تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

هذا الاستعمال ، تنزيلا للفاسدة منزلة الصحيحة بنحو من وجوه صحّة التنزيل ، كتنزيل ما هو المعدوم من الأجزاء أو الشرائط منزلة الموجود منها ، كما هو المعهود المشاهد في أنواع المركّبات الكمّيّة بحسب العرف والعادة ، فليس في ذلك مجاز لفظي آخر ، بل إنّما هو المجاز الحاصل بالنسبة إلى الصحيحة.

وقد حصل في الفرض المذكور بعد ما عرفته من التصرّف العقلي ، وهذا في ظاهر النظر بعيد عن ظاهر المحاورة ، كما لا يخفى على المتأمّل ، فالوجه ما ذكرناه.

وربّما يتخيّل أنّ دخول النافين في النزاع لا يلائمه ما عليه المحقّقون من المتأخّرين في ثمرة المسألة ، من ظهورها في البيان الملازم لصحّة التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في مدخليّة شيء جزءا أم شرطا ، والإجمال الملازم لانتفاء الإطلاق.

فإنّ الإطلاق على المجاز ، اللازم على تقدير القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، مع تصرّف الشارع من غير جهة التقييد في المعنى ، كأن يكون المعنى اللغوي جزء من المعنى الشرعي أو مبائنا له ، ممّا لا سبيل إلى التمسّك به.

ويجعل ذلك فرقا بين مقالة القاضي ، الراجعة إلى دعوى التقييد في المعنى اللغوي ولو استلزم مجازا بعلاقة الإطلاق والتقييد ، ومقالة غيره من النافين ، فإنّه على الأوّل يصحّ التمسّك بالإطلاق مطلقا ، والمجاز اللازم من التقييد إن التزم به القاضي لا ينافيه ، لما هو المقرّر في محلّه من أنّه بمنزلة التخصيص في العامّ المخصّص على القول بمجازيّته في الباقي ، فلا ينافي ظهوره في الباقي ، بل الأمر في التقييد أظهر كما لا يخفى ، بخلافه على الثاني ، فإنّ العلاقة على هذا التقدير غير علاقة الإطلاق والتقييد ، كعلاقة الجزء أو الكلّ وغيرها من أنواع العلائق ، فلا يبقى للمطلق ظهور بعد القول بالمجازيّة ـ على هذا الوجه ـ حتّى يعوّل عليه عند الشكّ.

وهذا كما ترى بظاهره ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إلاّ أن يراد بالإطلاق المتمسّك به ما هو ثابت بالقياس إلى المعنى اللغوي ، وهذا الاعتبار ساقط على

٣٠١

قول النافي للحقيقة الشرعيّة ، بل الإطلاق حينئذ على القول بالأعمّ يعتبر بالقياس إلى المعنى الشرعي المحدث ، الّذي هو ماهيّة مبائنة للمعنى اللغوي ، سواء اخذ المعنى اللغوي جزءا منه أو لا.

وطريق التمسّك به حينئذ أن يفرض ذلك المعنى الّذي هو مسمّى اللفظ على وجه الحقيقة عند المتشرّعة ـ على الفرض ـ مرادا للشارع من اللفظ المجرّد عن القرينة المشخّصة للمراد ـ بقاعدة الأقربيّة ـ بعد قيام القرينة الصارفة عن المعنى اللغوي ، ثمّ ينفى احتمال مدخليّة ما يشكّ في مدخليّته جزءا أو شرطا في ذلك المعنى المجازي بالنسبة إلى عرف الشارع بما فيه من الإطلاق ، وهذا النحو من الإطلاق وإن كان لا يساعد عليه أكثر كلماتهم في باب المطلق والمقيّد ، لظهورها في فرضه بالقياس إلى الألفاظ الموضوعة بإزاء الماهيّات المعرّاة عن القيود والشروط ، ولكنّه يساعد عليه ما هو مناط ظهور المطلقات في الإطلاق ، فإنّه ليس ظهورا وضعيّا ، وإلاّ لم يبق فرق بينها وبين العمومات الّتي ظهورها في العموم إنّما هو باعتبار الوضع ، وهو خلاف ما هو المصرّح به في كلامهم ، بل هو ظهور مستند إلى حال المتكلّم باعتبار سكوته في معرض البيان عن ذكر القيد ، المخرج للماهيّة عن كونها لا بشرط شيء ، فيحمل كلامه على إرادة الإطلاق صونا له عن الإغراء بالجهل المنافي للحكمة.

وهذا كما ترى ممّا لا يتفاوت فيه الحال بين كون الماهيّة المعرّاة عن الشروط بالقياس إلى اللفظ الصادر من المتكلّم بدون ذكر القيد معه معنى حقيقيّا له أو غيره ، فالتمسّك بالإطلاق متّجه على التقديرين.

غاية الأمر ، إنّه على تقدير المجازيّة يجب مراعاة القرينة الصارفة عن الحقيقة مع ما يعيّن المراد من المعاني المجازيّة ، ولو كان نحو قاعدة الأقربيّة.

فإنّ كلّ معنى مجازي بالنسبة إلى ما زاد عليه من الامور الوجوديّة أو العدميّة ماهيّة مطلقة ، ملحوظة لا بشرط شيء من هذه الامور.

فإذا قامت القرينة الصارفة مع ما يعيّن المراد اتّجه التمسّك بالإطلاق عند الشكّ في اعتبار أمر زائد بعين المناط المذكور.

٣٠٢

ألا ترى إنّه لو قيل : « إئتني بأسد يرمي » لا مانع من التمسّك بالإطلاق لو شكّ في اعتبار ما زاد على ماهيّة الشجاع ، من وصف العالميّة أو العدالة أو غيرهما ، بل هو المتداول في العرف والعادة ، وعليه طريقة العلماء في مظانّ الاستنباط.

