تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ـ تعليقة ـ

اعلم أنّ الاصوليين وضعوا امورا يرجع إليها لتشخيص موارد ثبوت الوضع عن موارد انتفائه وتمييز الحقائق عن المجازات ، وسمّوها بعلامات الوضع وأمارات الحقيقة والمجاز ، وإن اختلفت في كون بعضها ممّا اتّفقوا على كونه أمارة ، لاتّفاقهم فيه على الملازمة بينه وبين الوضع ثبوتا وانتفاء ، وكون البعض الآخر ممّا اختلفوا في كونه أمارة وعدمه ، من جهة الاختلاف في الملازمة وعدمها ، وينبغي قبل الخوض في بيانها التنبيه على عدّة امور مهمّة ، لما في معرفتها من رفع بعض الاشتباهات الحاصلة في بعض الأمارات ، ودفع بعض الاعتراضات الواردة على بعضها الآخر ، وتأسيس ما يكون ضابطا كلّيا لمعرفة ما يصلح كونه أمارة وما لا يصلح له.

الأمر الأوّل : إنّه ينبغي أن يعلم أنّ أمارات الحقيقة والمجاز المعمولة في باب إثبات الوضع ونفيه ليس حالها كحال الأمارات الشرعيّة المعمولة في الموضوعات الخارجيّة تعبّدا من الشارع ، فإنّ الأمارات الشرعيّة كالبيّنة وقول العدل الواحد ، وقول ذي اليد ، ويد المسلم وفعله وسوقه ، امور اعتبر فيها الشارع نحو موضوعيّة ، حيث ليس غرضه من اعتبارها مجرّد إدراك الواقع والوصول إليه ، وإلاّ استحال اعتباره لها إلاّ على تقدير دوام مصادفتها الواقع. وقد علمنا خلافه ضرورة ، بل الغرض من اعتبارها ترتيب آثار الواقع ، وإجراء أحكامه على ما هي قائمة عليه

٣

وإن لم تصادف الواقع ، ولا نعني من اعتبار الأمارة من باب الموضوعيّة إلاّ هذا ، بخلاف الأمارات المعمولة في باب الوضع ، فإنّ الغرض الأصلي من اعتبارها إنّما هو الوصول إلى الواقع وإدراك نفس الأمر ، كما يظهر بملاحظة النقوض والإبرامات المتعلّقتين بالأمارات ، الّتي منها الاطّراد في علامة الحقيقة وعدمه في علامة المجاز ، حيث إنّ منهم من أخذهما أمارتين ومنهم من أخذ الأوّل أمارة دون الثاني ، تعليلا بكونه أعمّ من المجاز ، ومنهم من أنكرهما معا تعليلا بكون كلّ أعمّ من ذيه ، ومثله الخلاف في أماريّة صحّة التقسيم وغيرها ، وليس ذلك إلاّ لمجرّد أنّ المراد من الأمارة هنا ما يتوصّل به إلى الواقع ، وما كان أعمّ منه يستحيل نهوضه موصلا إليه.

وقضيّة ذلك كون الأمارات معتبرة في هذا المقام لمجرّد الطريقيّة ، وعليه فاللازم على الناظر في حال ما ادّعى كونه أمارة للوضع ، أن يتحرّى في إثبات الملازمة بينه وبين الوضع ، على معنى كونه ملزوما للوضع وإن لم يكن الوضع ملزوما له ، بناء على إنّ العلامة إنّما يعتبر فيها الاطّراد ولا يعتبر فيها الانعكاس ، فإن أثبتها فقد حصل عنده كبرى كلّية ، ثمّ إذا أراد إعمال تلك الأمارة يجب عليه التحرّي في إحراز الملزوم ليتحصّل عنده صغرى تنضمّ إلى الكبرى المذكورة ، فإن أحرزه بطريق العلم فقد توصل إلى الواقع المطلوب إدراكه بالنظر إلى الطريق ، ولا حاجة له بعد ذلك إلى تجشّم الاستدلال على اعتباره ، لأنّ اعتبار الطريق إنّما هو باعتبار كشفه وقد حصل ، وإلاّ فقد انقطع عن الطريق ، فحينئذ ربّما يقع الشبهة في اعتباره من باب الموضوعيّة بحسب نظر أهل العرف واللغة ، على معنى كونه بحيث يترتّب على ما هو قائم به عرفا أحكام الوضع والحقيقة ، وإن لم يكن كذلك في الواقع أو بحسب نظر أهل الشرع على معنى كونه شرعا بتلك المثابة ، وإن لم يكن كذلك عرفا ، وإنّما حصلت هذه الشبهة لملاحظة ما في كلام جماعة من الأواخر والمعاصرين من تتميم التبادر الغير المقطوع معه بعدم مدخليّة القرائن الخارجة من اللفظ فيه ، بضميمة الأصل ، فيحكم من جهته بالوضع والحقيقة ، وهو الّذي يعبّر عنه بأنّ الأصل في التبادر أن يكون وضعيّا.

٤

ولا ريب انّ الأصل قاصر عن إفادة العلم بنفي مدخليّة القرينة ، فلا ينطبق ذلك إلاّ على اعتبار التبادر من باب الموضوعيّة.

ووجه الشبهة عدم تبيّن كون هذا الأصل هل هو من الاصول العرفيّة على حدّ الاصول العرفيّة المعمولة في تشخيص المرادات ، كما في أصالة الحقيقة ونحوها ، فيلزم من ذلك كون التبادر المحرز باستمداده معتبرا من باب الموضوعيّة باعتبار نظر أهل العرف ، أو هو من الاصول الشرعيّة على حدّ الاصول العدميّة المقام عليها الأدلّة الشرعيّة ، فيلزم من ذلك كون التبادر ثابت الاعتبار من باب الموضوعيّة بحسب الشرع ، أو أنّه أصل لا أصل له عرفا ولا مدرك عليه شرعا ، ويظهر أثر هذه الشبهة أيضا فيما هو في كلام غير واحد أيضا من فرض التعارض بين الأمارات بعضها مع بعض ، كما لا يخفى.

