تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٦

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد علي العلوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-559-9
الصفحات: ٤٨٦

وإن فرضت الكلام في استصحاب الحكم الشرعي الّذي كان شكّه باعتبار المقتضي ، فيمنع الاختلاف والتعدّد في موارده الّتي ذهب الأصحاب إلى العمل بالاستصحاب فيها ، فإنّ اتّحاد موضوع القضيّتين على وجه يكفي في شمول النهي عن نقض اليقين بالشكّ أمر عرفي لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ، ففيما كان منشأ الشكّ مجرّد تبدّل زمان بزمان ـ آخر كما في الخيار وحقّ الشفعة وغيرهما ممّا فيه شبهة الفوريّة ـ لا ينبغي الارتياب في صدق اتّحاد القضيّتين ، إذ يصدق عرفا أنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني ، بناء منهم على كون الزمان الأوّل ظرفا للحكم الثابت فيه لا قيدا له ، بل نقول بذلك أيضا في كثير من موارد تبدّل حالة بحالة اخرى كالتغيّر في الماء المتغيّر ، وفقدان الماء في المتيمّم ، فإنّ التغيّر علّة للحكم الّذي هو نجاسة الماء ويستحيل معه كونه جزءا من موضوعه ، بل الموضوع هو نفس الماء ، فالنجاسة كانت ثابتة له في حال التغيّر من دون قيديّة التغيّر له فيتّحد القضيّتان أيضا ، وفقدان الماء في أوّل زمانه مسوّغ للتيمّم وعلّة مجوّزة له ووجدانه بعد التيمّم ناقض له ورافع لأثره إذا حصل قبل التشاغل بالصلاة ، ويشكّ في نقضه له إذا حصل في أثناء الصلاة أيضا وعدمه.

ومن أجل ذلك ما تراه في كلام الفقهاء من أنّ التيمّم ينتقض بوجدان الماء ، فليس شيء من الفقدان والوجدان قيدا واقعيّا للحكم ليكون جزءا من موضوعه ، فهما أيضا حالتان متبادلتان أوجب تبدّل إحداهما بالاخرى الشكّ في بقاء الحكم ، لاحتمال ناقضيّة الحالة الثانية لا لثبوت قيديّة الحالة الاولى.

وأمّا الثاني : فملخّصه : كون أخبار الاستصحاب على تقدير شمولها الأحكام الشرعيّة مخصّصة بما هو أقوى منها ، وهو تواتر الأخبار بورود الخطاب في كلّ حكم يحتاج إليه الامّة ، وبانقسام الأشياء إلى أقسام ثلاث ثالثها : الشبهات الّتي يجب التوقّف عندها والعمل بالاحتياط فيها.

والجواب عن ذلك : عدم معارضة شيء ممّا ذكر من الأخبار المتواترة الدالّة على ورود الخطاب في كلّما احتاج إليه الامّة ، والأخبار الدالّة على التوقّف والاحتياط في الشبهات.

أمّا الأوّل : فلأنّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي بعد اليقين بثبوته أيضا شيء يحتاج الامّة إلى ورود خطاب فيه وقد ورد بمقتضى عموم الأخبار المذكورة ، ويجوز أن يكون ذلك الخطاب هو أخبار الاستصحاب الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، الّذي معناه رفع اليد

٣٦١

عن مقتضى اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ.

وأمّا الثاني : فلأنّه ـ بعد الغضّ عمّا تقدّم في مسألة البراءة والاحتياط من وجوه المناقشة في أخبار التوقّف والاحتياط الّتي منها منع دلالتها على الوجوب ـ لا شبهة في الحكم الشرعي المشكوك في بقائه بعد اليقين بثبوته بعد ملاحظة أخبار الاستصحاب الدالّة على وجوب العمل بالاستصحاب فيه ، فإنّه خرج بذلك عن عنوان « الشبهات » فلا يتناوله أخبار التوقّف والاحتياط.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أخبار التوقّف والاحتياط ، متعرّضة بمضمونها ومدلولها اللفظي لبيان مقدار موضوع هذه الأخبار ، وهو أنّ الشبهة الّتي يجب الوقوف عندها والاحتياط فيها هو الشكّ الّذي لم يسبقه يقين أو الّذي ليس معه يقين سابق ، وذلك أنّ الشكّ من حيث هو ومع قطع النظر عن سبق حالة عليه له أحكام وآثار مجعولة ، وهي البراءة عند الشكّ في الوجوب وغير الحرمة ، ووجوب التوقّف والاحتياط عند الشكّ في الحرمة وغير الوجوب ، والتخيير عند الشكّ في الوجوب والحرمة ، وكلّ ذلك على مذهب الأخباريّين ، فإنّ المذكورات عندهم آثار ثابتة بجعل الشارع للشكّ حيثما تحقّق ولم يلاحظ معه شيء آخر ، وقولهم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » معناه ـ على ما ذكرناه مرارا ـ المنع عن رفع اليد عن آثار اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، ومرجعه إلى المنع من ترتيب آثار الشكّ على الشكّ الملحوظ معه حالة سابقة وهو الّذي سبقه يقين ، فيكون أخبار الاستصحاب مسوقة لنفي آثار الشكّ ـ الّتي هي البناء على البراءة أو التوقّف والاحتياط أو التخيير ـ عنه حيثما كان معه يقين سابق ، وهذا هو معنى قوله عليه‌السلام : « ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ، فيبنى عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (١) » أي حالات وجود اليقين معه ، وهو المراد أيضا من قوله عليه‌السلام : « فليمض على يقينه (٢) » فإنّ الأمر بالمضيّ على اليقين مع الشكّ نفي لآثار الشكّ بالمرّة الّتي منها وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهات ، وهذا هو معنى الحكومة.

وبجميع ما قرّرناه ظهر ما في أوّل كلام المحدّث من أنّ هذه الشبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الفقهاء والاصوليّين ، فإنّ شمول قاعدة اليقين المستنبطة من عمومات

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٥ ـ ١٧٦ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

٣٦٢

الأخبار للاستصحاب في الأحكام الشرعيّة عين الصواب وليس شبهة واردة على سبيل المغالطة حتّى يحتاج إلى تجشّم الجواب. وليس القول بذلك إبطالا لقول أكثر علمائنا ، لأنّ الّذي أنكره أكثر علمائنا إنّما هو الاستصحاب باعتبار حكم العقل ومن حيث حصول ظنّ البقاء ، غير فارقين في ذلك بين الأحكام ـ كلّية وجزئيّة ـ وموضوعاتها من غير تعرّض أكثرهم ولا سيّما القدماء لما يستنبط من هذه الأخبار. مع أنّه لم يأت في الجواب الأوّل إلاّ ما اشتهر بين النافين لحجّية الاستصحاب ولا في الجواب الثاني إلاّ ما اشتهر بين الأخباريّين من وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهات الحكميّة ، فليس شيء من الأمرين ممّا تفرّد به ، ومع ذلك قد عرفت ما فيهما من الضعف.

