكتابي ، هذا ](١).

وبالتأمّل فيما ذكرناه يندفع ما لو أراد الكتابي بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها يطالب بإقامة الدليل ، فإنّ مدّعي بقائها في نحو المسألة أيضا يفتقر إلى إقامة الدليل ، ولو استند إلى الاستصحاب عاد عليه البحث السابق.

وإن اعتذر بأنّي ناف للنبوّة الجديدة الّتي يثبته المسلمون ، وليس على النافي دليل بل المثبت مطالب بإقامة الدليل.

ففيه : أنّ دعوى النفي ودعوى الإثبات سيّان في احتياجهما إلى الدليل ، لأنّ النفي عبارة عن نفي مدّعي المثبت فيكون محتاجا إلى الدليل.

نعم ما يقال : من أنّ المانع يكفيه المنع ولا يكلّف بالإثبات ، بل الإثبات من وظيفة المستدلّ حقّ لا سترة عليه ، إلاّ أنّه ممّا لا يرتبط بالمقام لوضوح الفرق بين النافي والمانع ، فإنّ المانع من يمنع الاستدلال بمنع أحد مقدّمات دليل المستدلّ لا بعينه وهو النقض الإجمالي ، أو منع مقدّمة معيّنة أو كلّ واحد من مقدّمات الدليل وهو النقض التفصيلي ، بخلاف النافي فإنّه لا يتعرّض لدليل المستدلّ أصلا بل ينفي مدّعى المثبت ، ونفي مدّعاه دعوى منه وهي كدعوى الإثبات لا تسمع إلاّ بدليل.

فلو قيل : إنّه يكفي في دليله الأصل.

لدفعناه : بقضيّة اشتراط اعتباره بالفحص.

كما أنّه لو قيل : بأنّه قد يكتفى في دليل النفي بعدم الدليل على الإثبات ، كما يقال : أنّ عدم الدليل دليل العدم ، وهذا أصل مسلّم في الجملة ويعوّل عليه في كثير من المقامات.

لدفعه : أنّه كذلك ولكنّه بعد الفحص لا مطلقا ، فإذا انجرّ الكلام إلى الفحص وجودا أو عدما عاد الكلام السابق.

الثاني : أنّ الاستصحاب المتمسّك به لا بدّ له من مدرك ، فإن كان الأخبار فالتعويل

__________________

(١) سقط ما بين المعقوفتين من قلمه الشريف في التعليقة ، وإنّما أوردناها من حاشيته على القوانين تتميما للمرام ، ( راجع حاشية القوانين : ١١٠ )

٣٨٣

عليها لإثبات الاستصحاب يستلزم الإذعان بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّ الأخبار منه صدرت بلسان أمنائه وصدور مثلها من موسى أو عيسى غير واضح.

وكون البناء عليها في الاحتجاج بالاستصحاب جريا على طريقة الخصم ومعتقده إلزاما له.

يدفعه : أنّ مقتضاها على طريقة الخصم نقض اليقين بيقين مثله ، وهو في العدول عن شرع موسى وعيسى على يقين من نسخه وحدوث شرع نبيّهم ، وإن كان بناؤه على ظنّ البقاء الحاصل في جميع موارد الاستصحاب ، فيتوجّه إليه منع حصول الظنّ أوّلا بسند تقدّم ذكره في أوّل المسألة ، ومنع اعتباره في اصول الدين ثانيا ، لعدم انسداد باب العلم فيها ، والعمدة من دليل حجّيّة الظنّ دليل الانسداد وهو غير جار هنا. وكون الظنّ الاستصحابي من الظنون الخاصّة لا يسلّم إلاّ لدليل خاصّ قطعي وليس إلاّ بناء العقلاء إن كان ، وهو على ما تقدّم في أوّل المسألة إنّما يسلّم في امور معاشهم لا في الأحكام الشرعيّة ولا سيّما الاصول الاعتقاديّة.

ولو سلّم بناؤهم على العمل به مطلقا حتّى الاصوليّة فإنّما يعملون به بعد الفحص وعدم الوصول إلى دليل علمي ، وبدونه لا تعويل عليه عندهم ، ومع حصوله لا بدّ من العلم بأحد الطرفين كما عرفت.

الثالث : أنّ الاستصحاب المذكور لا يفيد إلزاما لنا إلاّ مع يقيننا بالمستصحب وهي نبوّة موسى وعيسى ، ولا مستند له إلاّ أخبار نبيّنا في كتابه وسنّته ، لانتفاء برهان عقليّ وفى بهذه النبوّة الخاصّة ، وانتفاء الخبر المتواتر وشروطه خصوصا كون المخبر به حسّيّا ، لوفور الخطاء في الحدسيّات وإن بلغ المخبرون في الكثرة ما بلغوا ، والاعتماد على أخبار نبيّنا يستلزم انقطاع الاستصحاب لابتنائه على كونه نبيّنا. وتوهّم أنّه يتوقّف على صدقه لا على نبوّته ، يندفع : بأنّ صدقه لا يحرز إلاّ بنبوّته.

الرابع : أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون شريعة موسى وعيسى لما بيّنّاه سابقا من عدم كون نفس النبوّة قابلة للاستصحاب ، والشريعة عبارة عن مجموع ما جاء به النبيّ عن الله سبحانه ، ونحن معاشر المسلمين نعتقد أنّ من جملة ما جاء به موسى وعيسى من الله سبحانه بشارتهما برسول يأتي من بعدهما اسمه أحمد ، فإن اريد بالشريعة المستصحبة ما لم يشتمل على تلك البشارة فنحن لا نعتقدها ، ومعه يستحيل استصحابها. وإن اريد بها ما يشتملها فهي منقطعة بحكم الفرض.

٣٨٤

ودعوى : أنّ النبيّ الموعود لم يأت بعد والّذي أتى وادّعى النبوّة ليس هو النبيّ الموعود ، لا تضرّنا بعد جزمنا بأنّه الموعود ، لأنّ المدار في جريان الاستصحاب وعدم جريانه على يقين الناظر فيه ببقاء المستصحب وشكّه فيه.

وإلى هذا الجواب يرجع ما ذكره أبو الحسن الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق حيث قال له عليه‌السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه‌السلام : « أنّا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّ به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكتابه ولم يبشّر به امّته (١) ».

والحاصل : معنى بقاء نبوّة عيسى مثلا بقاء دينه وشريعته لا بقاء نفس النبوّة ، لأنّها وصف تابع في بقائه وارتفاعه لموصوفه ، والموصوف غير باق فكذا الوصف.