وإن لم يثبتها إمّا بتبيّن عدم الملازمة الواقعيّة بينهما ، أو بعدم تبيّن شيء من ثبوت الملازمة وانتفائها ، فقد خرج عن كونه أمارة معتبرة من باب الطريقيّة ، وحينئذ فربّما يقع الإشكال في اعتباره من باب الموضوعيّة باعتبار نظر العرف أو الشرع ـ حسبما تقدّم ـ ومنشائه اختلافهم في حجّيّة نقل أئمّة اللغة ، حيثما لم يفد التعيين بالحقيقيّة أو المجازيّة ، كما هو قضيّة عدم الملازمة الواقعيّة عقلا ولا عادة بينه وبينهما.

فإنّا نرى القائلين بالحجّية بين من يستند إلى ما لو تمّ لقضى بالموضوعيّة العرفيّة ، ومن يستند إلى ما لو تمّ لقضى بالموضوعيّة الشرعيّة.

ويظهر أثر هذه الشبهة أيضا ، في مسألة التعارض المفروض في قول نقلة اللغة حسبما تعرفه.

فتحقّق بما بيّنّاه أنّ الشبهة في الموضوعيّة تتأتّى تارة : عند العجز عن إحراز الطريق بطريق اليقين ، بعدما ثبت كونه طريقا واقعيّا.

واخرى : عند عدم ثبوت طريقيّة ما ادّعي كونه طريقا ، ولو من جهة ثبوت عدم الطريقيّة.

٥

فالناظر في حال الأمارة حينئذ لابدّ أن يلاحظها في مراتب ثلاث ، على سبيل الترتّب :

اوليها : النظر إليها إحرازا للملازمة الواقعيّة.

وثانيتها : النظر إليها طلبا لموضوعيّتها بحسب العرف ، وإنّما يعدل إليها بعد اليأس عن الاولى.

وثالثتها : النظر فيها استعلاما لموضوعيّتها بحسب الشرع ، وإنّما يعدل إليها بعد اليأس عن الاوليين ، والوجه في الكلّ يظهر بالتأمّل.

الأمر الثاني : في إنّ أمارة الوضع إنّما تنهض أمارة للجاهل ، وأمّا العالم فلا يعقل له الحاجة إلى إعمالها إلاّ إذا قصد به ضرب أمارة ونصب علامة لإرشاد الجاهل بمؤدّاها ، ومنه تمسّكهم بها في المسائل اللغويّة المختلف فيها ، لكن ينبغي أن يعلم إنّ الجاهل بالوضع قد يكون جاهلا به بالجهل الساذج ، بأن لا يكون الموضوع له معلوما لا باعتبار معلوميّة أجزائه المفصّلة ولا باعتبار معلوميّة صورته النوعيّة ، وقد يكون جاهلا به بالجهل المشوب ، وهو الجهل الّذي خالطه نحو علم ، ويلزمه الشكّ في الفرديّة ولو قوّة ، وهذا الشكّ في الفرديّة قد يكون باعتبار الشكّ في الصدق ، وقد يكون باعتبار الشكّ في المصداق ، وقد يكون باعتبار الشكّ فيهما معا.

والمراد بالأوّل : أن يكون الشكّ في الفرديّة ، الّذي مرجعه إلى الشكّ في صحّة الحمل طارئا لشبهة في وصف المحمول ، كما لو شكّ في فرديّة البليد للحمار نظرا إلى الشبهة في مفهوم الحمار ، من حيث الوضع باعتبار تردّده بين النوع الخاصّ من الحيوان أو مطلق قليل الإدراك.

وبالثاني : أن يكون الشكّ في الفرديّة الراجع إلى ما ذكر طارئا لشبهة في وصف الموضوع ، كما لو شكّ في فرديّة رجل مردّد بين كونه بليدا أو غير بليد للحمار ، بعد البناء على كونه باعتبار الوضع لمطلق قليل الإدراك.

وبالثالث : أن يكون الشكّ في الفرديّة طارئا لشبهة في كلّ من وصفي المحمول والموضوع.

٦

ومرجع الشبهة الاولى إلى الشبهة في الكبرى بعد تبيّن الصغرى ، والثانية إلى الشبهة في الصغرى بعد تبيّن الكبرى ، والثالثة إلى الشبهة فيهما معا.

والضابط الكلّي في الشكّ في الفرديّة باعتبار الصدق ، أن يطلب رفع الشبهة بمراجعة العرف واللغة إحرازا لأمارات الوضع وعلامات الحقيقة والمجاز ، من نصّ لغويّ أو تبادر وعدمه العرفيّين وغيرهما ، وفي الشكّ في الفرديّة باعتبار المصداق ، أن يطلب رفعها بمراجعة أهل الخبرة خاصّة ، ولا مجرى في ذلك للأمارات المعمولة في باب الوضع ، لفرض عدم الشبهة في الوضع من هذه الجهة ليطلب رفعها بها ، وإليه يرجع ما في كلام أفاضل المتأخّرين من معاصرينا (١) في الفرق بين الموضوعات المستنبطة والموضوعات الصرفة ، من كون المرجع في الأوّل هو العرف واللغة ، وفي الثاني أهل الخبرة ، فالشكّ في الفرديّة باعتبار المصداق ساقط عن محلّ الكلام ، لخروجه عن معقد الأمارات المبحوث عنها هنا ، فوجب الاقتصار حينئذ على الشكّ في الفرديّة باعتبار الصدق. وقد عرفت أنّ مآله إلى الجهل المشوب بالموضوع له.

فنقول : حينئذ إنّ العلم الّذي خالطه قد يكون علما بالموضوع له إجمالا ، على معنى العلم الإجمالي به ، وقد يكون علما به في الجملة.

