تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

غير المورد أو لم يصحّ إلاّ في المورد ، فصحّته في بعض الأحيان بالقياس إلى المورد وغيره ممّا لا يرجع إلى جميع الموارد على حسبما ثبت الإذن فيه من أفراد الصنف أو النوع ليس من الاطّراد المصطلح عليه المحكوم عليه بكونه علامة للحقيقة ، فلا ينافي عدم الاطّراد المصطلح عليه المحكوم عليه بكونه علامة للمجاز ، بل يكفي فيه عدم الصحّة في مورد واحد فضلا عن عدم الصحّة في كثير من الموارد أو أكثرها ، فاندفع عن علامة الحقيقة كونه أعمّ وعن علامة المجاز كونه منافيا لذيها بل دوام تخلّفه عنه.

ثامنها : صحّة التقسيم وعدمها :فإنّ الأوّل على ما هو المعروف علامة للحقيقة والثاني علامة المجاز ، خلافا لبعض الأفاضل ـ على ما حكي عنه ـ من منع كون صحّة التقسيم علامة تعليلا بكونها أعمّ ، وهو ظاهر ما حكى عن ثاني الشهيدين في المسالك (١) عند دفع الاحتجاج بصحّة تقسيم البيع إلى الصحيح والفاسد على كونه اسما للأعمّ.

وموردهما ما لو استعمل اللفظ في مورد يشكّ في كونه فردا من مسمّاه الوضعي المشترك بينه وبين غيره ممّا علم بكون الاستعمال فيه على وجه الحقيقة في الجملة ، ليكون الاستعمال فيه أيضا على وجه الحقيقة باعتبار ذلك المسمّى المشترك ، وعدم كونه فردا منه ليكون الاستعمال المفروض على وجه المجاز ، فإن صحّ التقسيم حينئذ كشف عن كون اللفظ موضوعا للمقسم الّذي هو الأمر المشترك ، بينهما ، ويلزم منه كون الاستعمال في كلّ منهما باعتبار ذلك الأمر المشترك على وجه الحقيقة ، وإلاّ كشف عن عدم كونه موضوعا لذلك الأمر المشترك ، ولازمه كون استعماله في خصوص المورد على وجه المجاز.

وعلم بذلك أنّ هذه العلامة مختصّة بموارد دوران اللفظ بين الاشتراك

__________________

(١) المسالك ١١ : ٢٦٣ كتاب الأيمان حيث قال : « وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة ... ».

١٠١

المعنوي والمجاز ، وتحرير العنوان على وجه يتميّز به موضع الخلاف ويتبيّن جهته ، إنّ التقسم في القضيّة التقسيميّة في بادئ النظر يتصوّر على وجوه :

أحدها : أن يؤخذ اللفظ بنفسه لا باعتبار مسمّاه مطلقا مقسما.

وثانيها : أن يؤخذ اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي الحقيقي مقسما ، كما في الإنسان المنقسم باعتبار معنى الحيوان الناطق إلى العالم والجاهل.

وثالثها : أن يؤخذ اللفظ باعتبار مسمّاه التأويلي مقسما ، سواء كان ذلك المسمّى التأويلي جامعا حقيقيّا بين القسمين ، كالشجاع في تقسيم « الأسد » باعتباره إلى المفترس والرامي ، أو جامعا اعتباريّا كمفهوم « المسمّى » في تقسيم الأسد باعتباره إليهما ، وفي تقسيم « العين » باعتباره إلى الباكية والجارية وغيرهما من معانيها الحقيقيّة.

وهو على الوجه الأوّل فاسد الوضع ، ضرورة مبائنة اللفظ لما هو من مقولة المعنى فلا يصلح مقسما لما يباينه ، حيث إنّ القضيّة التقسيميّة نوع من الحمليّة ومن المستحيل وقوع اللفظ بنفسه موضوعا في قضيّة محمولها ما هو من مقولة المعنى ، كاستحالة وقوعه كذلك محمولا فيما اخذ موضوعه من مقولة المعنى.

وعلى الوجه الثاني ما يعبّر عنه بتقسيم المعنى ، وهو يوجد في الحقائق إذا اخذت من باب الاشتراك المعنوي.

وعلى الوجه الثالث يعبّر عنه بتقسيم اللفظ ، ويوجد في المجازات باعتبار الأمر المشترك التأويلي المعبّر عنه بعموم المجاز ، وفي المشتركات اللفظيّة باعتبار الأمر المشترك المعبّر عنه بعموم الاشتراك ، ولا إشكال في كلّ من الوجهين إذا علم بحقيقة الحال فيهما باعتبار الخارج ، فلا يمكن تنزيل الخلاف المتقدّم إليهما ، بل الخلاف واقع في صورة اشتباه التقسيم الوارد في القضيّة من حيث تردّده بين الوجهين ، وإليه يرجع ما في كلام المنكر لعلاميّة صحّة التقسيم من أنّ التقسيم أعمّ من تقسيم المعنى وتقسيم اللفظ.

ولا ريب أنّه لا يرجع أيضا إلى الملازمة الواقعيّة بين صحّة التقسيم والحقيقيّة

١٠٢

وبين عدمها والمجازيّة ، إذا كان المقسم بحسب الواقع هو اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي الحقيقي ، فإنّه معلوم بالوجدان ومحسوس بما يقرب من العيان إنّ كون لفظ موضوعا لأمر مشترك بين شيئين يلزمه عند العالم به صحّة تقسيمه باعتباره إليهما ، بخلاف ما لو لم يوضع لذلك الأمر المشترك ، فإنّه لا يصحّ تقسيمه إليهما باعتبار مسمّاه الوضعي ، فيرجع الخلاف حينئذ إلى مقام إحراز الملزوم ، ووجهه الشبهة في ظهور القضيّة التقسيميّة عند إطلاقها في تقسيم المعنى وعدمه ، فالمنكر للعلاميّة مانع عن الظهور تعليلا بما تقدّم ، والقائل بها مدّع للظهور وهو الأقوى بشرط تجرّد اللفظ في القضيّة عن القرينة الملتفت إليها لجهة الصرف ، لظهوره مع هذا الفرض في إرادة المسمّى الوضعي ، فالجاهل المستعلم للحقيقيّة والمجازيّة الناظر في تلك العلامة لا بدّ من أن يحرزها على هذا الوجه بمراجعة أهل اللغة العالمين بالأوضاع ، وطريقه إثبات كون اللفظ المأخوذ مقسما مجرّدا ، ولو بحكم الأصل الجاري في نظائر المقام ، ولو كان هناك توهّم دور يندفع بذلك ولا يقدح كون النتيجة الحاصلة من تلك العلامة في بعض فروضها ظنّية ، لأنّ ذلك ظنّ نشأ عن صغرى العلامة مستند إلى ظهور لفظي قائم مقام العلم ، لا عن كبراها لمكان العلم بالملازمة على تقدير ثبوت الصغرى ، ولو بحكم ما ذكر من ظهور اللفظ.

