تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

عدم الوجود رجحان بقاء الثابت بل كونه مقطوعا به ممّا لا غبار عليه ، إلاّ أنّه خارج عن محلّ فرض الاستصحاب.

وأمّا على تقدير عدم العلم بوجوده فرجحان البقاء محلّ المنع ، لفرض تساوي احتمال عدم وجوده لاحتمال وجوده ، وهو يستلزم تساوي احتمال بقائه مع احتمال عدم بقائه ، ومعه يستحيل كون البقاء راجحا.

نعم لو فرض كون احتمال عدم وجود الرافع راجحا لزمه رجحان البقاء ، إلاّ أنّه ممّا لا موجب له على وجه يطّرد.

ثمّ إنّ تعلّق هذا الجواب بالدليل المذكور محلّ المنع ، لانطباقه على استصحاب الحكم المشكوك في بقائه من جهة الشكّ في المانع ، وظاهر عبارة الدليل إنكار الاستصحاب فيما كان الشكّ في البقاء باعتبار الشكّ في المقتضي ، إلاّ على تقدير اعتبار مشاهدة الماء في أثناء الصلاة أمرا يشكّ في رافعيّته لوجوب المضيّ فيها ، وهو أيضا محلّ المنع كما نبّهنا عليه سابقا ، وعليه فمنشأ الشكّ في البقاء إلى الشكّ في مقدار استعداده وجوب المضيّ فيها للبقاء ، هل هو ما لم يشاهد الماء أو مطلقا؟ فتأمّل.

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها ، وكذا يلزم إذا علم بأنّه حيّ ثمّ انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل.

قال المرتضى ـ في عبارته الّتي حكاها المصنّف ـ : « وقد ثبت في العقول أنّ من شاهد زيدا في الدار ثمّ غاب عنه [ أنّه ] لم يحسن أن يعتقد استمرار كونه في الدار إلاّ بدليل متجدّد ، وصار كونه في الدار في الحالة الثانية وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمر وفيها مع فقد الرؤية (١) » انتهى.

وعن المحقّق في المعارج دفعه : « بأنّ لا ندّعي القطع ولكن ندّعي الرجحان والظنّ ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به (٢) ». والجزء الأوّل من الجواب في محلّه ، وما عداه أيضا محلّ المنع كما عرفت ، ثمّ يتطرّق المنع إلى جواز العمل بهذا الظنّ كما تقدّم فيما مضى.

ومنها : أنّه لو كان حجّة لزم التناقض ، إذ كما يقال : كان للمصلّي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته. فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ٢ : ٨٣٢.

(٢) المعارج : ٢٠٩.

٣٠١

كان ناقضا للتيمّم فكذا بعد الدخول ، أو يقال : الاشتغال بصلاة متيقّنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة فيستصحب.

وعن المعتبر : « أنّ استصحاب الحال ليس حجّة ، لأنّ شرعيّة الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه ، ثمّ إنّ مثل هذا لا يسلم عن المعارض لأنّك تقول : « الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده (١) ».

وعن المعارج الجواب عنه : « بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ، ووجود المعارض في الأدلّة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث يسلم عن المعارض (٢) ».

والأولى أن يقال : ليس اللازم للقول بحجّية الاستصحاب العمل به مطلقا حتّى في محلّ المعارضة ، خصوصا مع ملاحظة كون مداره على ظنّ البقاء ، فمع عدمه لا استصحاب أو لا عمل عليه. فإذا حصل ظنّ البقاء في أحد المتعارضين كان البقاء في المتعارض الآخر موهوما ، ضرورة أنّ الظنّ بالشيء يستلزم الظنّ بلوازمه ، فالظنّ ببقاء وجوب المضيّ في المثال يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بها ، وعدم كون وجدان الماء في حال الصلاة ناقضا ، لاشتراط ناقضيّته بالتمكّن من استعماله ولا تمكّن مع وجوب المضيّ فيها ، إذ الشكّ في ناقضيّته مسبّب عن الشكّ في التمكّن من استعماله وهو مسبّب عن الشكّ في وجوب المضيّ ، كما أنّ الشكّ في بقاء الاشتغال وارتفاعه بفعل هذه الصلاة مسبّب عن الشكّ في وجوب المضيّ فيها ، وما لزمه الشكّ السببي مقدّم طبعا على غيره ، ومعنى تقدّمه طبعا سبق رجحان البقاء في جانب الشكّ السببي ، وبذلك يندفع توهّم إمكان العكس.

ومنها : أنّه لو كان حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الإثبات ، لاعتضادها باستصحاب النفي. وهو أضعف من سوابقه.

أمّا أوّلا : فلأنّه ـ على تقدير صحّة إعمال البيّنة في النفي ـ مشترك اللزوم بين القول بالحجّية والقول بعدمها ، إمّا بناء على ما زعمه جماعة من خروج استصحاب النفي بمعنى عدم التكليف والبراءة الأصليّة أو بمعنى مطلق الأمر العدمي عن موضع النزاع وكون حجّيته إجماعيّة ، أو بناء على أنّه لا كلام في أصالة البراءة في الشكّ في التكليف لشهادة العقل والنقل بها فيعتضد بها بيّنة النفي.

وأمّا ثانيا : فلأنّه ليس في النفي إن اريد به قول المنكر ـ بملاحظة أنّ البيّنة على

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٢.

(٢) المعارج : ٢٠٩.

٣٠٢

المدّعي واليمين على من أنكر وأنّ الشهادة على النفي غير مسموعة ـ بيّنة تصلح لمعارضة بيّنة الإثبات حتّى تمسّ الحاجة إلى طلب المرجّح وأخذ استصحاب النفي عاضد لها ، وما فرضوه من تعارض البيّنتين فإنّما هو في عنوان التداعي المنقسم عندهم إلى ما كان المدّعى به في يد أحدهما أو يد كليهما أو في يد خارج لا في عنوان الدعوى والإنكار ، لعدم كون إقامة البيّنة من وظيفة المنكر ولو أقامها لم تكن مسموعة.

والقول بأنّ معنى البيّنة على المدّعي انّ إقامة البيّنة تلزم على المدّعي لا على المنكر لا أنّ بيّنة المنكر ليست مسموعة إذا أقامها ، كما نسب إلى بعض الأصحاب.

يندفع ـ مع أنّه خلاف التحقيق ـ بأنّه : لو سلّم فليس معناه أنّ بيّنته تقبل ولو مع وجود بيّنه للمدّعي.

هذا مع تطرّق المنع إلى دعوى الاعتضاد ، لأنّ الأصل التعليقي كما لا يصلح معارضا للدليل كذا لا يصلح معاضدا له ، والاستصحاب منه حتّى على القول به من باب الظنّ كما هو واضح.

ولا ينتقض ما ذكرناه من عدم كون إقامة البيّنة من وظيفة [ المنكر ] ما في مسألة التداعي مع ثبوت يدي المتداعيين على العين ، من أنّ كلاّ منهما يكلّف بإقامة البيّنة مع كونه منكرا لكون ما في يده لصاحبه ، لعدم كون إقامة البيّنة لنفيه هذا ، بل إنّما هي لإثباته وهو دعواه لكون ما في يده له ، ووظيفة كلّ منهما لإنكاره الحلف لا غير.