ثمّ إنّ الّذي يساعد عليه النظر عدم جريان النزاع على ما نسب إلى الباقلاني من كون الألفاظ الشرعيّة مبقاة على معانيها الأصليّة اللغويّة ، سواء فرض النزاع بالنسبة إلى الصحّة والعموم في مقام الاختراع أو في مقام التسمية والاستعمال ، فإنّ الباقلاني على ما اتّضح في المسألة السابقة بإنكاره التسمية والاستعمال في غير المعاني الأصليّة ينكر أصل الاختراع أيضا ، فهو منكر لكلا المقامين ، ومعه كيف يصحّ دخوله في النزاع المنعقد على أحدهما.

نعم لو تنزّل عن مرتبته وغضّ البصر عن مقالته ، أمكن دخوله في النزاع بفرضه صحّة مقالة مخالفيه ، لكنّه ليس من الدخول فيه على ما نسب إليه من المقالة. والكلام على هذا التقدير لا غير.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بجواز دخوله بضرب من التوجيه ، على كلّ من فرضي انعقاد النزاع في مقام الاختراع أو في مقام التسمية والاستعمال.

أمّا على الأوّل : فلأنّ عدم الدخول إنّما يتّجه لو أخذ الاختراع الّذي ينكره بمعناه الظاهر ، وهو إحداث ماهيّة اخرى مغايرة لماهيّة المعنى اللغوي ، سواء اخذ المعنى اللغوي فيها أو لا.

وأمّا إذا اخذ بالمعنى المتناول لما يسلّمه من تقييد المعنى اللغوي بما ثبت له من القيود والزوائد ، فإنّه أيضا نحو اختراع وإن كان لا ينصرف إليه إطلاقه ، فدعوى عدم الدخول غير متّجهة ، ضرورة إنّ الماهيّة إذا اخذت مقيّدة بجميع ما اعتبر من الزوائد كانت صحيحة ، وإذا اخذت مجرّدة أو مقيّدة لا بجميع ما اعتبر معها من الزوائد كانت فاسدة من حيث التقييد وورود القيود بها ، وإن كانت صحيحة من حيث نفسها ، إذ الصحّة من حيث نفسها لا تنافي الفساد من حيث اعتبرت مقيّدة.

٣٠٣

وأمّا على الثاني : فلأنّه إنّما لا يدخل في النزاع إذا اريد بالتسمية والاستعمال ما يدّعيه مخالفوه من مثبتي الحقيقة الشرعيّة ونافوها.

وأمّا إذا اريد بها ما يعمّ التسمية الّتي يسلّمها من تقييد المعنى اللغوي المستتبع للتجوّز في اللفظ ، بدخول الخصوصيّة في المستعمل فيه ـ على ما تقدّم جوازه على مقالته ـ فلا مانع من دخوله في النزاع ، ولو بإرجاعه بالنسبة إليه إلى تعيين أقرب المجازات إلى المعنى اللغوي المعرّى عن جميع القيود ، بناء على تعدّدها بهذا الاعتبار ، فإنّ الخصوصيّة الداخلة في المستعمل فيه لها باعتبار تكثّر القيود اللاحقة بالمعنى اللغوي مراتب متكثّرة ، فيتكثّر من جهتها المجازات ، منها ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، ومنها ما دخل فيه الخصوصيّة ببعض مراتبها بجميع فروضه المتصوّرة ، بعدم انضمام بعض القيود وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا وهكذا إلى أن لا ينضمّ إليه إلاّ قيد واحد ، فيصحّ أن ينازع حينئذ في أنّ أقرب المجازات هل هو ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها وهو الصحيحة ، أو ما دخل فيه الخصوصيّة في الجملة ، ولو ببعض مراتبها.

لكن يدفعه : منع جدوى التوجيه المذكور للاختراع والتسمية ، في جريان النزاع على هذه المقالة.

أمّا على توجيه الاختراع ، فلأنّ المخترع إمّا أن يعتبر بلحاظ الاختراع فلا يوصف إلاّ بالصحّة ، إذ لا معنى لاختراعه إلاّ تقييده بجميع ما قيّد به ، ولا صحيح له إلاّ ما لحقه هذا المقدار من التقييد ، فلا يعقل له بهذا الاعتبار فساد ، لينظر من جهته في صحّته وعمومه باعتبار هذا اللحاظ ، أو يعتبر بلحاظات اخر فهو قابل لأن يتّصف بكلّ من الصحّة والفساد ، وإنّما يختلف الحال باعتبار المعتبر ، فليس قابلا لأن ينازع في صحّته وعمومه ، فإنّه إن اخذ بجميع تقييداته صحيح ، وإن أخذ ببعض تقييداته فاسد.

وأمّا على توجيه التسمية ، فلأنّ الأقربيّة الّتي ينازع في تعيين محلّها ، إمّا أن يراد بها ما لحق المعنى المستعمل فيه لنفسه ، أو ما لحقه باعتبار الاستعمال ، على

٣٠٤

معنى كونه في متفاهم العرف بحيث ينساق عند قيام القرينة الصارفة إلى الذهن عمّا بين مجازات اللفظ ، ولا يكون كذلك إلاّ بغلبة الاستعمال فيه.

وبعبارة اخرى : إنّ الأقربيّة ، إمّا أن يراد بها الاعتباريّة ، أو يراد بها العرفيّة ، فهي على الأوّل ـ مع عدم اعتبارها في مقام الحمل ـ غير قابلة لأن ينازع في تعيين محلّها ، فإنّ الأقرب والأبعد بهذا التقدير متمايزان لأنفسهما ، بل تمائزهما في نظر الوجدان من القضايا الّتي قياساتها معها ، إذ المعنيان إن كانا من المفاهيم البسيطة بحسب الخارج فالأقرب إلى الحقيقة ما يشاركها في الجنس القريب أو في الفصل القريب ، والأبعد إليه ما يشاركه في الجنس البعيد أو الفصل البعيد ، وإن كانا من المفاهيم المركّبة الخارجيّة ـ على معنى كون المعنى الحقيقي ماهيّة مركّبة ، والمعنى المجازي ما نقص منها ببعض الأجزاء ـ فالأقرب إليه ما قلّ نقصه والأبعد إليه ما كثر نقصه ، وإن كان المعنى الحقيقي ماهيّة بسيطة والمعنى المجازي هذه الماهيّة مقيّدة ، فالأقرب إليه حينئذ ما قلّ قيده والأبعد إليه ما كثر قيده ، ضرورة إنّ اللفظ كلّما ازداد في معناه المراد منه قيد ازداد ذلك بعدا عن معناه اللغوي المعرّى عن جميع القيود ، بل المصير إلى الصحيحة حينئذ تعويلا على أنّها أقرب المجازات ، كما ترى بل قضيّة هذه الأقربيّة هو المصير إلى الفاسدة.