ومن التفاصيل : الفرق بين استصحاب حال النصّ فالحجّية واستصحاب حال الإجماع فعدمها ، والمعروف بينهم نسبة هذا القول إلى الغزالي (١). ولعلّ منشأ النسبة كلام العلاّمة في النهاية (٢) فإنّه ذكر مسألة الاستصحاب ونسب إلى جماعة منهم الغزالي حجّيته ، ثمّ بعد ما تكلّم في أدلّة النافين والمثبتين ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الإجماع ، ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، والخارج من غير السبيلين من المتطهّر ، ونسب إلى الأكثر ومنهم الغزالي عدم حجّيته.

ولكنّ الّذي يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ عنه أنّه ينكر الاستصحاب في مطلق ما اختصّ مدلوله بالزمان الأوّل وعدم تناوله الزمان الثاني إجماعا كان أو غيره ، لفظا كان أو لبّا ، وأنّه يعتبر في انسحاب الحكم في غير الزمان الأوّل أيضا دلالة الدليل المثبت له على الدوام مطلقا ، وما لا دلالة عليه فلا يمكن استصحاب مدلوله من دون اختصاص له بالإجماع ، لأنّه على ما نقل حكايته عن العلاّمة في النهاية. قال : المستصحب إنّ أقرّ بأنّه لا يقيم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ. فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الّذي دلّ الدليل على دوامه ، فإن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامه عند عدم الخروج من غير السبيلين لا عند وجوده ، وإن دلّ بعمومه على دوامه عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسّكا بالعموم فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان بإجماع فالإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ،

__________________

(١) المستصفى ١ : ٢٢٤.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٠٧ ـ ٤١٢.

٣٦٣

ولو كان لإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع.

كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الشمس خارق للإجماع ، لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة.

فامّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصليّة بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم فانتفى الإجماع عند الوجود ، وهذه دقيقة وهو أنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل فإنّ الخلاف لا يضادّه ، فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته تشمل محلّ الخلاف.

فإنّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل (١) » شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : المسلّم شمول الصيغة لكنّي أخصّه بدليل فعليه الدليل ، وهذا المخالف لا يسلّم شمول الإجماع لمحلّ الخلاف ، لاستحالة الإجماع مع الخلاف وعدم استحالة شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه دقيقة يجب التنبيه لها.

ثمّ قال : الإجماع يحرّم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف ، أجاب : بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالإجماع ولم يكن المخالف خارقا للإجماع ، لأنّ الإجماع إنّما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل.

لا يقال : دليل صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع.

لأنّا نقول : ذلك الدليل ليس هو الإجماع لأنّه مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود ، وإن كان نصّا فبيّنه حتّى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا؟

لا يقال : لم لا ينكروا على من يقول : الأصل إنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب.

__________________

(١) عوالي اللآلئ ٣ : ١٣٢ ، ح ٥.

٣٦٤

لأنّا نقول : هذا وهم باطل ، لأنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولو لا دليل العادة على أنّ الميّت لا يحيى والدار لا ينهدم إلاّ لهادم أو طول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرّد ثبوته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال. فإنّا لا نقضي بدوامها ، وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر (١) انتهى.

ولعلّ توهّم القول باختصاص منع الحجّية بحال الإجماع من الغزالي نشأ ممّا ذكره في الدقيقة لظهوره في الاختصاص.

ويزيّفه : الخروج عن هذا الظاهر بنصوصيّة سوابقه ولواحقه ، خصوصا إنكاره الأصل المعبّر عنه : « بأنّ ما ثبت دام » الّذي هو مستند القول بالحجّية ، تعليلا بأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وأن لا يدوم الّذي هو مستند منكري الحجّية مطلقا. وهذا يقضي بإنكاره فيما يعمّ حال الإجماع وغيره.

وأظهر منه في إفادة الإنكار في حال النصّ أيضا قوله أخيرا : « وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ».

والعجب عن شارح المختصر (٢) أنّه نسب القول بحجّية الاستصحاب إلى جماعة منهم الغزالي مع أنّه بمقتضى ما عرفت منه منكرا للحجّية مطلقا.

وأعجب منه ما عن السيّد صدر الدين الشارح للوافية (٣) حيث جمع بين قولي الغزالي بوجهين

أحدهما : أنّ قوله بحجّية الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلا من حصول الظنّ ، بل هو مبنيّ على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجّيّة استصحاب حال الإجماع.

فإنّ فيه : ـ مع أنّه لا فرق في دلالة الروايات ، إذ مفادها وجوب ترتيب آثار القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة المقتضي لسبق يقين ولحوق شكّ مع وحدة موضوعيهما ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين كون مستند اليقين في القضيّة المتيقّنة هو الإجماع أو غيره من الأدلّة ـ أنّ بين الغزالي والتمسّك بالروايات في إثبات الاستصحاب بينونة تامّة ، لأنّه من العامّة والروايات خاصيّة ، مع أنّه قد عرفت أنّ التمسّك بالروايات إنّما حدث من

__________________

(١) المستصفى ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٩.

(٢) شرح مختصر الاصول : ٤٥٤.

(٣) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٣٤٤.

٣٦٥

المتأخّرين وشاع بينهم ثمّ متأخّريهم ولم يكن معهودا بين قدماء أصحابنا ، فكيف بالعامّة الذين منهم الغزالي.

وكيف كان فبعد ما ظهر أنّ سند الغزالي في إطلاق انكاره الاستصحاب هو منع الأصل الّذي عوّل عليه مثبتوه ، يظهر أنّه لا يخالفنا من هذه الجهة لفساد هذه الطريقة عندنا أيضا ، حتّى أنّه لو فرض انحصار مدركه في هذا الأصل الفاسد كان المتّجه عدم حجّيته مطلقا ، فلا رادّ له من هذه الجهة.

نعم ينبغي النظر في صحّة التفصيل وسقمه بعد فرضه قولا في المسألة من أيّ قائل يكون ، سواء كان هو الغزالي أو غيره.