وإذا كان كذلك فنقول : إنّا من المقرّين ببقاء دينه وشريعته في الجملة ، ومن المعتقدين به لأنّ من دينه الّذي أتى به إنّما هو التصديق بمن سلف وغيره من الأنبياء وكتبهم ، والبشارة برسول يأتي من بعده اسمه أحمد على ما نطق به قوله تعالى حكاية عنه : ( إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ )(٢) فإذعاننا برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وتديّننا بدينه واتّباعنا لشريعته إنّما هو على حسب ما يقتضيه دين عيسى وشرعه. فالمتمسّك بالاستصحاب إن أراد بالمستصحب هذه الشريعة المتضمّنة للتصديق بالتوراة والبشارة برسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فتكلّف غير محتاج إليه ، لأنّا لسنا بمنكري هذه الشريعة وبقائها في الجملة ، وإن أراد غير ذلك فاستصحابه لا يفيدنا شيئا ، لأنّا لسنا بمعتقدي ذلك حتّى يلزمنا استصحابه.

وبعبارة اخرى : شريعة عيسى الّتي نحن نعتقدها كانت مغيّاة بغاية معلومة وهي حدوث شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على حسب ما يقتضيه بشارة عيسى ، وهذا لا يحتاج إلى استصحاب ، والّتي ليست مغيّاة بهذه الغاية نحن لا نعتقدها فلا يعقل استصحابه الملزم لنا لانتفاء اليقين السابق.

وإذا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فهاهنا دقيقة ينبغي التنبيه عليها ، وهي أنّ هذا كلّه في منع استصحاب أصل الشريعة السابقة. وأمّا استصحاب حكم من أحكامها الثابتة فيها إذا لم يعلم نسخه بالخصوص فالأقوى صحّته وحجّيّته ، إذ المستصحب إذا اجتمع فيه شرائط الاستصحاب وأركانه فلا يتفاوت الحال فيه بين كونه من أحكام هذه الشريعة أو من

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٦ و ١٥٧.

(٢) الصفّ : ٦.

٣٨٥

أحكام غيرها من الشرائع السالفة ، لوجود المقتضي وهو جريان دليل الاستصحاب وفقد المانع خلافا لمن أنكره استنادا إلى تشكيكات أوردها بعض مشايخنا مع ثمرات المسألة في رسالته الاستصحابيّة (١) ولا فائدة مهمّة في التعرّض لذكرها ومن يطلبها يراجع إلى الرسالة المذكورة.

المطلب الثاني

في الأصل المثبت وهو الاستصحاب من حيث إنّه يفيد ثبوت غير المستصحب وآثاره الشرعيّة من مقارناته ، فيقال : إنّه ليس بحجّة أو ليس بثابت أو أنّه لا عمل بالاصول المثبتة ، ويعنى به أنّه لا يفيد ذلك.

وتوضيح المقام : أنّ ما يقارن المستصحب إمّا أن يكون بينه وبين المستصحب علاقة واتّصال يقال له : اللزوم أو لا ، بل كان مقارنته له لمحض الاتّفاق كفسق عمرو إذا قارن عدالة زيد حال اليقين [ بها ] ، وكرّيّة ماء إذا قارنت وجوب الاغتسال للجنابة حال اليقين بها ، ورطوبة ثوب أو طهارته إذا قارنت حرمة امرأة حال اليقين بها. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك المقارن من لوازم المستصحب ، أو من ملزوماته ، أو لا من هذا ولا من ذلك ، بل كان مع المستصحب لازمين لأمر ثالث ، على معنى كونهما متلازمين في الخارج متشاركين في الملزوم.

وبعبارة اخرى : أنّ مقارنة ما قارن المستصحب لعلاقة بينهما إمّا أن يكون من جهة ترتّبه على المستصحب ، أو من جهة ترتّب المستصحب عليه ، أو من جهة ترتّبهما على أمر ثالث غيرهما. وعلى التقادير الثلاث فاللزوم الارتباط الحاصل بينهما إمّا أن يكون شرعيّا أو عقليّا أو عاديّا ، فهذه عشرة أقسام :

أمّا القسم الأوّل : فينبغي القطع بأنّ الاستصحاب لا يفيد ثبوت الأمر المقارن لمحض الاتّفاق وترتّبه على المستصحب. فلا يحكم بفسق عمرو لمجرّد استصحاب عدالة زيد ، ولا بكرّيّة الماء لمجرّد استصحاب وجوب الاغتسال للجنابة ، ولا بحرمة الامرأة المذكورة لمجرّد استصحاب رطوبة الثوب أو طهارته باعتبار مقارنتها للمستصحب حال اليقين به ، بل لو كان ذلك الأمر المقارن بحيث فيه بنفسه الاستصحاب لاجتماع شرائطه وتحقّق

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥ ـ ٢٣٢.

٣٨٦

أركانه فيه فهو المتّبع في الحكم بثبوته ، سواء وافق استصحابه لمقتضى استصحاب ذلك المستصحب أو خالفه ، وإلاّ فلا يمكن إثباته ولا الحكم بثبوته ولا ترتّبه على المستصحب.

لأنّ العمل بالاستصحاب إمّا أن يكون لظنّ البقاء فلا يلزم من ظنّ بقاء الشيء ظنّ بقاء مقارناته الاتّفاقية ، إذ لا واسطة بينهما من تلازم ولا ملازمة.

وإمّا أن يكون للأخبار فحاصل مفادها على ما بيّنّاه مرارا وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن وترتيب آثار المتيقّن على المشكوك ، على أن تكون هذه الآثار أحكاما ظاهريّة للمشكوك ، على معنى كونها أحكاما مجعولة للمستصحب من حيث كونه مشكوك البقاء. فهي بالقياس إلى المتيقّن أحكام واقعيّة تترتّب عليه بوجوداتها الجعليّة الأوّلية ، وبالقياس إلى المشكوك أحكام ظاهريّة مجعولة تترتّب عليه بوجوداتها الجعليّة الثانويّة.

وظاهر أنّ المقارن الاتّفاقي بالقياس إلى المستصحب ليس من آثاره المترتّبة عليه حال اليقين ، فلا يكون من الآثار المجعولة له بعد طروّ الشكّ ، خصوصا إذا كان من الامور الخارجيّة الغير القابلة للجعل كفسق عمرو وكرّيّة الماء في المثالين المتقدّمين. فمثل هذا المقارن لا يندرج في عموم « لا ينقض اليقين بالشكّ (١) » ليجب ترتيبه على المشكوك.