وعلى الثاني لا يكون الحاجة على هذه المقالة ماسّة إلى الخوض في هذا النزاع ، قصدا إلى تعيين الأقرب وتمييزه عن الأبعد ، فإنّ هذا البحث لكونه من المبادئ اللغويّة إنّما يقصد به إحراز ما هو من موضوع مسألة اصوليّة هي إمّا مسألة البراءة والاشتغال بناء ، على أنّ الأعمّي يلزمه البناء فيما يشكّ في مدخليّته على البراءة ، لالتزامه بما هو من موضوعه ، والصحيحي يلزمه البناء على الاشتغال لالتزامه بما هو من موضوعه ، على ما هو المعروف في ثمرة المسألة.

أو مسألة البيان والإجمال ، بناء على أنّ الأعمّي يلزمه إجراء أحكام المبيّن في الألفاظ الشرعيّة ، لالتزامه فيها بالبيان من جهة الإطلاق ، فينهض له ذلك الإطلاق نافيا لاعتبار ما يشكّ في اعتباره ، والصحيحي يلزمه إجراء أحكام

٣٠٥

الإجمال عليها ، الّتي منها الوقف بالنظر إلى الواقع ، ومراجعة الاصول من جهة العمل ، على ما جزم به جماعة من المتأخّرين ولا سيّما المعاصرين ، وأيّا ما كان ، فلا سبيل على هذه المقالة إلى النظر في الصحّة والعموم لمراعاة هذا الغرض.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الأخذ بأصلي البراءة والاشتغال إنّما يتّجه حيث لم ينهض من الوجوه الاجتهاديّة ما ينفى مدخليّة ما احتمل مدخليّته في العبادة من عموم أو إطلاق أو نصّ ، وإطلاق هذه الألفاظ بالقياس إلى معانيها اللغويّة ـ المعلومة بالفرض على هذه المقالة ـ ينهض حجّة على النفي ، لرجوع احتمال المدخليّة إلى احتمال التقييد ، ومعه لا مجرى لشيء من الأصلين ، ولو اتّفق عليها إجمال في اللفظ من جهة اخرى ، كعدم معلوميّة المعنى اللغوي ونحوه من أسباب الإجمال فهو إجمال لا مدخل له في القول بالصحيحة ، حتّى يقال : بإمكان أن يحصل لهذا القائل من الإجمال ما يقضي بمراجعة الاصول كما في الصورة المفروضة ، فلا تكون الفائدة المذكورة مخصوصة بغيره من أصحاب القولين ، فإنّ نحو هذا الإجمال كثيرا مّا يتّفق للأعمّي من أصحاب القولين وإن كان قائلا بالحقيقة الشرعيّة فيضطرّ إلى مراجعة الاصول ، كما لو شكّ في مدخليّة ما يسري شكّه إلى صدق الاسم وتحقّق الماهيّة.

وبالجملة : ما يلزم هذا القائل من إطلاق اللفظ بالنظر إلى المعنى اللغوي رافع لموضوع الأصلين ، ومعه لا يعقل منه الدخول في النزاع إحرازا لموضوع أحد الأصلين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الدخول في النزاع لإحراز موضوع مسألتي البيان والإجمال ، إنّما يتّجه حيث تردّد اللفظ من أوّل الأمر بين حالتين ، إحداهما مقتضية للبيان والاخرى مقتضية للإجمال ، كما هو كذلك على مذهب غير هذا القائل ، لتردّد اللفظ في نظره بين حالتي كونه اسما للأعمّ وكونه اسما للصحيحة ، وليس كذلك على مذهب هذا القائل ، لكون اللفظ عنده بالنظر إلى المعنى اللغوي من قبيل المبيّن ، لنهوض الإطلاق بالنسبة إليه بيانا لعدم إرادة المقيّد من لفظ المطلق ، بالنسبة إلى ما احتمل كونه قيدا.

٣٠٦

وتوهّم : أنّ الإطلاق إنّما ينهض حجّة على نفي التقييد حيث لم يتضمّن التقييد تجوّزا في اللفظ باعتبار دخول الخصوصيّة في المستعمل فيه ، وأمّا معه كما عليه مبني التوجيه المذكور فلا ، خصوصا بعد ما تطرّق إليه التجوّز بما لحقه من التقييد بواسطة قيام الدلالة عليه ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، فإنّ طروّ التجوّز للمطلق بواسطة دخول خصوصيّة في معناه المستعمل فيه لا ينافي ظهوره في الإطلاق ، ولا يمنع عن التمسّك بإطلاقه بالنسبة إلى خصوصيّة اخرى لم يقض الدليل بدخولها في المستعمل فيه ، فإنّ الماهيّة المطلقة إنّما تخرج عن إطلاقها بالنظر إلى ما لحقها من القيد.

وأمّا بالنظر إلى قيود اخر مضافة إليها ممّا لم يقم دليل على لحوقها بها ، فهي بعد على إطلاقها ، ولا يرفعه مجرّد طروّ التجوّز للّفظ ، كيف والمطلق المقيّد لا يقصر عن العامّ المخصّص ، الّذي هو على ما هو محقّق في محلّه ظاهر في الباقي ، مع كونه مجازا بورود التخصيص عليه ، وكما أنّه لا ينافي ظهوره في الباقي ولا يمنع عن التمسّك بهذا الظهور ، فكذلك المطلق بل هو فيه أولى بذلك ، لعدم استناد إطلاقه إلى الوضع ليزول أثره بطروّ التجوّز كما في العامّ المخصّص ، بل ظهور من حال المتكلّم وحكمته ، حيث سكت في معرض البيان عن ذكر القيد ، وإيراد ما يقيّد الماهيّة ، فاللفظ حينئذ مبيّن من ابتداء الأمر باعتبار أصله ، لا أنّه مردّد بين البيان والإجمال ، ليوجب الحاجة إلى النظر فيما يحرز له أحد الأمرين.