المقام الثاني : في اعتباره وعدم اعتباره تعبّدا من جهة الأخبار ، والحقّ في هذا المقام هو القول بالحجّية مطلقا أو في الجملة ، والأخبار الدالّة عليه كثيرة :

منها : صحيحة زرارة الّتي لا يخلّ إضمارها بصحّتها ، لوضوح كون مثل زرارة أجلّ وأرفع من أن يسأل غير المعصوم ، فلا يكون المضمر إلاّ المعصوم الّذي هو إمّا الباقر أو الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟ قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما ينقضه بيقين آخر (١) ».

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ ح ١١ ، الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

٣٠٣

وينبغي النظر في متن الحديث وفقهه ليتّضح وجه الاستدلال وموضعه.

فنقول : إنّ قوله : « ينام » يحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد بالنوم فيه هيئة النائم من الاضطجاع أو الاستلقاء والالتحاف ونحوه.

وثانيها : كونه من باب المجاز بالمشارفة الّذي مبناه على ملاحظة المناسبة بين زماني التلبّس بالفعل وما قبله باعتبار قربه منه ، فيسند الفعل الّذي من حقّه أن يسند إلى الأوّل إلى الثاني.

والفرق بين هذا الاعتبار وسابقه أنّه مجاز في « ينام » باعتبار الهيئة ، وسابقه مجاز فيه باعتبار المادّة.

وثالثها : كونه حقيقة هيئة ومادّة بإرادة النوم الحقيقي ، بناء على كون الخفقة والخفقتان من أفراد النوم الحقيقي ، وأنّ المراد بالنوم هاهنا ما يشملهما.

وقوله : « أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ » أيضا يحتمل وجوها :

الأوّل : كونه سؤالا عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين باعتبار الشكّ في كونهما من النوم وعدمه ، ومنشؤه الجهل بحقيقة النوم ودورانه في نظر السائل بين كونه عبارة عن زوال الحسّ عن العين والاذن والقلب فقط ، أو أعمّ منه ومن زوال الحسّ عن العين فقط.

والثاني : في كونه سؤالا عن ناقضيّتهما مع العلم بكونهما من أفراد النوم ، ومنشؤه الشكّ في كون كلّ نوم ناقضا حتّى ما يكون خفقة ـ وهو أوّل مراتبه وفرده الخفيّ ـ وعدمه ، بل الناقض منه فرده الكامل ، نظير الشكّ في كون كلّ بول ناقضا حتّى الخارج من المخرج الغير الطبيعي وعدمه.

والثالث : كونه سؤال عن ناقضيّتهما مع العلم بعدم كونهما من أفراد النوم ، نظير الشكّ في ناقضيّة المذي مع العلم بعدم كونه من البول.

والرابع : كونه سؤالا عن ناقضيّتهما أيضا باعتبار الشكّ في كونهما من النوم وعدمه ، مع الشكّ في ناقضيّة كلّ نوم على تقدير كونهما من النوم.

والخامس : كونه سؤالا عن وجوب الوضوء عند الشكّ في تحقّق النوم الناقض وعدمه من دون قصد إلى السؤال عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين ، وإنّما عبّر عنه بقوله : « أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ » لغلبة تحقّقهما مع النوم وسبقهما عليه ، فالمقصود بالسؤال أنّ الرجل يعرضه الخفقة والخفقتان بحيث يشكّ في تحقّق النوم معهما وحصوله في ضمنهما ، فهل يجب عليه الوضوء حينئذ أم لا؟

٣٠٤

وهذا وإن كان بعيدا بالنظر إلى تعرّض الإمام في الجواب لبيان حقيقة النوم وقصر الناقضيّة على ما غلب منه على الحواسّ الثلاث ، المشعر بكون سؤال الراوي عن الناقضيّة باعتبار الشكّ في صدق النوم عليهما مع الشكّ في كون كلّ نوم ناقضا كما هو محصّل الاحتمال الرابع ، إلاّ أنّه يقرّبه السؤال الثاني ، فإنّه مع السؤال الأوّل يعطيان كون غرض السائل السؤال عن وجوب الوضوء عند الشكّ في تحقّق النوم الموجب له تارة عروض الخفقة والخفقتين ، واخرى عدم سماع الحركة إن حرّك إلى جنبه شيء. ولكنّ الإنصاف : أنّ الأوّل سؤال عمّا يتحقّق به النوم ، والثاني سؤال عمّا يحكم به بتحقّقه ، ومنشأ الأوّل الجهل بتمام حقيقة النوم الموجب لتوهّم تحقّقه بالخفقة والخفقتين وعدمه.

وعليه فأظهر الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، وقوله عليه‌السلام : « قد تنام العين ـ إلى قوله ـ : فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء » (١) محصّله : أنّ الموجب للوضوء هو النوم ، وهو ليس بمحض نوم العين ـ وهو زوال الحسّ من العين من غير اختيار على معنى صيرورته بحيث لا يقدر الإنسان على حمله على الإحساس وهذا هو مرتبة الخفقة والخفقتين ـ بل إنّما يتحقّق بنوم العين والاذن والقلب ، على معنى زوال الحسّ عن هذه الحواسّ ، فإنّ النوم حالة غير اختياريّة عارضة للإنسان غالبة على مشاعره موجبة لسقوطها قهرا عن الإحساس والإدراك ، كما يرشد إليه العرف بملاحظة أمارات الوضع من التبادر وصحّة سلب النوم عن حالة النعاس.

ويشهد به أيضا صحيحة زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفقة والخفقتين؟فقال : ما أدري ما الخفقة والخفقتين؟ أنّ الله تعالى يقول : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ )(٢) إنّ عليّا عليه‌السلام كان يقول : من وجد طعم النوم فإنّما أوجب عليه الوضوء (٣) بناء على أنّ أخبار الأئمّة عليهم‌السلام بعضها يفسّر بعضا ، فإنّ الراوي سأل عن وجوب الوضوء بالخفقة والخفقتين بتوهّم كونهما من النوم أو من أمارات تحقّقه ، وقوله عليه‌السلام : « ما أدري ما الخفقة والخفقتين؟ » ليس على ظاهره من الجهل بحقيقة الخفقة والخفقتين ، بل نحو هذه العبارة في العرف تعريض لنفي إناطة الحكم أو موضوعه بما ادّعي عدم العلم به ، ردّا لتوهّم من توهّمه مناطا.

فحاصل غرض الإمام بيان أنّ النوم ليس شيئا يشتبه بالخفقة والخفقتين ، أو اشتبه تحقّقه

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٢) القيامة : ١٤.

(٣) التهذيب ١ : ٨ ، الحديث ١٠ ، الاستبصار ١ : ٨ ـ ٨١ ، ح ٢٥٢ ، الوسائل ١ : ١٨١ ، الباب ٣ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٨.

٣٠٥

عند عروضهما ، بل أمر وجداني يدركه كلّ انسان عرضه بالوجدان ، كما أنّه يدرك عدم عروضه بالوجدان عند عروضهما ، فمن وجد طعم النوم وأدركه بوجدانه وجب عليه الوضوء.