فنقول : إنّه قد يوجّه بما لو تمّ لا نتهض وجها لصحّته ، وهو أنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلم بتحقّقه وعدم تحققّه في الآن اللاحق ، كما إذا قال : « الماء إذا تغيّر نجس » فإنّ الماء موضوع والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء ، وإذا قال : « الماء المتغيّر نجس » فظاهره ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ، لأنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر وهو غير موجود ، كما إذا قال : « الكلب نجس » فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد استحالته ملحا ، فإذا فرضنا انعقاد الإجماع على نجاسة الماء المتّصف بالتغيّر فالإجماع أمر لبّي ليس فيه تعرّض لبيان كون الماء موضوعا والتغيّر قيدا للنجاسة ، أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر ، وكذلك إذا انعقد الإجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثمّ مات فإنّه لا يتعيّن الموضوع حتّى يحرز عند إرادة الاستصحاب.

ويزيّفه : أنّ الموضوع في حال النصّ كثيرا مّا لا يكون مبيّنا لعدم تعرّض في الخطاب لبيانه ، كما لو استفيد وجوب رجوع الجاهل في المسائل الفرعيّة الاجتهاديّة إلى العالم من مثل آيتي النفر والسؤال وغيرهما من الأخبار ، الغير المتكفّلة لبيان أنّ موضوع الحكم بالنسبة إلى المسؤول هل هو العالم الحيّ بوصف الحياة أو العالم لا بهذا الوصف؟

وفي حال الإجماع كثيرا مّا يكون مبيّنا كما لو انعقد الإجماع على نجاسة العصير وحرمته بالغليان إلى أن يذهب ثلثاه ، ثمّ ذهبا بغير النار ممّا يشكّ في كفايته في حصول الطهارة والحلّية باعتبار شبهة شرطيّة النار ، ففي الأوّل لا يعلم تحقّق موضوع الحكم في الآن اللاحق فلا يمكن استصحابه ، وفي الثاني يعلم تحقّقه فيمكن استصحابه ، على أنّ

٣٦٦

إحراز بقاء موضوع المستصحب في زمان الشكّ موكول إلى نظر العرف الّذي ليس مقصورا على الدقّة الفلسفة ، فليس شيء من مبيّنيّة الموضوع في حال النصّ وعدم مبيّنيّته في حال الإجماع مطّردا لينهض ما ذكر فارقا بينهما في جريان الاستصحاب في أحدهما وعدم جريانه في الآخر على وجه الاطّراد.

وتحقيق المقام : أنّ الفرق في الحجّية وعدمها بين حالي النصّ والإجماع لا بدّ وأن يستند إمّا إلى تفاوت أدلّة الحجّية في تناولها لحال النصّ وعدم تناولها لحال الإجماع ، أو إلى ورود ما يخصّصها بحال النصّ ، أو إلى اشتراط الحجّية بأمر متحقّق في حال النصّ غير متحقّق في حال الإجماع. ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّا لا نعقل فرقا بين أدلّة المثبتين ولا أدلّة النافين حتّى على طريقة إثباته بالأخبار ، لأنّ مفاد الأخبار وجوب إجراء حكم القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة فيما اتّحد موضوعاهما ، ومناط تحقّق صدق هذا المعنى لحوق الشكّ باليقين وتواردهما على موضوع واحد ، سواء كان مستند اليقين هو النصّ أو الإجماع أو غيرهما من الأدلّة اللفظيّة واللبّية.

وأمّا الثاني : فلعدم نهوض ما يخصّص الأخبار العامّة ، وعدم صلوح غيرها من أدلّتهم العقليّة على فرض نهوضها لإثبات الاستصحاب للتخصيص.

وأمّا الثالث : فلأنّ الشرط المدّعى اعتباره في حجّيّة الاستصحاب أو جريانه إن كان بقاء موضوع المستصحب في زمان الشكّ فقد عرفت أنّه ليس بدائم التحقّق في حال النصّ ولا بدائم الانتفاء في حال الإجماع.

وإن كان توهّم دلالة دليل الحكم على ثبوته في الآن الثاني كدلالته عليه في الآن الأوّل وهذا إنّما يتحقّق في النصّ باعتبار ما يطرأه من إطلاق أو عموم أفرادي أو أزماني ، فالمدّعي لانقطاع الحكم مدافع لهما فلا يقبل منه الحكم إلاّ بدليل التخصيص ، ومع عدم ثبوته يستصحب حكم الإطلاق والعموم ، فما لا دلالة لدليل الحكم على ثبوته في الآن الثاني لا معنى لاستصحابه ، فلا معنى لاستصحابه إذا ثبت بالإجماع لاختصاص انعقاده بالآن الأوّل بدليل الخلاف في الآن الثاني وهو ينافي الإجماع ، فنجيب عنه نقضا وحلاّ :

أمّا الأوّل : فلأنّ الإهمال الناشئ عن سكوت دليل الحكم عمّا بعد الآن الأوّل يجري في غير الإجماع من الأدلّة اللفظيّة واللبّية الّتي منها الفعل والتقرير ، اللذين لا يعقل فيهما

٣٦٧

الدلالة على الدوام ، فلزم أن لا يجري في موردهما الاستصحاب ، وهذا يقتضي التفصيل لاءطلاق القول بالحجّية في حال النصّ ، مع أنّ الإجماع على حكم في وقت لا يلازم الخلاف فيما بعده ، لجواز سكوت المجمعين عنه نفيا وإثباتا.

وأمّا الثاني : فلمنع اشتراط ما ذكر في الاستصحاب بالمعنى المصطلح عليه حيث لم يقل به أحد ، بل المحقّق اشتراط خلافه فيه ، وإلاّ كان ثبوت الحكم في الآن الثاني لعموم الدليل أو إطلاقه وخرج بذلك عن ضابطة الاستصحاب.

نعم قد يطلق عليه الاستصحاب ويقال له : استصحاب حال العموم ، واستصحاب حال الإطلاق ، مسامحة وتوسّعا.

ومن التفاصيل : ما اختاره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، قال : « اعلم : أنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم على قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره.

فالأوّل مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان فيقولون : إنّ بعد ذلك الزمان يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم بما يرفعها.

والثاني مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ففيما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ، فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وذهب بعضهم إلى حجّيّة القسم الأوّل [ فقط ].

واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها كلّها قاصرة عن إفادة المرام كما يظهر بالتأمّل فيها ، ولم نتعرّض لذكرها هنا بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب.

فنقول : الظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجّيّة فيه أصلا بكلا قسميه ، إذ لا دليل عليه تامّا لا عقلا ولا نقلا.

نعم الظاهر حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلا معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلا.

فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده ، والدليل على حجّيته أمران :

أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي أو اقتضائي أو تخييري ، ولمّا وكان الأوّل عند

٣٦٨

التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين فيثبت ما رمناه.

