تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

ارتكاب الباقي ، فكذلك تعذّر أحدهما بعدهما لا يجوّز ارتكاب الباقي.

وفيه من الفساد ما لا يخفى ، لوضوح الفرق بين الصورتين في كون التعذّر رافعا للعلم الإجمالي دون الترك ، فالشكّ مع التعذّر يعود إلى التكليف ، ومع الترك باق على كونه في المكلّف به.

وتوهّم استصحاب وجوب الاجتناب الّذي هو الحالة السابقة قبل الفقدان ، يندفع : بأنّ وجوب الاجتناب إن اريد به الأصلي منه كما هو بالنسبة إلى المتنجّس الواقعي فبقاء موضوع المستصحب غير محرز ، وإن اريد به المقدّمي منه كما هو بالنسبة إلى الطاهر الواقعي ـ فمع أنّ بقاء وجوب المقدّمة فرع على بقاء وجوب ذي المقدّمة فيه ـ أنّ بقاء موضوع هذا المستصحب أيضا غير محرز ، إلاّ أن يراد به استصحاب القدر المشترك ـ أعني وجوب الاجتناب المعرّى عن قيدي الأصليّة والمقدّميّة ـ فيتوجّه حينئذ ورود استصحاب الطهارة السابقة وأصالة الطهارة عليه ، لكون كلّ منهما بالقياس إليه أصلا موضوعيّا ، فليتدبّر.

لكنّ الإنصاف : أنّ القول بوجوب الاجتناب عن الباقي في صورة سبق العلم بالملاقاة متّجه ، لبقاء الموافقة القطعيّة اللازمة على المكلّف عقلا وشرعا ، كما هو من مقتضى حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف بالاجتناب بسببه في العهدة ، فإنّ المكلّف قبل تعذّر ما تعذّر ارتكابه كان في حكم العقل والشرع مخاطبا بتحصيل الموافقة القطعيّة. وهي كما تحصل تارة بتركهما معا بالاختيار مع بقائهما ، واخرى بصبّهما معا ، وثالثة بصبّ أحدهما وترك الآخر مع بقائه ، فكذلك تحصل بانصباب أحدهما قهرا الموجب لتعذّر ارتكابه وترك الآخر اختيارا. وهذا معنى كون المتعذّر كالمتروك ، فإنّ طروّ تعذّر ارتكاب أحدهما لا يوجب سقوط الخطاب بالموافقة القطعيّة ، لبقاء إمكانها بعد بترك الباقي. والعقل المستقلّ بالحكم بلزوم تحصيل الموافقة القطعيّة ، في مسألة اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به مستقلّ بالحكم ببقاء الموافقة القطعيّة في الصورة المفروضة في العهدة ، ولا تحصل إلاّ بترك الباقي.

غاية الأمر استناد حصولها بعد الترك إلى مقدّمتين حصلت إحداهما قهرا واخراهما اختيارا ، والأصل في ذلك أنّ المقدّمات العلميّة عند تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي إذا حصل بعضها قهرا لا يوجب سقوط اعتبار المقدّمات الاخر الباقية تحت اختيار المكلّف

١٤١

لأنّه لا يوجب سقوط الخطاب بالموافقة القطعيّة ، للقدرة على امتثاله بفعل المقدّمات الباقية.

وممّا يشير إلى ما بيّنّاه من لزوم مراعاة الموافقة القطعيّة مطلقا ما ورد في الإنائين المشتبهين من الأمر بإهراقهما معا ، فإنّ تعذّر ارتكاب أحد الطرفين لو كان طريقا إلى جواز ارتكاب الطرف الآخر لكان عليه الأمر بإهراق أحدهما فقط ، ليتعذّر ارتكابه فيترتّب عليه جواز ارتكاب الآخر.

وتوهّم الفرق بينه وبين ما نحن فيه في استناد التعذّر إلى الاختيار وعدمه ، كما ترى.

الأمر الرابع : في أنّه إذا اضطرّ المكلّف إلى بعض أطراف الشبهة فإمّا أن يضطرّ إلى بعض معيّن أو إلى بعض لا بعينه أعني أحدها على البدل ، وعلى الأوّل فإمّا أن يحصل الاضطرار قبل العلم بنجاسة أحدهما أو ملاقاة النجاسة له ، أو بعده.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي التأمّل في جواز ارتكاب الباقي بعد ارتكاب المضطرّ إليه ، لعدم تنجّز التكليف بالاجتناب قبل العلم ، وبعده أيضا يشكّ في تنجّزه بالقياس إلى الباقي ، لاحتمال كون المضطرّ إليه هو الحرام الواقعي الجائز ارتكابه بمقتضى الاضطرار ، فيجري فيه الأصل السليم عن المعارض.

وبالجملة حصل الاضطرار إلى أحد الإنائين لو علم المحرّم منهما وكان هو المضطرّ إليه جاز ارتكابه ، لأنّ الاضطرار إلى الحرام ممّا يجوّز ارتكابه ، فهذا اضطرار إلى ما جاز ارتكابه ولو كان هو الحرام الواقعي ، فتردّد البعض المعيّن المضطرّ إليه بين كونه المحرّم الواقعي أو غيره جهة اجتمعت مع العلم الإجمالي اللاحق موجبة للشكّ في تنجّز التكليف معه ، وقد ذكرنا سابقا أنّ من شرط تأثير العلم الإجمالي في تنجّز التكليف أن لا يجامعه جهة اخرى موجبة للشكّ فيه ، فيبقى البعض الغير المضطرّ إليه موردا للشكّ في التكليف باجتنابه.

وأمّا الصورة الثانية : ففي وجوب الاجتناب عن البعض الغير المضطرّ إليه وعدمه وجهان ، من أنّ الاضطرار اللاحق بالعلم الإجمالي المنجّز للتكليف هل أوجب سقوط أحد المقدّمات العلميّة عن الاعتبار ، أو خروج الحرام الواقعي عن وجوب الاجتناب؟

والأوّل أحوط فيكون وجوب الاجتناب أقوى ، وذلك لأنّ الترخيص في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به ـ كما هو قضيّة سبق العلم الإجمالي على الاضطرار ـ لا يوجب الترخيص في ترك البعض الآخر منها ، بل يجب إتيانه مراعاة لتقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة عند تعذّر الموافقة القطعيّة.

١٤٢

ومن الموافقة الاحتماليّة تقديم ما كان احتمال الموافقة فيه أقوى ، وهذا أصل عقلي ورد على طبقه الشرع كما في مسألة اشتباه القبلة بين الجهات الأربع ، ولذا لو تعذّر الصلاة إلى بعضها لم يلزم منه سقوط الباقي.

وإن شئت قلت : إنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف به حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، فإذا سقط الثاني بطروّ الاضطرار إلى ترك بعض المقدّمات المتوقّف عليها الموافقة القطعيّة لم يلزم منه سقوط الأوّل.

ويشكل : بأنّ الاضطرار على الحرام كما أنّه يمنع من التكليف باجتنابه فكذلك يرفعه ، ولذا لو طرأ الاضطرار إلى الحرام المعلوم بالتفصيل جاز ارتكابه ، وقضيّة ذلك انقلاب الشكّ في المكلّف به بعد طروّ الاضطرار إلى بعض معيّن إلى الشكّ في التكليف.