تاسعها : الاستقراء ، الّذي عدّه غير واحد من الطرق المختصّة بالحقيقة ، وهو العمدة في تحصيل اللغة واستعلام المطالب الأدبيّة والقواعد العربيّة ، من الصرفيّة والنحويّة وما يرجع إلى فنون البلاغة وغيرها ، ككثير من المسائل الاصوليّة ، والمراد به هاهنا تصفّح الموارد الجزئيّة ـ كلّها أو غالبها ـ لإثبات ما يستعلم من الأحوال العارضة لها لأمر جامع لها ولغيرها ، وهو بهذا المعنى يأتي في الأحكام الشرعيّة وفي اللغات وفي غيرها من الموضوعات الخارجيّة ، وهذا مع الأوّل خارجان عن معقد البحث ، والثاني ما يؤخذ به نفسه طريقا إلى استعلام الوضع ، فخرج به ما يقصد منه إحراز علامة اخرى من علامات الحقيقة والمجاز ، على معنى الأخذ به لكونه طريقا إلى الطريق كاستقراء موارد الاستعمالات الشخصيّة

١٠٣

اللاحقة بلفظ في معنى طلبا لتبادره وعدمه ، أو الاطّراد وعدمه أو غيرهما ممّا تقدّم ، فإنّه ليس من الاستقراء المقصود بالبحث حيث لا يقصد منه بنفسه استعلام حال اللفظ ، وذلك كما في إثبات الوضع لهيئة « فاعل » مثلا ، فإنّه بملاحظة كون « ضارب » لمن قام به الضرب ، و « عالم » لمن قام به العلم ، و « فاضل » لمن قام [ به ] الفضل وهكذا إلى غالب أفراد اسم الفاعل من هذا الوزن ، ينتقل إلى كون هذه الهيئة في ضمن أيّ مادّة تحقّقت موضوعة لمن قام [ به ] المبدأ.

وكذلك في إثبات رفع الفاعل ونصب المفعول بعنوانهما الكلّي ، فإنّه يعلم بتصفّح الموارد الجزئيّة منهما ، ومنه يعلم أنّ مورده الموضوعات الكلّية الموضوعة بالأوضاع النوعيّة ، والأمر المستعلم هو الوضع النوعي لا غير ، فإن اتّفق بعد الانتقال إلى حال الكلّي مورد يشكّ في حكمه يلحق بالغالب ، لا لأنّ الغلبة بنفسها يفيد ظنّ اللحوق ، بل لأنّ الانتقال إلى حال الكلّي يوجب الانتقال إلى حكمه بواسطة قياس ينتظم بطريقة الشكل الأوّل ، كبراه تتحصّل من الانتقال إلى حال الكلّي وصغراه بفرض كون مورد الشكّ فردا له.

ومن هنا يعلم أنّ الإلحاق على هذا الوجه ليس من باب القياس كما قد يتوهّم ، وهو في غالب أفراده يفيد القطع وإن لم يكن تامّا ، كما لو علم حال التصفّح بعدم وجود فرد للكلّي مخالف للأفراد الغالبة في الحكم ولا كلام في اعتباره ، وقد يفيد الظنّ ، وفي اعتباره إذا انيط به الحكم الشرعي حينئذ الكلام المتقدّم في بحث حجّية قول اللغوي.

فالوجه على ما تقدّم منع العمل به إلاّ إذا اضطرّ إليه من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

فما يقال ـ في وجه الحجّية ـ من اتّفاق أهل الحلّ والعقد كافّة على العمل به ، بل هو ممّا عليه بناء أساس الفنون الأدبيّة وأكثر المسائل الاصوليّة ، حيث لا طريق لأربابها سواه ، فلو بنى على عدم الاعتداد به لزم هدم أساس هذه الفنون بأجمعها ، ومنه يلزم هدم أساس الشريعة بالمرّة.

١٠٤

ففيه : ما فيه ويجري فيه جميع ما تقدّم في دفع الإجماع المستدلّ به على حجّية قول اللغوي فراجع وتأمّل ، مع توجه المنع إلى دعوى الانهدام بعد ما عرفت من غلبة اتّفاق العلم فيه.

ولو سلّم فالاعتداد به في الامور المتسامح فيها صون لها عن الانهدام ، وإن لم يعمل بالظنّي منه في الامور الشرعيّة.

ولو سلّم فيتوجّه المنع إلى دعوى انهدام الشريعة بالمرّة بعدما بيّنا من جواز البناء على الظنّي منه حين الاضطرار إليه ، من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ فيها ، وهذا ليس من الحجّية بالمعنى المبحوث عنه كما عرفت ثمّة.

عاشرها : القياس ، الّذي اعتمد عليه بعض الناس إذا كان بين الأصل والفرع جامع يصلح للعلّية ، وخالفه الجمهور وأصحابنا كافّة بمنع العمل به في اللغات ، وهو أن يوجد اللفظ مستعملا في مورد على وجه الحقيقة لوجود وصف فيه بحيث لو لم يوجد فيه ذلك الوصف أو وجد فارتفع لم يقع الاستعمال ، وقد يعبّر عنه « بالدوران » لكون التسمية وجودا وعدما تدور مع الوصف الموجود في المسمّى وجودا وعدما ، حيث لا تسمية قبل وجوده كما لا تسمية بعد زواله ، فينهض ذلك دليلا على وضع اللفظ لكلّ ما وجد فيه ذلك الوصف ، وذلك كما في « الخمر » المستعمل في المتّخذ من العنب باعتبار وصف الإسكار ، حيث لا يطلق على ما لم يلحقه الإسكار لكونه عصيرا ، كما لا يطلق على ما ارتفع عنه الوصف بعدما لحقه ، كما إذا انقلب خلاّ فيقال : بأنّه موضوع لكلّ ما فيه الإسكار فكلّ من الفقّاع والفضيح والنقيع وغيرهما من الأنبذة خمر على وجه الحقيقة ، وكذا الكلام في تسمية « اللائط » زانيا و « النبّاش » سارقا لجامع الإيلاج المحرّم في الأوّل ، والأخذ بالخفية في الثاني ، بناء على ضابطة الدوران المفيد للعلّية.