أمّا على الأوّل : فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة مثلا فعند الشكّ في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء التكليف حال الشكّ أيضا وهو المطلوب.

وأمّا على الثاني : فالأمر أظهر كما لا يخفى.

وثانيهما : ما ورد في الروايات من أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

فإن قلت : هذا كما يدلّ على المعنى الّذي ذكرته كذلك يدلّ على المعنى الّذي ذكره القوم لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فلا ينبغي أن ينقض في زمان آخر بالشكّ نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه.

قلت : الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وفيما ذكروه ليس كذلك لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا الشكّ وهو ظاهر.

فإن قلت : هل الشكّ بكون الشيء مزيلا للحكم مع العلم بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا؟

قلت : فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشكّ ، وأمّا إذا لم يثبت ذلك بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ومزيله الشيء الفلاني وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيل له أم لا؟ فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره ، إذ الدليل [ الأوّل ] غير جار فيه لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم.

والدليل الثاني الحقّ أنّه لا يخلو من إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن تأمّل (١) للدليل الأوّل » انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس‌سره (٢).

وملخّص ما أفاده بطول كلامه : أنّ الاستصحاب بمعنى إثبات حكم في زمان لمجرّد

__________________

(١) وفي المشارق المطبوع بالحجر هكذا : « لكنّه لا يخلو عن تأييد للدليل الأوّل ».

(٢) مشارق الشموس : ٧٦.

٣٦٩

ثبوته في زمان سابق الّذي هو الاستصحاب بالمعنى الّذي يقول به القوم غير ثابت ، لأنّ ثبوت حكم في زمان لا يقتضي ثبوته في زمان آخر ، فإثبات الحكم في وقت بعد ثبوته في وقت سابق عليه لا بدّ له من دليل ، وهو إمّا دليل الحكم الأوّل أو دليل آخر خارج عنه ، والأوّل باطل لخروجه عن مورد الاستصحاب فتعيّن الثاني.

وحينئذ نقول : إنّ الحكم الّذي دلّ الدليل على ثبوته في الآن الثاني ـ الّذي هو زمان الشكّ ـ ما دلّ الدليل على استمراره إلى غاية معيّنة وشكّ في حصول الغاية أو صدقها على الحاصل ، فخرج صور الشكّ باعتبار المقتضي والشكّ في المانعيّة من صور الشكّ في المانع. والدليل القائم على الحجّية في الصورتين أمران :

أحدهما : قاعدة الاشتغال كما في وجوب صيام نهار رمضان عند الشكّ في دخول الليل ، فيجب إمساك زمان الشكّ تحصيلا ليقين البراءة بعد اليقين بالاشتغال.

ولا خفاء في ضعفه. أمّا أوّلا : فلعدم نهوض قاعدة الاشتغال لإثبات الاستصحاب أصلا لعدم كونها بعينها الاستصحاب ، نظرا إلى أنّها أصل برأسه مقابل للاستصحاب ، فهما أصلان متقابلان اخذ في أحدهما ملاحظة الحالة السابقة دون الآخر ، ولا أنّ مؤدّاها الاستصحاب ، لوضوح الفرق في المثال المتقدّم بين وجوب إمساك زمان الشكّ على أنّه الحكم الأوّل الّذي حكم ببقائه في زمان الشكّ ، وبين وجوب إمساكه على أنّ الإمساك في زمان الشكّ مقدّمة ليقين البراءة الواجب تحصيله فيجب مقدّمته ، ضرورة أنّ الوجوب المقدّمي ليس هو الوجوب الأوّل الأصلي وإن اعتراهما وصف الظاهريّة باعتبار دخول الشكّ في موضوعيهما.

وأمّا ثانيا : فلعدم اطّراد هذه القاعدة ، وعدم جريانها في جميع فروض الصورة المفروضة المدّعى حجّيّة الاستصحاب فيها بالخصوص ، بل عدم جريانها إلاّ في بعض الفروض النادرة ، وذلك أنّها في جريانها مشروطة بكون المورد من موارد التكليف الإلزامي ، وكون الشكّ في المكلّف به ، وعدم أوله إلى الشكّ في التكليف ، وإمكان الاحتياط بعدم دوران الأمر بين المحذورين. وهذه الشرائط فيما اريد إثبات استصحابه بتلك القاعدة لا تجتمع إلاّ في صورة واحدة ، وهي ما لو كان الحكم الّذي دلّ الدليل على استمراره إلى غاية معيّنة تكليفا إلزاميّا ـ من وجوب أو حرمة ـ وتعلّق بفعل واحد لوحظ لجميع أجزائه المتعاقبة على حسب تعاقب أجزاء الزمان المستمرّ إلى غاية كذا موضوعا واحدا ، على وجه يكون كلّ من التكليف والمكلّف به واحدا ، وشكّ بسبب الشكّ في دخول الغاية في

٣٧٠

حصول أداء ذلك المكلّف به الواحد بتمام أجزائه فيما قبل زمان الشكّ ، أو عدم حصول أدائه إلاّ بمراعاة الجزء المقارن لزمان الشكّ إلى أن يحصل اليقين بدخول الغاية ، وحينئذ فقضيّة استدعاء الشغل اليقيني ليقين البراءة وجوب مراعاة ذلك الجزء أيضا ، كما في مثال صوم نهار رمضان الّذي يشكّ عند آخره في دخول المغرب ، وقد يكون الحكم الإلزامي بحيث تعلّق بفعل لوحظ في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّا موضوعا مستقلاّ تعلّق به الحكم بحيث ينحلّ نوع هذا الحكم إلى أحكام متعدّدة ، لموضوعات متعددة ومن أمثلته وجوب صيام الشهر عند رؤية هلاله إذا شكّ في التاسع والعشرين أنّه من هذا الشهر أو من الشهر المستقبل ، ففي مثل هذا المثال يؤول الشكّ في المكلّف به إليه في التكليف بصوم يوم الشكّ ، ويكون ممّا يجري فيه أصل البراءة لا أصل الاشتغال.

وقد لا يمكن الاحتياط في نحو القسم الأوّل لدوران الأمر بين المحذورين الموجب لتعارض الاحتياطين ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال والخروج من الزوال إلى المغرب ، فإنّ الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشكّ في الزوال معارض بالاحتياط للتكليف بالخروج ولا يمكن الجمع بينهما فلا بدّ في نحوه من الرجوع إلى أصل آخر غير الاحتياط ، كأصالة عدم الزوال ، أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ، أو عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك من الاصول الموضوعيّة.