فالعلم الإجمالي في هذه الصورة أيضا جامعة جهة اخرى موجبة للشكّ في التكليف كما في الصورة السابقة غاية الأمر أنّها في السابقة أوجبت الشكّ في حدوث التكليف وهاهنا في بقائه ، فوجب أن لا يفرّق بين الصورتين في جواز ارتكاب البعض الغير المضطرّ إليه وعدم وجوب اجتنابه ، إلاّ أن يتشبّث في الصورة الثانية باستصحاب وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي السابق على طروّ الاضطرار ، فإنّ الشكّ في كون المضطرّ إليه هو الحرام الواقعي في هذه الواقعة يوجب الشكّ في سقوط وجوب اجتنابه وارتفاعه وهو مستصحب ، فبالنسبة إلى هذا الوجوب المستصحب يجب مراعاة تقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة بعد تعذّر الموافقة القطعيّة.

وأمّا الصورة الثالثة : فالظاهر وجوب الاجتناب فيها عن الباقي مطلقا ولو مع سبق الاضطرار على العلم بحرمة أحدهما أو نجاسته ، لأنّه إنّما يوجب في هذه الصورة سقوط بعض المقدّمات العلميّة عن الاعتبار ولا يوجب خروج الحرام والنجس الواقعيّين عن وجوب الاجتناب ، ولذا لم يجز ارتكابه لو علم به تفصيلا بعد طروّ الاضطرار إلى أحدهما على البدل ، لأنّه ليس اضطرارا إلى الحرام أو النجس.

فالفرق بين هذه الصورة والصورة الاولى أنّه في الصورة الاولى حصل الاضطرار إلى أحد أمرين لو علم المحرّم منهما تفصيلا وكان المحرّم الواقعي هو المضطرّ إليه جاز ارتكابه.

وفي هذه الصورة حصل الاضطرار إلى أحد أمرين لو علم المحرّم منهما تفصيلا لم يجز ارتكابه ، لعدم اضطرار إلى ارتكابه ، فالاضطرار المجامع للعلم الإجمالي السابق

١٤٣

عليه أو اللاحق به ليس جهة موجبة للشكّ في التكليف حدوثا ولا بقاء ، فلا مانع من تأثيره في تنجّز التكليف بالاجتناب.

غاية الأمر أنّه يكتفى فيه بالموافقة الاحتماليّة ، لتعذّر الموافقة القطعيّة بسبب الاضطرار إلى ترك إحدى مقدّمتيها.

وقد عرفت أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به لا يوجب سقوط اعتبار البعض الباقي منها ، بل يجب إتيانه مراعاة لتقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة بعد سقوط اعتبار الموافقة القطعيّة ، فليتدبّر.

وبذلك يندفع ما قد يتوهّم في هذا المقام من أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض المقدّمات دليل على عدم توجّه طلب منه إلى ترك الحرام الواقعي ، كما أنّ ترخيصه في ترك الخروج مع الرفقة في سفر الحجّ دليل على عدم توجّه الطلب إلى الحجّ ، والمفروض أنّه لا تكليف بالاجتناب عمّا عدا الحرام الواقعي فلا مقتضى لوجوب الاجتناب عن الباقي ، فإنّ المقدّمة إذا كانت علميّة ـ كما هو مفروض المقام ـ فالترخيص في تركها يدلّ على عدم وجوب تحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، ولا يلزم منه الترخيص في فعل الحرام الواقعي.

غاية الأمر أنّه إن صادف المقدّمة المرخّص في تركها للحرام الواقعي لا يترتّب العقاب على المخالفة اللازمة من تركها ، وهذا لا يقتضي بعدم العقاب على مطلق المخالفة حتّى ما يلزم من عدم الاجتناب عن الباقي على تقدير كونه الحرام الواقعي ، فالعقل المستقلّ بوجوب دفع الضرر المحتمل حاكم بوجوب الاجتناب عن الباقي دفعا للعقاب المحتمل.

نعم يمكن أن يقال : كما أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض مقدّمات وجود الواجب ينافي وجوب ذلك الواجب ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه. فكذلك ترخيصه في ترك بعض مقدّمات العلم بوجوده المحتمل في نظر المكلّف كونه نفس الواجب ينافي وجوب الواجب.

فثبوته يدلّ على عدم وجوبه ، ومعه لا يحتمل العقاب في ترك باقي مقدّمات العلم وإن صادف ترك الواجب الواقعي ، فلا مقتضى لوجوب الاجتناب عن الباقي فيما نحن فيه.

ويزيّفه : بطلان المقايسة ، فإنّ ترخيص الشارع في ترك بعض مقدّمات وجود الواجب ينافي وجوبه مطلقا ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه مطلقا ، بخلاف ترخيصه في ترك بعض مقدّمات العلم بوجود الواجب لأجل الاضطرار إليه ، فإنّه إنّما ينافي وجوبه على تقدير

١٤٤

اتّفاق كون البعض المضطرّ إلى تركه هنا نفس الواجب لا على كلّ تقدير ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه على هذا التقدير لا مطلقا ، فيبقى البعض الباقي محتملا للضرر الاخروي وهو العقاب ، لاحتمال كونه الحرام الواقعي الواجب اجتنابه ، فيجب تركه عقلا دفعا للضرر المحتمل ، فهو المقتضي لوجوب الاجتناب عنه.

الأمر الخامس : في أنّ أطراف الشبهة المحصورة قد تكون بطبعها في تحقّقها الخارجي ممّا يوجد تدريجا ، كما لو اشتبهت أيّام الحيض في المستحاضة في تمام الشهر إذا كانت مضطربة بنسيان وقت الحيض مع تذكّر عدد أيّامه بكونه ثلاثة مثلا ، إن لم نقل بوجوب وضعه في أوّل الشهر كما هو الأقوى ، ولا تخييرها في الوضع بين الأوّل والوسط والآخر ، فقد يقال بجريان قاعدة الشبهة المحصورة في نحوه المقتضية لوجوب الاجتناب عن مقاربتها على الزوج في تمام الشهر ، ووجوب الامساك عن دخول المساجد ، وقراءة سور العزائم عليها كذلك ، لوجود مناط وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مثله ، وهو العلم الإجمالي المنجّز للتكليف الموجب لتوجّه الخطاب في قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ )(١) ولعلّه لذا صار الشيخ إلى وجوب الاحتياط عليها ، فتأمّل.

ويمكن المناقشة فيه بمنع تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي هاهنا ، لأنّ من شرطه على ما عرفت ابتلاء المكلّف بجميع أطراف الشبهة ، والابتلاء في الامور التدريجيّة إنّما يحصل جزءا فجزءا فمحلّ الابتلاء من أوّل الشهر في المثال المذكور إنّما هو اليوم الأوّل لا ما بعده إلى آخر الشهر ، ثمّ يصير اليوم الثاني محلاّ للابتلاء عند دخوله وهكذا اليوم الثالث والرابع إلى آخر الشهر ، فالمعلوم بالاجمال في كلّ يوم دائر بين محلّ الابتلاء وغير محلّ الابتلاء ومعه لا يقطع بتوجه الخطاب بالاجتناب لرجوع الشكّ في كلّ يوم إلى التكليف.

