تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

غاية الأمر أن يلاحظ مع نفس المعنى ما يتعيّن به كونه معنى حقيقيّا في الواقع حتّى لا يحتمل بحسب الواقع أن يكون المحكوم بعدم صحّة سلبه غير ذلك ، وذلك كأن يعتبر فيما يحكم بعدم صحّة سلبه أن يكون هو المعنى المفهوم منه حال الإطلاق ، إذ ليس ذلك إلاّ معناه الموضوع له بحسب الواقع وإن لم يلاحظ بعنوان أنّه الموضوع له ، فلا دور بالتقرير المذكور.

وملخصه : إنّ المتوقّف على العلم بعدم صحّة السلب ، إنّما هو وصف المعنى الحقيقي الّذي هو المستعمل فيه ، والّذي يتوقّف عليه العلم بعدم صحّة السلب إنّما هو ذات المعنى. نعم ، يشترط في المعنى المسلوب كونه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق.

ويضعّفه : أنّ عدم صحّة سلب مفهوم اللفظ حال الإطلاق عن المستعمل فيه لا يعلم إلاّ بعد العلم بكونه مفهوما من اللفظ حال الإطلاق ، ولا معنى له إلاّ العلم به بعنوان أنّه الموضوع له ، فالدور بحاله على ما هو مفاد ظاهر العبارة.

ومن الأعلام من دفع الدور بوجهين :

أحدهما : أنّ المراد بكون صحّة السلب علامة للمجاز ، أنّ صحّة سلب كلّ واحد من المعاني الحقيقيّة عن المعنى المبحوث عنه علامة لمجازيّته بالنسبة إلى ذلك المعنى المسلوب ، فإن كان المسلوب الحقيقي واحدا في نفس الأمر فيكون ذلك المبحوث عنه مجازا مطلقا ، وإن تعدّد فيكون مجازا بالنسبة إلى ما علم سلبه عنه لا مطلقا ، فإنّه إذا استعمل « العين » بمعنى « النابعة » في « الباصرة الباكية » بعلاقة جريان الماء فيصحّ سلب « النابعة » عنها ، ويكون ذلك علامة كون « الباكية » معنى مجازيّا بالنسبة إلى « العين » بمعنى النابعة ، وإن كانت حقيقة في « الباكية » أيضا بوضع آخر.

ومنه يظهر حال عدم صحّة السلب بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ، فإنّ المراد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، فيقال : إنّه علامة لكون ما لا يصحّ سلب المعنى الحقيقي عنه معنى حقيقيّا بالنسبة إلى ذلك المعنى الّذي لا يجوز سلبه

٨١

عنه وإن ، احتمل أن يكون للّفظ معنى حقيقي آخر يصحّ سلبه عن المبحوث عنه فيكون مجازا بالنسبة إليه. انتهى ملخّصا.

ويرد عليه : أنّه إن أخذ الصحّة وعدمها عرفيّين ـ حسبما بيّنّاه ـ فلا قاضي معه بملاحظة الإضافة والنسبة ، مع فساده بنفسه بالقياس إلى علامة الحقيقة كما تقدّم إليه الإشارة ، وإلاّ فلا يجدي في دفع إشكال الدور ، ضرورة أنّ صحّة السلب حينئذ لا يعلم بها إلاّ مع العلم بمغايرة المعنيين المسلوب والمسلوب عنه ، كما أنّ عدمها لا يعلم به إلاّ مع العلم بالاتّحاد.

نعم هاهنا كلام آخر وهو أنّ المستفاد من المجيب في حواشيه المتعلّقة بهذا المقام (١) أنّه لا يضايق عن كون المراد بالصحّة وعدمها ما هو بحسب العرف ، بل هو صريح ما ستسمعه منه ، وتوهّم مع ذلك لزوم الدور بناء منه على كون المعتبر في إعمالهما مراعاة أمرين :

أحدهما : العلم بتعيين المعنى المسلوب.

وثانيهما : العلم بكونه معنى حقيقيّا ، فإعمالهما من الجاهل بحال المستعمل فيه مع مراعاة هذين الأمرين يفضى إلى الدور ، حيث إنّه أورد على نفسه سؤالا ، بقوله : لا يقال : بعد البناء على ملاحظة النسبة والإضافة لا حاجة إلى اعتبار كون المسلوب معنى حقيقيّا ، فإذا علم صحّة سلب معنى لذلك اللفظ عن المبحوث عنه فيصدق أنّ المبحوث عنه معنى مجازي بالنسبة إليه ، بحيث لو استعمل فيه لصار مجازا ولا حاجة إلى تعيينه حتّى يلزم الدور.

فأجاب عنه بقوله : لا ثمرة للجاهل باصطلاح قوم رأسا إذا فهم بسبب سلبهم لفظا باعتبار معنى مجهول أنّه مجاز في المسلوب منه بملاحظة ذلك المعنى المسلوب المجهول.

وإنّما يظهر الثمرة له بعد معرفة المعنى المسلوب حتّى يجري على المسلوب منه أحكام المجاز ، وهذا وجه الاحتياج إلى التعيين.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٢١.

٨٢

وأمّا اعتبار كونه معنى حقيقيّا فلأنّا نقول : المجازيّة عبارة عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة ، وذلك لا يتصوّر إلاّ بعد تعيين ما وضع له ، فإذا لم يعلم كون المسلوب معنى حقيقيّا أو ممّا وضع له اللفظ ، فكيف يقال : إنّ المسلوب منه معنى مجازي له. ولا ريب أنّ مطلق السلب لا يدلّ على كون المسلوب معنى حقيقيّا إلى آخر كلامه رحمه‌الله.

فرجع البحث إلى صحّة دعوى اعتبار الأمرين وسقمها.

فنقول : أمّا معرفة كون المسلوب معنى حقيقيّا للّفظ فممّا لا ينبغي التأمّل في اعتباره لكلّ من العلامتين ، وهو الباعث على ما قدّمناه في تفسيريهما من أخذ المسمّى الوضعي والمفهوم العرفي ، لكن لا لما علّله من أنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة لا يتصوّر إلاّ مع تلك المعرفة ، بل لأنّه لولاها لم يمكن العلم بمجازيّة المسلوب عنه بواسطة صحّة السلب ولا بحقيقيّته بواسطة عدمها ، إذ مع احتمال كون المسلوب هو اللفظ باعتبار معنى مجازي له ، يتطرّق إلى علامة المجاز احتمال كون المسلوب منه هو المعنى الحقيقي ، وإلى علامة الحقيقة احتمال كونه المعنى المجازي المتّحد مع المسلوب ، غير أنّه لا يعتبر في إحراز ذلك الشرط سبق تلك المعرفة ، بل يكفي حصولها من حين النظر في العلامتين ، وطريقها : كون اللفظ المأخوذ في محمول السالبة على أحد الوجوه الثلاث ، من تجرّده عن القرائن ، أو اقترانه بما لا يلتفت إليه ، أو كون الالتفات لا لجهة الصرف ، وستقف بعيد ذلك على تمام هذا الكلام.