وبما قرّرناه يظهر الحكم في ستّة أقسام اخر من التسع الباقية ، وهي ما لو كان الأمر المقارن ملزوما للمستصحب بحكم الشرع أو العقل أو العادة ، أو ملازما له بكونه معه لازمين لأمر ثالث شرعا أو عقلا أو عادة ، فإنّه في هذه الأقسام أيضا ليس من لوازم المستصحب ليدخل في عموم الأخبار الآمرة بترتيب آثار كلّ مستصحب حال اليقين على حال الشكّ ، فلا يفيد استصحابه وترتيب آثاره عليه ترتيبها عليه.

نعم على القول بالاستصحاب باعتبار إفادته ظنّ البقاء اتّجه الحكم بمقارناته في جميع هذه الأقسام ، لقضاء العلاقة والاتّصال بين شيئين في الوجود الخارجي بالاتّصال بينهما في الوجود الذهني أيضا ، على معنى عدم انفكاك أحدهما عن صاحبه في الذهن أيضا. فالعلم بأحدهما يستلزم العلم بالآخر والظنّ بأحدهما أيضا يستلزم الظنّ بالآخر ، فالظنّ باللازم لا ينفكّ عن الظنّ بالملزوم ، والظنّ بأحد المتلازمين أيضا لا ينفكّ عن الظنّ بالمتلازم الآخر خصوصا إذا كانا معلولين لعلّة مشتركة ، لوضوح دوران المعلول مع العلّة وجودا

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

٣٨٧

وعدما علما أو ظنّا أو وهما.

وأمّا الثلاث الباقية وهي ما لو كان الأمر المقارن من لوازم المستصحب شرعا أو عقلا أو عادة ، فالحقّ فيها أنّ المستصحب إن كان من الامور القابلة للجعل كالوجوب في الحرمة والإباحة وغيرها من الأحكام الشرعيّة المجعولة فاستصحابه يفيد ثبوت جميع آثاره وترتيبها عليه شرعيّة وعقليّة وعاديّة ، وإن كان من الامور الغير القابلة للجعل كالموضوعات الخارجيّة واللغويّة بل الأحكام الوضعيّة ـ بناء على ما حقّق في محلّه من عدم كونها من مجعولات الشارع ـ فاستصحابه لا يفيد إلاّ ثبوت الآثار الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة.

والسرّ في هذا التفصيل : أنّ الأخبار الاستصحابيّة مسوقة لتأسيس حكم ظاهري مجعول للمكلّف الشاكّ في بقاء الحالة السابقة وارتفاعها من حيث هو شاكّ ، وهذا الحكم الظاهري المجعول هو نفس المستصحب فيما لو كان من الأحكام الشرعيّة القابلة للجعل وآثاره المترتّبة عليه فيما إذا كان من غيرها ، فقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » نهي عن رفع اليد عن اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، وهو يفيد وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، ومعناه الأخذ به على أنّه حكم مجعول للشاكّ من حيث كونه شاكّا ، أو الأخذ بآثاره على أنّها أحكام مجعولة له من الحيثيّة المذكورة.

وبعبارة : اخرى مفاد قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » مجعوليّة المستصحب أو مجعوليّة آثاره.

ففي الأوّل يجب الالتزام بالمستصحب على أنّه حكم ظاهري مجعول.

وفي الثاني يجب الالتزام بآثاره على أنّها أحكام ظاهريّة مجعولة.

وهذا هو معنى وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا كان المستصحب أو آثاره من الأحكام الشرعيّة ، لأنّها قابلة للجعل دون الامور الخارجيّة.

وقضيّة ذلك أن لا يفيد الاستصحاب فيما لو كان المستصحب من قبيل الموضوعات الخارجيّة إلاّ ثبوت آثاره الشرعيّة الّتي هي من قبيل الأحكام الشرعيّة ، لكون الآثار العقليّة والعاديّة على ما ستعرفه في ضمن الأمثلة الآتية من قبيل الموضوعات الخارجيّة ونحوها ، فوجه بطلان الاصول المثبتة عدم وفائها باثبات اللوازم العقليّة والعاديّة لعدم اندراج هذين القسمين من اللوازم في دليل حجّيّة الاصول.

وإن أبيت إلاّ عن أنّ مدلول الأخبار وجوب الحكم ببقاء الحالة السابقة ومعناه ترتيب

٣٨٨

الآثار الّتي كانت مترتّبة عليها على تقدير بقائها.

وبعبارة اخرى : أن يرتّب حال الشكّ جميع الآثار المترتّبة عليها حال اليقين ، وهذا هو الحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ ، وهو لا يقتضي جعلا آخر حتّى يجعل وظيفة الحكم الشرعي دون الموضوع الخارجي ، وينشأ منه الفرق المذكور بين اللوازم الشرعيّة وغيرها.

لدفعناه : بأنّ الآثار حال اليقين بالحالة السابقة إنّما كانت مترتّبة عليها بوجوداتها الواقعيّة الأوّلية الخلقيّة أو الجعليّة ، وهي على تقدير ارتفاع الحالة السابقة حال الشكّ في الواقع منقطعة لا محالة ، فلا يمكن ترتيبها لاستحالة تعلّق الفعل الوجودي بالمعدوم ، فلا بدّ لها من وجود ثانوي ولا يكون إلاّ بالجعل ليتمكّن من ترتيبها باعتبار وجوداتها الثانويّة الجعليّة. ولا يتمّ ذلك إلاّ فيما كانت من قبيل الأحكام الشرعيّة لا من قبيل الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة. ولو كان للّوازم العاديّة مثلا آثار شرعيّة قابلة للجعل لم يمكن ترتيبها أيضا ، لأنّ ترتّبها إنّما يكون بواسطة ترتّب ملزوماتها والواسطة متعذّرة بالفرض وبدونها لا يعقل ترتّبها.

وبالجملة فاللازم الشرعي للاّزم العادي إمّا أن يترتّب على ملزومه أو على ملزوم ملزومه وهو المستصحب ، والثاني خلاف الفرض ، والأوّل أيضا بدون ترتّب ملزومه غير ممكن.

نعم على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ اتّجه القول بالاصول المثبتة ، لما عرفت مرارا من عدم انفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم ، سواء كان لزومه شرعيّا أو غيره.