ويمكن الذبّ عنها : بأنّ محلّ الابتلاء في كلّ شيء بحسبه ، ويتطرّق المنع إلى عدم الابتلاء في أوّل الشهر بجميع أيّام الشهر ، فإنّ ضابط الابتلاء في الامور التدريجيّة إنّما هو قطع السلامة أو ظنّها ، على معنى البقاء إلى تمام الشهر في نحو المثال مع القطع أو الظنّ بالتمكّن من الارتكاب في كلّ يوم يوجد تدريجا ، فيصير جميع أيّام الشهر حينئذ محلاّ للابتلاء بالقياس إلى هذا المكلّف.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

١٤٥

وإن شئت قلت : إنّ المقام من فروع مسألة ظنّ السلامة الكافي في تنجّز التكليف على ما تقرّر في محلّه ، ولذا يخاطب المكلّف من حين رؤية هلال شهر رمضان بصيام تمام الشهر ، ويصحّ نيّة الجميع في أوّل ليلة منه.

هذا ، ولكنّ الّذي يسهّل الخطب ويهوّن الأمر هو إمكان التخلّص عن الشبهة في المثال بالأصل الموضوعي ، وهو إمّا قاعدة وضع العدد في أوّل الشهر أو على التخيير ـ كما أو مأنا إليه ـ فلا يجب الاجتناب في غير ما عيّن كونه حيضا ، أو استصحاب الحالة السابقة وهو الطهر المتيقّن قبل رؤية الدم وأصالة عدم طروّ الحيض ، فإنّه يجري من أوّل الشهر في كلّ يوم إلى أن يبقى منه مقدار العدد المعلوم لحصول القطع عنده بانتقاض الحالة السابقة ، باعتبار دوران الحيض حينئذ في النظر بين كونه متحقّقا في هذه الأيّام أو في الأيّام الماضية.

نعم يجوز التمسّك في هذه الأيّام بأصالة الإباحة ، لعود الشكّ بالنسبة إليها إلى كونه في التكليف الصرف.

ومن طريق البحث يظهر الحال في كلّ مثال يرد عليك من الموجودات تدريجا ، وظهر الوجه في جريان قاعدة الشبهة المحصورة فيها وعدم جريانها إمّا لفقد ما هو من شروط الاجتناب عن الشبهة مطلقا أو لوجود المانع عن وجوبه وهو الأصل الرافع للاشتباه فلاحظ وتأمّل.

الأمر السادس : لا فرق في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة بين ما لو كان الاشتباه بدويّا أو حصل بعد ما كانا ممتازين مع عدم سبق حالة سابقة فيهما عليه أو مع سبقها عليه مع كونها الطهارة ـ كما لو كانا مائين طاهرين فأصاب أحدهما نجاسة ولم يعلم أيّهما هو؟ أو كانا عصيرين فانقلب أحدهما خمرا ولم يعلم أيّهما هو؟ ـ أو النجاسة فيهما ، كما لو كانا نجسين ثمّ زالت النجاسة عن أحدهما بمطهّر شرعي ، أو كانا خمرين فانقلب أحدهما خلاّ ولم يعلم أيّهما هو؟ أو الطهارة في أحدهما والنجاسة في الآخر كما لو كان أحدهما عصيرا والآخر خمرا مع الاشتباه فانقلب العصير خمرا والخمر خلاّ.

ثمّ الاشتباه الموجب لإجماليّة العلم قد تكون في المكلّف به لتردّد عنوان واحد محرّم بين شخصين كما في الإنائين المشتبهين إذا كان أحدهما خمرا ، أو لتردّد أحد العنوانين المحرّمين المردّد فيهما بين شخصين كما في الإنائين المشتبهين إذا كان أحدهما الخمر أو العصير بعد الغليان ، أو لتردّد أحد العنوانين بين شخصين ممتازين كما في إناء وثوب علم

١٤٦

كون الأوّل خمرا والثاني مملوكا أو الثاني مغصوبا والأوّل خلاّ ، والكلّ من الشبهة المحصورة الواجب اجتنابها.

وأمّا ما لو كان لتردّد شخص واحد بين عنوانين فينبغي القطع بعدم كونه من الشبهة المحصورة ، مع وجوب الاجتناب عنه لو كانا محرّمين وعدمه ـ لرجوع الشكّ إلى التكليف ـ لو كان أحدهما محرّما والآخر محلّلا.

وقد يكون في المكلّف لتردّد عنوان واحد بين شخصين كعنوان الجنب المردّد بين واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، ولا إشكال في أنّه لا يوجب تكليفا بالنسبة إلى واحد منهما ، لشكّ كلّ في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم عليه ، وهو شكّ في التكليف فيجري الأصل لكلّ في نفسه.

أو لتردّد شخص واحد بين عنوانين كالخنثى المردّدة بين الرجل والانثى العالم إجمالا بحرمة كشف أحد قبليه للقطع بكونه عورة ، وبحرمة أحد لباسي الرجال والنسوان عليه ، وبحرمة أحد الأمرين من استماع صوت الأجنبيّة أو إسماع صوته للأجنبيّ إلاّ لضرورة ، وبحرمة أحد الأمرين من النظر إلى الرجال أو النسوان عليه ، وبحرمة أحد الأمرين من التزويج والتزوّج لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ، والأصل مع عدم إحراز شيء منهما عدم تأثير العقد فيجب حفظ الفرج المردّد بين قبليه.

فقد يقال ـ نظرا إلى قاعدة الشبهة المحصورة الكافي فيها العلم الإجمالي في تنجّز التكليف توجّه الخطاب ـ بوجوب الاجتناب عليها في الأمثلة ونظائرها عن الأمرين معا ، لمكان القطع بتوجّه الخطاب والشكّ في متعلّقه ، فيجب عليها ستر قبليه ، ويحرم عليها كلّ من لباسي الرجل والمرأة ، وكلّ من استماع صوت الأجنبيّة وإسماع صوتها الأجنبي ، وكلّ من التزويج والتزوّج ، وكلّ من النظر إلى الرجال والنسوان.

وقد يعترض عليه : بمنع توجّه الخطابات المختصّة بالفريقين إليها ، إمّا لانصرافها إلى غيرها ، أو لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا.

ولا خفاء في ضعفه ، فإنّ حديث الانصراف إن صحّحناه لا يضرّ بشمول الأحكام المستفادة من الخطابات المختصّة لها بملاحظة مقدّمة الاشتراك في التكليف ، فإنّها إن كانت رجلا تشارك في تكاليفهم بتلك المقدّمة وإن انصرف خطاباتهم إلى غيرها ، وإن كانت امرأة تشارك النسوان في تكاليفهنّ بالمقدّمة المذكورة ، كما هو الحال في الأحكام المشتركة بين

١٤٧

الفريقين لجريان ما ذكر من حديث الانصراف فيها أيضا.

وأمّا حديث اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه الخطاب تفصيلا فهو رجوع إلى نظير هذه الدعوى في أصل مسألة الشبهة المحصورة وقد زيّفناها ومحصّله : عدم الفرق في شرط التكليف بين العلم بالحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا بعد التمكّن من العلم التفصيلي ، ولا بين العلم بموضوعه تفصيلا أو إجمالا بعد التمكّن من الامتثال ، وهو متحقّق فيما نحن فيه بالنسبة إلى جميع الأمثلة ونظائرها.

غاية الأمر أنّ المعلوم بالاجمال في جميعها أو بعضها أحد الخطابين ، فيكون نظير الخطاب المردّد بين قوله : « اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن المغضوب » في واقعة إناء وثوب مثلا يعلم المكلّف كون الأوّل خمرا أو الثاني مغصوبا ، وهو كاف في تنجّز مدلول هذا الخطاب المعلوم بالإجمال أو انعقاده تكليفا فعليّا.