وأمّا معرفة تعيين ذلك المعنى المسلوب بعد معرفة كونه حقيقيّا فممّا ينبغي القطع بعدم اعتباره لاستلزامه الدور الغير المندفع ، حتّى مع ملاحظة الإضافة والنسبة ، وكأنّ توهّم من توهّم لزومه إنّما نشأ عن توهّم اعتبار تلك المعرفة ، ولا يلزم من عدم اعتبارها اختلال فيما هو الغرض الأصلي من وضع العلامتين.

ودعوى : عدم ظهور ثمرة للجاهل بدونها ، مع أنّها لا تتمشّى في علامة الحقيقة ، لوضوح أنّه إذا علم بعدم صحّة سلب اللفظ باعتبار معناه الحقيقي

٨٣

المجهول عينه انكشف كونه هو المستعمل فيه ، فتحصل معرفة التعيين بمجرّد تلك العلامة ، فيترتّب عليه أحكام الحقيقة من جواز الاستعمال فيه بلا قرينة ، ووجوب الحمل عليه لو وجد مستعملا كذلك في خطاب شرع أو غيره.

يدفعها : منع انتفاء ما هو من ثمرات مجازيّة المستعمل فيه من حيث إنّه من ثمرات المجازيّة ، فإنّ المجاز لا حكم له إلاّ أنّ العالم به إذا أراد الاستعمال فيه للإفهام فلا يستعمل إلاّ بقرينة ، وإذا وجد اللفظ مجرّدا عنها عند استعمال غيره فليس له أن يحمله عليه.

ولا ريب أنّ كلاّ من ذلك ممّا يحصل للجاهل بتعيين المعنى المجازي.

نعم هو لا يتمكّن عن الاستعمال الحقيقي ، ويتوقّف عن الحمل إذا وجد اللفظ مستعملا بلا قرينة.

ولا ريب أنّه ليس انتفاء لما هو من ثمرات المجازيّة المعلومة بالعلامة ، بل هو انتفاء لما هو من ثمرات حقيقيّة المعنى المسلوب لمكان الجهل بها على جهة التعيين ، فلا يكون اختلالا فيما هو مقصود من علامة المجاز ، بل هو اختلال في فائدة الحقيقة ناش عن عدم معرفة التعيين ، فلا بدّ في تحصيلها من إزالة الجهل من هذه الجهة بمراجعة سائر علامات الحقيقة الموجبة لمعرفة التعيين ، وبذلك يعلم منع هذه الدعوى أيضا لو اريد من الأحكام الغير الجارية بدون تلك المعرفة ما يرجع إلى مقام البلاغة ، أو ما يرجع إلى حال خطاب الشرع الّذي لا يقصد من وضع العلامات هنا إلاّ استعلامه ، فإنّ الكلّ من واد واحد.

وينبغي ختم المسألة بإيراد نبذة من الامور المهمّة :

الأوّل : أنّ صحّة السلب وعدمها لا بدّ لأخذهما علامتين من إحرازهما بطريق علمي أو طريق يقوم مقام العلم ، من ظهور لفظي أو أصل لفظي معمول في تشخيص المراد ، وحيثما انتفى هذه الامور تعذّر إحرازهما فيندرج في المقام صور كثيرة :

منها : ما لو لم يعلم بشيء من الصحّة وعدمها في سالبة متداولة عند العرف ،

٨٤

ولا يحرز فيها شيء من العلامتين ، وإن ظنّ بأحدهما ما لم يستند إلى ظهور لفظي وما بحكمه.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها بحسب نفس الأمر ، مع كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي للعلم بتجرّده في محمول القضيّة عن القرينة ، أو بعدم الالتفات إلى القرينة الموجودة في لحاظ السلب ، أو بكون اعتبارها لا لجهة الصرف ، وهذه هي العلامة المحرزة بطريق العلم فلا إشكال فيها.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها مع الاشتباه في حال السلب الوارد في القضيّة ، باعتبار تردّده بين كونه إنّما اعتبر بحسب نفس الأمر ، أو هو صوري اعتبر لمجرّد المبالغة على حدّ ما في مثل « البليد ليس بإنسان » حيث يصحّ السلب عرفا من باب المبالغة أو « ليس بحمار » لعدم صحّته كذلك من باب المبالغة ، وهذه تلحق بالصورة السابقة تعويلا على ظهور السالبة عند إطلاقها في السلب الواقعي النفس الأمري ، فلا يلتفت إلى احتمال غيره.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها وكون السلب إنّما اخذ في القضيّة باعتبار نفس الأمر مع الاشتباه في محمولها ، لاحتمال وجود القرينة أو الالتفات إلى القرينة الموجودة ، الموجب لتردّد اللفظ بين كونه مرادا منه مسمّاه الحقيقي أو غيره ، وهذه أيضا تلحق بما تقدّم اعتمادا على أصالة عدم القرينة ، أو أصالة عدم الالتفات إليها.

ولا يرد عليها هاهنا ما تقدّم في مسألة التبادر ، لظهور الفرق بين المقامين ، فإنّ المقصود من توسيطهما هاهنا تشخيص المراد من اللفظ الوارد في القضيّة المتلقّاة من العرف ، سواء كانت ملقاة إلى الجاهل الطالب لإحراز الأمارة نفسه أو غيره.

ولا ريب في اعتبار الاصول العدميّة المحرزة للمراد ، بخلافهما ثمّة كما عرفت.

ولا يرد أنّه يوجب تركّب العلامة من جزءين : أحدهما الأصل ، لعدم كون

٨٥

الأخذ بالأصل هاهنا على أنّه جزء بل على أنّه طريق إلى إحراز العلامة حيث إنّ المعتبر فيها كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي ، ولا يحرز كون المراد منه المسمّى الحقيقي إلاّ بهذا الطريق.

ومنها : ما لو علم بالصحّة أو عدمها وكون السلب معتبرا بحسب نفس الأمر مع الاشتباه في حال اللفظ أيضا ، لعدم تبيّن جهة الالتفات في القرينة الملتفت إليها ، لتردّدها بين كونها إنّما اعتبرت لجهة الصرف أو غيرها من التأكيد ونحوه ، فهل هي أيضا ملحقة بالصور المتقدّمة أو هي هاهنا نحوها في باب التبادر؟

فإمّا أن يقال فيها بالتوقّف ، بناء على أنّه لا طريق إلى إحراز كون المسلوب هو اللفظ باعتبار مسمّاه الحقيقي ، من الظهور والأصل المذكورين.