ولأجل ذا كلّه فسّر الفقهاء النوم الّذي هو من نواقض الوضوء بأن يغلب النوم على الحاسّتين البصر والسمع ، وإنّما لم يعتبروا القلب نظرا إلى أنّ سلب الاختيار عن الاذن في زوال إحساسها وإدراكها يلازم سلب الاختيار عن القلب أيضا ، كما هو معلوم بالعيان.

نعم لا ملازمة بين زوال الحسّ عن العين وزواله عن الاذن والقلب ، لما يشاهد بالعيان الغنيّ عن البيان أيضا من أنّ العين يزول حسّها وإدراكها لا بمجرّد الغضّ والغمض بل بحيث لا يقدر الإنسان على حملها على شغلها لسلب الاختيار منه مع أنّ الاذن تسمع والقلب يدرك ، فالمناط في النوم صيرورة الحواسّ الثلاث بل الحاسّتين مغلوبة.

وقوله : « فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به » (١) سؤال عن صلاحية عدم العلم بحركة ما حرّك ـ على معنى عدم كونه مشعورا به ـ لكونه أمارة لتحقّق النوم الّذي وصفه الإمام عند الشكّ في تحقّقة ، وإنّما دعاه إلى هذا السؤال حيث عرف من جواب السؤال الأوّل أنّ مناط النوم الناقض هو غلبة النوم على السامعة ، وكان من علامته عدم إحساس الصوت ، فيناسبه توهّم عدم سماع حركة المتحرّك إلى جنب من عرضه الخفقة والخفقتان علامة لتحقّقه.

وقوله عليه‌السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن » (٢) يعنى به نفي صلاحية ما ذكر لكونه أمارة على النوم.

والسرّ فيه : أنّ عدم سماع الصوت والحركة إلى الجنب قد يكون لأجل سقوط الحاسّة عن الإدراك لغلبة النوم عليها ، وقد يكون لأجل عدم الالتفات إليه وتوجّه النفس إلى شاغل آخر ، فإنّ الإنسان الياقظ كثيرا مّا لا يستشعر الحركة والصوت لأجل ذلك ، إذ ( ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ )(٣) فيكون أعمّ ، والأعمّ لا يلازم الأخصّ ولا يدلّ عليه بشيء.

وقوله : « حتّى يستيقن » إلى آخره ، معناه : أنّ المدار في الحكم بتحقّق النوم وانتقاض الوضوء به على استيقانه ومجيء أمر بيّن واضح من ذلك ، وعدم سماع الحركة والصوت لكونه أعمّ أمر خفيّ لا يكشف عن تحقّقه ، فلا يحكم لأجله بانتقاض الوضوء ، سواء كان

__________________

(١ و ٢) الواسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ١.

(٣) الأحزاب : ٤.

٣٠٦

مع وهم تحقّقه أو ظنّه أو الشكّ فيه.

ومحصّله : أنّ المدار في النقض على اليقين بالنوم لا على الشكّ والظنّ ، ومرجعه إلى أنّ الوضوء باق على حاله إلى أن يحصل اليقين بتحقّق النوم ، وهذا هو معنى الاستصحاب ، ثمّ شرحه عليه‌السلام واستدلّ عليه بقوله : « وإلاّ فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما ينقضه بيقين آخر (١) ».

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ مورد الرواية من قبيل الاستصحاب من جهة الشكّ في وجود المانع كما فهمه المحقّق السبزواري (٢) وأخذها دليلا على حجّيّة هذا النوع من الاستصحاب ، لا ما كان الشكّ فيه من جهة مانعيّة الموجود.

فما توهّم من دلالتها باعتبار وقوع السؤال الأوّل عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين على هذا النوع أيضا فأخذه ردّا على السبزواري في انكاره له ، غفلة واضحة لا ينبغي الالتفات إليها ، فإنّ الفقرة الاولى من الرواية سؤال عن ناقضيّة الخفقة وورد على طبقه الجواب بعدم الناقضيّة إمّا لعدم كونها نوما أو لعدم كون كلّ نوم ناقضا ، وهذا ممّا لا تعلّق له بالاستصحاب ، كما أنّه لو سئل عن ناقضيّة المذي فأجاب بعدم كونه ناقضا لم يكن من الاستصحاب.

وإذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ العمدة من موضع الدلالة من الرواية هو قوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » إلى آخره ، فيجب صرف النظر إلى أنّه هل يدلّ على حجّيّة الاستصحاب عموما أو في الجملة.

فنقول : إنّ كلمة « إلاّ » لفظ مركّب عن الشرط والنفي ، والفعل المنفيّ بذلك النفي محذوف ، كما أنّ جواب الشرط أيضا محذوف ، فيكون التقدير : « وإن لا يستيقن أنّه قد نام فليس عليه وضوء » والفاء في قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » جزائيّة ومدخولها علّة للجواب المحذوف اقيمت مقامه ، فادخلت فيها « الفاء » الّتي من شأنها أن تدخل في الجواب ، فتكون مدخول الفاء علّة منصوصة ، ومن حكمها بضابطة حجّيّة العلّة المنصوصة أنّها تفيد عموم الحكم للمورد ولغيره ، باعتبار كون الخصوصيّات والإضافات المأخوذة في جانب العلّة في متفاهم العرف ملغاة ، بهذا الاعتبار كان قوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » عامّا لليقين والشكّ في الوضوء وغيره من الأحكام الشرعيّة والامور الخارجيّة وجوديّة أو عدميّة ، ويكون معناه : لا ينقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ح ١.

(٢) الذخيرة : ١١٥ ـ ١١٦.

٣٠٧

وبما قرّرناه من قضيّة العلّة المنصوصة سقط احتمال إرادة العهد من « اللام » بقرينة سبق ذكر اليقين من الوضوء.

وأمّا ما توهّم من أنّ « لا ينقض اليقين » إلى آخره ، من باب النفي الوارد على العموم ، فيكون مفاده سلب العموم لا عموم السلب.

ففيه : أنّه من باب استفادة العموم من النفي لا من باب ورود النفي على العموم ، فإنّ « اللام » في « اليقين » و « الشكّ » لتعريف الجنس ، والمنفيّ إنّما هو نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ ، والماهيّة لا تنفكّ عن شيء من أفرادها ، فيسري بواسطتها النفي إلى الجميع ، ضرورة أنّ عدم نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ يستلزم عدم نقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ.

ولئن سلّمنا كون « اللام » فيهما للاستغراق لا نسلّم كون مفاد النفي الوارد عليها سلب العموم ـ إن صحّحنا أصل هذه القاعدة في النفي الوارد على العموم ـ لأنّها إنّما نسلّم فيما لو كان العموم مستفادا من نحو لفظ « الكلّ » و « الجميع » لا من نحو المفرد المحلّى باللام الاستغراقي.

والسرّ فيه : أنّ كلمة « كلّ » قيد زائد في الكلام والنفي راجع إليه ، فتكون في حيّز النفي مسلوب العموم ، بخلاف « اللام » الاستغراقي فإنّها للإشارة إلى تعريف الماهيّة من حيث وجودها في ضمن جميع أفرادها ، ولذا عدّ المعرّف بلام الاستغراق كالمعرّف بلام العهد الذهني من أقسام المعرّف بلام الجنس. وأداة النفي تدخل على ما يدّل على الماهيّة أوّلا وبالذات الملحوظة ثانيا من حيث الوجود ، فيكون مفاد قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين » إلى آخره ، عدم نقض ماهيّة اليقين الموجودة في ضمن جميع أفراده بماهيّة الشكّ الموجودة في ضمن جميع أفراده ، وهذا اليقين بالآخرة يرجع إلى عدم نقض شيء من أفراد ماهيّة اليقين بشيء من أفراد ماهيّة الشكّ.