وبالجملة اعتبار الاستصحاب إذا كان من بناء العقلاء فلا يفرق حينئذ في الامور الثابتة به بين نفس المستصحب ولوازمه ، شرعيّة وعقليّة وعاديّة ، بل مطلق مقارناته ولو اتّفاقية ، لأنّ الاستصحاب عندهم طريق لإحراز الواقع ظنّا كسائر الطرق الظنّية ، فبعد ما انكشف الواقع ـ وهو بقاء المستصحب ـ انكشافا ظنّيا ولو نوعيّا ترتّب عليه جميع لوازمه ، بلا فرق بين أنواعه لمساواتها إيّاه في الانكشاف الظنّي.

ولكن ربّما يشكل الحال بالنظر إلى عمل العلماء في الكتب الاصوليّة والفقهيّة حيث نراهم يعملون بالاصول المثبتة في جملة من المقامات ، ويتركون العمل بها في كثير منها ، فتارة يرتّبون على المستصحب ما هو من لوازمه العقليّة أو العاديّة ، واخرى يقتصرون على لوازمه الشرعيّة فمن موارد الأوّل الاصول اللفظيّة المحرزة للمرادات المجمع على العمل بها ،

٣٨٩

كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم النقل ونحوهما المعمول بها لإثبات إرادة الحقيقة ، أو إرادة المعنى اللغوي المعلوم ثبوته في صدر اللغة ، أو إرادة المعنى العرفي الثابت في العرف المشكوك ثبوته من صدر اللغة ، مع كون إرادة الحقيقة أو أحد المعنيين لازما عاديّا لعدم القرينة وعدم النقل.

ومنها : أصالة عدم الحائل على العضو لإثبات تحقّق الغسل أو المسح المعتبرين في الوضوء ، مع كونه مترتّبا على وصول الماء أو الرطوبة إلى البشرة وهو من اللوازم العاديّة لعدم وجود الحائل.

ونحوه أصالة بقاء الحائل عليه فيما لو تيقّن وجوده ثمّ شكّ زواله لإثبات عدم تحقّق الغسل أو المسح ، المترتّب على عدم وصول الماء أو الرطوبة إلى البشرة ، وهو لازم عادي لوجود الحائل.

ومنها : أصالة عدم طروّ النسيان عند الشكّ حال قراءة السورة في نسيان آية من الفاتحة لإثبات تحقّق قراءة الآية المشكوكة ، مع كونه لازما عاديّا لعدم النسيان.

ومنها : استصحاب بقاء الكرّ في الحوض لإثبات عدم انفعال الماء الباقي فيه بملاقاة النجاسة ، مع كونه ممّا يترتّب على كرّيّة الماء الباقي فيه وهو لازم عقلي لبقاء الكرّ.

ومنها : استصحاب الحياة لإثبات التوارث والاشتراك في الإرث بين زيد وعمرو إذا مات عنهما والدهما فيما لو اتّفقا على إسلاميها مع الاتّفاق على كون إسلام زيد في شعبان مثلا وإسلام عمرو في أوّل رمضان ، واختلفا في توارث عمرو وعدمه بسبب الاختلاف في كون موت أبيهما في أواسط شعبان أو في أواسط رمضان ، فادّعى زيد موته في الأوّل وادّعاه عمرو في الثاني فذكر جماعة منهم المحقّق في الشرائع (١) ، وغيره ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه بأنّ المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورّث إلى ما بعد إسلام عمرو مع ترتّب الحكم على تأخّر موت المورّث عن إسلام الوارث ، وهو لازم عقلي لبقاء حياة المورّث إلى ما بعد إسلام الوارث.

ومنها : استصحاب الحياة لإثبات القتل الموجب للقصاص أو الدية فيما لو اختلف الجاني والوليّ في ملفوف قدّه الجاني نصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا حال القدّ وادّعى

__________________

(١) الشرايع ٤ : ١٢٠.

٣٩٠

الجاني أنّه كان ميّتا ، فإنّ المستفاد منهم في هذا الفرع نهوض استصحاب لا ثبات القتل الّذي هو سبب الضمان ، ولذا قد يعارض بأصالة عدم الضمان وإن ضعف من حيث إنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سبب في الضمان فلا معنى لأصالة عدم الضمان.

وبالجملة فالمستصحب في هذا الفرع هو الحياة ، والضمان مترتّب على القتل وهو لازم عادي للحياة حال القدّ.

ومنها : استصحاب بقاء الحياة لترجيح قول الجاني فيما لو اختلف هو والولي في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله ، فلا ضمان حينئذ على ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط (١) والشرائع (٢) ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع من موارد اعتبارهم الاصول المثبتة ، فيتوجّه إليهم سؤال وجه الفرق والتفصيل بين الموارد ، فإن كان مبنى اعتبارهم الاستصحاب على الأخبار فقد عرفت أنّه يقتضي بطلان الاصول المثبتة مطلقا ، وإن كان على ظنّ البقاء فهو يقتضي صحّتها كذلك على ما بيّناه فما وجه الفرق والتفصيل؟

ويمكن الذبّ عن الإشكال بوجهين :

أحدهما : كون بناء عمل العاملين بالاصول المثبتة في بعض المقامات على اعتبار الاستصحاب من حيث الظنّ بالبقاء تعويلا على بناء العقلاء ، ولا يقدح فيه ترك العمل بها في بعض المقامات أيضا ، لأنّ اعتبار الاستصحاب على هذه الطريقة مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : حصول الظنّ بالبقاء.

والاخرى : اعتبار هذا الظنّ وحجّيته.

وظاهر أنّ الظنّ بنفسه لا يلازم الحجّية ، وحينئذ فالظنّ ببقاء المستصحب وإن كان يستلزم الظنّ بلوازمه ـ شرعيّة أو عقليّة أو عاديّة كما عرفت سابقا ـ ولكن اعتبار الظنّ بالملزوم لا يلازم اعتبار الظنّ باللازم ، لجواز التفكيك بينهما في الاعتبار وعدمه بل وقوعه في الشرعيّات ، ومنه ما لو قام أمارة ظنّية بمسألة فرعيّة مستلزمة لمسألة اصوليّة على وجه يلزم من الظنّ بالاولى الظنّ بالثانية ، كما لو ورد خبر ظنّي بنجاسة المجسّمة المستلزمة لكفرهم ، فإنّه يعمل بالظنّ بالنجاسة لكونه ظنّا في المسألة الفرعيّة ولا يعمل بالظنّ بالكفر لعدم اعتبار الظنّ في اصول الدين ، ونحوه ما لو ظنّ لأمارة ظنّية بالقبلة عند تعذّر العلم بها

__________________

(١) المبسوط ٧ : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) الشرايع ٤ : ٢٤١.