ولا ريب أنّه يقتضي الامتثال والخروج عن العهدة ، ولا يتمّ اليقين به إلاّ باجتناب الجميع.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّها إذا اضطرّت ولو عادة إلى ارتكاب أحد الأمرين كما يتّفق كثيرا في مسألة اللباس من عدم المندوحة لها عن لباس أحد الفريقين ، وحينئذ جاز لها لبس أحدهما على وجه التخيير بدوا ، فإذا اختارت أحدهما وجب الاجتناب عن الآخر على وجه الاستمرار.

وينبغي أن يعلم أيضا أنّ المحرّم في مسألة التزويج والتزوّج أحد الأمرين من وطئها الغير أو تمكينها من وطء الغير إيّاها لا مجرّد إجراء العقد عليها.

المرحلة الثانية : في الشبهة الغير المحصورة ، وربّما يشتبه الفرق بينها وبين المحصورة فيصعب على النظر تشخيص مصاديق إحداهما عن الاخرى ، ولذا أحاله جمع من الأصحاب إلى نظر الفقيه ، فما ترجّح عنده كون الشبهة فيه محصورة يلحق به حكمها ، وما ترجّح عنده كونها فيه غير محصورة يلحقه حكمها ، وما لم يترجّح في نظره شيء يرجع في حكمه إلى القواعد والاصول.

وهذا أحسن من إحالة التشخيص فيهما إلى العرف ، كما قد يسبق إلى الوهم ويستشمّ من بعض العبائر ، بضابطة : أنّه المرجع في معرفة موضوعات الأحكام ، فكلّما سمّاه أهل العرف بالشبهة المحصورة يجري عليه أحكامها ، وكلّما سمّوه بالشبهة الغير المحصورة يلحقه أحكامها ، لأنّه يضعّف : بعدم كون هذين العنوانين من الألفاظ الواردة في الكتاب

١٤٨

والسنّة ، ولا المأخوذة في معاقد الإجماعات المنقولة ليرجع في استعلامها إلى العرف ، مع أنّ شبهة الفرق بينهما مصداقيّة لا مفهوميّة ناشئة عن خفاء الحيثيّة المأخوذة الفارقة بينهما في الحكم الّتي لا سبيل لأهل العرف إلى معرفتها ، بل لا بدّ من استعلامها من الأدلّة الفارقة بينهما في الحكم ، فيكون بيانها من وظيفة الفقيه لا غير.

ولا يبعد كونها في غير المحصورة عدم ابتلاء المكلّف العالم بالاجمال ، بجميع محتملات المعلوم بالاجمال لكن لا مطلقا لينتقض بما قد يتّفق في الشبهة المحصورة من عدم الابتلاء ببعض أطراف الشبهة ، بل لعدم استحضار المكلّف جميع المحتملات ذهنا أو خارجا ، ولو لتعذّر أو تعسّر استحضارها عادة بواسطة كثرتها عند تقسيمه للمعلوم بالاجمال إليها وترديده إيّاه بينها ، على وجه يجوز في نظره كونه في جمله ما يستحضره أو في جملة ما لا يستحضره.

وعليه فأمكن تعريف الشبهة المحصورة : بما كان الترديد حاصرا لجميع محتملات المعلوم بالاجمال ، والغير المحصورة : بما لم يكن الترديد حاصرا لجميع محتملاته لعدم استحضاره الجميع ذهنا أو خارجا ، كما يقال في التقسيمات ـ عند بيان قصور التقسيم ـ : أنّه غير حاصر لجميع أقسام المقسم ، من الحصر بمعنى الحفظ أو العدّ ، والمحصور في المحصورة وغير المحصورة مفعول من الحصر بأحد هذين المعنيين ، ولا بدّ له من حاصر وهو الترديد ، فهو الّذي ينقسم إلى كونه حاصرا وغير حاصر ، أي حافظا أو عادّا لجميع المحتملات وغير حافظ أو عادّ لجميعها.

وأمّا الحصر ـ أعني المنع ـ وإن احتمل إرادته في المقام ، بأن يوجّه الشبهة المحصورة بما كان ممنوع الارتكاب والغير المحصورة بما كان غير ممنوع الارتكاب ، سواء قدّر المانع هو العلم الإجمالي المنجّز للتكليف في الأوّل دون الثاني ، أو الخطاب الشرعي المتوجّه إلى المكلّف بسبب العلم الإجمالي في الأوّل دون الثاني ، إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في تميّز الموارد المشتبهة.

فالصحيح أحد المعنيين الأوّلين بالتوجيه المتقدّم ، وهو أسدّ ممّا احتمله بعض مشايخنا العظام من تعريف غير المحصور بما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها.

قال : « ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من

١٤٩

أهل قرية كثيرة يعلم بوجود زيد فيها لم يكن ملوما وإن صادف زيدا ، وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالاجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ومردّد بين أهل بلدة ، ونحوه ما إذا علم إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالمعلوم الاجماليّة المترتّب عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كلّ مقام » إنتهى كلامه رفع مقامه (١).

فإنّه في النظر الدقيق إحالة إلى المجهول لجهالة ضابط العلم الإجمالي الّذي لا يعتني به العقلاء على وجه لا يشذّ منه شيء من الموارد ، والعمدة في المقام بيانه لا غير ، وإلاّ فلا خفاء على أحد أنّ امتياز غير المحصور عن المحصور إنّما هو في كون العلم الإجمالي في الأوّل ممّا لا يعتني به العقلاء بخلاف الثاني.

وأضعف منه ما في الضوابط وعزي إلى المحقّق أيضا من أنّ غير المحصور ما كان الاجتناب عنه موجبا للعسر والحرج وهو كما ترى ، فإنّ العسر والحرج على ما ستعرفه مناط لحكم غير المحصور إن صحّحناه فكيف يصلح تعريفا له ، مع أنّهما يعرضان الأفعال وقلّما يعرضانه من التروك ، مع أنّ من موارد غير المحصور ما لا شائبة لهما في اجتنابه مع أنّه يعدّ منه ويجري عليه أحكامه ، كالصحراء الوسيع الّتي أصاب موضعا منها نجاسة فاشتبه الموضع.

ولبعض ما ذكرناه قد يوجّهان هنا بالضيق النفساني والمشّقة الحاصلة للنفس عن الاجتناب ، كالاجتناب عن كرّ من البرّ لوجود حبّة مغصوبة وما يقرب منها في القلّة فيه ، والتجنّب عن جميع ما في السوق أو المباحات الكثيرة لوجود نجس أو مغصوب فيها ، فإنّه شاقّ على النفوس ولا يتحمّله النفس.

وهذا أيضا مع عدم انضباطه غير مطّرد لاختلاف الأشخاص في ذلك ، فإنّ من النفوس ما لا يتحمّل التحرّز عن درهمين أو ثلاثة دراهم أو أربعة أو عشرة أو ما يقرب منها ، وكذلك دينارين أو أزيد لوجود مغصوب فيها ، مع أنّه لا ينبغي الاسترابة في كونه من المحصور.

وأضعف ممّا ذكر ما في الضوابط (٢) أيضا من أنّ غير المحصور ما كان الحرام أو النجس المشتبه مضمحلاّ في جنب الباقي ، فإنّه أيضا غير منضبط ولا مطّرد ، ويكفي في

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧١.

(٢) الضوابط.

١٥٠

عدم اطّراده ما لو أصاب قطرة نجاسة موضعا من الثوب مشتبها ، مع كونه من المحصور.

وأضعف منه ما عن كاشف اللثام (١) في مسألة المكان المشتبه بالنجس من احتمال كون الضابط هو أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، لعدم انضباطه ولا اطّراده ولا انعكاسه.