وتوضيح الفرق بينهما : إنّ الماهيّات المركّبة من الأجزاء الخارجيّة أو العقليّة الاعتباريّة أو الحقيقيّة تلاحظ باعتبارين ، وتعتبر بلحاظين :

أحدهما : أن تلاحظ باعتبار صورها النوعيّة ، وبها بالاعتبار المذكور يتعلّق نظر أئمّة اللغة في كتب متون اللغة عند ضبط معاني الألفاظ وبيانها والبحث عنها كما لا يخفى ، وعليها مدار الإفادة بالألفاظ والاستفادة عنها في المحاورات ، كما هو واضح أيضا.

وثانيهما : أن تلاحظ باعتبار أجزائها المفصّلة ، خارجيّة أو عقليّة ، حقيقيّة

__________________

(١) لم أعرف قائله.

٧

أو اعتباريّة ، وبها بهذا الاعتبار يتعلّق نظر أهل المعقول ، حيث لا غرض لهم إلاّ معرفة الأشياء بحقائقها ، وعليها مدار التعريفات والحدود والرسوم.

وظاهر أنّ العلم بالماهيّة باعتبار صورته النوعيّة لا يستلزم العلم بها باعتبار أجزائها المفصّلة ، كما أنّ الجهل بها باعتبار أجزائها المفصّلة لا يستلزم الجهل بها باعتبار صورتها النوعيّة ، كما في علوم عوام الناس بل كثير من الخواصّ بالأشياء ومعاني الألفاظ ، ضرورة أنّ المركوز في الأذهان من تلك المعاني ليس إلاّ صورها النوعيّة.

نعم الجهل بها باعتبار صورته النوعيّة يستلزم الجهل بها باعتبار أجزائها المفصّلة ، كما أنّ العلم بها باعتبار أجزائها المفصّلة يستلزم العلم بها باعتبار صورتها النوعيّة ، فحينئذ قد يكون الماهيّة معلومة بمعلوميّة أجزائها المفصّلة ، ولازمه كونها معلومة باعتبار صورتها النوعيّة أيضا ، وقد تكون مجهولة بمجهوليّة صورتها النوعيّة ، ولازمه كونها مجهولة باعتبار أجزائها المفصّلة أيضا ، وقد تكون معلومة بتمام صورتها النوعيّة فقط دون أجزائها المفصّلة ، وقد تكون معلومة ببعض صورتها النوعيّة.

ومعيار الفرق بينه وبين سابقه ، أنّه قد يحصل في الذهن من الصورة النوعيّة ما ينطبق في الواقع على تمام الأجزاء المفصّلة ، وإن لم يبلغ فطنته إليها بحسب الظاهر ، وهو العلم بها بتمام الصورة النوعيّة ، وقد يحصل فيه منها ما لا ينطبق في الواقع إلاّ على بعض الأجزاء ، وإن ذهل عنها كلاّ أو بعضا بالمرّة ، وهو العلم بها ببعض الصور النوعيّة.

أمّا القسم الأوّل فالعلم فيه تفصيلي لتعلّقه بالماهيّة باعتبار معلوميّة أجزائها المفصّلة ، وهو الّذي إذا تعلّق بمسمّى اللفظ أوجب الاستغناء عن الأمارات.

وأمّا القسم الثاني فالجهل المفروض فيه هو الجهل الساذج ، الموجب للحاجة إلى التشبّث بالأمارات الّتي تحرز بمراجعة الغير من العرف واللغة ، ولا يمكن معه إحرازها بمراجعة النفس حذرا عن الدور المستحيل.

٨

وأمّا القسم الثالث فالعلم المفروض فيه هو العلم الإجمالي المنسوب إلى الإجمال ، بمعنى الجمع لتعلّقه بالصورة النوعيّة الجامعة للأجزاء المفصّلة من جهة اشتمالها عليها بأجمعها.

وأمّا القسم الرابع فالعلم المفروض فيه هو العلم بالشيء في الجملة ، لتعلّقه ببعض الصورة النوعيّة قبالا للعلم به بتمام الصورة النوعيّة ، وحكم هذا القسم لرفع الجهل كصورة الجهل الساذج في وجوب إحراز الأمارات ، بمراجعة الغير من أهل العرف واللغة لعين المحذور المذكور ، وأمّا العالم بالعلم الإجمالي فإن لم يلتفت إلى معرفة الأجزاء المفصّلة أو التفت وعرفها من دون واسطة فيصير عالما بالتفصيل فيستغني عن الأمارات ، وإن التفت ولم يعرفها كذلك بعروض الشكّ في مدخليّة بعض ما له دخل في الواقع ، أو بعض ما لا دخل له في الواقع الّذي مرجعه بالأخرة إلى فرديّة ما خلا عمّا شكّ في مدخليّته ، فإن كان ذلك الشكّ بحيث يسري إلى الصورة النوعيّة المعلومة حتّى أوجب انقلاب العلم الإجمالي إلى العلم في الجملة فيلحقه حكمه من وجوب إحراز الأمارة بمراجعة الغير ، وإن لم يكن كذلك فوظيفته إحراز الأمارات إمّا بمراجعة غيره ، أو بمراجعة نفسه لعدم أدائه حينئذ إلى الدور من حيث إنّ المتوقّف على الأمارة هو العلم التفصيلي ، والمتوقّف عليه الأمارة هو العلم الإجمالي.

ولا ريب إنّ العلم التفصيلي ليس ممّا يتوقّف عليه الأمارة ولا العلم الإجمالي المتوقّف عليه الأمارة ، وعليه ينزّل إطلاق من دفع الدور المتوهّم ـ حسبما تعرفه في بعض صوره ـ بإبداء المغايرة بين الطرفين بالإجمال والتفصيل ، كما لا يخفى.

الأمر الثالث : إنّ كلّما هو من الآثار المترتّبة على الوضع للعالم بالوضع فهو أمارة كاشفة عنه للجاهل به ، فتبادر المعنى من اللفظ المجرّد واستعماله كذلك عند إرادة الإفهام ، وعدم صحّة سلبه عن المورد من الأمارات الدالّة على الوضع ، كما أنّ أضدادها من أمارات انتفاء الوضع.