لا يقال : نهوض الإطلاق بيانا لعدم التقييد ـ حيث لم يساعد على خلافه الدليل ـ لا ينافي الاحتياج إلى النظر في تعيين أقرب المجازات ، الحاصلة عن دخول الخصوصيّة بمراتبها في المستعمل فيه ، بعد ملاحظة تردّد الأقربيّة في النظر بين كونها في جانب ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، أو في جانب ما دخلت فيه في الجملة ، وأنّها على تقدير حصولها مع الأوّل تنهض بيانا للتقييد والتجوّز ، وإرادة ما هو أخصّ أفراد ماهيّة المعنى اللغوي ، وحاكما على إطلاق اللفظ ـ بل واردا عليه ـ كما أنّ النافي للحقيقة الشرعيّة يحتاج إليه لتعيين الأقرب ،

٣٠٧

المعلوم إجمالا المردّد بين كونه الصحيحة بالخصوص ، ليلزم منه عدم جواز التمسّك بالإطلاق من جهة الإجمال ، أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ليلزم منه نهوض الإطلاق بيانا.

غاية الأمر كون المانع عن التمسّك هنا على التقدير الأوّل ، هو الإجمال الطارئ عن عدم معلوميّة المسمّى ، وثمّة على التقدير الأوّل أيضا ، نهوض الأقربيّة المفروضة بيانا لخلاف ما كان يساعد عليه الإطلاق لولاها.

لأنّا نقول : بوضوح الفرق بين المقامين ، وبطلان المقايسة المتوهّمة بين الفريقين ، فإنّ النافي للحقيقة الشرعيّة إنّما يضطرّ إلى النظر في هذه المسألة إحرازا لما هو طريق عمله من الإطلاق أو الاصول العمليّة ، فإنّه لعلمه الإجمالي بأنّ هناك أقرب إلى الحقيقة من المجازات ـ وهو مردّد بين الصحيحة والأعمّ ـ ليس له قبل النظر في تعيينه مرجع يرجع إليه ، من وجه اجتهادي ولا أصل عملي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا يحرز إلاّ بالبناء على الأعمّ.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا يعوّل عليه إلاّ بعد اليأس عن الوجوه الاجتهاديّة ، الّذي كان يحصل بالبناء على الصحيحة.

وبعبارة اخرى : أنّه لا بدّ له إمّا من البناء على البيان ، ولا مقتضى له إلاّ الإطلاق الّذي لا يحرز إلاّ بثبوت الأعمّ ، أو على أصل عملي من البراءة أو الاشتغال ، وهو مشروط بفقد الوجوه الاجتهاديّة ، ولا يحرز إلاّ بثبوت الصحيحة ، فليس له الالتزام بأحد الأمرين قبل النظر.

أمّا الأوّل : فلعدم كون مقتضيه محرزا.

وأمّا الثاني : فلعدم كون شرطه محرزا وبدونه لم يحرز له شيء من الأمرين ، فليس له الرجوع إلى شيء من الطريقين ، بخلاف غيره ممّن يقول بمقالة الباقلاني ، فإنّه لوجود المقتضي للبيان ـ وهو الإطلاق ـ في فسحة من ذلك.

غاية الأمر أنّه لو علم بالأقربيّة ، وكونها مع ما دخل فيه الخصوصيّة بجميع مراتبها ، سقط اعتبار الإطلاق.

٣٠٨

وأمّا إذا شكّ في وجودها وفي محلّها على تقدير الوجود ، أو علم بوجودها مع الشكّ في محلّها ، فالإطلاق على حاله.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأقربيّة المردّدة في نحو المقام لا يوجب إلاّ حدوث احتمال التقييد بغير ما ساعد الدليل على التقييد به ، وهو كما ترى احتمال مانع لا يصلح رافعا لحكم المقتضى.

وتوهّم : أنّ الأقربيّة على هذا التقدير نظير ما لو ورد مع مطلق ما يتردّد بين كونه تقييدا له أو تأكيدا لإطلاقه ، فيدور الأمر بين التأكيد والتأسيس ، الّذي هو أولى من التأكيد ـ على تقدير تسليم كبراه ثمّ تسليم صغراه ـ لا ينافي ما ذكرناه ، بل يؤكّده لأنّ هذه القاعدة حينئذ تنهض مرجعا لتعيين الأقرب ، وتمييزه عن الأبعد ، ولا حاجة معها إلى الخوض في هذه المسألة ، والدخول في هذا النزاع.

وبجميع ما ذكر يعلم أنّه لا مجال لأحد أن يقول : بأنّ هذا كلّه إنّما يتمّ إذا كانت التسمية الّتي ينكرها الباقلاني ما يعمّ عرف المتشرّعة أيضا ، وإلاّ فعلى تقدير تسليمه التسمية بحسب هذا العرف أمكن له النزاع ، لما تقدّم من أنّه مفروض في عرف المتشرّعة ، بناء على أنّه طريق ينكشف به حال عرف الشارع ، وذلك لأنّ الغرض من الخوض في هذا النزاع إن كان إحراز ما هو من موضوعي أصلي البراءة والاشتغال ، فهو بالنسبة إلى خطاب الشرع في غناء عن ذلك ، لنهوض الإطلاق بالنسبة إلى هذا الخطاب وجها اجتهاديّا رافعا لموضوعي الأصلين ، وإن كان إحراز ما هو من موضوع البيان والإجمال ، فهو فرع على دوران الألفاظ من ابتداء الأمر بين حالتين تقتضي إحداهما البيان واخراهما الإجمال ، وهي عنده بحسب خطاب الشرع وعرف الشارع مبيّنات في معانيها اللغويّة ، لما فيها من الإطلاق السليم عن مزاحمة الغير ، حسبما فصّلناه.

نعم لو اكتفى في الخوض في المسألة بمجرّد الثمرة العمليّة ، أمكن ما ذكر على التقدير المذكور ، إلاّ أنّه في نحو المقام بعيد.