أمّا الأوّل : فلطروّ الإجمال للفظ لعارض اقترانه بما يتردّد بين الصرف وغيره ، فلا يظنّ معه بإرادة المعنى الحقيقي.

وأمّا الثاني فلوقوع الشكّ في الحادث بعد تيقّن الحدوث ، ولا مجرى للأصل معه.

أو يقال : بمنع سقوط الظهور اللفظي ، بناء على أنّه إنّما يعتبر في مورده بالنوع وإنّما يعدل عنه إذا قام ظنّ شخصي معتبر ، أو ظنّ نوعي أقوى منه بخلافه ، والقرينة المردّدة إنّما يصادم الظنّ الشخصي ، وهي غير مفيدة للظنّ الشخصي بالخلاف ، فيبقى الظنّ النوعي من جهة اللفظ سليما.

أو يقال : بأنّ احتمال التأكيد ينفى بأولويّة التأسيس ، ثمّ ينفي احتمال التعيين بأصالة عدم الاشتراك ، فيعود الأمر إلى تعارض المجاز والاشتراك المعنوي. ويرجّح الثاني بغلبة القرائن المفهمة ، بدعوى : أنّ غالب الألفاظ معانيها مفاهيم كلّية لا يستعمل فيها تلك الألفاظ إلاّ وأن يراد منها الأفراد غالبا على طريقة إطلاق الكلّي على الفرد ، وظاهر أنّ الخارج الّذي يفيد الخصوصيّة ليس إلاّ القرينة المفهمة ، والمفروض أنّها هي الغالب ، أوجه أوجهها أوسطها لما سيأتي تحقيقه في بحث أصالة الحقيقة.

٨٦

الثاني : إنّ عدم صحّة السلب ، كثيرا مّا يثبت به ما يتردّد بين كونه نفس مسمّى اللفظ الموضوع له ، أو فردا من مسمّاه ، بناء على صلوحه لأن يثبت به تارة كون المسلوب عنه نفس ما وضع له اللفظ ، واخرى كونه من أفراده ، وهل هنا أصل وميزان يقتضي الخروج عن الشبهة من هذه الجهة أو لا؟

فقد يقال : بأنّ هنا ميزانا وهو الرجوع إلى صحّة السلب ، فإن صحّ السلب عنه مع اعتبار الخصوصيّة يتبيّن كونه فردا ، لوضوح صحّة سلب الكلّي عن الفرد الملحوظ بقيد الخصوصيّة ، وإلاّ يتبيّن كونه نفس المسمّى الحقيقي ، وفي إطلاقه من الضعف ما لا يخفى ، بل دعوى صحّة سلب الكلّي عن الفرد الملحوظ بقيد الخصوصيّة مطلقا من أوضح المفاسد.

فإنّ السلب في الحمليّات يتبع الإيجاب ولا ريب أنّ الحمل في طرف الإيجاب يقتضي الاتّحاد على معنى كون المحمول متّحد الوجود مع الموضوع ، ومعناه : إنّ المحمول في ضمن الموضوع ليس له وجودا آخر ممتاز عن وجود الموضوع بل موجود بعين وجوده ، فإن كان الاتّحاد بهذا المعنى صدقا ومطابقا للواقع لزمه أن لا يصحّ سلبه ، وإن أخذ مع الموضوع في الإيجاب ألف خصوصيّة ، وإن لم يكن صدقا لزمه أن يصحّ سلبه ، وإن جرّد الموضوع عن جميع الخصوصيّات ، بل تجريد الموضوع بملاحظة قاعدتهم « إنّ موضوع القضيّة لا بدّ وأن يؤخذ باعتبار المصداق ومحمولها باعتبار المفهوم » عن الخصوصيّة بالمرّة غير معقول ، فلو كان أخذ الخصوصيّة حينئذ موجبا لصحّة سلب الكلّي عنه ، لزم عدم صدق القضيّة في الإيجاب في شيء من الحمليّات المتعارفة وهو كما ترى.

ولعلّ الاشتباه نشأ عمّا يذكرونه من الفرق بين استعمال الكلّي في الفرد المفروض في أخذ الفرد بقيد الخصوصيّة ، وإطلاق الكلّي على الفرد المفروض في تجريده عن ملاحظة الخصوصيّة ، بكون الأوّل مجازا والثاني حقيقة وهو كما ترى ، لوضوح الفرق بين الاستعمال في الفرد أو الإطلاق على الفرد ، وبين حمل الكلّي على الفرد ، ولا يقاس أحدهما على الآخر.

٨٧

فإن قلت : الاعتراف بكون أخذ الفرد بقيد الخصوصيّة في لحاظ الاستعمال موجبا للتجوّز ، اعتراف بكون أخذه بقيد الخصوصيّة في لحاظ الحمل موجبا لصحّة السلب ، لأنّ المجاز هو استعمال اللفظ في غير الموضوع ، والفرد عبارة عن الماهيّة المتشخّصة وهي غير الكلّي بمعنى الماهيّة لا بشرط.

ولا ريب أنّ مقتضى شيء لشيء صحّة سلب الشيء الثاني عن الأوّل.

قلت : هذا إذا اعتبر الحمل في لحاظ الحمل من باب الحمل الذاتي المعبّر عنه بحمل هو هو ، وإذا اعتبر من باب الحمل المتعارفي فلا ، كما لا يخفى.

فالوجه في بيان الميزان للخروج عن الاشتباه أن يرجّح احتمال الفرديّة تعويلا على ظهور لفظي قائم في نحو المقام ، فإنّ السلب في القضايا على ما عرفت يتبع الإيجاب حتّى في الظهورات العرفيّة المنساقة منها.

ومن المقرّر إنّ الحمل في الإيجاب ظاهر في الاتّحاد الوجودي ، ولازمه أن يكون القضيّة بمقتضى وضعها الطبيعي ظاهرة في الحمل المتعارفي ، المفيد لصدق المحمول على الموضوع باعتبار كونه من مصاديقه ، والحمل الذاتي في القضايا مخصوص بموارد الحصر ولو مبالغة.

ولا ريب أنّ الحصر في معنى القضيّة أمر زائد على معناها الّذي كان يفيده وضعها الطبيعي ، ولذا يحتاج في الالتزام به إلى اعتبار أمر آخر في القضيّة زائد على أجزائها الّتي يقتضيها الوضع الطبيعي ، من تقديم وصف عامّ لموصوف خاصّ ، أو تعريف في المسند أو المسند إليه ، أو دخول كلمة « إنّما » أو غيرها ممّا يفيد الحصر ، كالنفي والاستثناء أو انفصال الضمير.