الأمر الرابع : كلّما هو أمارة دالّة على الوضع فهو أمارة دالّة على الحقيقة ، كما

٩

أنّ كلّ أمارة لانتفاء الوضع أمارة للمجاز ، لما عرفت من أنّ الأمارة إنّما تنهض أمارة للجاهل ، ولا يعقل منه الحاجة إليها إلاّ في موضع الشكّ ، الّذي لا يعقل عروضه إلاّ بعد ثبوت مقدّمتين :

إحداهما : ثبوت أصل الاستعمال ، والاخرى صحّته ، وحينئذ فيندفع ما عساه يعترض على بعض الأمارات كعدم صحّة السلب وصحّته من أنّ غاية ما يفيده الأوّل هو ثبوت الوضع وهو أعمّ من الحقيقة ، لجواز حصول الوضع وانتفاء الاستعمال ، كما أنّ غاية ما يفيده الثاني هو انتفاء الوضع وهو أعمّ من المجاز لاحتمال الغلط ، فإنّ الأوّل يندفع بفرض ثبوت الاستعمال والثاني بفرض صحّته.

وإذا تمهّدت الامور المذكورة ، فاعلم أنّ ما ادّعي كونه أمارة من المتّفق عليه والمختلف فيه امور :

أوّلها تنصيص الواضع وهو على أقسام :

منها : أن ينصّ بما يدلّ على الوضع بطريق المطابقة ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني موضوع للمعنى الفلاني » أو قال ـ بعنوان الإخبار أو الإنشاء : « وضعته له » ومثله ما لو قال : « جعلته أو عيّنته له ».

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني اسم للمعنى الفلاني » بناء على أنّ اسم الشيء عرفا عبارة عن اللفظ الموضوع له ، ومثله ما لو قال : « إنّه حقيقة فيه » بناء على أنّ الوضع فيهما اعتبر بالقياس إلى اللفظ من باب الخارج اللازم ، الّذي اعتبر تقييده به على وجه خرج معه القيد.

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ ، كما لو قال : « اللفظ الفلاني يدلّ بنفسه على المعنى الفلاني » فإنّه يحصل بملاحظة الوضع المأخوذ فيه الدلالة بنفس اللفظ والدلالة على المعنى كذلك والنسبة بينهما ، من حيث إنّهما بحسب الخارج لا ينفكّ أحدهما عن صاحبه الجزم باللزوم ، ومثله ما لو قال : « يجوز استعماله فيه مجرّدا عن القرينة للإفهام ».

١٠

ومنها : أن ينصّ بما يدلّ عليه بطريق الالتزام الغير البيّن ، من باب الإشارة الّتي مناطها حكم العقل باللزوم بملاحظة المنصوص ، كما لو قال : « الجمع المعرّف باللام يجوز استثناء أيّ فرد منه » وقال أيضا : « الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل » فإنّ العقل بملاحظة هاتين المقدّمتين المنصوص عليهما يحكم بوضع الجمع للعموم ، على معنى كونه لازم المراد منهما.

ومنها : أن ينصّ بما لا دلالة عليه بشيء من وجوهها ، كما لو قال : « رضيت باستعمال اللفظ الفلاني في المعنى الفلاني » أو « أذنت أو رخّصت في استعماله فيه » ولا يتفاوت الحال في جميع الصور بين ما لو حصل العثور بالتنصيص على طريق المشافهة ، أو على طريق النقل المتواتر ، أو الواحد المحفوف بما يفيد العلم بالصدق ، وأمّا الواحد الغير المحفوف بما ذكر فنتكلّم بعيد ذلك على اعتباره وعدمه.

ثمّ إنّ تنصيص الواضع بأحد الوجوه المتقدّمة ممّا لا يستراب في كبراه حيثما تحقّق.

نعم يتطرّق الاسترابة إلى صغراه ، فإنّه فيما يجدينا من الموضوعات اللغويّة أو العرفيّة العامّة ، أو الخاصّة الشرعيّة غير موجود ، وفيما يوجد أو يمكن وجوده كالأعلام الشخصيّة أو الامور الاصطلاحيّة غير مجد.

وثانيها : تنصيص أهل اللغة في كلّ لغة يقع بها التخاطب ، وهذا أيضا كتنصيص الواضع في انقسامه إلى الوجوه المتقدّمة مع نوع اختلاف في التعبير بالقياس إلى بعض الوجوه ، ويمتاز عنه بعدم تطرّق الاسترابة إلى شيء من صغراه وكبراه كما هو واضح.

نعم لا يثبت به إلاّ ما يختصّ باصطلاح التخاطب ، فلو احتيج إلى التعميم بالنظر إلى أصل اللغة الّذي يتبعه عرف زمان الشارع ، فلا بدّ من انضمام مقدّمة اخرى ، من أصالة عدم النقل ، أو تشابه الأزمان أو نحوهما ، كما قد يحتاج إليها في تتميم سائر الأمارات حسبما تقف عليه ، وسنورد الكلام في حجّية هذه الاصول وعدمها.

١١

وثالثها : الترديد بالقرائن ، والمراد به تكرير اللفظ أو استعماله مقرونا بالقرينة المستقلّة في الدلالة على المعنى ، للتنبيه على الوضع الثابت فيما بينهما ، وهذا هو السديد من تعريفه ، لا ما قيل من أنّه تكرير الاستعمالات المقرونة بالقرائن الدالّة على أنّ المقصود من هذا اللفظ هو هذا المعنى ، ولا ما قيل أيضا من أنّه استعمال اللفظ متكرّرا مع القرينة الموجبة لفهم المقصود ، ولا ما قيل أيضا من أنّه ذكر اللفظ مقترنا بالقرينة الدالّة على كون المستعمل فيه معنى حقيقيّا ، فإنّه لا يخلو شيء من ذلك عن شيء ، كما يتّضح بعيد ذلك.