٣٠٩

ثمّ لا يذهب عليك ، إنّه لا اختصاص للبحث المذكور المفروض على مقالة الباقلاني من البداية إلى تلك النهاية بالباقلاني ، بل يجري على طريقة غيره أيضا في غير الألفاظ من العبادات الّتي هي محلّ النزاع بينه وبين غيره ، من الألفاظ الواقعة على جملة من العبادات الّتي ليست من الماهيّات المخترعة الشرعيّة ، بل هي بمعانيها اللغويّة وردت في حيّز الأمر العبادي ، كالطواف وركوع الصلاة وسجودها في وجه ، وسجود الشكر والزيارة وقراءة القرآن ، ونحو ذلك ممّا تقدّم في المسألة السابقة لحوقه بألفاظ المعاملات ، في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة فيها ، فإنّ نزاع الصحيح والأعمّ لا يجري في هذا النحو من الألفاظ جدّا ، وينهض ما فيها من الإطلاق حجّة لنفي كلّ ما احتمل مدخليّته في الصحّة.

ويظهر أثره في سجود الشكر مثلا ، لو شكّ بعد اشتراط صحّته بالقربة في اعتبار الطهارة أو القبلة أو وضع الجبهة على ما لا يصحّ السجود في الصلاة إلاّ عليه ، وفي الزيارة لو شكّ بعد مساعدة الدليل على اعتبار القربة في مدخليّة غيرها ، كالطهارة أو الاغتسال أو استعمال الطيب أو نحو ذلك في الصحّة ، وفي قراءة القرآن لو شكّ ـ بعد ما ساعد الدليل على اعتبار القربة ـ في اشتراط الصحّة بالطهارة أو الجهر ، أو عدم الغناء فيها بناء على احتمال كونه مانعا.

المقدّمة الثانية : قضيّة ما قرّرناه في وجه إخراج ألفاظ العبادات عن النزاع على مقالة القاضي ، عدم جريان النزاع في ألفاظ المعاملات مطلقا ، فإنّ هذا النزاع إذا كان متفرّعا على أحد الأمرين من الاختراع الشرعي أو التسمية الشرعيّة فكيف يندرج فيه ما انتفى عنه الأمران معا ، على التحقيق المتقدّم في المسألة السابقة ، من عدم اختصاص تداول هذه المعاملات وإطلاق ألفاظها عليها بأهل هذا الشرع ، وثبوتهما في الشرائع الاخر ، بل عند من لم يعرف الشرائع أصلا ، من منكرى الصانع وغيرهم ، كيف لا وعليها مبنى نظام العالم ، وبها ينتظم امور معاش بني آدم ، فهي إنّما يثبت من قديم الأيّام من لدن بناء اللغة وحدوثها ، فتكون من الألفاظ الأصليّة الّتي وقوعها على معانيها إنّما هو بمقتضى أوضاعها اللغويّة.

٣١٠

وممّا يفصح عن ذلك أيضا ما في كلامهم من التصريح بالفرق بينها وبين العبادات ، من كون العبادات توقيفيّة متوقّفة على بيان الشارع ، فلا يصحّ فيها مراجعة عرف ولا لغة ، بخلاف المعاملات ، ولعلّهم مطبقون على ذلك ، بل هو كذلك كما يكشف عنه سيرتهم وإجماعهم العملي ، حيث إنّهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة لا يزالون في تصحيح معاملة من المعاملات في جميع أبوابها المنضبطة في الكتب الفقهيّة يتمسّكون بالعمومات أو الإطلاقات الواردة فيها ، أجناسا وأنواعا وأصنافا ، كتابا وسنّة من غير نكير ، مع ابتنائه في الكلّ لإحراز الموضوع على اعتبار صدق الاسم وتحقّق الماهيّة بمراجعة العرف مطلقا ، ولا يستقيم شيء من ذلك إلاّ بعزل الشارع عن التصرّف فيها اختراعا وتسمية ، ولا ينافيه ما تحقّق منه فيها من إمضائه إيّاها في بعض مصاديقها باعتبار شروط دون اخر ، لرجوعه إلى التخصيص في المعنى اللغوي العامّ ، وإخراج فاقد الشروط عنه إخراجا حكميّا لا موضوعيّا كما لا يخفى.

وأيضا فإنّ عقد هذا البحث إن كان لإحراز موضوعي البراءة والاشتغال فالمعاملات بمعزل عن ذلك ، لاختصاص جريان الأصلين بموارد التكليف ، وهي الّتي مبنى مشروعيّتها على الأمر الإلزامي ، وإن كان لإحراز موضوعي البيان والإجمال ، فيلزم على القول بالصحيحة فيها كونها مجملة متوقّفة على بيان الشارع وقد اتّضح بطلانه.

وقد يستشمّ عن بعض العبارات جريان النزاع فيها أيضا ، بل جزم به بعض الأعلام (١) مستظهرا له من عبارات جماعة من أساطين فقهائنا ، كالمحقّق في الشرائع وأوّل الشهيدين في القواعد ، وثانيهما في المسالك.

قال في القواعد : الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم

__________________

(١) القوانين ١ : ٥٢ حيث قال : إنّ الخلاف في كون الألفاظ أسامي للصحيحة أو الأعمّ لا يختصّ بمثل الصلاة والصوم بل تجري في سائر العقود أيضا.

٣١١

اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، ويحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما (١).

وأمّا لو تحزّم في الصلاة ، أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث ، قال ـ في كتاب الإيمان من الشرائع ـ : إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد ، ولا يبرأ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ ، وكذا غيره من العقود (٢).

ويقرب منه ما عن قواعد العلاّمة قائلا : المطلب الرابع في العقد ، وإطلاقه ينصرف إلى الصحيح (٣).

قال في المسالك : عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد ، لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما ، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم : « باع فلان داره » وغيره ، ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه ، حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع إجماعا ، وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه ، ولو كان مشتركا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره بأحدهما ، كغيره من الألفاظ المشتركة ، وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة.