وطريق دفعه تارة : بمنع الكبرى كما في كلام غير واحد ، وملخّصه : منع التعويل على نحو هذا الظنّ في اللغات ، حيث لا دليل عليه بل الدليل على خلافه.

واخرى : بمنع الصغرى ، على معنى منع إفادة الدوران علم العلّيّة ولا ظنّها

١٠٥

لو جاز التعويل عليه في اللغات ، لمنع الملازمة بين ما اقتضاه علّة وفعل الواضع بمعنى جعل اللفظ لمطلق ما فيه الوصف ، فإنّ المعلوم إجمالا في لفظ « الخمر » مثلا إنّه قد وضع البتّة ، وكما يمكن كونه بإزاء مطلق ما فيه الوصف ، كذلك يمكن كونه بإزاء المورد الخاصّ باعتبار هذا الوصف.

ومرجعه إلى إمكان أخذ الوصف علّة تامّة له وإمكان أخذه جزءا للعلّة ، والمقام بالنظر إلى اعتبار الواضع ولحاظ الوضع محتمل لكلّ منهما ، واللفظ قابل لهما على وجه السويّة ، والدوران لا ينافي شيئا منهما بل يجامع الوجه الثاني كما يجامع الوجه الأوّل ، التفاتا إلى أنّ الشيء كما ينتفي بانتفاء علّته التامّة فكذا ينتفي بانتفاء جزء علّته ، ومن الجائز كون مجموعي الوصف وخصوصيّة المحلّ علّة.

وملخّصه : منع وجود التسمية مع وجود الوصف كيفما اتّفق وحيثما تحقّق ، بل غاية ما علم أنّها توجد حيثما اجتمع الوصف والخصوصيّة ، وإلى هذا البيان ينحلّ ما في كلام غير واحد من هدم الاستدلال بقلب الدوران ، بأنّ التسمية دارت مع الوصف والمحلّ وهو ماء العنب في المثال ، فإنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية وإذا انتفى انتفت ، فالعلّة مركّبة.

وبالجملة : فالدوران أعمّ ممّا قصد إثباته به ، من وضع اللفظ لمطلق ما فيه الوصف ، ولا يعقل نهوضه دليلا على الأخصّ فلا يفيد علما ولا ظنّا.

وأيضا فإمّا أن يراد به اعتبار الوصف علّة تامّة للوضع بمعنى جعل الواضع ، المستتبع لاختصاص اللفظ بالمعنى ، على معنى كونه الجهة الباعثة على الوضع والحكمة الداعية إليه لا غير ، أو اعتباره علّة تامّة له بمعنى مجرّد الاختصاص الّذي ليس من آثار الوضع بالمعنى الأوّل ، وأيّا ما كان فهو باطل ، لقصوره عن إفادة العلّية على الوجه الأوّل ، بملاحظة أنّ الواجب على الحكيم إنّما هو مراعاة حكمة مرجّحة لفعله الاختياري ، لكن الحكم قد تتعدّد وفي موضع التعدّد قد تتفاوت ظهورا وخفاء ، ومن الجائز أن يعتبر من الحكم ما دعاه إلى وضع اللفظ على الوجه الأوّل ، وقد صادف الوصف الموجود في المحلّ من باب مجرّد

١٠٦

المقارنة الاتّفاقية ، حتّى دخل في وهم من لم يقف عليه ـ لخفائه ـ إنّ الوصف هو الحكمة الملحوظة الباعثة على إيجاد الوضع ، وهو عن إفادة العلّيّة على الوجه الثاني أشدّ قصورا ، لوضوح أنّه لا يتمّ إلاّ على القول بالمناسبات الذاتيّة الّذي قد فرغنا عن إبطاله ، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

هذا كلّه في قياس معنى على معنى اللفظ في إثبات الوضع الثابت له للمعنى الأوّل لجامع بينهما صالح للعلّية ، ومنه يظهر وجه بطلان القياس لو استعمل بين لفظين بينهما جامع لإثبات كون أحدهما موضوعا لما وضع له الآخر ، كما صنعه بعضهم في إثبات كون الأمر للتكرار قياسا له على النهي لجامع الطلب ، لتطرّق المنع إلى علّية الطلب رأسا ، فضلا عن كونه علّة تامّة.

وبما قرّرناه في الوجه الثاني يظهر السرّ في القضيّة المشتهرة فيما بينهم من عدم اعتبار الترجيحات العقليّة في اللغات ، وعدم جواز إثباتها وترجيحها بالعقل بعد تفسيرها بالاستدلال على الوضع بأمر عقلي على طريقة اللمّ المفيد لكون ذلك الأمر العقلي علّة موجبة للوضع ، كتيقّن الإرادة على مذهب من استدلّ به على كون ما ادّعي كونه للعموم من الصيغ موضوعا للخصوص.

وتوضيحه : إنّ تيقّن الإرادة مثلا إن اخذ علّة للوضع بمعنى ما يصدر من الواضع الحكيم فالملازمة ممنوعة ، لقيام احتمال كون الجهة الباعثة على وضع تلك الصيغ حكمة خفيّة دعته إليه بإزاء العموم ، وإن اخذ علّة للوضع بمعنى الاختصاص الّذي لازمه نفي مدخليّة جعل الواضع على أن يكون تيقّن الإرادة بنفسه موجدا لهذا الوضع فلا يتمّ إلاّ على القول بالمناسبات الذاتيّة ، وهذا هو وجه الفرق بين الاستدلال عليه بهذا الطريق والاستدلال عليه بطريق الإنّ كما في العلامات المتقدّمة من التبادر ونحوه ، فإنّه استدلال بما هو من آثار الوضع ومعلولاته بالمعنى الراجع إلى ما هو قائم بالواضع أو الأثر الناشئ منه ، أعني الاختصاص المسبّب عن التخصيص ، أو ما يعمّه والمسبّب عن غلبة استعمال أو إطلاق كما في الألفاظ الموضوعة بوضع التعيّن لما عرفت من أنّ الاستدلال بها

١٠٧

إنّما هو بعد الفراغ عن إثبات الملازمة الخارجيّة بينهما فلا يتطرّق هنا شيء من وجهي الترديد المتقدّم كما هو واضح.