ثمّ الحكم التخييري وهو الإباحة ممّا لا يعقل فيه قاعدة الاشتغال ، بل الأصل الجاري في مورده عند الشكّ في دخول الغاية إنّما هو أصل الإباحة ، إلاّ أن يقرّر قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الحكم التحريمي الثابت لما بعد الغاية بمقتضى تقييد الإباحة بالغاية ، كإباحة تناول المفطرات في ليلة صيام نهار رمضان المغيّاة بطلوع الفجر ، الملازم لحرمة تناولها بعد الفجر إذا شكّ في طلوعه ، فإنّ اليقين بالبراءة عن هذا الحكم التحريمي لا يتأتّى إلاّ باجتنابهما في زمان الشكّ.

وأنت خبير بأنّه على فرض صحّته لا ينتج بقاء الإباحة الّذي هو معنى استصحابها ، بل ينتج حدوث التحريم وهو ضدّ المطلوب.

وأمّا ما تكلّفه بعض الأعلام ـ من توجيه جريانها في الحكم التخييري بارجاعه إلى التكليفي ، من أنّ مقتضى التخيير إلى غاية معيّنة وجوب الاعتقاد بثبوته في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل البراءة من التكليف باعتقاد التخيير عند الشكّ في حدوث الغاية

٣٧١

إلاّ بالحكم بالإباحة واعتقادها في هذا الزمان أيضا ـ فممّا لا وقع له ، لأنّ الاعتقاد بالإباحة فرع ثبوتها ، وإذا شكّ في ثبوتها في زمان لزم منه الشكّ في وجوب الاعتقاد بها في ذلك الزمان ، وهذا شكّ في التكليف لا في المكلّف به ، وعدم الاعتقاد بها فيه على تقدير ثبوتها في الواقع لا يوجب إخلالا بالاعتقاد بها في السابق الّذي ينحلّ إلى اعتقادات متعدّدة على حسب تعدّد أجزاء الزمان المستمرّ المتقدّم ، لعدم ارتباط أحد هذه الاعتقادات بالاخر على وجه يكون امتثال التكليف بها موقوفا على انضمام بعضها إلى بعض.

وثانيهما : لا ينقض اليقين بالشكّ الوارد في الأخبار ، بدعوى : أنّ الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض بالشكّ ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وهذا المعنى يختصّ بما استمرّ إلى غاية ، وشكّ في دخول الغاية أو صدقها ولا يتناول غيره.

وتوضيح كلامه على وجه يتّضح حقيقة مرامه وسرّ ما ادّعاه من ظهور الخبر في صورة التعارض بين اليقين والشكّ ، فنقول : إنّ الصور المتصوّرة للمراد من لفظي « اليقين » و « الشكّ » كثيرة :

منها : أن يراد بهما اليقين والشكّ الفعليّان مع فرض تواردهما في زمان واحد على موضوع واحد ، على معنى اتّحاد متعلّقهما من حدوث شيء أو بقائه واتّحاد زمان حصولهما. وهذا ممّا ينبغي القطع ببطلانه لاستحالة اجتماع اليقين والشكّ على هذا الوجه لكونهما متضادّين ، فإذا حصل أحدهما في زمان يمتنع حصول الآخر في هذا الزمان مع تعلّقه بما تعلّق الأوّل ، فإذا حصل اليقين بشيء في زمان كان نقضه بالشكّ محالا ، لاستحالة حصول الشكّ معه ، والنهي عن المحال ، فلا يجوز تنزيل كلام الإمام عليه.

ومنها : أن يراد بهما الفعليّان أيضا مع تواردهما على موضوع في زمانين ، بأن اتّحد المتعلّق وتعدّد الزمان ، كما إذا تيقّن عدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ فيها في يوم [ السبت ] على وجه يسري إلى يوم الجمعة أيضا ، وهو الّذي يسمّى بالشكّ الساري. وهذا وإن أمكن تحقّقه إلاّ أنّه لا يجوز تنزيل الروايات عليه ، للإجماع على عدم اعتبار الاستصحاب مع سريان شكّه.

ومنها : الفعليّان أيضا لكن بعكس الفرض السابق ، وهو اتّحاد الزمان وتعدّد المتعلّق ، كما إذا حصل اليقين بحدوث شيء وشكّ في بقائه. وهذا أيضا ممكن ، ولكن لا يجوز حمل

٣٧٢

« لا ينقض » على عدم نقض نحو هذا اليقين بمثل هذا الشكّ ، لأدائه إلى عراء كلام الحكيم عن الفائدة كما يظهر بأدنى تأمّل ، فوجب التصرّف في لفظ « اليقين » بحمله على اليقين الشأني وهو الّذي في معرض الحصول لتحقّق مقتضي حصوله ، بأن يكون الموجب لثبوت الحكم في الآن السابق موجبا لثبوته وحصول اليقين به في الآن اللاحق لو لا الشكّ ، وإنّما لم يحصل فعلا لمنع الشكّ من حصوله ، فتعيّن الحمل عليه لأنّه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذّرها ، ولزم منه كون مورد الروايات صورة التعارض على معنى مزاحمة الشكّ الفعلي اليقين الشأني ومنعه إيّاه من أن يحصل.

وقضيّة ذلك خروج ما لو كان الشكّ باعتبار المقتضي للشكّ في استعداده للبقاء أو مقدار استعداده له عن موردها.

والفارق بين المقامين أنّ انتفاء اليقين في الأوّل مستند إلى وجود المانع وفي الثاني إلى فقد المقتضي ، فيقال في الأوّل : إنّه لو لا الشكّ لحصل اليقين ، وفي الثاني : إنّه لو علم وجود المقتضي لم يحصل الشكّ.

وبالجملة ليس المراد بالتعارض هنا ما هو نظير تعارض الدليلين ، ولا التمانع على معنى حصول المنع من الجانبين ، بل مزاحمة الشكّ لليقين ومنعه من حصوله ، وإنّما يكون كذلك إذا كان الشكّ فعليّا واليقين شأنيّا ، وإنّما يكون كذلك إذا كان المقتضي لثبوت الحكم في زمان الشكّ متحقّقا على وجه أوجب اليقين به لو لا الشكّ.

والجواب عن ذلك يظهر بمراجعة ما ذكرناه بعد الفراغ عن ذكر الأخبار في تتميم دلالتها على مطلق الاستصحاب.

ونزيد هنا أيضا : أنّ نقض اليقين بالشكّ إمّا أن يراد به رفع ذات اليقين ، أو رفع حكمه.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ رفع ذات الشيء فرع على وجوده ، واليقين المفروض كونه تقديريّا معدوم صرف ، لوضوح أنّ التقدير لا يحقّق المقدّر ، فلا يصحّ إسناد رفع الذات إليه ، فلا يصحّ النهي عنه.