وقضيّة ذلك كون الحمل الذاتي حيثما يعتبر في القضيّة واردا على خلاف مقتضى الظاهر ، فإذا كانت في حيّز الإيجاب ظاهرة في الحمل المتعارفي كانت على اقتضائها في حيّز السلب ، فالسلب بمقتضى ظاهر القضيّة حينئذ إنّما يتوجّه إلى سلب الاتّحاد الّذي مرجعه إلى سلب فرديّة الموضوع للمحمول ، فإذا ثبت أنّ هذا السلب غير صحيح تبيّن فرديّة الموضوع ، وهذا هو مقتضى الظاهر فلا يعدل عنه إلاّ بدليل واضح.

٨٨

وقضيّة ذلك حمل المسلوب عنه في نحو المقام على كونه فردا لما وضع له اللفظ ، وإن لم يعلم ما وضع له على جهة التفصيل إلى أن يعلم خلافه من الخارج.

وأيضا قد ذكرنا سابقا أنّ صحّة السلب وعدمها حيثما اعتبرا مع الشكّ في كون المستعمل فيه نفس الموضوع له ، لا بدّ وأن يؤخذ محمول القضيّة مفهوم اللفظ باعتبار وصف كونه مسمّاه ، بخلاف ما لو اعتبرا عند الشكّ في الفرديّة فإنّ المحمول حينئذ هو اللفظ بنفس مفهومه.

ولا ريب أنّ اعتبار الوصف في الأوّل اعتبار زائد ، لا يساعد عليه القضيّة باعتبار وضعها الطبيعي ، وليس ذلك إلاّ من جهة ظهورها حال الإطلاق في أخذ المحمول مفهوم اللفظ بنفسه.

وقد عرفت أنّه بهذا الاعتبار ملازم لفرديّة الموضوع الّذي اخذ في لحاظ السلب مسلوبا عنه.

هذا ، ولعلّه لذا لم يلتفت قد ماء أهل الفنّ من العامّة والخاصّة في عناوين بحث صحّة السلب وعدمها ، إلى ما يكون منهما معمولا لإثبات كون المسلوب عنه المستعمل فيه نفس الموضوع له أو غيره ، بل لم يتعرّضوا إلاّ لذكر ما ينطبق على صورة الشكّ في الفرديّة ، حيث مثّلوا كلمة واحدة لصحّة السلب بقولهم : « البليد ليس بحمار » ولعدمها بقولهم : « البليد ليس بإنسان » وكأنّه لإفادة حصر المورد في تلك الصورة ولو من باب المبالغة ، وليس إلاّ من جهة ظهور القضيّة بطبعها في فرديّة المسلوب عنه.

وبما قرّرناه يعلم أنّه لا وجه لتخيّل أن يقال : إنّ نحو الاشتباه المفروض يتأتّى كثيرا في جانب صحّة السلب ، بأن يتردّد المسلوب عنه بين كونه معنى مجازيّا أو فردا من المعنى الحقيقي ، وإنّما صحّ عنه السلب لما اعتبر فيه من الخصوصيّة ، فإنّ الخصوصيّة المعتبرة في موضوع القضيّة لا توجب صحّة سلب المفهوم الكلّي الصادق عليه عنه ، إلاّ إذا كان الاتّحاد المستفاد من الإيجاب كذبا واردا على خلاف الواقع وهذا خلف ، فصحّة السلب لا محالة دليل على المجازيّة الصرفة ، أو فرديّة المسلوب عنه لمعنى مجازي.

٨٩

الثالث : أنّ صحّة السلب وعدمها في كونهما علامتين مقصوران على مجراهما لفظا واصطلاحا وزمانا ، فيجب الاقتصار في الحكم بالحقيقيّة أو المجازيّة على لفظ أو طائفة أو زمان وجدا فيه ، ولا يتعدّى من جهتهما إلى لفظ آخر ، ولا إلى طائفة اخرى ولا إلى زمان آخر ، إلاّ لوسط آخر ، وكذا الحال في التبادر وعدمه ، فلو ثبت بالتبادر أو عدم صحّة السلب كون الأمر بالمادّة حقيقة في الوجوب اللغوي ـ أعني الطلب الحتمي ـ أو الاصطلاحي ـ أعني الطلب الحتمي الصادر من العالي ـ وبعدم التبادر أو صحّة السلب كونه مجازا في الطلب الندبي أو الحتمي الغير الصادر من العالي لا يجوز التعدّي عنه إلى الأمر بالصيغة ، ويقال : بكونه حقيقة في أحد الأوّلين ومجازا في الأخير ، وكذا لو ثبت بأحد علامتي الحقيقة كون لفظ الاستفهام من حيث إنّه استفعال من الفهم حقيقة في الاستفهام التقريري ـ بناء على أنّ طلب الفهم أعمّ من كونه للنفس أو للغير ـ وبأحد علامتي المجاز كونه مجازا في الإنكاري ، لا يتعدّى منه لمجرّد ذلك إلى أدوات الاستفهام ، ويقال : بكونها حقيقة في التقريري ومجازا في الإنكاري.

وكذا في طائفة من أهل اللسان إذا وجدت العلامتان في محاوراتهم خاصّة فلا يتعدّى منها إلى طائفة اخرى لمجرّد ذلك ، وكذا في زمان بالقياس إلى سابق الزمان إذا وجدت العلامتان فيه بالخصوص ، فلا بدّ للتعدّي في كلّ من المقامات الثلاث من وسط آخر ، والمراد بالوسط الآخر في هذه المقامات أصل كلّي معتبر أو قاعدة يعتمد عليها أوجب تعدية الحكم الثابت بالعلامة في موردها إلى غيره.

والّذي يساعد عليه النظر أنّ نظير هذا الأصل ليس بثابت في المقام الأوّل ، بل طريق إجراء الحكم فيما يتعدّى إليه من اللفظ منحصر في إحراز علامة اخرى بالنسبة إليه بالخصوص ، ومع عدمها لا محيص من الوقف.

وأمّا المقامان الآخران فمقتضى النظر وجود نحو الأصل المذكور فيهما ، وهو أصالة عدم النقل المتّفق عليها عندهم ، كما يعلم بتتبّع كلماتهم في المسائل اللغويّة لاستنادهم إليها على الوجه الكلّي من دون نكير ، وأصالة الاتّحاد وعدم التغاير والاختلاف الّذي قد يعبّر عنه بأصالة التشابه ، كما اعتمد عليه غير واحد.

٩٠

ونعني بهذين الأصلين القاعدة الّتي يقتضي البناء على العدم في مواضع احتمال النقل ، وعلى الاتّحاد في مواضع احتمال الاختلاف بين الزمانين أو الطائفتين في الاصطلاح وأوضاع الألفاظ ومعانيها.