وهذا الطريق طريق مألوف قطعيّ لمعرفة اللغات ، ودليل معروف علميّ للتوصّل إلى حقائق الألفاظ ، كما في الأطفال يتعلّمونها به ، بل أهل كلّ لغة يتعلّمون لغة اخرى كالعجميّ القحّ يتعلّم اللغة العربيّة والعربيّ الصرف يتعلّم اللغة العجميّة ، فإنّ تعليم هؤلاء ممّا لا يتأتّى بل لا يتيسّر إلاّ بهذا الطريق ، لتعذّر التصريح بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من لغة المعلّم أو ممّن لا يعلم شيئا من لغة المتعلّم ، فهو مع كونه قطعيّا ـ كما هو المصرّح به في كلام غير واحد ـ ممّا لا يمكن القدح فيه وفي طريقيّته ، غير أنّه ربّما يتوجّه الإشكال من جهته في أمرين :

أحدهما : فتح باب السؤال على الاصوليّين ، حيث إنّ الأكثرين من فحو لهم من العامّة والخاصّة لم يتعرّضوا لذكر هذا الطريق في باب البحث عن الطرق المثبتة للوضع ، بل لم يذكره هنا إلاّ بعض الأواخر وإنّما أشاروا إليه في غير هذا الباب ، كما في مسألة الحقائق الشرعيّة عند دفع احتجاج النافين لها بأنّ الألفاظ المتنازع فيها لو وضعها الشارع لمعانيها الشرعيّة لفهّمها المخاطبين ... إلى آخره ، فإن كان ذلك يصلح طريقا فلم أهملوه في باب الطرق ، ولم يدرجوه فيها عند التعرّض لذكرها ، وإن كان لا يصلح طريقا فلم أشاروا إليه واعتبروه وحكموا بكونه قطعيّا عند دفع الاحتجاج المشار إليه.

وثانيهما : القدح في كبرى هذا الطريق ، من حيث إنّ المستفاد من كلماتهم كما يشعر به التعريفات المتقدّمة ، وهو المعلوم ضرورة بملاحظة مجاري هذا الطريق ،

١٢

لزومه استعمال اللفظ وكون الاستعمال باعتبار القرينة وتضمّنه تفهيم المعنى بواسطة القرائن ، على معنى افتقار التفهيم إلى مراعاتها.

وقد تقدّم أنّ أمارة الوضع والطريق الموصل إليه لا بدّ وأن يكون من لوازمه والآثار المترتّبة عليه.

ولا ريب أنّ لزوم كون الاستعمال باعتبار القرينة ، وافتقار تفهيم المعنى إلى مراعاتها من لوازم المجاز ، فكيف يصلح طريقا إلى الحقيقة وكاشفا عن الوضع.

وبالجملة ، ما هو من لوازم ضدّ الشيء لا يعقل كونه طريقا موصلا إلى ذلك الشيء ، وإلاّ وجب كون الاستعمالات المجازيّة عند العالمين باللغة الحاصلة باعتبار القرائن بأسرها من علائم الحقيقة في نظر الجاهل ، وإنّه بديهيّ البطلان.

فإن قلت : فرق واضح بين ما هو من لوازم المجاز ، وما هو المعتبر في مورد هذا الطريق ، كما يعلم ذلك بملاحظة ما تقدّم عند البحث فيما يتعلّق بالوضع ، من أنّ الدلالة على المعنى وفهمه من اللفظ مشروط بالوضع والعلم به ، فالافتقار إلى مراعاة القرينة في تفهيم المعنى قد يكون من جهة انتفاء الشرط الأوّل ، وقد يكون من جهة انتفاء الشرط الثاني.

ولا ريب أنّ لازم المجاز هو الأوّل ، والمعتبر في المقام هو الثاني ، وهو من الآثار المترتّبة على الوضع عند العالم به ، إذا أراد تفهيم الموضوع له للجاهل به ، فينهض بالنسبة إليه أمارة على الوضع وطريقا موصلا إليه.

قلت : قيام الفرق بينهما بحسب الواقع كما هو مسلّم ، لا يقضي بتبيّن كونه عند تعريف الوضع بالترديد بالقرائن من قبيل الثاني في نظر الجاهل ، لينهض طريقا موصلا له إلى الوضع ، فكلّ استعمال مع القرينة إذا عثر عليه الجاهل فهو محتمل عنده كونه من قبيل الأوّل ، وكونه من قبيل الثاني ، وقضيّة ذلك أن لا يتوصّل به إلى الوضع أصلا.

فإن قلت : إنّ القرينة إنّما تعتبر هنا لإعلام الوضع ، كما هو مفاد الأخير من التعريفات المتقدّمة ، لا لإفادة المعنى كما هو لازم المجاز.

١٣

قلت : مع أنّه خلاف ما يساعد عليه النظر ، كونه كذلك بحسب الواقع لا يجدي كونه كذلك بحسب نظر الجاهل الناظر في الأمارة ، فيحتمل في نظره حينئذ كون القرينة إنّما اعتبرت لإفادة المعنى على قياس ما هو الحال في المجازات.

فالّذي يختلج بالبال في دفع السؤال وحلّ الإشكال معا ، أن يقال : بمنع أنّهم أهملوا هذا الطريق ، بل أدرجوه في تنصيص أهل اللغة الّذي ذكروه في باب الطرق ، بدعوى : أن يكون مرادهم منه ما يعمّ الترديد بالقرائن أيضا ، بناء على أنّه في موارده قائم مقام التنصيص بالمعنى المعهود المتعارف ، فيكون هو بالنسبة إليه من باب البدل الاضطراريّ ، وإن كان بالقياس إلى القدر الجامع الّذي يراد من التنصيص المطلق معتبرا من باب الفرديّة.