٣٩١

على وجه لزم منه الظنّ بالوقت في موضع إمكان العلم به من غير جهة التأخير ، فإنّ الظنّ الأوّل ممّا يجوز العمل به بخلاف الثاني.

ومن الجائز في بعض لوازم المستصحب باعتبار خصوص المورد عدم اعتبار الظنّ فيه مع اعتباره في ملزومه. إمّا لوجود المانع أو فقد المقتضي ، ومبنى الوجهين على أنّ الظنّ الاستصحابي هل هو من الظنون المطلقة أو من الظنون الخاصّة؟

فعلى الأوّل لا بدّ وأن يستند عدم اعتبار ما لا يعتبر الظنّ فيه إلى المانع ، وهو ما يخصّص دليل اعتبار مطلق الظنّ إن كان قابلا له.

وعلى الثاني لا بدّ وأن يستند إلى فقد المقتضي لاعتباره في بعض اللوازم ، بأن يكون الدليل القطعي الخاصّ القائم على حجّيّة الظنّ الاستصحابي مقصورا على الظنّ في اللزوم وبعض اللوازم دون بعض ، كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشكّ في هلال رمضان بشهادة عدل واحد ، فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين يوما من ذلك اليوم إذا لم يثبت كون ذلك أوّل رمضان في الواقع ، بل غاية ما دلّ عليه دليل اعتبار الشهادة الظنّية إنّما هو وجوب صوم ذلك اليوم من حيث إنّه ظنّ بشهادة العدل كونه أوّل رمضان ، فلانتفاء هذا الموضوع عن يوم الشكّ من الآخر لم يتناول الدليل الوارد فيه للازمه ، وهو ما ظنّ كونه آخر رمضان. ولعلّ هذا أظهر الوجهين ، لأنّ العمدة من دليل اعتبار الاستصحاب من حيث افادته ظنّ البقاء بناء العقلاء ، وهو لكونه أمرا لبّيا يجب الاقتصار فيه على القدر الّذي تيقّن من لوازم المستصحب استقرار بناء العقلاء على العمل بالظنّ فيه. ومن اختلاف الموارد في ثبوت استقراره وعدم ثبوته نشأ الفرق بينهما في العمل بالاصول المثبتة وعدم العمل بها.

ولعلّ الضابط لموارد عملهم بها ما لو كان اللازم العقلي أو العادي متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ بحسب المفهوم ، كما في استصحاب بقاء الكرّ في الحوض وكريّة الماء الباقي فيه ، واستصحاب بقاء حياة مورّث زيد وعمرو إلى حال اسلام عمرو وتأخّر موته عن إسلام عمرو.

أو كان اللازم بحيث احرز وجود المقتضي لبقائه أو حدوثه بحيث لو لا طروّ المانع لبقى أو حدث ، فقصد بالاستصحاب إحراز فقد المانع على وجه يتغاير مع المستصحب في الوجود والمفهوم ، وذلك كاستصحاب عدم طروّ نسيانه قراءة آية من الفاتحة عند قراءة السورة ليترتّب على عدمه الّذي هو المستصحب حصول قراءة الآية المشكوكة بواسطة

٣٩٢

وجود مقتضيه وهو عزم المصلّي حين الشروع في الصلاة على قراءة الفاتحة بجملتها ، وكاستصحاب عدم الحائل على العضو لترتيب وصول الماء إلى البشرة بواسطة مقتضيه وهو صبّ الماء وذلك العضو على قدر لو لا الحائل أوجب عادة وصوله إلى البشرة واستيعابه لها ، إلى غير ذلك من الأمثلة بخلاف ما لو لم يكن من أحد هذين القسمين ، كاستصحاب الطهارة عند خروج المذي الّذي لا يوجب في بناء العقلاء الحكم بعدم ناقضيّته ، واستصحاب طهارة الثوب عند وقوع رطوبة مردّدة بين الماء والبول عليه الّذي لا يوجب في بنائهم الحكم بمائيّة الرطوبة وما أشبه ذلك ممّا ستعرفه.

وثانيهما : منع عملهم بالاصول المثبتة في شيء من المقامات ، وما يوهمه في بعض المقامات ليس من العمل بالأصل المثبت بالمعنى المبحوث عنه ، وهو كون اللازم العقلي أو العادي مع المستصحب بحيث يتغايران في الوجود وكون ثبوت اللازم على تقدير ترتّبه مستندا إلى الأصل ، بأن يكون المقتضي لثبوته هو الأصل لا غير ، وهو فيما لم يكن المقتضي التامّ لثبوته من غير جهة الأصل محرزا ـ وذلك كما في مثالي المذي والرطوبة المردّدة بين الماء والبول ، ونحو ما لو وكلّ زيد عمرا في إجراء عقد النكاح على امرأة وشكّ في طروّ النسيان أو عروض مانع آخر ، فبمجرّد أصالة عدمه لا يجوز ترتيب آثار الزوجيّة على المرأة المذكورة المترتّبة على وقوع العقد الّذي هو لازم عادي للمستصحب العدمي ـ إذ مع كونهما متّحدي الوجود يعدّ آثار كلّ منهما آثارا للآخر ، كما في مثال استصحاب بقاء الكرّ في الحوض وكرّيّة الباقي ومع كون المقتضي لثبوته محرزا يستند ثبوته إلى ذلك المقتضي لا الأصل ، وإنّما يقصد بالأصل رفع المانع وإحراز عدمه.

وظاهر أنّ عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ، إذ المانع ما يكون وجوده مؤثّرا في العدم ولا يعقل كون عدمه مؤثّرا في الوجود ، وذلك كما في أصالة عدم القرينة ونحوها ، فإنّ الأصل يحرز به عدم القرينة وحمل اللفظ على إرادة الحقيقة إنّما هو لوضع اللفظ وظهوره فيها فالمثبت لها هو الوضع والظهور لا غير ، والأصل المعمول به لإحراز فقد المانع في نحو ذلك لا يسمّى مثبتا ، بل ولو فرض دخوله في المقتضي لترتيب اللازم العقلي أو العادي وآثاره أيضا لا يسمّى مثبتا.