والجزم بما ذكر كما عرفته ضعيف ، وأضعف منه استظهاره عن عبارة القواعد ، إذ لو اريد استظهاره من موضوع هذه العبارة وهو الماهيّات الجعليّة ، فلا يتمّ إلاّ على تقدير عطف سائر العقود على سابقه ، ليكون قسما من الماهيّات الجعليّة وهو في حيّز المنع ، لقوّة احتمال العطف على الماهيّات فيكون سائر العقود قسيمة لها ، وليس إلاّ لعدم كونها من جعليّات الشارع فلا تندرج في ما انعقد في الجعليّات ، ولو اريد استظهاره من محمولها وهو لا تطلق على الفاسدة ، فهو لا يدلّ على مصيره فيها إلى القول بالصحيحة ، فضلا عن دلالته على اعتقاد جريان النزاع فيها ، لما فيه من احتمالات أربع ، رابعها : كون المراد بما نفاه من الإطلاق على الفاسدة ما يجري على لسان المتشرّعة في مواضع مخصوصة ، كموضع الإقرار والنذر

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ قاعدة ٤٢ فائدة ٢.

(٢) شرائع الإسلام ٦ : ٤٤.

(٣) انظر ـ إيضاح القواعد ـ ٤ : ٢٥.

٣١٢

وشبهه ونحوهما ، على معنى عدم الإطلاق ـ بموجب الانصراف ـ إلى إرادة الصحيحة ، ولو بمعونة قرائن المقام وشواهد الحال ، وهذا أظهر الاحتمالات بقرينة التفريع ، إذ لولاه لم يرتبط الفرع على ما فرّع عليه من إرادة الإطلاق في لسان الشارع وخطابه جنسا أو نوعا أو صنفا ، أعني الإطلاق بالمعنى الأعمّ حتّى ما يكون على وجه المجاز ، أو الإطلاق على وجه الحقيقة خاصّة ، أو الإطلاق في حيّز الأوامر والطلبات ، مع ما فيها من وجوه الفساد الّتي ستقف عليها عند نقل أقوال المسألة.

ولا يخفى إنّه على هذا الاحتمال بل على احتمال إرادة صنف الإطلاق في كلام الشارع لا يدلّ على شيء ممّا ذكر ، وعبارة الشرائع كعبارة قواعد العلاّمة أولى بعدم الدلالة جدّا.

نعم إنّما المعضل عبارة المسالك ، فإنّ دلالته على تحقّق النزاع فيها واضحة ، وإنكارها خروج عن الإنصاف ، كما يظهر وجهها بأدنى تأمّل ، إلاّ أنّه ربّما يذكر في المقام وجه لو تمّ لكان مخرجا لها عن الدلالة ، كما صنعه بعض الأفاضل ، فإنّه ـ بعد ما استشكل فيها على ما هو مفادها من اختيار القول بالصحيحة في ألفاظ المعاملات بما ملخّصه : إنّه يلزم على ما اختاره من الصحّة في ألفاظ المعاملات كونها كألفاظ العبادات مجملة متوقّفة على بيان الشارع ، فلا يصحّ الرجوع إلى الإطلاقات العرفيّة والأوضاع اللغويّة ، وليس الموضوع له بحسب اللغة أو العرف خصوص الصحيحة الشرعيّة ، لوضوح المغايرة بين الأمرين ، مع أنّ صحّة الرجوع فيها إلى العرف واللغة ممّا اطبقت عليه الامّة ، ولا خلاف فيه ظاهرا بين الخاصّة والعامّة.

فقضيّة ذلك حملها على ما يعمّ الصحيح الشرعي وغيره ـ ذكر في إصلاحه ما يرجع محصّله ـ إلى : أنّ معنى وضع ألفاظ المعاملات للصحيح : إنّ المعنى العرفي هو الصحيح لا إنّ الصحيح الشرعي هو الموضوع له ، ليلزم منه الإجمال الموجب لتوقّف استعلامها على بيان الشارع ، ولا ينافيه إطلاقها عرفا على

٣١٣

الفاسدة في بعض الأحيان ، لكونه لضرب من المجاز من باب المشاكلة في الصورة ، فلا اختلاف بين الشرع والعرف في أصل المعنى والمفهوم.

نعم ربّما يزعم العرف صدق هذا المفهوم على ما ليس من مصاديقه بحسب الواقع ، باعتبار كشف الشارع عنه حيث حكم عليه بالفساد ، فالاختلاف إنّما هو في المصداق الشرعي والمصداق العرفي بعد الاتّفاق على نفس المعنى والمفهوم.

وحينئذ فإذا ورد أمر من الشارع بإمضاء معاملة من تلك المعاملات على وجه الإطلاق ، يحكم بمشروعيّة مورد الشكّ تعويلا على الإطلاق ، المتوقّف انعقاده على اعتبار صدق الاسم وتحقّق الماهيّة بمراجعة العرف. انتهى ملخّصا (١).

وقضيّة التوجيه أن يكون إمضاءات الشارع في هذه المعاملات من باب بيان المسمّى ، فيكون عدم إمضائه ما لم يمضه منها من باب الإخراج الموضوعي لا الإخراج عن الحكم ، بل التنبيه على خروجه عن الموضوع الّذي هو أصل المفهوم الّذي وضع له اللفظ.

وكيف كان : فهذا الوجه إن تمّ لقضى باندفاع ما أورد عليه من إشكال الإجمال ، وسقط من جهته عن الدلالة المذكورة ، حيث إنّ الصحّة المأخوذة في عقد المسألة هي الصحّة الشرعيّة ، التابعة للاختراع والتسمية الشرعيّين.

لكن يشكل ذلك ، أوّلا : بعدم انطباقه على كلام الشهيد بظاهره ، فإنّ المعاملة باعتبار المصداق قد تكون فاسدة بحسب نظر العرف والشارع ، كعقد الهاذل أو المجنون أو النائم بل الصبّي أيضا.

وقد تكون صحيحة بحسب نظرهما معا ، وقد تكون صحيحة بحسب نظر العرف فاسدة بحسب نظر الشارع ، كبيع الخمر ، وبيع الصرف من دون القبض في المجلس ، والبيع الربوي ونحو ذلك.

ولا ريب إنّ مطرح كلام الشهيد وخصمه المخالف له في القول بكون لفظ « البيع » ونحوه حقيقة في الفاسدة باعتبار كونه اسما للأعمّ لا ينبغي أن يكون

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١١٥ ( الطبعة الحجرية ).