والثاني أيضا غير صحيح ، لأنّ اليقين التقديري لم يثبت له حكم حتّى لا يرفع ، إذ الأحكام المعلّقة على اليقين إنّما علّقت على اليقين الفعلي لا غير. فلا معنى للنهي عن رفع حكم ما لم يثبت له حكم.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد من رفع حكم اليقين الشأني رفع الأحكام المعلّقة على اليقين

٣٧٣

على فرض حصوله فعلا.

وحينئذ فنجيب : أنّه ـ بعد فرض كون رفع الحكم مقدورا للمكلّف ، أو توجيهه برفع اليد عن الأحكام المعلّقة على اليقين على معنى عدم ترتيبها ـ يوجب تصرّفا آخر في الروايات بحمل « النقض » على خلاف ظاهره ، وهذا يغني عن التصرّف في لفظ « اليقين » بحمله على الشأني ، لإمكان حمله كالشكّ على الفعلي على الوجه الثالث المتقدّم من اعتبار تعلّق اليقين بالحدوث وتعلّق الشكّ بالبقاء ، ويتمّ معه معنى الحديث من دون أن يستتبع محذورا ولا خروجا عن ظاهر لفظي « اليقين » و « الشكّ » ، فتعيّن الحمل عليه لأصالة الحقيقة ، ولأنّ المنساق عرفا من قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ (١) » بحسب التركيب الكلامي أنّ من طرأه شكّ في شيء بعد اليقين بتحقّقه فحكمه أن لا يلتفت إلى الشكّ الطارئ ، بل يعتبر اليقين ويجري أحكامه ، فيكون معنى الرواية حينئذ إفادة أنّ المدار في ترتّب الأحكام المعلّقة على الشيء على اليقين بحدوث ذلك الشيء وتحقّقه ، ولا يعتبر معه اليقين ببقائه ما لم يحصل اليقين بعدم بقائه. وقوله : « إنّما ينقضه بيقين آخر (٢) » في بعض الأخبار المتقدّمة إشارة إلى ذلك ، بل قوله : « من كان على يقين في شيء فشكّ فليمض على يقينه (٣) » منطبق عليه. وهذا هو معنى ما ذكرناه مرارا من أنّ حاصل معنى « لا ينقض اليقين بالشكّ » إيجاب تنزيل القضيّة المشكوكة منزلة القضيّة المتيقّنة وإجراء أحكامها عليها.

ولا ريب أنّ اليقين بحدوث الشيء ـ الّذي لا يعتبر معه في ترتيب أحكام ذلك الشيء اليقين ببقائه ولا يلتفت معه إلى الشكّ في البقاء ـ أعمّ من اليقين بالوجود المتعقّب للشكّ في البقاء باعتبار الشكّ في المقتضي ، وباعتبار الشكّ في وجود المانع ، وباعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود ، فالرواية تعمّ كلاّ من الحكم المغيّا بغاية وغيره ممّا لم يدلّ دليله على استمراره إلى غاية معيّنة.

ومن التفاصيل : ما اختاره المحقّق السبزواري في الذخيرة حيث إنّه في مسألة الماء الكثير المطلق الّذي سلب عنه الإطلاق بممازجة المضاف النجس استدلّ على نجاسته بالاستصحاب.

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ الباب ١٠ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح ٣.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ـ ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٣) الوسائل ١ : ١٧٥ الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ٦.

٣٧٤

ثمّ ردّه بأنّ استمرار الحكم تابع لدلالة الدليل ، والإجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة.

ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر » يدلّ على استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.

لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعي الّذي تعلّق باليقين إمّا أن يكون مستمرّا بمعنى أنّ له دليلا دالاّ على الاستمرار بظاهرها أم لا ، وعلى الأوّل فالشكّ في رفعه يكون على أقسام.

ثمّ ذكر الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الشيء من جهة اجمال معنى ذلك الشيء ، والشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشكّ في كون الشيء رافعا مستقلاّ.

ثمّ قال : إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره ، لأنّ غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الّذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا ، أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه لا بالشكّ » فإنّ الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنّما يعقل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ، لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشكّ وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة دون غيرها ، انتهى (١).

والفرق بين هذا القول وما تقدّم عن المحقّق الخوانساري بعد اشتراكهما في نفي حجّيّة ما كان الشكّ فيه باعتبار المقتضي أنّه خصّ الحجّية بواحد من الأقسام الأربعة من الشكّ باعتبار المانع ، وهذا يعمّها في قسمين أو ثلاث منها مع اتّفاقهما على عدم الحجّية فيما شكّ في كونه رافعا مستقلاّ.

ويظهر جوابه ممّا مرّ ، ونزيد هنا : أنّ دلالة الخبر على النهي عن نقض اليقين بالشكّ مسلّمة ، كما أنّ استناد الشيء إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أيضا مسلّم.

ولكن قد عرفت أنّ نقض اليقين بالشكّ المنهيّ عنه في الخبر ليس على حقيقته ، بل هو عبارة عن نقض حكم اليقين على معنى رفع اليد عن حكمه بسبب الاعتناء بالشكّ ، مع كون المراد منهما اليقين الفعلي المتعلّق بحدوث الشيء والشكّ الفعلي المتعلّق ببقاء ذلك الشيء.

وملخّص معنى النهي عنه الإرشاد إلى أنّ المدار في ترتيب أحكام الشيء عليه على

__________________

(١) الذخيرة : ١١٥ ـ ١١٦.

٣٧٥

اليقين بحدوثه ولا يعتبر معه اليقين ببقائه ، فيجب ترتيبها إلى أن يحصل اليقين بالخلاف.

وحاصله : أنّ اليقين بالبقاء ليس شرطا في ترتيبها ، بل اليقين بعدم البقاء مانع ، وهذا هو معنى : « وإنّما تنقضه بقين آخر » وهذا المعنى يعمّ جميع صور الشكّ باعتبار المقتضي وجميع الأقسام الأربعة من الشكّ باعتبار المانع ، بلا قصور في دلالة الخبر بالقياس إلى شيء منها حتّى الأقسام الثلاثة من الشكّ باعتبار المانع.

ودعوى أنّ النقض فيها إنّما يحصل بسبب اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا لأنّه الجزء الأخير من العلّة التامّة ، لا بسبب الشكّ لأنّه كان حاصلا قبل وجود ما يشكّ في كونه رافعا ولم يكن هناك نقض.