نعم يستفاد من بعض الأعلام (٢) تعريف المحصور بما أمكن إحاطة أفراده من غير تعذّر أو تعسّر عادة ، وغير المحصور خلافه ، وفي معناه ما عن الشهيد والمحقّق الثانيين (٣) والميسي (٤) وصاحب المدارك (٥) من تعريف غير المحصور بما يعسر عدّه عادة. وهذا وإن كان قريبا ممّا ذكرناه إلاّ أنّه لا يخلو عن عدم الانضباط ، لأنّ عسر العدّ وعدمه يختلف باختلاف الأشخاص والفروض والوقائع ، وقد يعسر عدّ الشيء بآحاده ولا يعسر بعشراته كما في الدراهم والدنانير.

وعن المحقّق الثاني تقييد عسر العدّ بزمان قصير (٦). وفيه أيضا من الإجمال وعدم الانضباط ما لا يخفى.

وليعلم أنّ المراد بالعدّ في هذا التفسير عدّ أطراف الشبهة بالطرق المتعارف فيه ، فإنّ لكلّ شيء عدّا على حسبه عند العرف ، فمن الأشياء ما يعدّ بالواحد العددي كالغنم والإبل وما أشبه ذلك ، ومنها ما يعدّ بالوزن ، ومنها بالكيل ، ومنها بالمساحة ، ومنها بالكفّ والغرفة ، ومنها ما يعسر عدّه بأجزائه مع كونه من الشبهة [ المحصورة ] ، ومنها ما يسهل عدّه بطريق الضرب كما في الأراضي مع كونه من الشبهة الغير المحصورة ، فليتدبّر في المقام لئلاّ يختلط الأمر.

ثمّ بالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط الفرق تعرف أنّ حكم الشبهة الغير المحصورة هو عدم وجوب الاجتناب كما هو المعروف ، كما تعرف وجهه أيضا وهو رجوع الشكّ مع العلم الإجمالي الحاصل فيه إلى التكليف ، لدوران المعلوم بالإجمال بين ما يستحضره المكلّف ممّا ابتلي به وما لا يستحضره ممّا لا يبتلى به ، ففي نحوه يشكّ في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بذلك العلم الإجمالي بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال.

وقضيّة الشكّ في التكليف جريان الأصل ، وقضيّة جريانه جواز الارتكاب وإن صادف

__________________

(١) كشف اللثام ٣ : ٣٤٩.

(٢) القوانين ٢ : ٢٤.

(٣) انظر روض الجنان : ٢٢٤ ، وحاشية الإرشاد للمحقّق الثاني ( المخطوط ) : ٤٠ وفوائد الشرايع ( مخطوط ) : الورقة ٢٤ ، وجامع المقاصد ٢ : ١٦٦.

(٤) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣.

(٥) المدارك ٣ : ٢٥٣.

(٦) حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : ٤٠ ـ ٤١ ، فوائد الشرائع ( مخطوط ) : الورقة ٢٤.

١٥١

الحرام والنجس الواقعي في الواقع ، ومرجعه إلى عدم وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة ، وعليه مدار الإجماع المنقول على الحكم المذكور في حدّ الاستفاضة ، كما عن الروض (١) وجامع المقاصد (٢) وفوائد المحقّق البهبهاني (٣) وغيرهم (٤) ، بل ربّما ادّعى الضرورة فيه مع كون هذه الإجماعات بأنفسها حجّة مستقلّة لكون الحكم فرعيّا ، وقد يستدلّ بوجوه اخر غير تامّة :

منها : لزوم المشقّة والعسر والحرج في الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة ، فينفيه عموم قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(٥) وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٦).

وفيه : منع الصغرى إن اريد لزوم العسر والحرج لكلّ واحد من آحاد المكلّفين ، ومنع الكبرى إن اريد لزومهما للنوع ولو في ضمن الأغلب ، على معنى كون العسر اللازم للأغلب في الاجتناب عن الشبهات الغير المحصورة موجبا لارتفاع التكليف بالاجتناب عن عامّتهم حتّى من كان الاجتناب عنها بالنسبة إليه في غاية السهولة ، لظهور الأدلّة النافية للعسر والحرج في إناطة التكليف وجودا وعدما بالعسر والحرج وجودا وعدما بالنسبة إلى الأشخاص لا النوع ، ويكفي فيه ظهور ضمائر الجمع في الآيتين في العموم الأفرادي كما قرّر في محلّه ، مع ما ورود الأدلّة النافية لهما في سياق الامتنان ولا امتنان بالنسبة إلى من لا عسر في حقّه ، مع ما يستلزمه رفع التكليف عنه من تفويت مصلحته عليه بلا تدارك.

مع إمكان منع تناول عمومها لمثل ما نحن فيه ، لأنّ مفادها نفي الحكم الواقعي الّذي هو مفاد الخطابات الواردة في العناوين الخاصّة عن الموارد العسرة من هذه العناوين ، ولا إشكال في أنّ المعلوم بالاجمال في جميع موارد الشبهة الغير المحصورة على حرمته أو نجاسته الواقعيّة على ما هو مؤدّى الخطابات الواردة في العناوين الصادقة عليه ، والكلام إنّما هو في وجوب الاجتناب عنه فعلا وعدمه ، ويظهر ثمرة كونه على حرمته أو نجاسته الواقعيّتين [ في ] ترتّب سائر الآثار المترتّبة على الحرام والنجس ، من الضمان ووجوب غسل موضع الملاقاة فيما إذا تبيّن بعد الارتكاب مصادفة الحرام والنجس الواقعيّين.

ومنها : الروايات العامّة النافية للتكليف عمّا لم يعلم حرمته بعينه ، وعمومها يتناول كلاّ

__________________

(١) روض الجنان : ٢٢٤.

(٢) جامع المقاصد ٢ : ١٦٦.

(٣) الفوائد الحائريّة : ٢٤٧.

(٤) انظر مفتاح الكرامة ٢ : ٢٥٣ والرياض ( الطبعة الحجرية ).

(٥) البقرة : ١٨٥.

(٦) الحجّ : ٧٨.

١٥٢

من المحصور وغيره ، إلاّ أنّ الأوّل خرج منه بدليله القاضي بوجوب الاجتناب وبقي غيره.

وفيه : منع عموم تلك الروايات لما نحن فيه ، وسنده ما تقدّم عند ردّ الاستدلال بها على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة (١) من اختصاصها بالشبهات الابتدائيّة بواسطة ظهور قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » (٢) فيها ولو سلّم العموم إمّا لأنّ من هذه الروايات ما لا مقتضي لاختصاصه بالشبهات الابتدائيّة كقوله عليه‌السلام : « كلّ شيء لك حلال ... » (٣) إلى آخره ، أو لما قيل ـ وليس ببعيد ـ من أنّ الشبهة الابتدائيّة تؤول غالبا إلى الشبهة الغير المحصورة ، لأنّ كلّ ما يشكّ في حرمته أو نجاسته ابتداء فهو بعض من الأشياء الغير المحصورة الّتي يعلم إجمالا بأنّ فيها ما هو حرام أو نجس واقعي.

فنقول : إنّ المخرج للشبهة المحصورة عن العموم إنّما هو نفس الخطابات الواردة في تحريم المحرّمات الواقعيّة ، مع انضمام حكم العقل بكفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب فعلا إلى المكلّف العالم بالإجمال.