حادي عشرها التزام التقييد وعدمه : المجعول أوّلهما من علائم المجاز وثانيهما من علامات الحقيقة ، المفسّران بوجدان اللفظ مستعملا في معنيين لا يجوز ذلك في أحدهما إلاّ مقيّدا بقيد مع جوازه في الآخر مجرّدا عن القيد ، ولا ينافيه وقوع التقييد في بعض الأحيان إذا لم يكن على جهة الالتزام ـ على معنى توقّف الجواز عليه ـ فيحكم بكونه حقيقة في الثاني ومجازا في الأوّل ، وذلك كما في « النار » و « الجناح » و « الماء » الّتي لا يجوز استعمالها في غير معانيها المعهودة إلاّ مقيّدة فيقال : « نار الحرب » و « جناح الذلّ » و « ماء الورد » بخلاف استعمالها في معانيها المعهودة فإنّه جائز بلا تقييد ، وإن كان قد يقع التقييد في بعض الحقائق كما يقيّد « الماء » و « الأسد » و « العين » بالكوز والافتراس والنبع ، فإنّه ليس بلازم بالمعنى المذكور بل الأوّل لأجل الإفهام والثاني لأجل التأكيد والثالث لأجل التعيين.

أقول : الظاهر إنّ إطلاق التقييد هنا بملاحظة الأمثلة المذكورة بالبيان المذكور مسامحة ، أو بناء على كون المراد منه تقييد مجرّد اللفظ من دون تعلّق له بالمعنى أصلا ، ضرورة أنّ المعنى المجازي المراد من اللفظ على ما هو مفروض الأمثلة غير مقيّد بشيء ، وعليه فلا بدّ وأن يراد منه ما يقابل إطلاق اللفظ بمعنى تجرّده عمّا يصرفه عمّا وضع له إلى خلافه ، فعدم الجواز مع عدم التقييد لا ينبغي أن يراد منه ما يخلّ بصحّة أصل الاستعمال على معنى اندراجه في عداد الأغلاط ، لوضوح أنّ التقييد وعدمه ممّا لا مدخل لهما في الصحّة بهذا المعنى وعدمها ، بل يراد منه ما يخلّ بحكمة المتكلّم حيث قصد من اللفظ إفهام ما لا يفيده إلاّ بإعانة القيد فبتركه التقييد نقض غرضه ، والالتزام به حينئذ حذر عن هذا القبيح المنافي للحكمة ، فمحصّل العنوان حينئذ يرجع إلى الالتزام بنصب القرينة اللفظيّة مع اللفظ للدلالة على إفهام ما قصد منه إفهامه.

١٠٨

ولا ريب في كون عدم الالتزام بهذا المعنى علامة للحقيقة كما هو قضيّة ما قرّرناه مرارا من الضابط الكلّي ، وفي كون الالتزام علامة للمجاز إشكال يظهر وجهه بملاحظة وجود نحوه في المشتركات أيضا فليتدبّر.

وهاهنا إشكال آخر ينشأ من ملاحظة ظهور العنوان مع الأمثلة المتقدّمة في القيود اللفظيّة المأخوذة مع اللفظ بطريق الوصف أو الإضافة ، وإذا كان المراد منها ما يرادف القرائن كما هو المتعيّن ـ على ما عرفت ـ فما وجه تخصيصها بالقرائن اللفظيّة ، مع أنّ العنوان ـ على ما وجّهناه ـ عامّ لها ولغيرها من القرائن العقليّة والحاليّة ، إلاّ أن يدفع بما نبّهنا عليه سابقا من أنّ ما هو من آثار الوضع وانتفائه في نظر أهل اللغة لا ينهض بالنسبة إلى الجاهل علامة إلاّ إذا كان له طريق إلى إحرازه ، واعتبار كون القرينة الملتزم بها لفظيّة طريق إلى إحرازه ، إذ مع سائر القرائن لا ينكشف عليه واقع الأمر ليستفيد منه شيئا ممّا يقصد من العلامة من حقيقة أو مجاز.

ولك أن تورد هنا إشكالا ثالثا : وهو إنّ العلاّمة وغيره في النهاية وغيرها مع تعرّضه لهذا العنوان في بحث العلامات ، تعرّض قبيل ذلك لذكر عنوان آخر في هذا البحث أيضا.

فقال : الثالث استعمال أهل اللغة لفظا مجرّدا عند قصد الإفهام لمعنى معيّن ، ولو عبّروا به عن غيره لم يجرّدوه ، بل ضمّوا إليه قرينة ، فيعلم أنّ الأوّل حقيقة إذ لولا علمهم باستحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها ، فيكون الثاني مجازا. انتهى (١) وهذان العنوانان كما ترى لا يظهر بينهما بحسب المعنى فرق يعتدّ به.

ثاني عشرها : التنافر ، المعدود من علائم المجاز وعدمه المعدود من علائم الحقيقة ، وفسّرا بما لو استعمل اللفظ في معنيين بقرينتين تنافر أحدهما لظهور

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).

١٠٩

اللفظ ـ ويسمّى تارة بالمنافرة ، واخرى بالمناقضة ، وثالثة بالمعارضة ـ دون الاخرى كما في « الأسد » المستعمل تارة في الحيوان المفترس والرجل بالقياس إلى قرينتي « يرمي » و « يفترس ».

وقد يفسّران أيضا بمنافرة اللفظ عن المعنى المستعمل بحيث اخذ الفرار منه إذا استعمل فيه وعدمها ، كما في المفرد المعرّف باللام بالنسبة إلى عهدي الذهني والخارجي ، فيحكم بمجازيّة الأوّل لمكان المنافرة وحقيقيّة الثاني لمكان عدمها.

ويشكل ذلك : بأنّ المنافرة وعدمها بكلّ من المعنيين وإن كانا من الآثار الواقعيّة المترتّبة على الوضع وانتفائه في نظر أهل اللغة العالمين بهما ، غير أنّه في مقام استعلام الحقيقة والمجاز بهما لا يترتّب عليهما أثر ، لعدم مبرز لهما باعث على انكشافهما في نظر الجاهل المستعلم ، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

ثالث عشرها : مخالفة صيغة جمع لفظ مستعمل في معنيين ، أحدهما المشكوك في حاله ، لصيغة جمعه عن الآخر المتبيّن حاله من حيث الحقيقة ، كما في « الأمر » الّذي يجمع « أوامر » من القول المخصوص الّذي هو حقيقة فيه ، و « امور » من الفعل المختلف في كونه حقيقة أو مجازا ، فيدلّ ذلك على كونه مجازا في الثاني.

وقد يقرّر بكون ذلك آية انتفاء الاشتراك المعنوي لغلبة الاتّحاد والموافقة في صيغة الجمع ، فيرجع الأمر إلى دورانه بين الاشتراك اللفظي الّذي يندفع بالأصل والمجاز الّذي هو خير منه ، فيتعيّن.