ولو سلّم كون « اللام » الاستغراقي ولفظة « كلّ » بمعنى واحد ، يتطرّق المنع إلى أصل القاعدة حسبما قرّره أهل العربيّة ، وبذلك فرّقوا بين قولنا : « لم يقم كلّ إنسان » بجعله لسلب العموم ، وقولنا « كلّ إنسان لم يقم » بجعله لعموم السلب ، فإنّهما لا يتبعان ورود النفي على العامّ وورود العامّ على النفي ، بل إنّما يتبعان الملاحظة ويختلفان باعتبار المعتبر ، فإن لوحظ إسناد الحكم الإيجابي إلى جميع الأفراد كإسناد القيام إلى كلّ إنسان ثمّ أورد عليه أداة

٣٠٨

النفي كان مفاده سلب العموم ، سواء ادّي بعبارة : « لم يقم كلّ إنسان » أو بعبارة : « كلّ إنسان لم يقم » وإن لوحظ إسناد الحكم السلبي إلى الماهيّة كإسناد عدم القيام إلى ماهيّة الإنسان ثمّ اورد عليه أداة العموم كان لعموم السلب ، سواء ادّي بعبارة : « كلّ إنسان لم يقم » أو بعبارة : « لم يقم كلّ إنسان » فلا بدّ لاستعلام كون هذا المثال ونظائره من القسم الأوّل أو القسم الثاني من مراجعة العرف والأخذ بفهم أهله ، لأنّه المحكّم في تشخيص مداليل الألفاظ مفردة ومركّبة ، والّذي يقوى في النظر كونه من باب القسم الثاني ، إذ المنساق المتبادر منه كون الملحوظ أوّلا عدم القيام ثمّ عروض العموم. وعليه فليس في قوله تعالى : ( لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ )(١) المحمول على عموم السلب خروج عن الظاهر ، فتأمّل.

وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، فالملحوظ أوّلا هو عدم النقض المسند إلى ماهيّتي اليقين والشكّ ثمّ اعتبر عمومه بإيراد « اللام » الاستغراقي.

ولو سلّم عدم ظهور نوع هذا التركيب في عموم السلب فلا بدّ من حمل محلّ البحث عليه بقرينة العلّة المنصوصة ، ولذا لو قيل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » يفهم منه عرفا كون كلّ حامض مضرّا.

وقد يقرّر وجه الدلالة بإرجاع العلّة القائمة مقام الجواب المحذوف إلى كونه استدلالا منه عليه‌السلام على الجواب المحذوف بالقياس بطريق الشكل الأوّل ، الّذي صغراه قوله : « إنّه على يقين من وضوئه وقوله عليه‌السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بصيغة المعلوم بمنزلة الكبرى الكلّية فيشمل الوضوء وغيره ، نظرا إلى تعيّن حمل « اللام » في اليقين والشكّ على الاستغراق من جهة اشتراط كليّة الكبرى في الشكل الأوّل ، ويؤكّده قوله : « أبدا » وهذا ينهض قرينة على جعله لعموم السلب وصرفه عن سلب العموم ، وإن كان النفي فيه واردا على العامّ.

وفيه نظر من وجهين :

الأوّل : عدم صلاحية قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » كبرى في قياس صغراه « الرجل على يقين من وضوئه » لعدم تكرّر الأوسط الّذي هو في الشكل الأوّل عبارة عن كون الحدّ الوسط محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى.

ومن الواضح تغاير محمول الصغرى وموضوع الكبرى ، إلاّ على تأويل بعيد بجعل قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » خبرا لمبتدأ محذوف ، وقرينة حذفه كونه مذكورا في

__________________

(١) الحديد : ٢٣.

٣٠٩

الصغرى ، فيكون التقدير : كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين بالشكّ.

الثاني : أنّ اعتبار الكلّية في الكبرى لا يقضي باعتبار العموم في اليقين والشكّ بالنسبة إلى الوضوء وغيره ، لأنّ هذه الكلّية معتبرة في موضوع الكبرى والمفروض حصولها ، واليقين والشكّ واقعان في جانب المحمول.

وبالجملة الكليّة المعتبرة في كبرى الشكل الأوّل عبارة عن ثبوت الأكبر لجميع أفراد الأوسط ليتعدّى منه إلى الأصغر ، وهذا يتمّ بحمل « لا ينقض اليقين بالشكّ » على كلّ من كان على يقين من وضوئه من دون مراعاة العموم في اليقين والشكّ بالنسبة إلى غير الوضوء.

إلاّ أن يتشبّث لإثبات هذا العموم أيضا إلى مقدّمة اخرى ، وهي كون اليقين والشكّ جنسين معرّفين فيؤولان إلى العموم ، فيكون المعنى : « كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض كلّ يقين بكلّ شكّ » على وجه يكون محصّل المعنى : لا ينقض شيئا من اليقين بشيء من الشكّ على طريقة السلب الكلّي لا رفع الإيجاب الكلّي.

وفيه : أنّه يوجب عدم كون المحمول مربوطا بالموضوع ، فإنّ أخذ العموم بالنسبة إلى غير الوضوء كنجاسة الثوب مثلا ينحلّ إلى أن يقال : من كان على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين بنجاسة ثوبه بالشكّ فيه. وهذا كما ترى كلام جنوني لا يليق بكلام الإمام عليه‌السلام فلا بدّ من أخذ عموم اليقين والشكّ بالنسبة إلى أفراد الوضوء ، فيكون المعنى : كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض كلّ يقين وضوئي بالشكّ فيه ، وليس هذا من تخصيص العامّ بالمورد ليدفعه كون الاعتبار بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، بل من باب تحصيل العموم بقدر قابليّة المورد ، فالرواية حينئذ لا تنهض لإثبات حجّيّة الاستصحاب في غير الوضوء أيضا كما هو المطلوب.

لا يقال : إنّ هذين الإشكالين يتوجّهان أيضا على تقدير تتميم الاستدلال بقاعدة العلّة المنصوصة ، إذ العموم المنساق في متفاهم العرف من التنصيص بالعلّة ينحلّ إلى كبرى كلّيّة ينتظم بها قياس بطريق الشكل الأوّل صغراه العلّة المنصوصة ، ففي قول الطبيب : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » ينساق منه أنّ كلّ حامض مضرّ ، وفي قول الشارع : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ينساق [ منه ] أنّ كلّ مسكر حرام ، فينتظم في الأوّل : « أنّ الرمّان حامض ، وكلّ حامض مضرّ ، فالرمّان مضرّ » وفي الثاني : « أنّ الخمر مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فالخمر حرام » ، ففي الرواية لا بدّ وأن يكون الكبرى اللازمة من التنصيص بالعلّة هو ما نطق به عليه‌السلام

٣١٠

بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لأنّ العموم المنساق من العلّة المنصوصة ـ على ما تقدّم بيانه ـ مطلوب فيه لا غير ، فيرد عليه حينئذ أوّلا : عدم صلاحية ذلك لوقوعه كبرى إلاّ بتأويله إلى كونه خبرا لمبتدأ محذوف.