يدفعها : أنّها مغالطة واضحة مبناها على الغفلة عن حقيقة الحال ، فإنّ الشكّ المفروض حصوله قبل شكّ في رافعيّة النوع لنوع الحكم ـ كنوع المذي لنوع الطهارة ـ وهو ليس من الشكّ الوارد في الخبر المنهيّ عن نقض اليقين بسببه ، لعدم تعلّقه ببقاء هذه الطهارة الشخصيّة وغيرها من الحكم المفروض استمراره إلى وجود ما يرفعه ، بدليل كونه مجامعا لليقين بهذه الطهارة وذاك الحكم حدوثا وبقاء.

فانتفاء النقض حينئذ إنّما هو بسبب انتفاء الشكّ الناقض وهو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث.

نعم إذا وجد ما يشكّ في كونه رافعا وحصل اليقين بوجوده حدث بسببه مع انضمام الشكّ السابق عليه شكّ آخر متعلّق ببقاء هذه الطهارة وغيرها ، وهذا من الشكّ في بقاء الشيء الحاصل بعد اليقين بحدوثه ، فلو رفع اليد عن أحكام اليقين بسبب الاعتناء بهذا الشكّ كان ذلك نقضا لليقين بسبب ذلك الشكّ الّذي لتأخّره عن اليقين بالوجود جزء أخير من العلّة التامّة فيندرج في عموم النهي ، فليتدبّر.

ومن التفاصيل : ما يظهر اختياره من المحكيّ عن المحقّق في المعارج حيث قال في آخر كلامه : « والّذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا فإذا وجد الخلاف في الألفاظ الّتي يقع بها الطلاق فالمستدلّ على أنّ الطلاق لايقع بها لو قال : « حلّ الوطء ثابت قبل النطق بها فكذا بعده » كان صحيحا ، فإنّ المقتضي للتحليل وهو العقد اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.

٣٧٦

لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق.

لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا فيلزم دوام الحكم نظرا إلى وقوع المقتضي لا دوامه ، فيجيب أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع.

ثمّ قال : فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه لم يكن ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يريد أمرا آخر وراء ذلك فنحن مضربون عنه » انتهى (١).

وظاهر عبارته قدس‌سره وإن كان قصر الحجّية على ما كان الشكّ بعد إحراز المقتضي لدوام الحكم باعتبار رافعيّة الموجود للحكم الّذي نفى الحجّية فيه المحقّقان المتقدّمان ، إلاّ أنّه لمّا كان في هذه الصورة أهون في الاعتبار بالقياس إلى صور الشكّ في وجود الرافع أو صدقه على موجود للشكّ في الصدق أو المصداق ، فهذا يعطي أولويّة الحجّية عنده في هذه الصور. فهو عند التحقيق قائل بالحجّية في جميع صور الشكّ باعتبار المانع وناف لها فيما هو باعتبار المقتضي.

ومن مشايخنا (٢) من قوّى هذا القول ثمّ بعده القول المختار.

والجواب عن ذلك أيضا يظهر بمراجعة ما مرّ مرارا ولا نعيده.

نعم نزيد عليه : أنّ وجه الفرق إن كان توهّم كون مبنى الاستصحاب على ظنّ البقاء وهذا إنّما يتأتّى في الصورة المذكورة دون غيرها.

ففيه : منع الفرق في عدم الحصول ، ومنع الاعتبار على فرض تسليم الحصول.

وإن كان توهّم عدم تناول ما ورد من الأخبار لغير الصورة المذكورة ، أو نهوض ما أوجب تخصيصها.

ففيه : ما تقدّم من إثبات العموم مع منع وجود المخصّص. هذا تمام الكلام في أصل المسألة ، وينبغي ختمها بإيراد مطالب مهمّة :

المطلب الأوّل

أنّه قد ظهر من تضاعيف ما تقدّم أنّه لا ينبغي التأمّل في جريان الاستصحاب وحجّيته في الموضوعات الخارجيّة المعبّر عنها بالموضوعات الصرفة ، وفي الموضوعات

__________________

(١) المعارج : ٢٠٩ و ٢١٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٥١.

٣٧٧

اللغويّة المعبّر عنها بالموضوعات المستنبطة ، وفي الأحكام الفرعيّة ، وكذلك في الأحكام الاصوليّة العمليّة في الجملة.

وأمّا الأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة كوجوب الاعتقاد اليقيني بوجود الصانع أو وحدانيّته أو سائر صفاته الذاتيّة ، أو النبوّة أو غيرها ، فهي المقصودة من عقد هذا المطلب لننظر حالها من حيث قبولها لجريانه وعدمه.

فنقول : قولنا : « يجب الاعتقاد بنبوّة فلان » مثلا ، لاشتماله على ثلاثة أجزاء : الحكم والاعتقاد والمعتقد ، والاستصحاب فيه إمّا أن يفرض بالقياس إلى الحكم أو بالقياس إلى الاعتقاد أو بالقياس إلى المعتقد أو بالقياس إلى الآثار المترتّبة شرعا على أحد هذه الثلاث لو فرض له آثار. وبالتأمّل في ذلك ظهر أنّ المراد بالاستصحاب في اصول الدين ما يجري بالنسبة إلى نفس المكلّف فيها لا بالقياس إلى غيره ممّن كان في وقت موحّدا مسلما مؤمنا إذا شكّ في وقت آخر في بقاء توحيده أو إسلامه أو إيمانه ، لوجوب القطع حينئذ بجريان الاستصحاب وصحّته وحجّيته قصدا إلى ترتيب الآثار المعلّقة عليها الراجعة إلى المكلّف. بل هذا الاستصحاب عند التحقيق بالنسبة إلى المكلّف ليس من الاستصحاب في اصول الدين ، بل من الاستصحاب في الامور الخارجيّة والموضوعات الصرفة ، لوضوح أنّ توحيد زيد أو إسلامه أو إيمانه بالقياس إلى غيره من المكلّفين من الموضوعات الّتي علّق عليها أحكام راجعة إلى ذلك الغير كما أنّ عدالته كذلك ، فهذا الاستصحاب ممّا لا كلام فيه هنا. بل الغرض التكلّم في صحّة الاستصحاب الّذي يعمله المكلّف في اصول دينه الّتي كلّف فيها ، وقد عرفت أنّ له مراتب ثلاث.

فإن اريد إعماله في المرتبة الاولى ـ أعني الوجوب المتعلّق بالاعتقاد ـ فإن كان مع بقاء الاعتقاد فلا يعقل استصحابه لسقوطه بحصول امتثاله ، كما هو الأصل العقلي في سائر التكاليف الّتي من حكمها سقوطها بحصول أداء المكلّف به في الخارج ، فهو غير باق يقينا بناء على أنّ متعلّقه تحصيل الاعتقاد وقد حصل.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّه كما كان يجب تحصيل أصل الاعتقاد كذلك يجب الدوام والاستمرار في الاعتقاد بعد حصوله ، فإذا شكّ في وقت من الأوقات في بقاء ذلك الوجوب أمكن استصحابه.