ولا يخفى ضعف هذا التقرير ووروده على خلاف ما هو مذكور في كتب أهل الفنّ ، فلنبحث على ما في كتبهم.

فنقول : إنّ الملازمة ممنوعة لضرورة العلم بتخلّف كلّ من الطرفين عن صاحبه أعني العلامة وذيها ، فليست منعكسة ولا مطّردة كما يرشد إليه التتّبع ، وكأنّ التوهّم نشأ في هذا اللفظ عن اتّفاق مصادفة الاختلاف في صيغة الجمع لمجازيّة المستعمل فيه من باب المقارنة الاتّفاقيّة ، فذهب إلى الوهم إنّه من جهة ملازمة واقعيّة بينهما ، على معنى أنّ كلّ مجاز يلزمه مخالفة صيغة جمعه لصيغة جمع حقيقته ، وهو كما ترى.

١١٠

رابع عشرها : امتناع الاشتقاق : المعدود من خواصّ المجاز ، وتحريره على ما في نهاية العلاّمة (١) إنّ الاسم إذا كان موضوعا لصفة ولا يصحّ أن يشتقّ للموصوف بها اسمه منه مع عدم المنع من الاشتقاق دلّ ذلك على كونه مجازا ، وذلك كما في لفظ « الأمر » فإنّه لمّا كان حقيقة في القول المخصوص اشتقّ منه « الآمر » و « المأمور » ولمّا لم يكن حقيقة في الفعل لم يوجد فيه الاشتقاق.

ويضعّفه : ـ كما فيها ـ عدم دلالة المثال على العموم ، وبالجملة يتطرّق المنع إلى الملازمة في هذه العلامة أيضا باعتبار انتقاضها عكسا وطردا كما لا يخفى ، وإنّما دخل كون ذلك علامة في الوهم اتّفاق مصادفة عدم الاشتقاق هنا لمجازيّة المستعمل فيه من باب مجرّد المقارنة.

وممّا يفصح عن فساد ذلك التوهّم إنّه لو كان امتناع الاشتقاق من لوازم المجاز وآثار انتفاء الوضع ، لقضى بامتناع المجاز التبعي في الأفعال ، كما في « قاتل » و « مقتول » وغيرهما من مشتقّات « القتل » إذا أخذ بمعنى الضرب الشديد ، وهو كما ترى.

خامس عشرها : أصالة الاستعمال ، المعدود في قول من طرق كون اللفظ حقيقة في المعنى المستعمل فيه.

واعلم : أنّ الاستعمال على ما في الكتب الاصوليّة يلحقه البحث بجهات ، فقد ينظر فيه لاستعلام حال المتكلّم من حيث إنّه أراد من اللفظ معناه الحقيقي أو المجازي ، فيقال : إنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، كما في مواضع أصالة الحقيقة بالمعنى المسلّم المتّفق عليه المعمول بها لتشخيص المراد بعد تبيّن حال اللفظ من حيث الحقيقيّة والمجازيّة ، وقد ينظر فيه لاستعلام حال اللفظ من حيث إنّه حقيقة في المعنى المستعمل فيه المعلوم ، وله بهذا الاعتبار عناوين ثلاث :

أحدها : الاستعمال المجرّد عن القرينة ، المقصود منه إفهام ما في الضمير وإفادة حقيقة المراد.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ... ( مخطوط ).

١١١

وثانيها : الاستعمال المطلق ، المجهول حاله من حيث قيدي « التجرّد » و « قصد الإفهام » وعدمهما.

وثالثها : غلبة الاستعمال المأخوذة من طرق الحقيقة في كلام جماعة من الاصوليّين ، ولا سيّما متأخّري المتأخّرين مع إنكارهم دلالة الاستعمال بالمعنى الثاني على الحقيقة ، فينبغي البحث والتكلّم بالنظر إلى هذه العناوين مضافة إلى عنوان أصالة الحقيقة في مقامات أربع :

المقام الأوّل : في الاستعمال المأخوذ معه قيد « التجرّد » و « قصد الإفهام » وحيثما علم الاستعمال بهذه المثابة فلا ينبغي التأمّل في كونه كاشفا عن الوضع كشفا إنّيّا على وجه القطع ، كما نصّ عليه في النهاية (١) والتهذيب (٢) والمنية (٣) وغيرهما.

ويظهر من السيّد في الذريعة حيث قال ـ في مفتتح الكتاب على ما حكي ـ : وأقوى ما يعرف به كون اللفظ حقيقة هو نصّ أهل اللغة وتوقيفهم على ذلك ، أو يكون معلوما من حالهم ضرورة ، ويتلوه في القوّة أن يستعملوا اللفظة في بعض الفوائد ولا يدلّونا ما على أنّهم متجوّزون بها مستعيرون لها ، فيعلم أنّها حقيقة. انتهى (٤) فتأمّل.

فالملازمة بين الاستعمال بهذا المعنى وبين الوضع والحقيقيّة ثابتة بلا إشكال ، كالملازمة بين الاستعمال مع القرينة المقصود بها الإفهام وبين انتفاء الوضع والمجازيّة ، فالأوّل علامة الحقيقة كما أنّ الثاني علامة المجاز ، وقد سبق منّا في بحث الوضع والمطالب المتعلّقة به باعتبار قيد « الدلالة على المعنى بنفسه » ما ينفعك في هذا المقام ، وما يرشدك إلى صدق هذه المقالة.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).

(٢) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٥ ( مخطوط ).

(٣) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

(٤) الذريعة الى اصول الشريعة ١ : ١٠.

١١٢

المقام الثاني : في مطلق الاستعمال الّذي اختلف في حاله من حيث دلالته على الحقيقة وظهوره فيها وعدمه ، وهذا هو محلّ التشاجر فيما بين السيّد وأحزابه والآخرين.

ولا ريب أنّ محلّ النزاع ما خلا عن النصّ والعلامة وغيرهما ممّا تقدّم من الطرق ، إذ مع وجود بعض ما ذكر يتعيّن الالتزام بموجبه من حقيقة أو مجاز.

وقد يتوهّم إنّه بهذا الاعتبار ممّا لا محلّ له ولا يترتّب عليه أثر ، لأنّهم قد ذكروا إنّ من علامات الحقيقة والمجاز تبادر المعنى وعدمه ، أو عدم تبادر غير المعنى وتبادره ، وصحّة السلب وعدمها ، وهذه العلامات لا يخلو عنها شيء من الألفاظ ، لأنّ الحصر فيها دائر بين النفي والإثبات ، وذلك لأنّه إمّا أن يتبادر المعنى أو لا يتبادر وإمّا أن لا يتبادر غير المعنى أو يتبادر ، وإمّا أن لا يصحّ سلب المعنى أو يصحّ ، فإن كان الأوّل وجب الحكم بالحقيقة لوجود علامتها وإلاّ فبالمجاز.