وهذا هو معنى ما في كلام بعض الأعلام في ذيل مسألة الصحيح والأعمّ عند البحث في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادة من قوله ـ في ردّ بعض كلمات الوحيد

٣٩٣

البهبهاني المنكر لجريانه ـ : « أنّ مرادهم من عدم حجّيّة الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي أن يكون الاستصحاب مثبتا لنفس الحكم الشرعي ، مثل أن يقال : « إنّ المذي غير ناقض للوضوء مثلا لاستصحاب الطهارة السابقة ، فاستصحاب الطهارة السابقة هو المثبت لعدم كون المذي ناقضا ، وأصل العدم منفردا لا يثبت به الماهيّة بل هي بضميمة سائر الأدلّة المثبتة لها كما لا يخفى (١) ».

وقد يقال في تصحيح العمل بالاصول المثبتة : بأنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكامها لنفس المستصحب ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقلي بحيث تعدّ آثاره النفس المستصحب. وذلك كما في عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبتة لكون غده يوم العيد يترتّب عليه أحكام العيد من الغسل والصلاة والاضحيّة وغيرها ، فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّته ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوّليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق مثله والآخر ما اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.

ونحوه استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة. ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائي قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها إلاّ بواسطة سراية الرطوبة إلى الثوب ، ولكنّ الواسطة خفيّة ، إلاّ أنّ الحكم بالنجاسة مع ذلك مشكل ، ولذا حكي عن المحقّق (٢) تعليل الحكم بطهارة الثوب الّذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه عدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، فإنّ وجهه عدم قضاء الاستصحاب بوصول الرطوبة إليه.

وربّما احتمل كون وجهه معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب طهارة الثوب مع قطع النظر عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض فليتدبّر.

__________________

(١) القوانين ١ : ٥٧.

(٢) انظر الذكرى ١ : ٨٣ ، لم نعثر عليه في كتب المحقق ره.

٣٩٤

المطلب الثالث

في أصالة تأخّر الحادث

واعلم أنّ الأصل في هذا العنوان ليس مثله في عنوان قولهم : « أصالة النفي » و « أصالة العدم » مرادا بهما الاستصحاب مضافا إلى المستصحب ، لاستحالة وقوع التأخّر مستصحبا بحيث تيقّن به في وقت وشكّ في بقائه وزواله في وقت آخر ، إذ لا يعقل له زوال إلاّ تبدّله بالتقدّم وهو محال ، فوجب التزام تأويل هنا إمّا بجعل الأصالة بمعنى القاعدة المقتضية للحكم بالتأخّر على ما تيقّن حدوثه وشكّ في بدو زمان حدوثه مع كون مدركها الاستصحاب ، أو جعل معناها على تقدير إرادة الاستصحاب كنظائرها استصحاب يلزمه تأخّر الحادث مع كون مستصحبه غير التأخّر من أمر وجوديّ أو عدميّ.

ومورد هذا الأصل ما لو تيقّن وجود حادث في وقت في الجملة ولم يعلم مبدأ وجوده ، هل هو الزمان المتقدّم أو الزمان المتأخّر الّذي تيقّن وجوده فيه حال الجملة؟ فيفرض له أنحاء ثلاثة من الزمان : زمان اليقين بعدم وجوده فيه ، وزمان اليقين بوجوده فيه ، وزمان الشكّ في وجوده فيه وهو الزمان المتوسّط بينهما ، ومرجعه إلى الشكّ في بقاء العدم الأزلي المتيقّن في الزمان الأوّل وعدمه فيه فيستصحب إلى زمان اليقين بوجوده ، وهذا هو استصحاب الأمر العدمي الّذي لزمه عقلا تأخّر حدوث الحادث المتيقّن وجوده في الزمان الثالث.

ثمّ إنّ الأمر الحادث المتيقّن وجوده قد يتقيّن وجوده في وقت معيّن ويشكّ في وجوده فيما قبله ، ككريّة الماء المتيقّنة يوم الجمعة المشكوكة يوم الخميس مع اليقين بعدمها قبل الخميس ، وموت زيد المتيقّن تحقّقه يوم الجمعة المشكوك في تحقّقه يوم الخميس مع اليقين بعدمه قبل الخميس.

وقد يتقّن وجوده في وقت مردّد بين زمانين ، كالماء إذا علمنا كونه كرّا في أحد اليومين إمّا الخميس أو الجمعة مع زوال كريّته فيما بعده والعلم بعدم كريّته قبل الخميس.

وعلى التقديرين فالأمر الحادث إمّا أن يكون واحدا يشكّ في حدوثه في الزمان المتقدّم أو في الزمان المتأخّر ، أو يكون متعدّدا إذا تيقّن وجود كلّ منهما وكان التحيّر في تقدّم أحدهما على الآخر إذا علم تاريخ وجود أحدهما دون الآخر ، أو في تقدّم كلّ منهما على الآخر إذا جهل تاريخهما ، ككريّة ماء وملاقاته الثوب النجس ، وموت كلّ من المتوارثين في موضع اشتباه المتقدّم منهما والمتأخّر ، واشتباه تقدّم موت المورّث على

٣٩٥

اسلام الوارث وتأخّره عنه في مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، واشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ، واشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع وتأخّره عنه ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وإذا تمهّدت هذه الأقسام فينبغي التكلّم في جريان الاستصحاب فيها وعدمه ، ثمّ النظر في مقدار ما يترتّب على المستصحب العدمي من اللوازم والآثار.

فأمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في جريان أصل الاستصحاب وانسحاب العدم الأزلي إلى أن يتّصل بزمان اليقين بالوجود ، لتحقّق شرائط الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق في البقاء فيشمله عموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ وإنّما ينقضه بيقين آخر مثله (١) » ثمّ يترتّب على ذلك المستصحب العدمي الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليه حال اليقين به. فبأصالة عدم كرّيّة ماء الحوض في يوم الخميس إلى الآن المتّصل بيوم الجمعة يحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء وانفعال الماء بملاقاته ، كما أنّ بأصالة عدم موت زيد من يوم الخميس إلى يوم الجمعة يحكم بمضيّ تصرّفات وكيله ومضيّ انتفاعات المستأجر من عينه المستأجرة ، بناء على بطلان الوكالة والإجارة بموت الموكّل والموجر. ولا يترتّب عليه ما زاد عليها من اللوازم العقليّة الّتي منها تأخّر حدوث الموت ، وصدق الحدوث على الوجود المتيقّن يوم الجمعة وهو الوجود المسبوق بالعدم ، بدعوى : أنّ أحد جزئي هذا المفهوم يثبت بالأصل وجزءه الآخر بانضمام الوجود المفروض فيه إليه ، ومرجعه إلى ترتيب هذا الموضوع الخارجي على المستصحب العدمي المتّصل بيوم الجمعة ، للزوم كون الاستصحاب بالقياس إلى هذا اللازم العقلي [ مثبتا ] ولقد عرفت في المبحث السابق أنّه لا عبرة بالاصول المثبتة.