ومدرك القاعدة بناء العرف وطريقة العقلاء ـ قديما وحديثا ـ من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فإنّهم لا يزالون يرتّبون آثار العدم على ما احتمل فيه النقل أو الاختلاف والتغاير ، وينزّلون الاحتمال بعدم الاعتناء به منزلة عدمه ، كما يرشد إليه أخذهم عن الكتب المؤلّفة القديمة من السير والتواريخ وكتب الأخبار والأحاديث القدسيّة والتفاسير وغيرها ، من الرسائل والقصائد والأشعار ونحوها ، واستفادتهم المطالب من المراسيل والمكاتبات المرسولة من الطوائف المختلفة والدول المتبائنة ، بحملهم الألفاظ المندرجة في الجميع ـ مفردة ومركّبة ، مادّية وهيئة ـ على المعاني المتداولة لديهم ، المتعارفة فيما بينهم من دون توقّف ولا نكير ولا فحص ، مع قيام احتمال تغيّر الاصطلاح واختلافه باختلاف الأوضاع والمعاني في الجميع ، وحيث إنّ العلم الضروري حاصل بعدم كون هذه الطريقة حادثة ، فربّما تكشف عن تقرير المعصومين من الأنبياء سلفا إلى خلف والأئمّة ، خلفا عن سلف بالقياس إلى ألفاظ ما له تعلّق بالشرائع والأحكام ، لقضاء العادة ببلوغ منعهم لو كان إلينا بطريق التواتر أو التسامع والتظافر.

لا يقال ، إنّما يتمّ ذلك لو كان مبناه على عدم الاعتناء بالاحتمال الملتفت إليه ، لا على عدم طروّ الاحتمال ولو من جهة الغفلة والذهول عن منشائه ، بحيث لولاهما لالتزموا الوقف لا غير ، فجهة بنائهم غير واضحة ، لأنّ الغفلة والذهول ـ على فرض تحقّقهما ـ فمبناهما على كون موجب الأصل مركوزا في أذهانهم ، ومقتضى القاعدة راسخا في ضمائرهم.

وما ادّعي في المقام فإنّما هو عدم التفات إلى الاحتمال ، وموجبه الأصل والعلم الضروري بأنّ نحو هذا الاحتمال ما نزّل وجوده رأسا منزلة عدمه.

وممّا يفصح عنه أيضا : أنّه لو تقاعد أحد عن ترتيب آثار العدم على بعض

٩١

ما ذكر استنادا إلى الاحتمال كان مستهجنا في نظرهم وأمرا غير مستحسن ، وليس إلاّ من جهة أنّ الاحتمال في خصوص محلّ المقال ساقط عن درجة الاعتبار ، وغير صالح لأن يعتنى به حتّى يلزم منه الوقف والتقاعد عن ترتيب أحكام.

وبالجملة : كون ما ذكر ـ من البناء على العدم ـ أصلا أصيلا وقاعدة معوّلا عليها ممّا لا سترة عليه ، فلا ينبغي الاسترابة فيه ، ولعلّه لوضوح انعقاد هذا الأصل في النفوس والأذهان ووضوح مدركه لم يتعرّضوا للبحث عن اعتباره إثباتا ولا نفيا ، وليس إلاّ من جهة أنّ التعرّض لبيان مثله داخل في توضيح الواضحات ، ولم يعهد عن أحد القدح في الاعتماد عليه ، ولا يكون إلاّ لدخول نحوه في عنوان المكابرة للوجدان ، أو المناقشات في الضروريّات الغير اللائقة بالكتمان.

الرابع : إنّ صحّة السلب وعدمها يمتازان عن التبادر وعدمه بعدم انعقادهما في جملة من الألفاظ ، وهي على ما قيل الهيئات والحروف ، وقد يلحق بهما المبهمات وغيرها ممّا وضع بوضع عامّ لأمر خاصّ ، فلا يقال : « زيد ليس بهذا » ولا « هند ليست بهذه » ولا « الجماعة المعهودة ليسوا هؤلاء » ولا الجزئي الحقيقي من المخاطب ليس « بأنت » ولا الابتداء الملحوظ بين السير والبصرة ليس « بمن » لا لأنّ السلب ليس بصحيح كما في « البليد ليس بإنسان » بل لاستهجان العرف عن أصل القضيّة ، ولو صادف السلب محلّه الواقعي ، وقضيّة ذلك دوران انعقادهما وجودا وعدما مع الاستهجان وجودا وعدما.

وربّما يعلّل العدم بالنسبة إلى الهيئآت والحروف بعدم استقلال معانيهما بالمفهوميّة ، والقضيّة من شرطها استقلال كلّ من موضوعها ومحمولها بالمفهوميّة.

وبعض ما ذكر لا يخلو عن نظر :

أمّا أوّلا : فلعدم كون إطلاق هذا القول بالنسبة إلى الهيئات في محلّه ، بل لا بدّ من تخصيصه بهيئات الأفعال ـ إخباريّة أو إنشائيّة ـ وهيئآت المركّبات الموضوعة للنسب المخصوصة ـ التامّة والناقصة ـ لعدم كونها كالحروف صالحة لأن تؤخذ في محمول القضيّة من غير تأويل على وجه يكون المسلوب مسمّياتها الوضعيّة الملحوظة بوصف أنّها مسمّيات على حدّ الحمل الذاتي.

٩٢

وأمّا هيئات الأسماء المشتقّة فينبغي فيها القطع بالجواز ، ضرورة صحّة أن يقال في نحو قوله تعالى : ( ماءٍ دافِقٍ )(١) إنّه ليس بدافق ، مرادا به سلب ما قام به الدفق عن المورد ، وفي نحو قوله تعالى : ( حِجاباً مَسْتُوراً )(٢) إنّه ليس بمستور ، مرادا به سلب ما وقع عليه الستر عن المورد ، وفي نحو « زيد عدل » و « خلق الله » أنّه ليس بعدل وخلق الله مرادا به سلب هذين الحدثين عن المورد ، والوجه في صحّة المذكورات أنّ الجاهل المستعلم بالنظر في العلامة ربّما يعلم إجمالا أنّ كلا من هذه الهيئآت موضوعة بنوعها لأحد هذه المفاهيم ، وأنّ خصوصيّات كلّ نوع إنّما ترد في الاستعمالات على حسبما فيها من المعاني النوعيّة ، وأنّ كلاّ منها ربّما ترد مجازا في معنى صاحبها ، فيستعلم التمييز بين حقائق معاني كلّ نوع ومجازاته بمراجعة العلامتين.