وحينئذ فلا يبقى لهذا البحث موضوع يتنازع فيه لانتفاء الواسطة بين النفي والإثبات.

ولا يخفى ما فيه من الغفلة الواضحة عن حقيقة الحال في العلامات المذكورة ، فإنّ وجود شيء منها في موضوع البحث بحسب الواقع ونفس الأمر بالقياس إلى أهل التخاطب المتحقّق فيما بينهم الاستعمال المتنازع فيه أمر مسلّم لا يمكن الاسترابة فيه ، غير أنّها لا تنهض علامات للجاهل على هذا الوجه ، بل هي إنّما تنهض علامات له إذا علم بها بطريق له يوجب انكشافها في نظره حسبما عرفت.

والعمدة فيه ـ على ما بيّنّاه ـ مراجعة موارد الاستعمالات الدائرة فيما بين أهل اللغة والفحص في استعمالاتهم.

ولا ريب أنّه ربّما لا يتمكّن من الفحص ومع تمكّنه منه ربّما لا يفيده شيئا ممّا ذكر ، على معنى أنّه بعد الفحص لا يتمكّن من إحراز شيء ممّا هو متحقّق بحسب الواقع من الأمر الدائر بين النفي والإثبات.

وربما يتكاسل نفسه عن تحمّل كلفة الفحص ، فإذا ثبت أنّ مطلق الاستعمال

١١٣

ممّا يدلّ على الحقيقة فينتفع منه حينئذ في جميع الصور المذكورة ، ولا يفتقر إلى إحراز شيء ممّا ذكر ، وهذا هو موضوع البحث المتنازع فيه.

وأيضا فكثيرا مّا يحصل الابتلاء بلفظ وارد في كتاب أو سنّة متعلّق بالشرع مستعمل فيهما في معنى غير معلوم ، لكن علم استعماله في العرف القديم في معنى أو معان لم يعلم حالها ثمّة من حيث وصفي الحقيقيّة والمجازيّة ، وهو مع ذلك بالنسبة إلى العرف الحاضر الّذي يحرز فيه العلامات غالبا مهجور بنفسه أو بمعناه أو بهما معا ، ولا طريق إلى إحراز العلامات أيضا في العرف القديم ، فالاستعمال المعلوم بالفرض حينئذ يفيدنا في الحكم بالحقيقة ، الموجب لحمل الخطاب لو بنينا على أنّه يدلّ على الحقيقة.

ولبعض ما ذكرنا ترى السيّد ومن يقول بمقالته إنّه في كثير من المسائل الاصوليّة يبنى الحكم بالحقيقيّة على هذا الأصل ، وليس إلاّ من جهة أنّه مفروض فيها بلا إحراز شيء من العلامات.

وربّما سبق إلى بعض الأوهام شبهة تدافع بين كلامي الاصوليّين المخالفين للسيّد في هذا الأصل ، حيث إنّهم عند إبداء هذه المخالفة يقولون : « بأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة » وفي مسألة أصالة الحقيقة المتّفق عليها ، يقولون : « بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة » بل اتّفاقهم هذا يناقض خلافهم المذكور ، لكون موضوع الكلامين هو الاستعمال.

وشبهة تدافع اخرى بين كلامهم المذكور في محلّ الخلاف ، وقولهم ـ في مسألة دوران اللفظ بين الاشتراك والمجاز ـ : إنّ المجاز خير من الاشتراك وأولى منه ، فإنّ الاستعمال إذا قصر عن الدلالة على الحقيقة لكونه أعمّ فلا جرم يكون قاصرا عن الدلالة على المجاز أيضا لكونه أعمّ ، فالحكم بالمجاز قبالا للاشتراك يناقض القول بكونه أعمّ.

ويدفعها : إنّ الكلامين الأوّلين قضيّتان متغايرتان موضوعا وجهة وموردا ، فإنّ كلامهم في الأصل المتّفق عليه ، معناه : إنّ الاستعمال المجرّد الصادر عن

١١٤

متكلّم لمخاطبه العالم بالمعنى الحقيقي والمجازي ظاهر في نظره في إرادة المعنى الحقيقي ، وفي الأصل المختلف فيه معناه : إنّ الاستعمال الغير المعلوم حاله لا يدلّ للجاهل على حقيقيّة اللفظ في المعنى المستعمل فيه ، وجهة الشبهة في الأوّل إنّما هو الشكّ في حال المتكلّم وفي الثاني الشكّ في حال اللفظ ، ومورد الأوّل هو العالم بحال اللفظ ومورد الثاني هو الجاهل بحاله ، ومستند الحكم بالمجازيّة قبالا للاشتراك ليس هو الاستعمال ، بل امور اخرى من الأصل والغلبة وبناء العرف وجملة من اعتبارات ذوقيّة واستحسانات عقليّة على ما ستسمعها ، فلا تدافع في البين أصلا.

وكيف كان فقد طال التشاجر في هذا الأصل وقوى التنازع والخلاف ، ومع ذلك فقد اختلفت العبارات المتكفّلة لبيانه ونقل الأقوال فيه ، من حيث ضبط تلك الأقوال قلّة وكثرة اختلافا ربّما يوجب اشتباه الحال في بادئ النظر ، لجهات يأتي الإشارة إليها وإلى ما يرفع الاشتباه عنها.

فإنّ منهم من جعل الخلاف في قولين ، كما في شرح الوافية للسيّد الجليل الطباطبائي قدس‌سره قائلا : والمشهور بين الفقهاء والاصوليّين سيّما المتأخّرين الحكم بالحقيقة مع اتّحاد المعنى المستعمل فيه ، وبالحقيقة والمجاز مع تعدّده.

وذهب السيّد المرتضى وجماعة من القدماء إلى القول بالحقيقة مطلقا وإن تعدّد المعنى ، ومقتضى كلامه قدس‌سره ظهورا ونصّا في غير موضع عدم وقوع الخلاف فيما لو اتّحد المعنى المستعمل فيه ، بل تكرّر منه دعوى الاتّفاق على الحكم بالحقيقيّة مع الاتّحاد.

وعزى دعواه إلى السيّد رحمه‌الله في الذريعة (١) إلى العلاّمة في النهاية (٢) بل إلى كافّة الاصوليّين أيضا.