وأمّا القسم الثاني : فلا إشكال فيه أيضا في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان المتقدّم وهو يوم الخميس في المثال المتقدّم ، ومقتضاه عدم كرّيّة الماء فيه فيترتّب عليه جميع أحكام عدم الكرّيّة ، ولكن لا يثبت به كرّيّة يوم الجمعة لبطلان الأصل المثبت ، ومعارضة أصل العدم بالنسبة إلى يوم الخميس بمثله بالنسبة إلى يوم الجمعة ، إذ المفروض كون الحادث ممّا علم ارتفاعه بعد حدوثه مع تساوي نسبة حدوثه إلى اليومين. فكما أنّ الأصل عدم حدوثه في خصوص يوم الخميس فكذلك الأصل عدم حدوثه في خصوص

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١ ، باختلاف يسير.

٣٩٦

يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة الثوب المغسول في أحد اليومين ، لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل آخر حاكم عليه.

نعم لو غسل به في كلّ من اليومين إتّجه الحكم بطهارته ، لانغساله بالكرّ الواقعي جزما ، فالنجاسة الأصليّة مرتفعة قطعا وعروض نجاسة اخرى غير معلوم والأصل عدمه ، نظير غسل الثوب النجس بكلّ من المشتبهين أحدهما نجس.

ومن فروع هذه القاعدة أيضا ما لو توضّأ عند الفجر بعد الحدث فصلّى به الصبح ، وهكذا عند الزوال فصلّى الظهر والعصر ، وهكذا عند الغروب فصلّى المغرب والعشاء ، ثمّ انكشف بعد ذلك لحوق حدث بأحد هذه الوضوءات قبل إحدى الصلوات الخمس وشكّ في الملحوق به ، هل هو وضوء الصبح وصلاته أو غير هما؟ فأصل التأخّر واستصحاب العدم وإن كان يقتضي عدم حدوثه قبل صلاة الصبح ولا الظهر ولا العصر ولا المغرب ، ولكن لا يحكم بحدوثه قبل العشاء ليكون الباطل هذه الصلاة بعينها.

أمّا أوّلا : فلبطلان الأصل المثبت.

وأمّا ثانيا : فلأنّ أصل العدم بالقياس إلى كلّ من الوضوءات والصلوات معارض بمثله في الآخر ، فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال المقتضيته ليقين البراءة بالنسبة إلى الصلاة الباطلة ، ولا يتأتّى إلاّ باعادة الخمس أو ثلاث منها كما هو الأقوى.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما لو تعدّد الحادث كموت زيد وعمرو المتوارثين واشتبه المتقدّم منهما بالمتأخّر لجهالة تاريخهما ، فلا يمكن الحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر لأصالة عدم وجوده حال وجود الآخر ، لأنّ تأخّر وجود ذلك كتقدّم وجود الآخر لازم عقلي للمستصحب العدمي فلا يثبت بالأصل ، مضافا إلى أنّه معارض بأصالة عدم وجود الآخر حال وجود ذلك فيتساقط الأصلان ، لأنّ إعمال أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وإعمالهما معا غير ممكن لأدائه بكلّ من الحادثين بالتأخّر والتقدّم معا وهو محال.

وهل يحكم بالتقارن فيما يمكن تقارن وجوديهما مع كون التحيّر أوّلا في التقدّم والتأخّر وثانيا في المتأخّر والمتقدّم ، تمسّكا بأصالة عدم وجود كلّ منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان من كون التقارن لازما عقليّا لعدم كلّ قبل وجود الآخر فلا يثبت بالأصل ، ومن أنّ اللازم مع الملزوم هنا متّحدي الوجود خارجا وإن تغايرا ذهنا ، والمقام محلّ توقّف وظاهر الأصحاب أيضا في الفروع التوقّف.

٣٩٧

وأمّا القسم الرابع : وهو ما لو تعدّد الحادث وشكّ في تأخّر أحدهما المعيّن لجهالة تاريخه مع كون الآخر معلوم التاريخ ففيه خلاف ، فقيل : بجريان أصل العدم في مجهول التاريخ ، وهو أصالة عدم وجوده في تاريخ وجود معلوم التاريخ وإثبات تأخّره عنه ، وعزي ذلك إلى جماعة ، بل إلى ظاهر المشهور. وقد صرّح بالعمل به الشيخ (١) وابن حمزة (٢) والفاضلان (٣) والشهيدان (٤) وغيرهم (٥) في بعض المقامات. كما في مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، فقالوا : إنّ القول قول مدّعي التأخّر. ونحوه ما لو أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ثمّ رجع ثمّ اختلفا ، فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : بعده ، ففصّل في المسالك (٦) ناسبا له إلى الدروس (٧) بين ما لو اتّفقا على زمان أحدهما فالأصل مع مدّعي التأخّر وما لم يتّفقا على زمان أحدهما فيقدّم قول المرتهن ، لتكافؤ الدعويين فيرجّح جانب الوثيقة لسبق تعلّق حقّ الرهن بالعين.

وقيل : بمنع العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما ، نسبه بعض مشايخنا (٨) إلى بعض معاصريه (٩) تبعا لبعض الأساطين ، مستشهدا بإطلاق الجماعة وعدم تفصيلهم في مسألة الطهارة والحدث وموت المتوارثين وغيرهما ، مستدلاّ على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل ، ولعلّ مراده من عدم مطابقة التأخّر للأصل أنّ الأصل إنّما يقتضي انسحاب أمر يكون حالة سابقة في الشيء والتأخّر ليس حالة سابقة في الشيء المشكوك في تأخّره ، فإنّ الأصل يقتضي عدم الحدوث لا الحدوث المتأخّر.

نعم هو لازم عقلي للمستصحب العدمي ، ولا دليل على ترتّبه عليه.