وثانيا : لزوم عدم ارتباط المحمول بالموضوع لو اعتبر عموم اليقين والشكّ بالقياس إلى غير الوضوء ، فلا بدّ من الاقتصار في اعتبار العموم على أفراد الوضوء فقط ، ومعه لا تنهض الرواية لإثبات تمام المدّعى.

لأنّا نقول : إنّ العلّة لعدم وجوب التوضّؤ على من تيقّن الوضوء وشكّ في الحدث إنّما هو عدم جواز نقض اليقين بالوضوء حدوثا والشكّ فيه بقاء ، وهذه العلّة بعد إلغاء الخصوصيّة ـ وهي إضافة اليقين والشكّ إلى الوضوء ثمّ إلى الرجل ـ علّة عامّة تجري في الوضوء وغيره ، والموجب للإلغاء إنّما هو الفهم العرفي ، باعتبار أنّ المنساق عرفا من التعليل عدم مدخليّة الخصوصيّات والإضافات في علّية العلّة ، فقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » بصيغة المجهول هو العلّة التامّة في الحقيقة ، وقوله : « إنّه على يقين من وضوئه » بيان لتحقّق موضوع هذه العلّة ، وهو اليقين والشكّ في خصوص مورد السؤال ، فكأنّ تقدير الرواية في محصّل المعنى : « أنّه إن لا يستيقن أنّه قد نام فليس عليه وضوء لأنّه لا ينقض اليقين بالشكّ ، والمفروض أنّه على يقين من وضوئه وشاكّ في الحدث ». وهذا نظير ما لو قال الشارع : « من لم يعلم وجوب غسل الجمعة لا شيء عليه لأنّه على شكّ في التكليف ، ولا تكليف إلاّ بعد البيان » ومرجع نحو هذه التعليلات إلى تأسيس قاعدة شرعيّة تعبّديّة كلّية مطّردة ، ولا يعتبر فيها الانحلال إلى قياس مؤلّف من صغرى وكبرى. فليتأمّل.

وقد يحتمل في الرواية كون « إلاّ » في قوله : « وإلاّ فإنّه على يقين » شرطا وجوابه قوله : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بصيغة المعلوم ، وكأنّ قوله : « إنّه على يقين من وضوئه » توطئة وتمهيدا لإحراز موضوع هذا الجواب ، متخلّلا بينه وبين الشرط قصدا إلى المبالغة والتأكيد. ونحو هذا التركيب كثير الوقوع في الكلام وشائع في المحاورات ، كما في قولك ـ لمن يطلب حجرة في المدرسة مثلا وله دار ـ : « إن لم توجد في المدرسة حجرة فلك دار واسكن في دارك » ، حيث إنّ قولك : « اسكن في دارك » جواب للشرط ، « ولك دار » توطئة لذكر هذا الجواب إحرازا لموضوعه. وإذا حمل « لام » اليقين على الجنس قضيّة لأصالة الحقيقة ليكون المعنى عدم جواز نقض طبيعة اليقين بالشكّ تمّ الاستدلال بالرواية على

٣١١

مطلق الاستصحاب ، لاستلزام الجنسيّة عموم النفي من باب السراية ، إذ النفي الوارد على الطبيعة بناءا على أنّها غير منفكّة عن شيء من أفرادها إنّما ينفيها في ضمن جميع الأفراد ، فيكون لعموم السلب وإلاّ لم يكن لنفي الطبيعة كما لا يخفى.

ولكن يشكل هذا الاحتمال في تتميم الاستدلال بملاحظة أنّ جنسيّة « اللام » وإن كانت يساعد عليها أصالة الحقيقة إلاّ أنّه يعارضها احتمال كونها للعهد بقرينة سبق ذكر مدخول « اللام » على حدّ قوله تعالى : ( أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ )(١) فإنّه ممّا يصلح لصرف « اللام » عن الجنس ، إذ لا قبح في اعتماد المتكلّم عليه في إرادة العهد كما هو ملاك صلاحية كون شيء قرينة.

وبالجملة لا نرى في الاعتماد على سبق الذكر في إرادة العهد قبحا عقليّا ولا ما يأباه في العرف أيضا ، فهو حينئذ إن لم يؤثّر في الصرف عن الحقيقة إلى إرادة غيرها فلا أقلّ يؤثّر لمجرّد الصلاحية المذكورة في منع ظهورها في إرادة الحقيقة ، فتصير بذلك مجملة مردّدة بين الجنس والعهد. وله نظائر كثيرة كالشهرة في المجاز المشهور ، ووقوع الأمر عقيب الحظر ولو توهّما ، وتعقّب العامّ ضميرا يختصّ ببعض أفراده ، والاستثناء الواقع عقيب جمل متعاطفة بالقياس إلى ما عدا الجملة الأخيرة ، فإنّها إن لم تقوم قرينة صارفة للّفظ عن حقيقته إلى مجازه فلا أقلّ من أنّها تصيره صالحا ومتأهّلا لأن يكون المراد منه المعنى المجازي على وجه تساوي احتماله لاحتمال الحقيقة فيصير مجملا. وهذا المعنى في بعض الأمثلة المذكورة وإن كان محلّ منع ، إلاّ أنّ الغرض من ذكرها بيان أنّ كون سبق الذكر باعتبار مجرّد صلاحية كونه قرينة موجبا لإجمال المعرّف باللام ليس بعادم النظير ، ويكفي بشهرة المجاز المشهور على المشهور شاهدا بذلك.

وبالجملة فالاستدلال بالرواية إنّما يتمّ إذا تعيّن كون لام « اليقين » لتعريف الجنس من حيث هو ، وهذا يتوقّف على ثبوت عدم جواز إرادة العهد اعتمادا على سبق الذكر ، وإثباته في غاية الإشكال بل محلّ منع ، لعدم قبح عقلي ولا إباء عرفي في الاعتماد عليه ، بأن يراد من اللفظ بواسطته خلاف ما هو ظاهره ، فانحصر طريق تتميم الاستدلال بالرواية لإثبات عموم الدعوى في طريقة العلّة المنصوصة ، فعليها المعوّل.

ومن الأخبار صحيحة اخرى لزرارة وهي أيضا مضمرة ، رواها الشيخ في التهذيب عن

__________________

(١) المزمّل : ١٥ ـ ١٦.

٣١٢

الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له من الماء. فأصبت ، وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد.

قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت ولم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ، ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل ثوبك من الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال : لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الّذي وقع في نفسك.

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » الحديث (١).

وموضع الدلالة هو قوله عليه‌السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » إلى آخره ، في جواب السؤال عن وجه عدم وجوب إعادة الصلاة.

ويشكل تماميّة دلالته على عموم المدّعى من حجّيّة الاستصحاب مطلقا حتّى في غير مورد الرواية ، لأنّ مبناها إن كان على الأصل في « اللام » من كونها لتعريف الجنس فيفيد قوله عليه‌السلام : « ليس ينبغي عدم نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ ، فيسري النفي إلى جميع أفراد الماهيّة فيزيّفه : سبق ذكر مدخول « اللام » الصالح لكونه قرينة العهد ، فإنّه إن لم يوجب ظهور إرادة العهد فلا أقلّ من منعه ظهور إرادة الجنس بالبيان المتقدّم.