وأمّا الشبهة الغير المحصورة فإمّا أن يقال فيها أيضا بشمول الخطاب للمعلوم بالإجمال وحكم العقل بتنجّز التكليف بسبب العلم الإجمالي المفروض فيه ، أو يقال بمنع ذلك.

وعلى الأوّل : وجب الالتزام بخروجها أيضا كالمحصورة عن عموم الروايات.

وعلى الثاني : كفى عدم تأثير العلم الإجمالي المفروض في تنجّز التكليف في الالتزام بعدم وجوب الاجتناب ، ولا حاجة معه إلى تجشّم الاستدلال بالروايات وتكلّف تتميم دلالاتها بنحو ما ذكر.

فإن قلت : نعم لكن جواز الارتكاب لا بدّ له من مستند يعوّل عليه ، وليس إلاّ الأصل ، ولا بدّ له من مدرك وليس إلاّ الروايات ، فالاستدلال بهما إنّما هو لأجل أنّه لولاه لم يجز التعويل على الأصل.

قلت : فعلى هذا يرجع هذا الاستدلال إلى التمسّك بالأصل ، وهو الّذي سبق التمسّك به فلا يكون الروايات دليلا آخر غير الأصل.

ومنها : بعض الأخبار الدالّة على أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب « الشبهة المحصورة » كما يعطيه التأمّل ، فراجع وتأمّل.

(٢) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به الحديث الأوّل.

(٣) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.

١٥٣

لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما ، كالمرويّ عن محاسن البرقي عن أبي الجارود « قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الجبن ، فقلت : أخبرني عمّن رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، والله إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البريّة وهذه السودان ... » إلى آخره (١).

فإنّ قوله عليه‌السلام : « أمن أجل مكان واحد » الخ ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته ، كما أنّ قوله : « والله ما أظنّ كلّهم يسمّون » ظاهر في إرادة العلم بعدم تسمية جماعة من البريّة والسودان في ذبائحهم.

وفيه أيضا ضعف واضح ، لمنع الدلالة والظهور المدّعى ، بل الظاهر من قوله : « مكان واحد يجعل فيه الميتة » ناحية يعلم تفصيلا بأنّ أهلها يجعلون الميتة في الجبن ، وهذا لا يوجب الاجتناب عن جبن الأمكنة الاخر الّتي لا يعلم ذلك من أهلها ، فمورد الخبر خارج عمّا نحن فيه.

ولو سلّم كون المكان عبارة عن نفس الجبن الّذي جعل فيه الميتة ، فالمراد به ما يعلم كونه كذلك تفصيلا ، فلا تعلّق له بما نحن فيه أيضا.

وظهور قوله : « والله ما أظنّ » فيما ذكر أيضا واضح المنع ، لعدم كونه من منطوق هذا الكلام ولا مفهومه ، بل الظاهر منه نفي اعتبار العلم بالتذكية في إباحة اللحم ، بل يكفي فيها مجرّد وجوده في سوق المسلمين ما لم يعلم عدم التذكية.

فالعمدة في دليل المطلب هو الأصل والإجماع ، وقد ظهر منهما عدم وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي الموجود في الشبهة الغير المحصورة.

وإذا ثبت جواز الارتكاب فيها فهل يجب إبقاء مقدار الحرام المشتبه أو لا ، بل يجوز ارتكاب الجميع مطلقا حتّى مقدار الحرام وإن استلزم ارتكاب الحرام الواقعي ، أو يفصّل بين ما لو عزم على ارتكاب الجميع من أوّل الأمر فيجب إبقاء مقدار الحرام وعدمه فيجوز ارتكاب الجميع ، أو أنّه في صورة العزم على ارتكاب الجميع يفصّل أيضا بين ما لو قصد من ارتكاب الجميع التوصّل به إلى ارتكاب الحرام الواقعي ، بأن يكون ارتكاب الكلّ مقدّمة للحرام فلا يجوز أصل الارتكاب ، وعدمه فيجوز ويجب إبقاء مقدار الحرام ، وجوه.

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٩١ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، ح ٥ ، المحاسن ٢ : ٢٩٦.

١٥٤

والتحقيق على ما يقتضيه ظاهر النظر : أنّه لا ينبغي التأمّل في جواز ارتكاب الكلّ من غير إبقاء لمقدار الحرام فيما لم يعزم من أوّل الأمر على ارتكاب الكلّ ، إذ لا مانع منه إلاّ توهّم لزوم المخالفة القطعيّة وهي قبيحة عقلا وشرعا.

ويدفعه : أنّ القبيح إنّما هو مخالفة الخطاب المتوجّه إلى المكلّف ، والتكليف الفعلي الشاغل لذمّته ، وضابطه كونها بحيث يترتّب عليها العقاب ، فإمّا أن يدّعى القطع في الشبهة الغير المحصورة بتوجّه الخطاب واشتغال الذمّة فيجب التزام وجوب الموافقة القطعيّة باجتناب الكلّ فضلا عن حرمة المخالفة القطعيّة ، أو يدّعى القطع بعدمه فيجب التزام جواز ارتكاب الكلّ من دون إبقاء لمقدار الحرام وإن تضمّن مخالفة الحكم الواقعي بعنوان القطع من دون عقاب عليه ، أو يدّعى الشكّ في توجّه الخطاب وعدمه فهو يوجب الشكّ في التكليف في كلّ ارتكاب حتّى الارتكاب الأخير الّذي هو ارتكاب لمقدار الحرام.

وقضيّة الشكّ في التكليف جريان الأصل ، فيجب الالتزام أيضا بجواز ارتكاب الكلّ من دون عقاب على المخالفة اللازمة منه بعنوان القطع الحاصل بها بعد جميع الارتكابات.

وبالجملة لا قبح في مخالفة حكم واقعي لم ينعقد تكليفا فعليّا ، أو لم يظهر للمكلّف انعقاده تكليفا فعليّا بطريق شرعي ، فلا مقتضي لوجوب إبقاء مقدار الحرام. إلاّ أن يقال : إنّ مدرك جواز الارتكاب في الشبهة الغير المحصورة إن كان هو الإجماع فهو قائم على عدم وجوب اجتناب الكلّ ، وهو لا يستلزم جواز ارتكاب الكلّ ، والقدر المتيقّن من معقده هو ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، فيجب الاقتصار عليه.

وإن كان لزوم العسر والحرج فهو إنّما يلزم في اجتناب الكلّ فينفى عنه التكليف الإلزامي ، وهو أيضا لا يستلزم نفيه عمّا لا عسر فيه أصلا وهو الاجتناب عن مقدار الحرام ، وإن كان هو الأصل فهو أيضا لا يجري في مقدار الحرام ، وذلك لأنّ العقل يجوّز توجّه الخطاب مع العلم الإجمالي المفروض ، مع تجويزه كون الشارع إنّما أسقط اعتبار الموافقة القطعيّة لما لزمها من العسر والحرج ونحوه ، وكثيرا مّا يكتفى عنها بالموافقة الاحتماليّة ولا يلزم من إسقاط اعتبارها فيما نحن فيه إسقاط اعتبار الموافقة الاحتماليّة ، وهي تحصل بإبقاء مقدار الحرام ، فارتكاب الكلّ ممّا يجوّز العقل فيه العقاب ، وهو احتمال الضرر الاخروي فيجب دفعه عقلا ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعدم ارتكاب البعض تحصيلا للموافقة الاحتماليّة.