٣١٤

هو القسم الأوّل ، فإنّه ممّا لم يقل فيه أحد بصدق الاسم عليه على وجه الحقيقة ، ولو على القول بالأعمّ وورود الإطلاق عليه إنّما هو باعتبار المشاكلة لا غير ، فتعيّن كون مطرح كلامهما الّذي فرضه محلاّ للخلاف هو القسم الثالث ، فإذا كان الفاسد الّذي هو حكم عليه الشهيد بكون اللفظ مجازا فيه هو الفاسد الشرعي ويقابله الصحيح الشرعي ، فيكون هو المحكوم عليه بكون اللفظ حقيقة فيه.

وثانيا : إنّ الاختلاف في المصداق إن كان لشبهة في وصف موضوع القضيّة على معنى رجوع الاختلاف إلى الموضوع ، فهو ممّا لا يكاد يتحقّق فيما بين العرف والشارع ، فإنّ ما لم يمضه الشارع من المعاملة بكشفه عن فساده لا يرجع إلى بيان الموضوع الخارجي ، كما لو وقع معاملة بين شخصين مجهول حالهما باعتبار كونهما كاملين أو ناقصين مع إحراز كون البيع ما اخذ في مسمّاه كون المعاملة واقعة بين كاملين ، فحكم فيها العرف بالصحّة والشرع بالفساد.

وبالجملة : هذا النحو من الاختلاف وإن كان لا ينافي الاتّفاق على أصل المعنى والمفهوم ، إلاّ أنّ الاختلافات الواقعة بين العرف والشارع ليست من هذا الباب.

وإن كان لشبهة في وصف المحمول فهو لا محالة ينافي الاتّفاق على أصل المعنى والمفهوم ، لرجوعه بالأخرة إلى الاختلاف في أصل المعنى والمفهوم ، كما لو وقعت المعاملة المفروضة بين ناقصين ، فحصل الاختلاف بحكم العرف بالصحّة بزعم أنّه لم يؤخذ في وضع اللفظ كون المعاملة صادرة من الكاملين ، والشارع بالفساد ، بناء منه على أخذ ذلك في وضعه لها.

وهذا كما ترى عين الاختلاف في أصل المسمّى ، فكيف يقال بأنّه اختلاف في المصداق يحصل بينهما بعد الاتّفاق على المعنى والمفهوم ، وحينئذ فالقائل بالصحيحة لا يجوز له جعل الاسم للصحيح العرفي ، لرجوعه إلى طرح الشرع ورفع اليد عن بيانات الشارع ، فتعيّن أن يكون مراد الشهيد بالصحيح فيما ادّعاه هو الصحيح الشرعي المقابل للعرفي ، فإذا بطل الوجوه المذكورة بقي كلام الشهيد

٣١٥

على دلالته ، وحينئذ فيكفي في ردّه ما قدّمناه في وجه الخروج من عدم مساعدة المبتنى عليه المسألة ، ولا الغرض المقصود من عقدها على الدخول ، فلا نعيد.

ثمّ إنّ معنى قولنا : « إنّ النزاع غير جار في ألفاظ المعاملات » إنّها بحسب اللغة والعرف الكاشف عنها أسام للأعمّ ، لعدم صحّة السلب عن الفاسدة ، ومساعدة إطلاقات العرف ، ولذا لا يقال ـ في ردّ من ادّعى بيع داره مثلا على وجه الفساد ـ : إنّك ما بعتها ، أو إنّ ما أوقعته ليس بيعا ، بل يقال : إنّه ليس بصحيح ، أو غير مفيد ، وما يوجد في بعض الأحيان من سلب الاسم عن الفاسدة فهو ليس على حقيقته ، بل هو صوري يراد به المبالغة في نفي الآثار ، على قياس ما يراد بقولهم : « البليد ليس بإنسان » حيث يرد مبالغة لنفي آثار الانسانيّة.

فدعوى : وضعها لخصوص الصحيحة أو ما أمضاه الشارع ممّا لا يصغى إليه ، ومبادرة المعنى في نحو مقام الإقرار وغيره انصراف من قرائن الحال ، أو ما ارتكز في الأذهان من لزوم حمل الفعل أو القول الصادرين عن المسلم أو غيره في الجملة على الصحّة ، وعدم سماع دعوى إرادة الفاسدة إنّما لأجل هذا الانصراف ، وإنّما يسمع التفسير في موضع الإجمال كالاشتراك اللفظي وما بحكمه ، فلا يندرج فيه نحو الاشتراك المعنوي خصوصا بعد ظهوره في إرادة الفرد ولو بمعونة المقام وغيره.

هذا كلّه مع ما يرد عليه من رجوعه على التحقيق إلى أحد المحذورين ، من الاستغناء عن العرف بالشرع ، أو عن الشرع بالعرف ، واللازم بكلا قسميه باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ كلّ واقعة من العبادات والمعاملات يبحث عنها الفقهاء فمرجع البحث فيها إلى إحراز حكم اقتضائي أو وضعي وهو الصحّة لموضوع محرز ، فلا ينعقد ذلك البحث مسألة إلاّ بإحراز الحكم بعد الفراغ عن إحراز موضوعه من عبادة أو معاملة ، إلاّ أنّهم فرّقوا في ذلك بين العبادات والمعاملات بالتزام إحراز الاولى موضوعا وحكما بمراجعة الشارع ، وإحراز الثانية موضوعا بمراجعة العرف وحكما بمراجعة الشارع ، وهذا معنى ما يقال من : « إنّ الأحكام

٣١٦

بأسرها توقيفيّة فلا تتلقّى إلاّ من الشارع بخلاف الموضوعات ، فإنّ التوقيفيّة منها إنّما هي العبادات ».

والسرّ فيه : إنّ مخترع كلّ مخترع لا يؤخذ إلاّ من مخترعه ، ولا يعرف إلاّ بيانه ، والمعاملات ليست من مخترعات الشارع لئلاّ تؤخذ كالعبادات إلاّ منه.