وإن كان مبناها على العلّة المنصوصة المفيدة لعموم الحكم للمورد وغيره النافي لاحتمال العهد ، فيأباه تفريع الحكم المستفاد من قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ، ١٣٣٥.

٣١٣

بالشكّ » على يقين السائل بطهارة ثوبه ثمّ الشكّ بعده كما هو ظاهر كلمة « الفاء » إذ من البعيد كون حكم اليقين والشكّ في سائر الموارد متفرّعا على اليقين والشكّ في مورد خاصّ وهو طهارة الثوب ، بل هو عند التحقيق غير معقول ، وهذه قرينة عقليّة ناشئة عن قرينة لفظيّة تعيّن احتمال العهد في « اللام ». فقصارى ما دلّت عليه الرواية إنّما هو الاستصحاب في خصوص طهارة الثوب لا أزيد.

وهاهنا إشكال آخر في نهوض الرواية دليلا على مطلق الاستصحاب ينشأ من قول الراوي : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » مع قوله عليه‌السلام : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » لأنّ قوله : « فرأيت فيه » يحتمل وجهين :

أحدهما : كون معناه رأيت الدم في الثوب بعد الصلاة على وجه علمت أنّه هو الدم الّذي ظننته قبل الصلاة أنّه أصابه.

وثانيهما : كون معناه رأيته على وجه لا أعلم أنّه الّذي ظننته قبل الصلاة أو أنّه شيء تجدّد بعدها.

وعلى الأوّل فقوله عليه‌السلام : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » إمّا أن أراد به عدم نقضه حال الرؤية الّذي هو بعد الصلاة ، أو أراد عدم نقضه قبل الصلاة حين الشكّ في الإصابة والعدم ، فيؤول الأمر في وجه عدم وجوب الإعادة إلى اقتضاء الأمر الظاهري الناشئ من استصحاب طهارة الثوب للإجزاء ، بمعنى سقوط الإعادة ولو مع كشف الخلاف والأوّل باطل لا يجوز تنزيل كلام الإمام عليه‌السلام في : « قوله ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » عليه ، لخروج الفرض بالنسبة إلى حال الرؤية وما بعد الصلاة من مورد الاستصحاب. فلا يصلح هذا الكلام حينئذ وجها لعدم وجوب الإعادة ، إذ البناء على إعادة هذه الصلاة بعد تبيّن وقوعها مع النجاسة ليس نقضا لليقين بطهارة الثوب الحاصل قبلها بالشكّ ، بل هو نقض له بيقين مثله وهو اليقين بنجاسته الحاصل بعدها ، بل الوجه في عدم وجوب الإعادة ـ الّذي ينبغي أن يذكر في الجواب بالنسبة إلى الصورة المفروضة ـ إنّما هو صحّة الصلاة بالنجاسة من الجاهل بها إذا علم بها بعد الفراغ.

والثاني وإن لم يكن بذلك البعيد لدلالة الرواية مع هذا الفرض على حكم الاستصحاب في الجملة ، مع دلالتها أيضا على اقتضاء الأمر الظاهري الشرعي المتولّد من الاستصحاب للإجزاء مع كشف الخلاف ، إلاّ أنّه ممّا يبعّده أيضا كلمة « ليس » بملاحظة كونها لنفي

٣١٤

الحال ، وقضيّة الفرض كونها لنفي الماضي ، والمناسب للفرض التأدية بلفظة « لم يكن » مكانها ، لا التأدية بها.

وأمّا الثالث (١) : وهو كون المراد من السؤال فرض رؤية الدم بعد الصلاة مع احتمال تجدّد إصابته بعدها وعدم العلم بكونه هو الّذي ظنّ إصابته قبلها ، فهو وإن كان ممّا يساعد عليه وضع كلمة « ليس » من كونها لنفي الحال ، وينطبق عدم الاعتناء باحتمال سبق النجاسة اعتمادا على أصالة تأخّر الحادث على استصحاب طهارة الثوب ، فيصحّ معه النهي عن نقض اليقين بالطهارة الحاصل قبل الصلاة بهذا الشكّ الطارئ بعدها ، فيدلّ الرواية على الاستصحاب ، واقتضاء الأمر الظاهري أيضا للإجزاء مع عدم كشف الخلاف ، إلاّ أنّه خلاف الظاهر من كلام الراوي في فرض السؤال ، لظهور قوله : « فرأيت فيه » في علمه بكون المرئيّ بعد الصلاة هو المظنون إصابته قبلها ولا سيّما مع التعبير بقوله : « فرأيته » كما في بعض النسخ.

وممّا يؤيّد كون ذلك أظهر الاحتمالين ورود السؤال عن وجه عدم وجوب إعادة الصلاة ، لكونه أليق بالسؤال باعتبار اشتداد حكم الصلاة مع النجاسة بالنسبة إلى الصلاة مع احتمال كونها بالنجاسة ، مضافا إلى أنّ الصلاة بالنجاسة أليق بالسؤال عن حكمها من الصلاة المشكوك كونها بالنجاسة وعدمه (٢) فتعيّن حمل كلام السائل عليه.

وأمّا كلام الإمام عليه‌السلام فالمتعيّن بالنظر إلى ظاهر كلمة « ليس » حمله على الوجه الأوّل من إرادة المنع من نقض اليقين بالشكّ حين رؤية الدم في الثوب اللازم من البناء على إعادة الصلاة.

ويندفع الإشكال الوارد على هذا الوجه ـ من أنّ ذلك حينئذ نقض لليقين باليقين لا بالشكّ ـ بمنع كونه نقضا باليقين ، لوضوح أنّ وجوب إعادة الصلاة على تقديره ليس من آثار مجرّد رؤية الدم في الثوب بعد الصلاة ، بل الّذي من آثاره إنّما هو وجوب الغسل الّذي حكم به الإمام عليه‌السلام ، ولذا لا يجب الإعادة في الصلاة مع النجاسة المجهولة إذا علم بها بعدها ، بل هو من آثار انتفاء الأمر عن المأتيّ به مطلقا حتّى الأمر الظاهري ، فالبناء على الإعادة في مفروض السؤال من حين رؤية الدم مرجعه إلى البناء على انتفاء الأمر عن الصلاة المأتيّ بها مع النجاسة المرئيّة بعدها مطلقا حتّى الظاهري منه. وهذا طرح للاستصحاب ونقض لليقين بالشكّ ، وهما اليقين بطهارة الثوب والشكّ في إصابة الدم له

__________________

(١) هذا سهو منه قدّس سره والصواب : « وأمّا الثانى » كما يظهر بالتأمّل في السياق ، والمراد به الاحتمال الثاني في قوله : « فرأيت فيه » الذي ذكره آنفا.

(٢) كذا في الأصل.