وتوضيحه : إنّ الوضع ـ على ما بيّنّاه سابقا ـ نسبة بين اللفظ والمعنى ، فالعلم بها الّذي هو عبارة عن الإذعان لتلك النسبة ، مسبوق بتصوّرها وتصوّر طرفيها اللفظ والمعنى ، وللتنصيص باعتبار موارده بالنظر إلى هذه القاعدة صور كثيرة ، لأنّ الجاهل بلغة إذا ورد أهلها قد يكون بحيث يتصوّر معنى بعينه ، ويجزم بوضع لفظ بإزائه عندهم ولكن لا يعرفه بعينه ، فيؤدّون إليه عند تعريف الوضع بالتنصيص ما يعيّن اللفظ ، وقد يكون بحيث يتصوّر لفظا بعينه ويجزم بوضعه عندهم لمعنى لا يعرفه بعينه ، فيؤدّون إليه ما يعيّن المعنى ، وقد يكون بحيث يتصوّر لفظا بعينه ومعنى كذلك مع الشكّ في الوضع بينهما ، فيؤدّون إليه ما يزول هذا الشكّ ويرفعه ، وقد يكون غافلا بالمرّة فيؤدّون إليه ما يوجب تصوّر الطرفين والنسبة بينهما والإذعان لتلك النسبة.

وهذا كلّه حيث يتمكّن أهل اللغة من التأدية بما يفيد المطلب من الألفاظ ويتمكّن الجاهل من استفادة المطلب من الألفاظ المؤدّات إليه ، وقد يتعذّر ذلك بعدم تمكّن الجاهل من الاستفادة من شيء من ألفاظ شيء من ألفاظ شيء من اللغات ، كالطفل في أوائل تعلّمه اللغة ، أو بعدم تمكّن أهل اللغة من التأدية بما يتمكّن الجاهل من الاستفادة منه ، وعدم تمكّن الجاهل من الاستفادة ممّا يتمكّن أهل اللغة من التأدية

١٤

به من ألفاظ لغتهم ، كالعربيّ القحّ الّذي لا يعرف شيئا من ألفاظ اللغة العجميّة ، والعجمي القحّ الّذي لا يعرف شيئا من ألفاظ اللغة العربيّة إذا أراد أحدهما أن يتعلّم لغة صاحبه ، فإنّ المعلّم في مثل هذا الفرض لا يتمكّن من التأدية بألفاظ لغة المتعلّم ، الّذي هو أيضا لا يتمكّن من الاستفادة من ألفاظ لغة المعلّم ، فعادة الناس في مثل ذلك جارية بإقامة الترديد بالقرائن مقام التنصيص بالنحو المتعارف ، المتضمّن لأداء المطلب بألفاظ من لغة المعلّم أو المتعلّم ، تدلّ على الوضع بأحد الوجوه المتقدّمة ، وعلى المعنى المطلوب وضع اللفظ بأزائه.

وكيفيّته حينئذ على ما يشاهد بالوجدان ، إنّه يقام من القرائن ما يستقلّ في الدلالة على المعنى مقام الألفاظ الدالّة عليه ، الّتي يتضمّنها التنصيص بالنحو المتعارف لإحضار ذلك المعنى في ذهن الجاهل ، طلبا لحصول تصوّره الّذي كان يستلزمه العلم بالوضع ، ثمّ يذكر اللفظ المطلوب إعلام وضعه لذلك المعنى مقارنا للقرينة المذكورة ، ويكرّر ذلك اللفظ أو استعماله ليوجب أصل ذكره إحضاره في ذهن الجاهل ، طلبا لحصول تصوّره المعتبر في العلم بالوضع ، واقترانه بالقرينة تصوّر النسبة بينهما مع الإذعان لها ، وتكرّره رفع الغفلة عن الجاهل أو رفع احتمال كون ذكره من باب سبق اللسان ، أو من باب الهزليّة أو من باب المقارنات الاتفاقيّة ، أو غير ذلك ممّا يمنع احتماله عن حصول الجزم بالنسبة.

ولا ريب أنّ الترديد بالقرائن حيثما انعقد واستكمل الامور المذكورة كان طريقا قطعيّا إلى الوضع كالتنصيص ، كما نصّ عليه الجماعة في مسألة الحقيقة الشرعيّة ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كون الناصب لهذا الطريق إعلاما للوضع من قحّ أهل اللسان الّذين يستشهد بكلامهم ، أو من خارج لسانهم المطّلع على أوضاعهم ، والعارف بحقائقهم عن مجازاتهم من جهة شدّة مخالطته لهم ، وكثرة مزاولته في محاوراتهم ، فما سبق إلى بعض الأوهام من الفرق بينهما بكون الترديد من الأوّل مفيدا للقطع ، ومن الثاني مفيدا للظنّ ليس على ما ينبغي ، ولا يشترط في ذلك تعدّد الناصب له المستعمل للفظ ، كما قد يتوهّم أيضا.

١٥

وإذا كان مراد الأكثرين من تنصيص أهل اللغة الّذي تعرّضوا لذكره في باب الطرق ما يعمّ ذلك ، اندفع عنهم السؤال المتقدّم ، كما اندفع بما ذكرنا إشكال القدح في كبرى هذا الطريق ، من حيث إنّ القرائن الّتي تلتزم بها في هذا المقام ، إنّما تعتبر إقامة لها مقام الألفاظ الّتي يعبّر بها عن المعنى الموضوع له عند إعلام الوضع بطريق التنصيص بالنحو المتعارف ، وليس حالها كحال قرائن المجاز لاستقلالها في الدلالة على المعنى ، وعدم كون اللفظ المقترن بها مقصودا به إفادة المعنى بخلاف قرائن المجاز ، فإنّ الدلالة على المعنى ثمّة مقصودة من اللفظ باستمدادها مع عدم استقلالها في الدلالة لولاه ، فعلم بما قرّرناه امور :

أحدها : إنّ الدلالة على الوضع هنا قائمة باقتران اللفظ بالقرينة المستقلّة في الدلالة على المعنى ، وإنّها من باب الدلالة الالتزاميّة الإيمائيّة والتنبيهيّة ، لوضوح أنّ الانتقال إلى الوضع مع ملاحظة استقلال القرينة في الدلالة على المعنى إنّما يحصل من جهة أنّه لولا كونه مقصودا لبعد اقترانه بها عرفا.