وقيل : بالعمل بالأصل من حيث الحكم على ما جهل تاريخه بعدم وجوده في تاريخ وجود ما علم تاريخه ، فيترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة على عدم حدوثه ، ولا يعمل به في الحكم بتأخّر وجوده عمّا علم تاريخه إلاّ على القول بالاصول المثبتة وهو باطل ،

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٢٧٣.

(٢) الوسيلة : ٢٢٥.

(٣) وهما المحقّق في الشرايع ٤ : ١٢٠ والعلاّمة في القواعد ( الحجريّة ) ٢ : ٢٢٩ والتحرير ٢ : ٣٠٠.

(٤) الدروس ٢ : ١٠٨ والمسالك ٢ : ٣١٩.

(٥) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٦١.

(٦) المسالك ٤ : ٧٨.

(٧) الدروس ٣ : ٤٠٩.

(٨) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٢.

(٩) وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ١٠٢.

٣٩٨

واختاره بعض مشايخنا (١) وهو الأصحّ.

فصار المحصّل : أنّ الكلام في أصالة تأخّر الحادث نظير الكلام في الاصول المثبتة ، فحيثما تكون جارية لا بدّ فيها من الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا يثبت بها ، وهو نفس الأحكام المترتّبة على المستصحب العدمي ، وأمّا ما زاد عليها من صفة التأخّر أو التقدّم والأحكام المترتّبة عليهما ـ إن كان ـ فلا وجه لترتيبه.

تذنيب : قد ذكرنا سابقا أنّ في مورد أصالة التأخّر يفرض ثلاثة أنحاء من الزمان زمان اليقين بعدم وجود الحادث فيه ، وزمان اليقين بوجوده فيه ، وزمان الشكّ في وجوده فيه وهو المتوسّط بينهما ، فهنا أمران يقينيّان أحدهما : الأمر العدمي المتيقّن في الزمان الأوّل ، وثانيهما : الأمر الوجودي المتيقّن في الزمان الثالث ، وكما يمكن انسحاب الأمر العدمي المتيقّن في الزمان الأوّل في زمان الشكّ إلى أن يتّصل بزمان اليقين بالوجود وهذا هو أصالة التأخّر ، وهل يجوز عكس ذلك ـ وهو ارقاء الأمر الوجودي من الزمان الثالث في زمان الشكّ إلى أن يتّصل بالزمان الأوّل ، وهو المسمّى عندهم باستصحاب القهقري ، وقد يعبّر عنه بالاستصحاب المعكوس ، لأنّه عكس الاستصحاب المعهود كما يظهر بأدنى تأمّل ـ أو لا؟

ولمتوهّم أن يتوهّم جواز ذلك أيضا عملا بعموم قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (٢) » بناء على ما مرّ مرارا من أنّ المراد به المنع عن رفع اليد عن اليقين بمعنى أحكام المتيقّن بسبب الاعتناء بالشكّ ، وهذا المعنى كما يصدق مع كون اليقين في الزمان السابق والشكّ في الزمان اللاحق فكذلك يصدق مع عكس ذلك أيضا ، وهو كون اليقين في الزمان اللاحق والشكّ في الزمان السابق.

وبعبارة اخرى : حرمة رفع اليد عن اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ تقضي بوجوب ترتيب أحكام القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة ، وهذا ممّا لا يتفاوت الحال فيه بين سبق القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة وبين لحوقها بها.

ويزيّفه : ظهور اليقين والشكّ في الروايات في اليقين بوجود الشيء والشكّ في بقائه ، فيختصّ حكمه بصورة سبق اليقين ولحوق الشكّ ، بل هذا صريح قوله عليه‌السلام : « من كان على

__________________

(١) وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ١٠٢.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

٣٩٩

يقين فشكّ (١) » إلى آخره ، أو « من كان على يقين فأصابه به شكّ (٢) » إلى آخره.

نعم ربّما يلزم من عدم انجرار الحكم إلى الزمان الماضي حادث يشكّ في حدوثه باعتبار الشكّ في انجرار ذلك الحكم ، وحيث إنّ الأصل عدمه فيلزم ثبوت الحكم في جميع الأزمنة الماضية المشكوك ثبوته فيها.

ومن أمثلته أصالة عدم النقل المعمول بها المتّفق عليها في لفظ ثبت في العرف كونه حقيقة في معنى وشكّ في كونه كذلك في صدر اللغة إلى زمان الشارع ليحمل خطاباته عليه ، كصيغة « افعل » في الوجوب ، فيقال في تقرير الأصل : أنّها في صدر اللغة كانت مستعملة لا محالة ، وكانت موضوعة أيضا لا محالة ، لتوقّف الاستعمال الصحيح على الوضع وإن لم يتوقّف على الحقيقة ، فلو كانت موضوعة لغير الوجوب لزم النقل والأصل عدمه ، فلزم كونها في اللغة أيضا للوجوب.

ويرد عليه : أنّ هذا الأصل أيضا ممّا لا تعويل عليه لرجوعه إلى الأصل المثبت.

نعم لا مانع منه في خصوص أصالة عدم النقل لما عرفت من قضيّة الاتّفاق ومدركه العرف وبناء العقلاء.

وبجميع ما قرّرناه ظهر فرق آخر بين استصحاب القهقري وأصالة التأخّر ، فإنّ الأوّل يلزمه اتّحاد الحادث وهو في الثاني قد يتعدّد ، بل هو ممّا لزمه التعدّد لا محالة إمّا في الزمانين ، أو في الزمانيّين وأيضا مورد الأوّل في نحو أصالة عدم [ النقل ] صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده باعتبار اللغة والعرف ، بخلاف ما لو علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في العرف ، فإنّ مقتضى الأصل عدم ثبوته قبل زمان العلم به ، ومن فروعه كون الأصل في مسألة الحقيقة الشرعيّة عدم الثبوت على ما حقّق في محلّه.

المطلب الرابع

في استصحاب الصحّة المعمول به عند جماعة من الأصحاب كالشيخ (٣) والحلّي (٤) والفاضلين (٥) وغيرهم في أبواب العبادات ، والمراد به ما كان مستصحبه الصحّة ومورده

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

(٢) المستدرك ١ : ٢٢٨ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٤.

(٣) انظر الخلاف ٣ : ١٥٠ والمبسوط ٢ : ١٤٧.

(٤) السرائر ١ : ٢٢٠.

(٥) وهما المحقّق في المعتبر ١ : ٥٤ والعلاّمة في نهاية الإحكام ١ : ٥٣٨ وتذكرة الفقهاء ١ : ٢٤.

٤٠٠