أمّا الأوّل : ففيما ذكره في فصل الأمر ، حيث إنّه بعد ما اختار القول باشتراك

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ١٣.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ... ( مخطوط ).

١١٥

الأمر بين الوجوب والندب ، قال : إنّه لا شبهة في استعمال صيغة الأمر في الإيجاب والندب معا في اللغة والتعارف والقرآن والسنّة ، وظاهر الاستعمال يقتضي الحقيقة وإنّما يعدل عنها بدليل ، قال : « وما استعمال اللفظة الواحدة في الشيئين أو الأشياء إلاّ كاستعمالها في الشيء الواحد في الدلالة على الحقيقة ».

وذكر ما يقرب من ذلك في جملة كثيرة من المباحث الاصوليّة ، كمبحث المرّة والتكرار ، والفور والتراخي ، وفي مسألة ألفاظ العموم والاستثناء المتعقّب للجمل وغيرها ، حيث بنى فيها على الاشتراك استنادا إلى الاستعمال.

والوجه في استظهار دعوى الاتّفاق من العبارة المذكورة إنّه لولا إنّ اقتضاء الحقيقة بنفس الاستعمال في المعنى الواحد من المسلّمات عند الجميع ، لم يكن في التسوية بين الاستعمال في المعنى الواحد والتعدّد دلالة على ما ادّعاه ، من دلالة الاستعمال على الحقيقة مع التعدّد وظهوره فيها.

وأمّا الثاني : ففي مسألة إنّ الأصل الحقيقة والمجاز خلاف الأصل ، حيث احتجّ على ذلك بالإجماع واستشهد له بما حكى عن ابن عبّاس إنّه قال : « ما كنت أعرف « الفاطر » حتّى اختصم إليّ شخصان في بئر ، فقال أحدهما : فطرها أبي ، أي اخترعها ».

وعن الأصمعي ، إنّه قال : ما كنت أعرف « الدهاق » حتّى سمعت جارية تقول : اسقني دهاقا ، أي ملأ.

قال : فاستدلّوا بالاستعمال على الحقيقة ، ولولا علمهم بأنّ الأصل الحقيقة لما يساغ ذلك ، قال السيّد رحمه‌الله : وإطلاق كلامه منزّل على صورة اتّحاد المعنى لاشتهار الخلاف مع التعدّد ، واختيار الأكثر ومنهم العلاّمة رحمه‌الله رجحان المجاز على الاشتراك ، مع أنّ الظاهر من الحقيقة في هذه المواضع الحقيقة المتّحدة.

وأمّا الثالث : ففي مسألة تعارض الأحوال ، حيث إنّهم صرّحوا بأنّ الامور العارضة للألفاظ المخرجة لها عن حدّ الاعتدال الموجبة فيها لحصول الاختلال

١١٦

هي الخمس المعروفة ، أعني الاشتراك والنقل والمجاز والتخصيص (١) وإنّ حصول كمال المقصود من اللفظ يتوقّف على انتفاء هذه الأحوال ، فإنّه إذا انتفى عنه إحتمال الاشتراك والنقل كان له حقيقة واحدة ، وإذا انتفى عنه احتمال المجاز والإضمار كان المراد تلك الحقيقة ، وإذا انتفى احتمال التخصيص كان المراد تلك الحقيقة بكمالها ، وبذلك يحصل الفائدة المقصودة من اللفظ وهو فهم معناه منه بتمامه.

قال السيّد رحمه‌الله : ومقتضى ذلك إنّ الأصل في اللفظ هو الحقيقة الواحدة التامّة ، وإنّ ما عدا ذلك خارج عن الأصل فلا يحمل عليه اللفظ إلاّ بدليل ، ولذا ترى أنّ أكثر الاصوليّين اقتصروا في تعارض الأحوال على الصور العشر الحاصلة من ملاحظة هذه الخمس بعضها مع بعض ، ولم يتعرّضوا للصور الخمس الحاصلة من دوران الحقيقة مع كلّ من هذه الخمس ، لوضوح حكمها والاتّفاق على تقدّم الحقيقة فيها.

ومن أدخل الخمس في مسائل الدوران ، كالمصنّف قطع بتقدّم الحقيقة في الجميع من دون نقل خلاف في المسألة ولا تردّد في الحكم ، انتهى.

وممّن وافقه على هذه الدعوى بعض الأفاضل ، فإنّه بعد ما ادّعى كون ظاهر الاصوليّين الإطباق على الحكم بدلالة الاستعمال على الحقيقة ، جعل الاختلاف المعروف فيما إذا تعدّد المستعمل فيه ، وقال ـ بعيد ذلك في عنوان دلالته على الحقيقة مع اتّحاد المعنى ـ : ولا كلام ظاهرا في تحقّق الدلالة المذكورة.

بل يستفاد من كلامه كونه طريقة مستمرّة لعلماء الأدب وأئمّة اللغة ، قائلا : ويدلّ عليه بعد ذلك جريان طريقة أئمّة اللغة ونقلة المعاني اللغويّة على ذلك ، ثمّ استشهد لذلك بما عرفته عن ابن عبّاس والأصمعي ، ثمّ قال : وكذا الحال فيمن عداهما ، فإنّهم لا زالوا يستشهدون في إثباتها إلى مجرّد الاستعمالات الواردة في الأشعار وكلمات العرب ، ويثبتون المعاني اللغويّة بذلك.

__________________

(١) والظاهر سقوط كلمة « الإضمار » من قلمه الشريف.

١١٧

ولا زال ذلك ديدنهم من قدمائهم إلى متأخّريهم كما لا يخفى على من له أدنى خبرة بطريقتهم ، انتهى (١).

ومنهم من جعله في أقوال ثلاث كما في الضوابط (٢) :

أحدها : القول بدلالته على الحقيقة مطلقا ، نسبه إلى السيّد وأتباعه.

وثانيها : القول بدلالته على المجاز مطلقا ، نسبه إلى ابن جنّي (٣) القائل بأنّ المجاز أكثر اللغة.

وثالثها : القول بالتفصيل ، فالدلالة على الحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه ، والوقف مع تعدّده ، ونسبه إلى المشهور.

ومنهم من جعله في أربعة أقوال ، كما في القوانين (٤) :

أحدها : دلالته على الحقيقة ، نسبه إلى السيّد رحمه‌الله.