وثانيها : إنّ اللفظ المذكور هنا لا يقصد به الدلالة على المعنى ، ولا إعلام الوضع به ، بل يقصد به إحضاره في ذهن الجاهل طلبا لتصوّره.

وثالثها : إنّ القرينة المعتبرة هنا لا يقصد بها إعلام الوضع ، بل إفادة المعنى على الاستقلال ، وبذلك كلّه يتبيّن وجه خروج التعريفات الثلاث المتقدّمة عن السداد ، وعدم خلوّ شيء منها عن شيء حسبما أشرنا إليه.

ورابعها : وجه الفرق بين التنصيص بالنحو المتعارف وبين هذا الطريق الّذي هو بدل عنه ، فإنّه طريق لا ينفع في حقّ الأجنبيّ الّذي لا يعرف شيئا من اللسان ، مع عدم اعتبار التكرير فيه.

ورابعها : نقل نقلة متون اللغة المعبّر عنه بقول اللغويّين ، كالخليل والأصمعي وابن أثير وأبي عبيدة وغيرهم ، فإنّه الطريق الغالب المعوّل عليه فيما بين العلماء الأزكياء والفضلاء الادباء ، يرجع إليه في معرفة الأوضاع والتمييز بين الحقائق والمجازات غير أنّه يمتاز عمّا عداه من الطرق المتداولة في انطباق كبراه على

١٦

تقدير الثبوت على الثمرة المطلوبة من وضع الطرق ، وهو استعلام حال خطاب الشرع ، لمكان اختصاصه بألفاظ لغة العرب الّتي هي موضع تلك الثمرة ، بخلاف سائر الطرق فإنّ كبراها عامّة تجري في سائر اللغات أيضا ، فلا بدّ في أخذ الثمرة عنها من أخذ موضوع الصغرى من ألفاظ لغة العرب.

ثمّ إنّ هذا الطريق إنّما يحتاج إليه في استعلام أوضاع موادّ ألفاظ هذه اللغة ، وأمّا معرفة أوضاع هيئآتها مفردة ومركّبة ـ كصيغتي الأمر والنهي ، والجملة الشرطيّة ونحوها ـ فتكفي في حصولها معرفة هيئآت سائر اللغات ، لما هو معلوم بحكم الضرورة والاستقراء القطعيّ كون اللغات المتخالفة باعتبار أوضاع هيئآتها ألفاظا مترادفة ، والتباين إنّما حصل فيها باعتبار موادّها ، فالحاصل إذا ثبت في الهيئآت المذكورة من اللغة الفارسيّة أو التركيّة أو الهنديّة كونها للإيجاب والتحريم والانتفاء عند الانتفاء ، فهو في معنى ثبوت كون صيغتي الأمر والنهي والجملة الشرطيّة من اللغة العربيّة أيضا لهذه المعاني على سبيل الجزم ، ولا حاجة معه إلى تكلّف النظر في قول اللغويّ.

نعم معرفة موادّ اللغة الفارسيّة أو التركيّة أو غيرها لا تغني عن معرفة موادّ لغة العرب.

ثمّ قول اللغوي في مثل « الصعيد : وجه الأرض » ليس المراد منه مجرّد اللفظ والعبارة ، بل الرأي والاعتقاد بمؤدّاهما ، ولو اريد اللفظ والعبارة فإنّما يرادان باعتبار كشفهما عن الاعتقاد بالمؤدّى.

وبالجملة مناط الكلام اعتقاد اللغويّين ، الّذي يكشف عنه الألفاظ الصادرة عنهم في مقام بيان المعاني والأوضاع.

ثمّ إنّه لا ينبغي التكلّم في اعتبار قول اللغوي من باب كونه طريقا إلى الواقع ، على معنى استلزامه كون المعتقد هو الواقع ، حتّى يكون العلم به إحرازا للواقع نفسه ، لوضوح أنّ الطريقيّة بهذا المعنى فرع على الملازمة الواقعيّة بينه وبين الواقع ، وقد علمنا انتفاءها لقضاء الضرورة بجواز الخطأ على غير المعصوم ، وإنّما يستحيل

١٧

تخلّف الواقع عن الاعتقاد في مظانّ العصمة لأدلّة العصمة ، مع قضاء الوجدان عند النظر في قول لغويّ بالتزام التحرّي لاعتبار أمر زائد عليه ، من تواتر أو تظافر أو اعتضاد بقرائن خارجيّة وشواهد عرفيّة ليفيد بإعانته العلم ، وهذا من آثار انتفاء الملازمة الواقعيّة ، مع أنّ ملاحظة ما قيل في أئمّة اللغة من الموهنات والقوادح ، مثل التقصير في الاجتهاد أو البناء على أصل فاسد من قياس ونحوه ، كما نقل عن المازني أنّ ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم ، وكون الغالب عليهم انتفاء العدالة بل وفساد المذهب ، فلا يؤمن عليهم من تعمّد الكذب والوضع إذا تعلّق به بعض الأغراض الفاسدة ، كما عن روبة وابنه إنّهما ارتجلا ألفاظا لم يسبقا إليها.

وعن الأصمعي ، إنّه نسب إلى الحذاعة زيادة ألفاظ ممّا يمنع عن انكشاف الواقع لمجرّد قول لغويّ ، وهذا كلّه آية انتفاء الملازمة ، فجهة التكلّم في اعتباره حينئذ تنحصر في جهة الموضوعيّة ، فإنّه الّذي يجوّزه العقل إمّا بحسب العرف ، على معنى أنّه شيء نزّله العرف وأهل اللسان الكاشف عن ترخيص الواضع منزلة الواقع بإجراء أحكام الوضع والحقيقة والمجاز عليه ، وإن تخلّف عنه الواقع بحسب الواقع ، أو بحسب الشرع ، على معنى كونه ممّا نزّله الشارع منزلة الواقع وإن خالفه ، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون مناط الاعتبار هو الذات ، أعني قول اللغوي من حيث هو ، أو ما هو المسبّب عنها وهو الظنّ الحاصل منها المتعلّق بالوضع أو الحقيقيّة أو المجازيّة ، ولأجل ذا اختلفت الأنظار واضطربت الآراء في حجّيته وعدمها ، حتّى حصلت بينهم أقوال مختلفة ، على ما عثرنا عليه من المحقّق والمحكيّ.