ويزيّفه : منع طروّ الشكّ في بقاء وجوب الاستمرار في الاعتقاد لوجود دليله الأوّل بعينه في جميع الآنات من عقل مستقلّ أو نقل قطعي فلا يعقل استصحابه أيضا.

٣٧٨

وإن كان مع زوال الاعتقاد وتبدّله بالشكّ ، فلا يتصوّر ذلك إلاّ مع سريان كما هو واضح.

فمرجع الكلام إلى وجوب تحصيل الاعتقاد ثانيا ، ولا حاجة لإثباته إلى الاستصحاب لوجود عين الدليل الأوّل من برهان عقلي أو نقل قطعي قاض بوجوب تحصيل الاعتقاد في المعارف ، وهذا يغني عن التشبّث بالاستصحاب.

وإن اريد إعماله في المرتبة الثانية.

ففيه : عدم معقوليّة الشكّ في الاعتقاد بقاء وارتفاعا لكونه أمرا قلبيّا ومعنى وجدانيّا ، فكلّ من بقائه وارتفاعه بعد مراجعة الوجدان معلوم لا يقبل التشكيك فلا يقبل الاستصحاب. وبذلك يعلم عدم صحّته في الآثار المعلّقة على الاعتقاد لوجوب ترتّبها مع بقائه واستحالة استصحابها مع زواله ، لاشتراطه ببقاء موضوع المستصحب.

وإن اريد إعماله في المرتبة الثالثة ـ أعني المعتقد ـ ففيه : أنّ المعتقدات في المعارف على قسمين :

أحدهما : ما كان مبناه بطبعه ولذاته على الدوام بحيث لا يقبل الزوال والانعدام ، كوجود الصانع ، ووجوب وجوده وقدمه وعلمه وقدرته وعدله ووحدانيّته وسائر صفاته الذاتيّة ، وهذا ممّا لا يعقل فيه الاستصحاب لعدم قبوله التشكيك.

وثانيهما : ما كان مبناه على الانقطاع كالنبوّة الخاصّة ، فإن اريد من استصحابها استصحاب نفس النبوّة من حيث إنّها صفة خاصّة ثابتة في النبيّ كموسى وعيسى وغيرهما فهي أيضا ممّا لا يمكن استصحابها ، لأنّها صفة قائمة بموصوفها وتابعة للذات غير منفكّة عنها حيّا وميّتا ، فلا بدّ من إرجاع استصحابها إلى الشريعة الّتي أتى بها النبيّ ، وهي قابلة للشكّ في البقاء بعد اليقين بالثبوت في وقت ، وقضيّة ذلك أن يصحّ استصحابها. وهذا هو الاستصحاب الّذي تمسّك به بعض أهل الكتاب عند مناظرته لبعض أفاضل السادة (١) قصدا إلى إفحامه في عدوله عن شرع موسى أو عيسى إلى دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد اجيب عنه بوجوه غير ناهضة بردّه ودفع متمسّكه :

__________________

(١) هو السيّد باقر القزويني على ما نقله الآشتيانى في بحر الفوائد ٣ : ١٥٠ ـ عن المصنّف وقيل : إنّه السيّد حسين القزويني. وقيل : إنّه السيّد محسن الكاظمي. وفي أوثق الوسائل (٥١٦) عن رسالة لبعض تلامذة العلاّمة بحر العلوم : أنّ المناظرة جرت بين السيّد بحر العلوم وبين عالم يهودي حين سافر إلى زيارة أبي عبد الله ٧ في بلد ذي الكفل ، وكانت محلّ تجمّع اليهود آنذاك ، كما أنّه يحتمل تعدّد الواقعة.

٣٧٩

أحدها : ما حكي (١) عن السيّد المناظر له من أنّا نؤمن ونقرّ بنبوّة كلّ موسى أو عيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكافر بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ، والظاهر أنّه أخذ ذلك ممّا ورد من مولانا الرضا عليه‌السلام في جواب الجاثليق (٢).

وردّ : بأنّه بظاهره مخدوش بما عن الكتابي من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، ونحن نقول : إنّ نبوّته باقية بحكم الاستصحاب وعلى المسلمين نسخها ، ولا يذهب عليك أنّ هذا لا يرد على جواب الإمام عن الجاثليق كما يظهر وجهه بالتأمّل وسنبيّنه إن شاء الله أيضا.

وثانيها : ما حكي عن الفاضل النراقي في المناهج (٣) من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوّة. وهذا منه مبنيّ على ما تقدّم منه من الأصل الفاسد وهو أنّ الحكم الشرعي الموجود في زمان يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده واستصحاب عدمه ، وقد تقدّم منّا ما أفسده بما لا مزيد عليه.

وثالثها : ما ذكره في القوانين (٤) ممّا ملخّصه : الفرق بين النبوّة المطلقة ومطلق النبوّة ، والّذي يصحّ استصحابه هو النبوّة المطلقة وهي المعرّاة عن قيدي الدوام وخلافها بأن تكون مغيّاة بغاية معيّنة ، والثابت لموسى أو عيسى إنّما هو مطلق النبوّة وهي المردّدة بين المقيّدتين والمطلقة ، والاستصحاب لا يجري في مثله.

ومرجعه إلى منع جريان الاستصحاب في الكلّي المردّد بين امور مختلفة في استعداد البقاء ومقداره وعدم استعداد البقاء ، ومبنيّ ذلك المنع على أصله الّذي قرّره أوّلا ، ومحصّله : أنّ الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا. وهذا عند التأمّل أضعف من سابقيه.

فأوّل ما يرد عليه : أنّه لا يشترط في الاستصحاب ـ على ما حقّقناه ـ إحراز استعداد المستصحب ولا إحراز مقدار استعداده للبقاء ، بل يجري الاستصحاب في كلّ محتمل البقاء علم استعداده للبقاء في الجملة أو لا ، علم مقدار استعداده وكان الشكّ في الرافع أولا ، وهو قدس‌سره أيضا اختار إطلاق القول بحجّيته سواء كان الشكّ المأخوذ باعتبار المقتضي أو

__________________

(١) حكاه عنه في القوانين ٢ : ٧٠.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٥٧ ، الاحتجاج ٢ : ٢٠٢.

(٣) مناهج الأحكام : ٢٣٧.

(٤) القوانين ٢ : ٧٠.

٣٨٠