وثانيها : الدلالة على المجاز ، نسبه إلى ابن جنّي ، قال : وجنح إليه بعض المتأخّرين ، لأنّ أغلب لغة العرب مجازات ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، والظاهر إنّ مراده ببعض المتأخّرين الفاضل المحقّق جمال الملّة والدين في حواشيه على شرح المختصر ، حيث نسب إليه فيها اختيار هذا القول ، لكن ستعرف أنّ كلامه المحكّي عنها غير دالّ عليه لا صراحة ولا ظهورا.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٤٢ ( الطبعة الحجريّة ).

(٢) ضوابط الاصول : ٤٣ ( الطبعة الحجريّة ).

(٣) ابن جنّي : بكسر الجيم وتشديد النون بعدها ياء ، هو أبو الفتح عثمان بن جنّي الموصلي النحوي المشهور ، كان إماما في علم العربيّة ، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي ، وقرأ ديوان المتنبّي على صاحبه وشرحه ، وكان في طبقة سيّديّنا المرتضى والرضي ، بل من جملة مشايخ سيّدنا الرضي رضوان الله عليه ، وكان أبوه جنّي مملوكا روميّا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي ، وله من التصانيف المفيدة في النحو كتاب « الخصائص » و « سرّ الصناعة » وغيرهما ، وكانت ولادته قبل الثلاثين والثلاثمائة بالموصل ، وتوفّي يوم الجمعة لليلتين من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، ببغداد.

راجع : وفيات الأعيان ٣ : ٢٤٦ ، روضات الجنات ٥ : ١٧٦.

(٤) قوانين الاصول ١ : ٢٩.

١١٨

وثالثها : التفصيل المتقدّم على طبق ما عرفت نقله عن السيّد شارح الوافية وجعله مبنيّا على أنّ المجاز مستلزم للحقيقة ، فمع الاتّحاد لا يمكن القول بمجازيّته وأمّا مع التعدّد فلمّا كان المجاز خيرا من الاشتراك فيؤثر عليه ، ويترتّب على ذلك لزوم إستعمال أمارات الحقيقة والمجاز في التميّز وحيث لم يتميّز فالوقف.

ورابعها : الوقف مطلقا ، نسبه إلى المشهور واختاره تعليلا بعدم دلالة الإستعمال على الحقيقة.

ولا يذهب عليك أنّ له في هذه النسبة موافقا ، بل بالنسبة إلى مذهب الأكثر هي المعروفة بين الاصوليّين كما يقف عليه المتتبّع ، حتّى أنّ السيّد شارح الوافية بعدما نفى الخلاف عن الدلالة على الحقيقة مع اتّحاد المستعمل فيه ، وأطنب في ترويجه وبالغ في تشييده ، نقل هذه النسبة مع وجود القول بالوقف ، بقوله :

وربّما يتوهّم من قول الفقهاء والاصوليّين في مطاوي مباحث الفقه والاصول إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، وإنّ العامّ لا دلالة له على الخاصّ ، تحقّق الخلاف في هذا المقام ، وإنّ في المسألة قولا ثالثا وهو إنّ الاستعمال لا يدلّ على شيء من الحقيقة والمجاز مطلقا ، سواء كان المعنى متّحدا أو متعدّدا ، وقد يتخيّل مع ذلك إنّ هذا هو القول المشهور ، حيث يرى ذلك الكلام متكرّرا في كتب الاصول ، والخلاف مقطوعا به عند الأكثر ... الخ.

ثمّ أخذ بتزييف هذا التوهّم وتوجيه كلامهم المتكرّر في الكتب الاصوليّة بما ستعرفه.

واعلم : أنّ النظر في اختلاف العبارات المذكورة في نقل الخلاف وأقواله ربّما يوجب الشبهة في جهات :

منها : دخول الاستعمال مع اتّحاد المستعمل فيه في موضع النزاع ومعقد البحث وعدمه.

ومنها : وجود القول بدلالة الاستعمال على مجازيّة المستعمل فيه وظهوره في المجاز ، قبالا لمن يدّعي ظهوره في الحقيقة وعدمه.

١١٩

وتسري هذه الشبهة إلى مقالة ابن جنّي ، من حيث إنّه بتلك المقالة هل هو بصدد إنكار أصل السيّد وأتباعه ، في دعوى ظهور الاستعمال في حقيقيّة المستعمل فيه ، بدعوى : إنّ الأصل فيه الدلالة على المجازيّة ، أو بصدد إنكار أصالة الحقيقة المعمولة في تشخيص المراد ، بدعوى : إنّ الاستعمال في مجارى هذا الأصل ظاهر في إرادة المعنى المجازي ، أو بصدد إنكار أصل ثالث خارج عن الأصلين.

وبعبارة اخرى : إنّ القضيّة المعروفة عن ابن جنّي هل هي متعرّضة لأصل السيّد وأتباعه ، أو للأصل المتّفق عليه المعمول به في تشخيص المرادات ، أو إنّها ممّا لا تعلّق له بهذين الأصلين وإنّما هي متعلّقة بأصل آخر.

ومنها : كون المذهب المشهور الّذي صار إليه الجمهور هل هو الوقف مطلقا ، أو التفصيل بأحد الوجهين المتقدّمين في عبارتي السيّدين.

لكنّ الّذي يساعد عليه النظر ، والحقّ الّذي لا محيص عنه ، هو أنّ النزاع واقع في الأعمّ وليس في المسألة قول بدلالة الاستعمال على المجاز ، والمشهور فيها الوقف مطلقا ، بل نفي الدلالة على الحقيقة الّذي لازمه الوقوف عن الحكم بها من جهته ، لا الوقف بمعنى إنّه لا يدري أنّ الاستعمال يدلّ على الحقيقة أو لا يدلّ ، كما هو ظاهره في غير المقام.

أمّا إنّه ليس فيها قول بالدلالة على المجاز فلأنّه ليس فيما بينهم من يتوهّم منه اختيار هذا القول إلاّ ابن جنّي حسبما زعمه في الضوابط (١) وبعض الأعلام ، أو الفاضل المتقدّم ذكره ـ حسبما زعمه بعض الأعلام في قوله المتقدّم : وجنح إليه بعض المتأخّرين (٢) ـ وليس الأمر كما توهّم لإباء كلاميهما عن ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّه ـ على ما حكي ـ قال : أكثر اللغة مجازات ، فإنّك إذا قلت : « قام زيد » اقتضى الفعل إفادة الجنس ، وهو يتناول جميع الأفراد فيلزم وجود كلّ فرد من أفراد القيام من زيد وهو معلوم البطلان.

__________________

(١) ضوابط الاصول : ٤٣ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) قوانين الاصول ١ : ٢٩ ( الطبعة الحجرية ).

١٢٠