٣١٥

الحاصلان للسائل في مفروض سؤاله ممّا قبل الصلاة إلى حال الشروع فيها وحال التشاغل بها أيضا إلى الفراغ عنها إلى زمان رؤية الدم فيه. ومن الظاهر أنّ رفع اليد عن اليقين بالطهارة في جميع تلك الحالات لمجرّد الشكّ في إصابة النجاسة اللاحق به نقض لليقين بالشكّ ، والمنع منه عبارة عن الاستصحاب ، ويتولّد منه الأمر الظاهري بتلك الصلاة ، والمفروض حصول امتثاله والخروج عن عهدته ، فيلزم بالبناء على الإعادة الراجع إلى البناء على انتفاء الأمر الظاهري حال رؤية الدم طرح الاستصحاب المذكور ونقض اليقين بالشكّ المذكور من حين رؤية الدم ، ولقد منع منه قوله : « فليس ينبغي لك » إلى آخره ، المفيد لنفي الحال ، فقوله عليه‌السلام : « لا تعد » يدلّ على إجزاء الأمر الظاهري ، وقوله : « ليس ينبغي » إلى آخره ، يدلّ على منشأ ذلك الأمر الظاهري وهو الاستصحاب. وهذا هو معنى دلالة الرواية على الاستصحاب.

ولكنّه بمقتضى التفريع ـ حسبما بيّنّاه ـ مخصوص بالمورد ، وهو استصحاب طهارة الثوب عند الشكّ في عروض النجاسة له. ويمكن تعميم حكمه بالقياس إلى كلّ استصحاب بملاحظة كون المنساق من السؤال والجواب غفلة السائل عن هذا الجزئي من القاعدة الكلّية المعلومة لديه ، وهي أنّه لا يجوز نقض شيء من اليقين بشيء من الشكّ ، لعدم التفاته إلى كون المورد من مجاريها ، وورود الجواب بقوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك » إلى آخره ، لتنبيهه على الجزئي المغفول عنه تفريعا له على القاعدة المعلومة لديه. فما بعد « الفاء » وإن كان تفريعا على ما قبلها إلاّ أنّ المجموع من المتفرّع والمتفرّع عليه أيضا تفريع على القاعدة الكلّية المعلومة لدى السائل. فليتأمّل في المقام فإنّه دقيق.

ومن الأخبار صحيحة ثالثة لزرارة رواها الكليني في باب السهو في الثلاث والأربع بإسناده عن زرارة عن أحدهما « قال عليه‌السلام : وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (١) » واستدلّ بها في الوافية (٢) وقرّره

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥١ ، باب السهو في الثلاث والأربع ح ٣.

(٢) الوافية : ٢٠٦.

٣١٦

السيّد الشارح (١) وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه (٢). وموضع الدلالة على ما زعموه قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وقوله : « ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » يفيد عموم القاعدة بالنسبة إلى المورد وإلى غيره من موارد الاستصحاب كائنا ما كان.

وفي نهوضها دليلا عليه إشكال ، باعتبار أنّ قوله عليه‌السلام : « قام فأضاف إليها اخرى » إمّا أن يراد به القيام قبل التسليم والركعة المتّصلة بالثلاث المتيقّنة ليكون مرجعه إلى وجوب البناء على الأقل في الشكّ في عدد الركعات ، أو يراد به القيام بعد التسليم والركعة المنفصلة عن الثلاث. ليكون مرجعه إلى إيجاب البناء على الأكثر ، ولا سبيل إلى شيء منهما. أمّا الأوّل : فلأنّ قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وإن كان ينطبق على الاستصحاب ، لكون المراد باليقين حينئذ هو اليقين السابق بعدم الإتيان بالركعة الأخيرة بعد اليقين بإتيان الثلاث الاولى ، وبالشكّ هو احتمال الإتيان بها بعد اليقين المذكور ، ولكنّ الحمل عليه يبعّده بل يبطله أوّلا : صدر الرواية المتكفّل لبيان الشكّ في الأربع والركعتين الظاهر في وجوب البناء على الأكثر ، حيث قال : « قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز ثنتين؟قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه (٣) » إلى آخره ، لظهور قوله عليه‌السلام : « يركع بركعتين » بقرينة تعيين قراءة الفاتحة في إرادة ركعتين مستقلّتين ، فليحمل الركعة فيما نحن فيه أيضا على إرادة الركعة المستقلّة وهي ركعة الاحتياط بشهادة وحدة السياق. وثانيا : مخالفته لمذهب الإماميّة من البناء على الأكثر.

ولا يجوز دفعه بجعل الحديث من باب خبر يؤخذ بجزء منه ويطرح جزؤه الآخر لمخالفته الدليل المعتبر من نصّ أو إجماع أو عقل مستقلّ ، مع [ عدم ] قدحه في الحجّية بالنسبة إلى الجزء المأخوذ به ، بتقريب أن يقال : إنّ الحديث مشتمل على حكمين : فرعي وهو وجوب البناء على الأقلّ في الشكّ في عدد الركعات ، واصولي وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فيطرح الأوّل لمخالفته المذهب ويؤخذ بالثاني وبه يثبت المطلب ، لوجوه (٤) :

__________________

(١) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٣٦١.

(٢) مثل المحدّث البحراني في الحدائق ١ : ١٤٣ ، والوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : ٤٤٢ ، وصاحب الفصول في الفصول الغروية : ٣٧٠ ، والمحقّق القمّي في القوانين ٢ : ٦٢.

(٣) الوسائل ٥ : ٣٢٣ ، الباب ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٤) هذا خبر لقوله : « ولا يجوز دفعه » الخ.

٣١٧

الأوّل : استلزامه تخصيص العامّ بالمورد بإخراجه عن قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » المحمول على العموم بالفرض.

الثاني : قضاؤه بالغاء قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » ، لعدم ارتباطه بالحكم الفرعي ، مع ظهور الكلام في كون الحكم الفرعي تفريعا على الحكم الاصولي. فيكون نظير ما لو قيل : إذا شككت في نجاسة ثوبك فاغسله ، لأنّ كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ». وهذا كما ترى كلام سفهيّ يمتنع صدوره من الحكيم ، ويقبح التفوّه به بالنظر إلى الحكمة.

الثالث : أنّه يوجب الوهن في دلالة الحديث على الحكم الاصولي أيضا ، لأنّه لو كان قاعدة مطّردة يعوّل عليها في مظانّ اليقين والشكّ لعمل بها في المورد أيضا ، فترك العمل بها فيه يوجب عدم ثبوتها بهذا الحديث ، فتأمّل.

ولا يمكن أيضا دفعه على وجه يتمّ معه الدلالة على المطلب بحمله على التقيّة لموافقة الحكم المذكور لمذهب العامّة ، بدعوى : أنّ التقيّة في إجراء القاعدة في الموارد لا في نفسها ، بأن يحمل الحكم المستشهد له على بيان خلاف الواقع تقيّة وبيان القاعدة المستشهد بها على بيان الواقع.

أمّا أوّلا : فلأنّه ممّا يأباه الصدر الظاهر في البناء على الأكثر كما فهمه الأصحاب مع وجود موجب التقيّة بالنسبة إليه أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ احتمال التقيّة في إجراء القاعدة ربّما يسري إلى أصل القاعدة ، كما لو حكم الإمام عليه‌السلام بالحكم الموافق للقياس تقيّة واستند له إلى القياس ، ومعه لا يمكن التعويل في إثبات القاعدة على الرواية المخرجة مخرج التقيّة.