ومنه يظهر الحكم فيما لو عزم من ابتداء الأمر على ارتكاب الكلّ بقصد التوصّل إلى

١٥٥

الحرام أو لا بهذا القصد ، فإنّ إبقاء مقدار الحرام فيهما أولى بالوجوب ، بل ربّما أمكن فيهما القول بوجوب اجتناب الكلّ ، نظرا إلى أنّ فرض العزم على ارتكاب الكلّ يستدعي استحضار جميع المحتملات والابتلاء بالجميع فيوجب خروج المفروض على تقدير تحقّق الفرض عن ضابط الشبهة الغير المحصورة ، ويرتفع معه مانع تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب المقتضي للموافقة القطعيّة المتوقّفة على اجتناب الجميع ، إلاّ أن يدفع وجوبه بلزوم العسر والحرج وهو لا ينفي وجوب اجتناب البعض حتّى مقدار الحرام فيجب إبقاؤه.

وكيف كان فالمسألة بجميع صورها الثلاث محلّ إشكال ، لكنّ الأقوى في صورة عدم العزم من ابتداء الأمر جواز الارتكاب مطلقا ، للأصل السليم عن مزاحمة حجّيّة العلم الإجمالي. وما ذكر في منع جريانه إنّما يتّجه على تقدير انحصار مدركه في حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان وليس كذلك ، بل العمدة فيه الروايات العامّة المتقدّم إليها الإشارة في الوجه الثاني من الاستدلال على حكم الشبهة الغير المحصورة بالتقريب المتقدّم في تتميم هذا الاستدلال ، ومرجعه إلى دعوى سلامة عموم الروايات عن مزاحمة حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف معه.

والسرّ فيه كونه في محلّ اجتمع معه جهة اخرى موجبة للشكّ في حدوث التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، فلاحظ وتأمّل.

الصورة الثانية : وغيرها من صور دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب من الشكّ في المكلّف به في الشبهة الحكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه لمثله ، ولم نقف لهذه الصور على أمثلة محقّقة في الشرعيّات ، إلاّ ما قد يفرض لصورة إجمال النصّ من الخطاب الوارد في تحريم الغناء ، وهو مجمل لاختلاف أهل اللغة في مفهومه ، موجب إجماله لاشتباه مصداقه المحرّم الواقعي بغيره ممّا ليس بمحرّم ، لدوران مفهومه بسبب الاختلاف المذكور بين الطرب والترجيع ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، ولا شبهة في مادّة اجتماعهما ، وإنّما الاشتباه في مادّتي الافتراق ، فإنّ إحداهما غناء في الواقع مشتبه بغيره.

وكيف كان فينبغي التكلّم في حكم هذه الصور على تقدير تحقّقها في الشرعيّات.

فنقول : إنّ حكم هذا المشتبه نظير ما تقدّم في الشبهة المحصورة من وجوب الاجتناب عن جميع محتملاته نعلا بنعل وقذّا بقذّ ، لاتّحاد الطريق من ورود الخطاب بتحريم العنوان الصادق على المشتبه المعلوم بالاجمال مع استقلال العقل بكون العلم الإجمالي كالعلم

١٥٦

التفصيلي في توجّه الخطاب وتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي على وجه يعاقب على مخالفته ، فيحتمل العقاب في ارتكاب كلّ ، وهو احتمال للضرر الاخروي الّذي يجب دفعه عقلا ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع ، مضافا إلى استدعاء الاشتغال اليقيني للامتثال والخروج عن العهدة على وجه اليقين ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع فيجب مقدّمة.

المطلب الثاني : من الشكّ في المكلّف به في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام من مستحبّ أو مباح أو مكروه لشبهة موضوعيّة أو حكميّة لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه ، فالصور أربع أيضا :

الصورة الاولى : ما لو كان الاشتباه عن شبهة موضوعيّة كالصلاة إلى القبلة المشتبهة بين الجوانب الأربع لمن اشتبه عليه القبلة ، والفائتة من الفريضة المشتبهة بين الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد يتوهّم أنّ هذين المثالين ونظائرهما من دوران الأمر بين الواجب والحرام لا من دورانه بين الواجب وغير الحرام كما هو مفروض المقام ، لأنّه كما أنّ الصلاة إلى القبلة واجبة فكذلك الصلاة إلى غير القبلة محرّمة.

وفيه : أنّ المراد من الحرام في مقابلة الواجب هاهنا ما كان حرمته شرعيّة وهي فيما ذكر تشريعيّة ، على معنى أنّ تشريع الصلاة إلى غير القبلة حرام ، ويتأتّى ذلك بالاتيان بها على أنّها مأمور به مع العلم بعدم كونه مأمورا به أو مع عدم العلم بكونه مأمورا به ، والاتيان بها إلى ما يحتمل كونه قبلة عند الاشتباه لرجاء كونها مأمورا بها احتياط وليس بتشريع ، بل هو رافع لموضوع التشريع فلا يكون محرّما.

وكيف كان ففي وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات المستلزم للتكرار هاهنا أو التخيير بينها المقتضي للاجتزاء بواحدة خلاف على قولين ، ومن الأعلام (١) من صار إلى الثاني والأقوى الأوّل.

لنا على ذلك : ورود الأمر بالصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، وبقضاء الفائتة الواقعيّة ونحو ذلك ، فيعاقب على مخالفته بالترك ، وإذا اشتبهت لجهل أو نسيان أو نحو ذلك احتمل العقاب في ترك كلّ من محتملاتها فيجب دفعه عقلا بالفعل ، مع أنّ يقين البراءة بعد يقين الاشتغال لا يحصل إلاّ بالاحتياط والجمع بين المحتملات فيجب ، لوجوب اليقين.

__________________

(١) القوانين ٢ : ٢٥.

١٥٧

والقدح في ذلك تارة بمنع الصغرى ، واخرى بمنع الكبرى.

أمّا الأوّل : فمنع توجّه الأمر إلى الصلاة إلى القبلة الواقعيّة وتوجّه الأمر بالقضاء إلى الفائتة الواقعيّة بل إنّما يتوجّه إلى القبلة المعلومة أو الفائتة المعلومة بالتفصيل ، وإذا انتفى العلم التفصيلي كما في المقام كفى في امتثاله صلاة واحدة على وجه التخيير بين الجهات ، أو الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة.

ويدفعه : أنّ مبنى المنع إن كان على أخذ العلم التفصيلي في مسمّى القبلة والفائتة وغيرها ممّا هو من أفراد موضوع المسألة ، ففيه : منع واضح تقدّم بيانه في الشبهة المحصورة ، وإن كان على توهّم انصرافها في حيّز الخطاب إلى المعلومات بالتفصيل وإن كانت بحسب الوضع للمعاني النفس الأمريّة ، ففيه : أيضا ما تقدّم ثمّة من المنع ، وإن كان على دعوى عدم اشتراط الاستقبال مثلا حال الاشتباه.

ومرجعه إلى كون الاستقبال ونحوه شرطا علميّا ، ففيه : أنّه خلاف الأصل في باب الشروط وإلاّ فقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ إلى القبلة (١) » و « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة ، الوقت والطهور ، والقبلة » (٢) وقوله : « صلّ إلى القبلة » (٣) وما أشبه ذلك ظاهر في كونه شرطا واقعيّا ، والأصل عدم تقييده بالعلم.