وقضيّة ذلك أن يتبيّن له في أوّل الأمثلة كون هيئة « فاعل » مجازا فيما وقع عليه المبدأ ، وفي ثانيها كون هيئة « مفعول » مجازا فيما قام به المبدأ ، وفي ثالثها كون هيئة المصدر مثلا مجازا في معنى الفاعل والمفعول ، كما أنّه يتبيّن بعدم صحّة سلب نحو الأوّل عمّا قام به المبدأ ونحو الثاني عمّا وقع عليه المبدأ ونحو الثالث عن الحدثين إنّها حقائق في هذه المعاني بحسب أوضاعها النوعيّة.

وأمّا ثانيا : فلمنع الدعوى في نحو ما ذكر من المبهمات إذا اخذت في محمول القضيّة على طريقة الحمل الذاتي ، بفرض توجّه السلب إلى مفاهيمها باعتبار وصفها عن ذات الموضوع ، المأخوذة في كلّ قضيّة نفس كلّ واحد من تلك المفاهيم ، فيقال في موارد استعمال « أنت » أو « هذا » أو غيرهما بعنوان الحقيقة أو المجاز : « أنّه ليس بأنت ، أو هذا » بإرادة الذات الملحوظة على وجه الخطاب أو الإشارة باعتبار وصف كونها مسمّاة لهذا اللفظ ، وسلبها بهذا الاعتبار عن الذات المأخوذة موضوعة الملحوظة لا بهذا الاعتبار ، فالسلب لا محالة إمّا صحيح أو غير صحيح فتأمّل جيّدا.

__________________

(١) الطارق : ٦.

(٢) الإسراء : ٤٥.

٩٣

الخامس : قد يفرض التعارض فيما بين التبادر وعدم صحّة السلب ، وبينه وبين صحّة السلب.

أمّا الأوّل : فكما لو قضى التبادر بكون لفظ حقيقة في شيء ومجازا في غيره كما إذا كان بمعناه الأخصّ ، أو سكت عن المجازيّة كما لو اعتبر بمعناه الأعمّ ، وعدم صحّة السلب بكونه حقيقة فيما قضى التبادر بمجازيّته ومجازا فيما قضى بحقيقيّته كما إذا اعتبر بمعناه الأخصّ ، أو سكت عن المجازيّة كما إذا اعتبر بمعناه الأعمّ ، فصور التعارض من الأربع الحاصلة من ضرب صورتي التبادر في صورتي عدم صحّة السلب ثلاث بعد إسقاط الصورة الرابعة ، وهي ما لو اعتبرا معا بمعناهما الأعمّ ، لعدم تعارض حينئذ من حيث سكوت كلّ عمّا كان يقتضيه صاحبه ، فيحكم بالاشتراك لو كان كلّ اجتهاديّا ولا ضير فيه ، لأنّ المتبّع هو الدليل والمفروض إنّ دليل منعه تعليقيّ فلا يعارض غيره ، وبتقديم الاجتهادي في صورة الاختلاف ، ومع كون كلّ فقاهيّا يؤخذ بموجب عدم صحّة السلب ، لكونه باعتبار ندرة تخلّفه عن الوضع بالقياس إلى التبادر الّذي يكثر فيه التخلّف كالنصّ ، فيعود المسألة إلى تعارض النصّ والظاهر.

وأمّا الثاني : فكما لو قضى التبادر في قضيّة شخصيّة بالحقيقيّة وصحّة السلب بالمجازيّة ، والمنسوب إلى المشهور حينئذ تقديم صحّة السلب بقول مطلق.

وقد يفصّل بما يقرب ممّا مرّ بعد تصوير الصور أربعة حاصلة عن ضرب الاجتهادي والفقاهي من أحدهما فيهما من الآخر ، وإسقاط الاجتهاديّين حذرا عن القطع في قضيّة شخصيّة بطرفي النقيض فيقدّم الاجتهادي من كلّ منهما مع الاختلاف ، وأمّا مع عدمه فيقدّم صحّة السلب لكونها من التبادر بمنزلة النصّ من الظاهر ، لندرة تخلّفها عن ذيها ، وشيوع تخلّفه عنه بكثرة استناده إلى القرينة في نفس الأمر.

أقول : هذه الكلمات في النظر الدقيق واردة على خلاف التحقيق ، بل فرض التعارض بين العلامتين كسائر علامات الحقيقة والمجازات من القضايا الغير

٩٤

المعقولة ، سواء اخذت باعتبار ما ينعقد في نظر العالم بالوضع ـ الّذي هو في الحقيقة بملاحظة ما سبق من أنّ كلّما هو من لوازم الوضع عنده فهو أمارة عليه للجاهل ـ مادّة العلامات بأسرها ، أو باعتبار ما يحرزه الجاهل المستعلم.

أمّا على الأوّل : فلأنّ التبادر بمعنى فهم المعنى من اللفظ حال الإطلاق على أنّه لا غير مراد منه ممّا لا يجامع عدم صحّة السلب ، الّذي هو عبارة عن سلب اللفظ باعتبار ما يفهم منه حال الإطلاق عن المورد ، وإلاّ لزم كون المورد ما يفهم منه حال الإطلاق وكونه لا يفهم منه حال الإطلاق ، وهذا كما ترى مستحيل.

نعم لو اخذ التبادر بالمعنى الإجمالي فكثيرا مّا يجامع عدم صحّة السلب ، إذا كان المورد المسلوب عنه أحد المعاني المردّد فيها المفهومة من اللفظ على جهة البدليّة ، غير أنّهما مع هذا الفرض متعاضدان كما لا يخفى ، فلا تعارض أيضا.

وبما ذكرناه يعلم ما في فرض التعارض بين التبادر وصحّة السلب ، فإنّ انعقاد التبادر بالنسبة إلى معنى واحد يناقض انعقاد صحّة السلب بالنسبة إليه ، لقضائها بعدم كونه ما يفهم من اللفظ حال إطلاقه ، فهي في الحقيقة رافعة لأصل التبادر لا أنّها نافية لحكمه ليتأتّى التعارض بمعنى تنافي المدلولين ، فالتنافي في كلا الفرضين واقع بين نفس العلامتين لا بين مدلوليهما ، وهذا ليس من باب التعارض المصطلح عليه.

وأمّا على الثاني : فكذلك بناء على أنّ الجاهل عند استعلام الحقيقيّة والمجازيّة إنّما يحرز ما ينعقد عند العالم ، وقد عرفت أنّهما لا ينعقدان متعارضين ، مضافا إلى ما يلزم بالنسبة إلى الجاهل من التنافي من غير جهة المدلول باعتبار آخر ، فيما لو احرز كلاّ منهما بطريق القطع أو الظنّ ، أو اختلفا في القطع والظنّ ، لو قلنا بالتبادر الظنّي.