فقيل : بكونه حجّة وإن لم يفد الظنّ.

وقيل : بعدم كونه حجّة وإن أفاد الظنّ.

وقيل : بكونه حجّة إن أفاد الظنّ.

وقيل : بعدم كونه حجّة إلاّ إذا انسدّ باب العلم ، ولم يظهر منه أنّ المراد انسداد باب العلم في اللغات خاصّة وإن انفتح في الأحكام الشرعيّة ، أو في الأحكام خاصّة وإن انفتح في اللغات ، أو فيهما معا ، ولكلّ وجه من الأدلّة الآتية.

١٨

وكيف كان ، فالأقوى وفاقا لبعض مشايخنا العظام (١) هو القول الثاني ، وعليه الفاضل النراقي في مناهجه ، وإن كان القول الثالث هو المشهور المدّعى عليه الإجماع على حدّ الاستفاضة ، ومن جملة ذلك ما عن العضدي من أنّا نقطع إنّ العلماء في الأعصار والأمصار كانوا يكتفون في فهم معاني الألفاظ بالآحاد ، كنقلهم عن الأصمعي والخليل وأبي عبيدة وسيبويه.

وما عن المدقّق الشيرواني من أنّ المعنى اللغوي خرج عن قاعدة اعتبار القطع في الاصول بالإجماع ، حيث لم يزل العلماء في كلّ عصر يعوّلون على نقل الآحاد في اللغة ، كالخليل والإصمعي ولم ينكر ذلك أحد عليهم من العصر السابق واللاحق ، فصار ذلك إجماعا.

وهذا الخلاف كما ترى وإن انعقد في قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه ، غير أنّ الأولى أن يؤخذ العنوان على الوجه الأعمّ بالبحث عن حجيّة مطلق الظنون المتعلّقة باللغات ، وإن حصلت من غير جهة قول اللغوي ، كما صنعه بعض المشايخ وقبله بعض الأعاظم ليعمّ فائدته سائر الطرق والأمارات ممّا لم يثبت فيه الملازمة إلاّ بطريق ظنّي ، أو لم يكن الملزوم محرزا إلاّ بطريق ظنّي ، كالتبادر الظنّي ونحوه مثلا ، ومعلوم أنّ المانع هنا في فسحة عن تجشّم الاستدلال ، لكونه مستظهرا فلا يطالب بالدليل ، بل التشبّث بالدليل من وظيفة مدّعي الحجيّة ، لوضوح أنّ دعوى كون قول اللغوي أو الظنّ الحاصل منه أو مطلق الظنّ في اللغات ما نزّله العرف أو الشرع منزلة الواقع وإن لم يصادفه بحسب الواقع ، بنفسها وبأعلى صوتها تنادي بلزوم مطالبة الدليل من مدّعيها ، ومع ذلك فللمانع أن يستند لمنعه إلى أصل كلّي مقطوع به مقتضى لعدم الحجّية إلاّ ما أثبته الدليل بخصوصه ، على كلا الاعتبارين من اعتبار الحجيّة بحسب العرف واعتبارها بحسب الشرع.

أمّا الأوّل : فلأصالة التوقيف في اللغات بالنسبة إلى جميع الجهات الراجعة إليها ، من أوضاعها ومجازاتها وقرائنها وكيفيّة استعمالاتها.

__________________

(١) هو الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه‌الله.

١٩

وأمّا الثاني : فلأصالة منع العمل بالظنّ في الامور المتعلّقة بالشرع ، المستفادة من القاطع ، فإنّ الأدلّة من العقل والكتاب والسنّة والإجماع بل الضرورة متطابقة عليه.

ودعاوى الإجماع بل الضرورة في كلام أساطين العلماء متكاثرة فيه ، كما ستقف على تقريره وتقريب أدلّته مفصّلا في محلّه ، ولأجل كون القول بالحجيّة واردا على خلاف الأصل المقطوع به ، واضطر أصحابه إلى الاحتجاج بوجوه كثيرة مرجعها إلى أقسام :

قسم ، ما لو تمّ لقضى بها بحسب العرف.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى بها بحسب الشرع من باب الظنّ الخاصّ.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى لها عرفا من باب الاضطرار إلى العمل به خاصّة.

وقسم ، ما لو تمّ لقضى بها شرعا من باب الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

فمن حججهم : بناء العقلاء كافّة من جميع الملل والأديان في جميع الأمصار والأعصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فإنّ بنائهم مستقرّ على العمل بالظنون المتعلّقة بأوضاع الألفاظ وتشخيص الظواهر من كلّ لغة واصطلاح ، كما يشهد به اعتمادهم في إثبات اللغات على التبادرات والترديدات بالقرائن ، وأخبار الآحاد الّتي ليست إلاّ طرقا ظنّية.

وهذا الوجه كما ترى لو تمّ لقضى بالاعتبار بحسب نظر العرف المنتهي إلى الواضع ، لكون بناء العقلاء في أمر اللغات ممّا يكشف عن إذن الواضع ورضاه ، غير أنّه في الضعف والوهن بمثابة بيت العنكبوت بل أوهن منه ، فإنّه دعوى غير مسموعة لمكان القطع بكذبها ، فإنّا لم نعهد عن أحد من العقلاء ولا واحد من آحاد أهل كلّ لسان إنّه معتمد في لغته أو في شيء من ألفاظ لسانه على الظنّ ، على معنى التزامه بالوضع الظنّي الحقيقي أو المجازي ، بإجراء أحكامه العرفيّة أو الشرعيّة عليه.

٢٠