ولا ينافيه الحكم بصحّة صلاة من اجتهد فيها وأخطأ فصلّى إلى ما بين المشرق أو المغرب والقبلة ثمّ انكشف خطأه في الاجتهاد ، لأنّه بدليّة جعلها الشارع بين الصلاة إلى القبلة الواقعيّة والصلاة إلى ما بين القبلة والمشرق أو المغرب ، والثاني بدل اضطراري عن الأوّل مختصّ بدليّته بمن اجتهد فيها فأخطأ فصلّى إلى ما بينهما ولا يتعدّاها إلى غيره ، ولذا لا تصحّ صلاة الجاهل بها إذا صلّى إلى ما بينهما من دون اجتهاد وصلاة من اجتهد فيها فأخطأ وصلّى مستدبرا ، وكذا من صلّى بعد الاجتهاد إلى المشرق أو المغرب إذا انكشف خطأه في الوقت لا مطلقا.

وأمّا الثاني : فبأن يقال : إنّ توجّه الأمر إلى الصلاة إلى القبلة الواقعيّة وإلى قضاء الفائتة الواقعيّة المعلومتين بالاجمال وإن كان مسلّما ، ولكن قصارى ما يقتضيه إنّما هو حرمة المخالفة القطعيّة لا وجوب الموافقة القطعيّة ، فلا يجوز ترك الجميع لا أنّه يجب الاتيان بالجميع.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٢٢٧ الباب ٩ من أبواب القبلة ح ٢.

(٢) الوسائل ٣ : ٢٢٧ الباب ٩ من أبواب القبلة ح ١.

(٣) الوسائل ٣ : ٤٣٨ الباب ١٣ من أبواب مكان المصلي ح ٣.

١٥٨

ويدفعه : أنّك إمّا أن تقول بحجّية العلم الإجمالي أو لا ، فعلى الثاني كما لا يجب الموافقة فلا يحرم المخالفة أيضا.

وعلى الأوّل لا مناص من التزام وجوب الموافقة أيضا ، ولا يتأتّى إلاّ بإتيان الجميع ، فالإتيان بالجميع إنّما لا يجب بالخطاب الأصلي لا أنّه لا يجب مطلقا.

إلاّ أن يقال : إنّ مقتضى تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي وإن كان وجوب مراعاة الموافقة القطعيّة ، إلاّ أنّ الشارع اكتفى عنها بالموافقة الاحتمالية الّتي تحصل بأحد المحتملات.

أو يقال : إنّ الشارع جعل الصلاة إلى القبلة الاحتماليّة بدلا عن الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، والإتيان بما احتمل كونه الفائتة بدلا عن قضاء الفائتة الواقعيّة.

وقضيّة ذلك هو الاكتفاء بإحدى المحتملات أيضا.

لكن يزيّفه : أنّ كلاّ من الأمرين حكم مخالف للأصل والقاعدة ، فلا بدّ عليه من دليل عقلي أو شرعي وليس ، بل العقل على ما عرفت بالنظر إلى قاعدتي المقدّمة ودفع الضرر قاض بخلافه ، فإنّ ما قرّرناه من الدليل على وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات دليل عقلي.

وإن شئت سمّه بقاعدة الاشتغال أو قاعدة المقدّمة العلميّة أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لأنّ في ترك كلّ من المحتملات احتمال الضرر فيجب دفعه ، والضرر هنا اخرويّ وهو العقاب ، لعدم الدليل على قبحه من عقل ولا نقل بعد العلم الإجمالي.

ويؤيّد ما ذكرناه ورود النصّ بالجمع المذكور في كلّ من مسألتي اشتباه القبلة واشتباه الفائتة.

وأمّا ما يقال في دفعه على تقدير رجوعه إلى قاعدة الاشتغال من أنّ اليقين بالاشتغال إنّما يقتضي يقين البراءة في مقدار ما تيقّن اشتغال الذمّة به ، وليس إلاّ صلاة واحدة ، والأصل براءة الذمّة عن الزائد.

ففيه : أنّه كلام يذكر فيما دار الأمر من الشكّ في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر لنفي التكليف بالزائد على الأقلّ ، وهو في هذه الصورة في غاية المتانة ، لأنّ القدر اليقيني هو الأقلّ والزائد مشكوك ينفي بالأصل ، ومحلّ الكلام من دوران الأمر بين المتبائنين ، والمراد به ما كان المكلّف به أمرا معيّنا في الواقع مردّدا في نظر المكلّف بين أمرين أو امور متبائنة ، ولا يجري فيه الكلام المذكور ، لأنّ يقين الاشتغال بذلك المعيّن الواقعي يستدعي يقين البراءة عنه ، ولا يحصل إلاّ بأداء جميع الامور المردّد فيها ، فالّذي يوجب الجمع بين المحتملات فإنّما يوجبه بخطاب تبعي لا أصلي ، حتّى يقال : بأنّ القدر الثابت هو اشتغال

١٥٩

الذمّة بأحد المحتملات والأصل براءة الذمّة عن الباقي.

نعم إن كان ولا بدّ من منع جريان قاعدة الاشتغال فطريقه منع التعيين في المكلّف به وتوجّه التكليف إلى المعيّن بلزوم التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة وهما قبيحان ، كما يظهر من بعض الأعلام (١) حيث استند إليه لجميع صور الشكّ في المكلّف به.

ويزيّفه أيضا : أنّ الاستناد إليه إنّما يحسن لنفي التكليف عن المجمل المفهومي أو المرادي حيث لم يتمكّن من امتثاله ، والمكلّف به هنا هو الصلاة إلى القبلة ولا إجمال في مفهومه ولا المراد به ، بل الإجمال إنّما هو في مصداق هذا المفهوم ، وقد نشأ هذا الإجمال عن أمر خارجي لا يرجع إلى الشارع من جهل أو نسيان أو نحو ذلك ، فلا يطالب رفعه منه ليلزم من عدمه على تقدير تعلّق التكليف به التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة القبيحين على الحكيم.

ثمّ إنّ هاهنا امورا ينبغي التنبيه عليها :

أحدها : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات حكم عقلي ، وهو إمّا غيريّ إن كان مناط العقل في حكمه قاعدة المقدّميّة ، أو إرشاديّ صرف إن كان مناطه احتمال الضرر الاخروي وهو العقاب ، وأيّا ما كان فمقتضاه ترتّب عقاب واحد على مخالفة الواقع لا غير ، ومن فروعه أنّه لو ترك جميع المحتملات لا يعاقب إلاّ عقابا واحدا على ترك المأمور به الواقعي لا على ترك غيره من محتملاته ، ولو أتى بالبعض وترك الباقي فإن صادف تركه ترك المأمور به الواقعي يعاقب عليه لا غير ، وإن صادف إتيانه المأمور به لا عقاب عليه أصلا لعدم مخالفته الواقع.

وقد يتوهّم ترتّب العقاب على الترك المفروض ـ وإن لم يصادف ترك المأمور به ـ من جهة التجرّي.

وفيه : أنّ التجرّي ما لم يصادف مخالفة الواقع لا يؤثّر في عقاب ، كما لا يؤثّر في حدوث حكم في الفعل أو الترك المتجرّي به.

وأضعف من التوهّم المذكور توهّم ترتّب العقاب على الترك المذكور من جهة كونه مخالفة للأمر بالاحتياط في قوله : « أخوك دينك فاحتط لدينك (٢) » ، على تقدير الاستناد لوجوب الاحتياط فيما نحن فيه إلى ذلك الأمر.

__________________

(١) القوانين ٢ : ٣٧.

(٢) الوسائل ١٨ : ١٢٣ الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤١.

١٦٠