نعم إنّما يستقيم دعوى كون التقيّة في إجراء القاعدة لا في نفسها فيما لو كانت القاعدة محرزة بدليل آخر غير الحديث المحمول على التقيّة في الجملة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الرواية مع الحمل على القيام بعد التسليم وإن كانت توافق المذهب ويلتئم معه الصدر والذيل ، غير أنّه لا يلائم الاستشهاد بقاعدة نقض اليقين بالشكّ ، لأنّها على ما عرفت مقتضية للبناء على الأقلّ لا الأكثر.

فالقول بأنّ اليقين الّذي لا ينقض هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الأخيرة وقضيّة عدم نقضه بالشكّ هو الإتيان بالركعة الاحتياطيّة ، ممّا ينتج ضدّ المطلوب ، لأنّه لو صحّ رجوع اليقين والشكّ إلى عدم الإتيان بالركعة الأخيرة كان المناسب له هو البناء على الأقلّ.

٣١٨

وما يقال : من أنّ اليقين الّذي لا ينقض بالشكّ في مورد الرواية إنّما هو اليقين السابق بالاشتغال بالصلاة ، فإنّه لا ينقض بالشكّ في حصول البراءة بل إنّما ينقض باليقين بالبراءة. وطريق حصول هذا اليقين هو البناء على الأكثر ثمّ الإتيان بركعة الاحتياط. أمّا الأوّل :فلأنّه على تقدير البناء على الأقلّ والإتيان بالركعة المتّصلة احتمل البطلان بسبب احتمال الزيادة في الركعة. وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير الاقتصار على الركعات المأتيّ بها بعد البناء فيها على الأكثر احتمل البطلان بسبب احتمال نقصان الركعة. فيلزم على التقديرين نقض اليقين بالشكّ ، فلا بدّ من البناء على الأكثر دفعا لاحتمال الزيادة ، ثمّ الإتيان بركعة الاحتياط دفعا لاحتمال النقض ، وقضيّة دفع الاحتمالين هو اليقين بالبراءة ، إذ ليس هاهنا ما يمنع عن هذا اليقين إلاّ احتمال الزيادة بسبب تخلّل التسليم والتكبير على تقدير النقصان في الركعات المأتيّ بها ، والأمر فيه سهل بعد ملاحظة كون هذه الزيادة في نحو ما نحن فيه ملغاة في نظر الشارع.

ففيه : أنّ هذا الكلام بالنظر إلى الخارج في غاية المتانة ، إلاّ أنّ الكلام في استظهار هذا المعنى من لفظ الرواية على وجه يكون قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » منطبقا على الاستصحاب حتّى ينهض دليلا على حجّيّته ، وليس في هذا اللفظ ما يشهد بذلك ، لجواز كونه مسوقا لتأسيس قاعدة الاشتغال الّتي يستقلّ بها العقل ، بأن يكون المراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد عن اليقين بالاشتغال بمجرّد احتمال البراءة وهو غير سائغ ، لأنّ اليقين بالاشتغال يستدعي يقين البراءة ولا يكفي فيه احتمالها. وهذا كما ترى قاعدة اخرى لا ترتبط بقاعدة الاستصحاب المنوطة بملاحظة الحالة السابقة.

فإن قلت : إنّ قوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لفظ عامّ يصلح لإعطاء قاعدة الاشتغال ولإعطاء قاعدة الاستصحاب ، فليحمل عليهما بجعل اليقين أعمّ من اليقين بالاشتغال المستدعي ليقين البراءة واليقين السابق الّذي لا يجوز نقضه بالشكّ ، فتكون الرواية حينئذ مدركا لكلتا القاعدتين ولا ضير فيه.

قلت : ـ مع أنّ القاعدتين معنيان متغايران لا يمكن الجمع بينهما في الإرادة من لفظ واحد ـ إنّ حمله على ذلك بجعل اليقين أعمّ يوجب الجمع بين المتنافيين في مورد الرواية ، لوجوب العمل بكلّ من القاعدتين بالنسبة إلى المورد لئلاّ يلزم التخصيص بالمورد ، فإرادة بيان قاعدة الاستصحاب يقتضي البناء في المورد على الأقلّ وإرادة بيان قاعدة الاشتغال يقتضي البناء على الأكثر ، وهما متنافيان ، ولا يمكن تنزيل الرواية عليهما. فلا بدّ من حمل « اليقين »

٣١٩

على أحد الأمرين من اليقين السابق أو اليقين بالاشتغال ، ولا سبيل إلى الأوّل لقضائه بالبناء على الأقلّ وهو خلاف المذهب فتعيّن الثاني ، ومعه تصير الرواية أجنبيّة بالنسبة إلى موضع الاستدلال. فالإنصاف : أنّ هذه الرواية لا تنهض دليلا على الاستصحاب مطلقا.

ومن الأخبار ما رواه ابن بابويه في الموثّق عن إسحاق بن عمّار قال : قال لي أبو الحسن عليه‌السلام : « إذا شككت فابن على اليقين ، قال : قلت : هذا أصل؟ قال : نعم (١) ».

فإنّ قوله : « إذا شككت » لظهوره في حدوث الشكّ يفيد سبق يقين على الشكّ. وقوله : « فابن على اليقين » يعني به البناء على ذلك اليقين ، على معنى العمل على مقتضاه وترتيب الآثار على متعلّقة ، وهذا معنى الاستصحاب. وقوله : « هذ الأصل » سؤال عن كون البناء على اليقين قاعدة كلّية وضابطة مطّردة في جميع موارد الشكّ واليقين ، فقوله عليه‌السلام : « نعم » يفيد حجّيّة كلّ استصحاب.

غاية الأمر أنّه خرج منه صور الشكّ في عدد ركعات الصلاة بورود النصّ بالبناء فيها على الأكثر.

ويمكن المناقشة فيها من حيث الدلالة بأنّها إن لم نقل باختصاصها بصور الشكّ في عدد الركعات ـ فاريد باليقين يقين البراءة الّذي يحصل بالبناء على الأكثر مع الإتيان بركعات الاحتياط حسبما قرّرناه سابقا ، ولذا ذكرها الأصحاب في باب الشكوك في الركعات ـ فلا أقلّ من احتمال ورودها لتأسيس قاعدة الاشتغال ، بإرادة البناء على اليقين بالبراءة عند الشكّ فيها مع اليقين باشتغال الذمّة.

وبعبارة اخرى قوله عليه‌السلام : « إذا شككت فابن على اليقين » كما يحتمل أن يكون تقديره : « إذا شككت في بقاء شيء وارتفاعه بعد اليقين بحدوثه فابن على ذلك اليقين » فكذا يحتمل أن يكون تقديره : « إذا شككت في البراءة عند اليقين باشتغال الذمّة فابن على اليقين بالبراءة » وإن لم نقل بظهوره في الثاني فلا أقلّ من عدم ظهوره في الأوّل ، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

ويمكن الذبّ عنها : بمنع تساوي الاحتمالين فضلا عن ظهور ثانيهما ، لظهور « اليقين » في اليقين الفعلي فينطبق على اليقين الاستصحابي ، وحمله على اليقين بالبراءة خروج عن هذا الظاهر ، لأنّه ليس بحاصل فعلا بل من شأنه الحصول. فحمل لفظ الرواية على مثل

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٢.

٣٢٠