نعم على الظنّ النوعي في جانب صحّة السلب الناشئ عن ظهور اللفظ نوعا ـ حسبما تقدّم بيانه ـ مع الظنّ الشخصي في التبادر ربّما أمكن اجتماعهما في قضيّة شخصيّة ، غير أنّهما أيضا لا يندرجان في ضابط التعارض لوقوع المزاحمة باعتبار

٩٥

الموضوع ، على معنى كون التبادر في الفرض المذكور رافعا لموضوع صحّة السلب ، لأنّ مبنى الكلام على حجّية التبادر الظنّي ، فيكون من باب الظنّ الشخصي المعتبر الوارد على الظنّ النوعي في باب الألفاظ ، وأمّا على المختار من انحصار طريق إحراز التبادر في العلم فهو لا يجامع صحّة السلب أو عدمها في صورة ووارد عليه في سائر الصور.

وعلى التقديرين لا يتأتّى التعارض بالمعنى المصطلح عليه ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا لو حظت العلامتان المتعارضتان حسبما توهّم مع اتّحاد اصطلاح التخاطب المتحقّق باتّحاد الطائفة والزمان.

وأمّا مع تعدّده فعدم وقوع التعارض حينئذ أوضح ، لتعدّد موضوعي العلامتين فيؤخذ بموجب كلّ بالقياس إلى موضوعه.

سابعها : الاطّراد وعدمه : فإنّ الأوّل على الخلاف الآتي علامة للحقيقة والثاني علامة للمجاز ، والمراد بالأوّل كون اللفظ المستعمل في مورد لوجود معنى فيه جائز الاستعمال في كلّ مورد يوجد فيه ذلك المعنى.

وبعبارة اخرى : جواز استعمال لفظ مستعمل في مورد لوجود معنى فيه في جميع موارد وجود ذلك المعنى « كالعالم » إذا وجد مستعملا في « زيد » لوجود صفة العالميّة فيه ، و « الإنسان » إذا وجد مستعملا فيه لوجود معنى الحيوانيّة والناطقيّة فيه ، فإنّهما يجوز استعمالهما في جميع موارد وجود صفة العالميّة ، ومعنى الحيوانيّة والناطقيّة ، وذلك آية كون الأوّل حقيقة في مطلق الذات المتّصفة بالعالميّة والثاني حقيقة في مطلق الحيوان الناطق.

والمراد بالثاني خلافه كما يظهر بتأمّل قليل ، كما في « القرية » المستعملة في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) في « أهلها » لوجود صفة المجاورة فيه ، فإنّه لا يجوز استعمالها في الإبريق ولا الغراب والشاة والدجاجة ولا الشجر ، فلا يقال :

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٩٦

« اكسر القرية » مرادا بها الإبريق ، ولا « اذبح القرية » مرادا بها الغراب وتالييه ، ولا « اقطع القرية » مرادا بها الشجر ، مع وجود صفة المجاورة في الكلّ ، وذلك آية كون استعماله في المورد المذكور على وجه المجاز ، وإنّ الصفة المذكورة إنّما لو حظت علاقة والجواز وعدمه المأخوذان فيهما يراد بهما الصحّة وعدمها بالمعنى المرادف للغلط ، كما هو الضابط الكلّي فيهما إذا اضيفا إلى الامور اللغويّة ، فيعتبر في علامة الحقيقة صحّة الاستعمال في جميع موارد وجود المعنى الموجود في المورد المبحوث عنه ، بحيث لو وقع الاستعمال في شيء لا يعدّ ذلك الاستعمال في نظر أهل اللغة غلطا ، وفي علامة المجاز عدم الصحّة بهذا المعنى ، بحيث لو فرض الاستعمال في الجميع يعدّ ذلك الاستعمال في نظرهم غلطا ، ومنه يعلم أنّ العبرة في الاطّراد وعدمه بما هو كذلك في نظر أهل اللغة العالمين بالأوضاع ، فإنّه ينهض علامة للجاهل إذا أحرزه بطريق علمي كالاستقراء القطعي ، وبذلك يندفع شبهة الدور المتوهّم في هذا المقام أيضا.

والعمدة فيه النظر في الملازمة بين العلامتين وذيهما ، وهذا ممّا اختلفت فيه الأنظار ، والمعروف بينهم أنّه ذات أقوال ، ثالثها ثبوت الملازمة في علامة المجاز دون علامة الحقيقة.

وقد يستدلّ على الملازمة مطلقا : بأنّ التخلّف عن الوضع ممتنع لتضمّنه الإذن في الاستعمال بخلاف العلاقة فإنّ التخلّف عنها جائز عقلا بل واقع لغة ، وهو ضعيف لأنّ صحّة الاستعمال على ما هو مقتضى التعليل ـ وهو التحقيق ـ تدور وجودا وعدما مع الإذن في الاستعمال وجودا وعدما ، والعلاقة اللازمة للمجاز لا بدّ وأن تكون مأذونا فيها على ما هو قاعدتهم ، وقضيّة ذلك امتناع التخلّف عنها أيضا كما في الوضع.

وأضعف منه بناء المسألة على الاستقراء المنوط بالغالب الّذي لا يقدح فيه مخالفة النادر ، بتقريب : إنّ الغالب في الحقائق اطّرادها في مواردها والغالب في المجازات عدم الاطّراد ، وإذا شكّ في مورد ممّا يطّرد يحكم فيه بالحقيقة إلحاقا له

٩٧

بمورد الغالب ، كما أنّه لو شكّ في شيء ممّا لا يطّرد يحكم فيه بالمجاز إلحاقا له بمورد الغالب.

وجه الضعف : قضاء العقل ببطلان الفرق بين الحقيقة والمجاز في وجوب الاطّراد ، لاشتمال كلّ منهما على ما لا يتخلّف عنه صحّة الاستعمال وهو إذن الواضع خصوصا أو عموما ، فلا معنى لدعوى غلبة الاطّراد في جانب الحقيقة ولا غلبة خلافه في جانب المجاز ، هذا مع ما في الاستناد إلى الغلبة في إثبات الملازمة من الاعتماد على الظنّ ، المتقدّم منعه.

وأضعف من الجميع ما قيل من تفريع المسألة على اختلافهم المعروف في علائق المجازات ، فإنّما يصلح الاطّراد وعدمه علامتين على القول بكفاية نوع العلاقة في صحّة التجوّز.

وأمّا على القول باشتراط نقل الآحاد فلا ، لوجود الاطّراد حينئذ في المجازات ، وكذلك على القول بعدم اشتراط النقل وعدم كفاية النوع ، بدعوى : إناطة الأمر بالصنفف الّذي حصل الاستقراء في أفراده ، فإنّ المدار في صحّة التجوّز إذا كان على الإذن فلا يفترق الحال حينئذ في وجوب الاطّراد وامتناع التخلّف بين المذاهب.

وإذا ثبت حصول الإذن بالقياس إلى النوع بنفسه لزم منه وجوب الصحّة في جميع أفراد ذلك النوع ، والتخصيص على تقدير عموم الإذن غير معقول.

غاية الأمر إنّه إذا تبيّن عدم الاطّراد بالنسبة إلى جميع آحاد النوع ينهض ذلك مبطلا للقول بكفاية النوع ، كاشفا عن عدم ثبوت الإذن في النوع بما هو هو لا إنّه محقّق لعلامة المجاز.

والأولى في استعلام الملازمة وعدمها أن يرجع إلى الضابط المتقدّم ذكره مرارا ، من كون كلّما هو من لوازم الوضع عند العالم بالوضع ـ لعلمه بالوضع ـ علامة له ودليلا عليه للجاهل إذا كان له طريق إلى إحرازه.

وعليه فنقول : إنّ الملازمة بين الاطّراد والوضع المعتبر في الحقائق ممّا

٩٨

لا ينبغي أن يتأمّل فيه ، بل معلوم بالوجدان ومحسوس بما يقرب من العيان ، فإنّ كلّ عاقل يقطع بأنّ اللفظ إذا وضع لمعنى كلّي عامّ لموارد فمن لوازم ذلك الوضع بعد العلم به جواز استعماله في جميع هذه الموارد ، ولا يمكن نقض تلك الملازمة بمثل « الفاضل » و « السخيّ » و « الرحمن » فإنّها حقائق في الذات المتّصفة بمبادئها مع عدم اطّرادها ، لعدم جواز استعمال الأوّلين في الله سبحانه مع وجود المعنى فيه ، وعدم جواز استعمال الثالث في غيره تعالى ولو وجد فيه مبدأ الرحمة ، لمنع عدم الجواز بالمعنى المتقدّم المعتبر في المقام في هذه الأمثلة ، وما يوجد فيها من المنع فهو منع شرعي ثابت بالخصوص ، أو لعموم توقيفيّة أسمائه تعالى وهو لا ينافي الجواز اللغوي.

فغاية ما في الباب ، إنّ الأوّلين لو استعملا فيه تعالى كالأخير لو استعمل في غيره كان الاستعمال محرّما عند اجتماع شروط التكليف ، ولا يلزم منه كونه ممّا يعدّ في نظر أهل اللغة غلطا كما لا يخفى.

وأمّا النقض « بالقارورة » أيضا من حيث وضعها لمطلق ما يستقرّ فيه الشيء مع عدم استعمالها إلاّ في الزجاج ، فيدفعه :

أوّلا : إنّ عدم الاستعمال فعلا أعمّ من عدم صحّته لغة ، والمعتبر هو الثاني والموجود هنا إنّما هو الأوّل ، فعدم وقوع الاستعمال لا ينافي صحّته لو وقع.

وثانيا : إنّ الاطّراد يتبع وجود الوضع وبقاء أثره وهو الاختصاص ، ولا ريب إنّ الوضع أو أثره قد زال في نحو المثال فيكون خارجا عن محلّ المقال.

وأمّا الملازمة بين عدم الاطّراد وانتفاء الوضع المعتبر في المجاز ، فإنّما تتمّ لو انحصر مصحّح الاستعمال في الوضع.

وبعبارة اخرى : لو كان التجوّز ممّا يتبع انتفاء الوضع ، ولكن يبطله دليل الخلف لكون العلاقة كالوضع مصحّحة للاستعمال كما هو المتّفق عليه فيما بينهم ، المصرّح به في كلماتهم ، مع اشتراط الإذن في اعتبار العلامة على ما هو المشتهر عندهم ، وعليه فالمجاز أيضا مطّرد لضرورة العلم بصحّة الاستعمال في كلّ مورد شملته الإذن.

٩٩

وقضيّة ذلك عدم صلاحيّة الاطّراد لكونه علامة للحقيقة لوجوده في المجاز أيضا ، فيكون أعمّ ومن المستحيل نهوض الأعمّ دليلا على الأخصّ ، واستحالة كون عدمه علامة للمجاز لمكان التنافي بينهما ، فإنّ المجازيّة تتضمّن وجود العلاقة مع الرخصة في العلاقة الموجودة ، وعدم الاطّراد حيثما وجد فإنّما ينشأ إمّا عن عدم وجود العلاقة أو عن عدم الإذن في العلاقة الموجودة ، ومعه لا يعقل كونه علامة بل هو ـ على ما بيّنّاه ـ دائم التخلّف عن المجاز.

والمعتبر في العلامة أن لا يتخلّف عن ذيها أصلا ، فإذا وجب سقوطها عن الاعتبار لمجرّد وجود مادّة تخلّف فمع دوام تخلّفها تكون أولى بالسقوط.

هذا كلّه على حسبما يساعد عليه ظاهر النظر لكنّ الإنصاف ممّن جانب الاعتساف يقتضي الاعتراف بكونهما علامتين ، إذ لا يراد من كون عدم الاطّراد علامة انّه يدلّ على مجازيّة اللفظ مطلقا ، حتّى بالقياس إلى ما لا يطّرد فيه الاستعمال ، ليرد عليه : إنّ المجازيّة المتضمّنة للإذن في الاستعمال لا يعقل مع عدم صحّة الاستعمال ، بل المراد إنّه يدلّ على كونه مجازا في المورد لكشفه عن انتفاء وضع اللفظ بإزاء المعنى العامّ الموجود في جميع الموارد ، وهو في المثال المتقدّم مطلق ما يجاور الشيء ، على قياس ما هو الحال في الاطّراد الّذي معنى كونه علامة إنّه يدلّ على حقيقيّة اللفظ في المورد لكشفه عن وضع اللفظ بإزاء المعنى العامّ المتحقّق في جميع الموارد ، وهو مطلق الذات المتّصفة بالعالميّة ، ومطلق الحيوان الناطق في نحو المثالين المتقدّمين.

ولا ينافيهما صحّة الاستعمال في البعض الآخر من موارد وجود العلاقة غير المورد ممّا شمله الإذن المعتبرة فيها ، باعتبار فرض ثبوتها في الصنف أو في النوع ، إذ ليس المراد بالاطّراد المأخوذ علامة للحقيقة صحّة الاستعمال في الجملة ، كما أنّه ليس المراد بعدمه عدم صحّة الاستعمال في غير المورد ، بل المراد بالأوّل صحّة الاستعمال في جميع موارد وجود المعنى الملحوظ في المورد ، وبالثاني عدم الصحّة في جميع موارد وجوده ، سواء صحّ في البعض الآخر منها

١٠٠