وحينئذ فالصحيح المأخوذة في مسمّى ألفاظ المعاملات إن اريد به ما يكون صحيحا بحسب نظر الشارع بجعل منه أو كشف عن الواقع يلزم أوّل الأمرين ، لكون الحال في المعاملات على هذا التقدير على قياس ما هو الحال في العبادات فلا يعرّفها إلاّ الشارع ، ولا يستعلم إلاّ منه.

وإن اريد به ما يكون كذلك بحسب نظر العرف بجعل منهم أو كشف عن الواقع يلزم ثانيهما ، لكون مسمّى اللفظ حينئذ ملزوما للصحّة بالملازمة الثابتة بينهما بفرض التسمية لأحدهما في نظر العرف ، فلا يحتاج في إحراز الصحّة إلى ملاحظة واسطة اخرى من خطابات الشارع وبياناته ، وأمّا بطلان اللازم بقسميه فلمخالفته الفرق المجمع عليه بين العبادات والمعاملات.

لا يقال : ما اخترته من ترجيح الأعمّ في ألفاظ المعاملات ، ودفع كونها للصحيحة بما ذكرته ، فرض للاختلاف فيها من حيث الصحّة والعموم ، بل الاختلاف واقع في الحقيقة كما يكشف عنه ما تقدّم عن الشهيد الثاني من اختيار الصحّة.

وما عزي إلى جماعة من المتأخّرين من اختيار العموم ـ كما في كلام بعض الأفاضل ـ فكيف التوفيق بينه وبين ما قدّمته من إخراجها عن موضع النزاع في الصحّة والعموم ، لأنّ ذلك اختلاف لا تعلّق له بما هو وارد في الكتب الاصوليّة وتعرّض له الاصوليّون ، على إنّه من مبادئ المسائل الاصوليّة ممّا اخذ في موضوعه حيث الصحّة الشرعيّة المستتبعة للإجمال ، أو المحصّلة لموضوع أصل الاشتغال ، ضرورة أنّه اختلاف وقع لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث تعيين معاني هذه الألفاظ الثابتة لها بمقتضى أوضاعها اللغويّة أو العرفيّة ، نظير سائر

٣١٧

الاختلافات الواقعة في الموضوعات العرفيّة واللغويّة ، الّتي منها الاختلاف الواقع في مسمّى « الصعيد » من حيث كونه مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، فلا يندرج هذا البحث في المسائل الاصوليّة ولا مبادئها ، بل هو على التحقيق من مبادئ المسائل الفقهيّة ، فيكون التعرّض له من وظيفة الفقهاء ، فلا تدافع بين القضيّتين.

لكن ينبغي أن يعلم إنّ قولنا بالأعمّ في ألفاظ المعاملات ليس المراد به ما يستلزم حقيقيّة الإطلاق في الفاسد بإطلاقه ، حتّى ما يكون منه نحو ما يصدر من الهازل أو النائم أو المجنون أو غيره ممّن لا قصد له كالمكره ـ على القول بعدم صحّة عقده لانتفاء القصد والرضا النفساني منه ـ لينافي ذلك ما قدّمناه من أنّه ممّا لم يقل أحد بكون إطلاق اللفظ عليه على وجه الحقيقة ، وإنّما الإطلاق حيثما يرد عليه إنّما يرد من باب المشاكلة ، ولا أنّه على إطلاقه القاضي بجريانه في مثل لفظ « الطلاق » و « الخلع » و « المبارات » و « اللعان » و « الإيلاء » و « النذر » و « العتق » ونحوها ممّا هو من قبيل ألفاظ الإيقاعات لئلاّ يساعد عليه إطلاقات هذه الألفاظ ، بل كلماتهم القاضية بكونها مجازا في الفاسد الّذي يلزم منه كونها أسام لخصوص الصحيح كما هو الأقوى ولذا يعبّر كثيرا مّا عند الحكم بفساد شيء منها عند اختلال شرط من شروط الصحّة بقولهم : « لم ينعقد » أو « لم يقع » الظاهر في نفي أصل الماهيّة.

وتوضيحه : أنّ الصحّة المضافة إلى المعاملات قبالا للفساد فيها يرد على وجهين :

أحدهما : ما هو من لوازم الشخص الّذي هو عبارة عن مجموع الماهيّة والخصوصيّة ، الحاصلة عن انضمام ما زاد عليها من القيود إليها ، فانتفاؤها حينئذ لا ينافي بقاء الماهيّة وتحقّقها الّذي عليه مدار صدق الاسم ، وصحّة الإطلاق على وجه الحقيقة.

وإذا كان مدار الصحّة حينئذ على تحقّق مجموع الماهيّة والخصوصيّة ،

٣١٨

فالفساد يطرء المحلّ ويلحقه تارة : لأجل انتفاء الخصوصيّة الغير المنافي لتحقّق أصل الماهيّة ، كما في البيع الربوي وبيع الخمر ، وبيع الصرف من دون القبض في المجلس.

واخرى : لأجل انتفاء أصل الماهيّة ، كما في عقد الهازل وغيره ممّا ذكر.

ولا ريب إنّ القول بالأعمّ إنّما يقتضي كون الإطلاق على وجه الحقيقة في القسم الأوّل من الفساد ، لأنّ المدار في صحّة الإطلاق على وجه الحقيقة إنّما هو على تحقّق الماهيّة مطلقا دون القسم الثاني منه لكونه فيه لانتفاء الماهيّة ، ولا يعقل صدق الاسم على وجه الحقيقة على ما انتفى عنه ماهيّة المسمّى كما لا يخفى.

والوجه في انتفاء الماهيّة في الأمثلة المذكورة ، إنّ القصد والرضا النفساني له في نظر العرف والاعتبار مدخل في تحقّق ماهيّة البيع. وإن فسّرناه بمبادلة مال بمال.

وإن شئت قلت : إنّه مقوّم لأصل الماهيّة ، فقول القائل : « بعت داري بكذا » مثلا ، إنّما يصدق عليه البيع بمعنى مبادلة مال بمال إذا نشأ عن القصد والرضا النفساني ، وما يقع من الهازل والنائم والمكره ليس من هذا الباب حيث لا قصد لهما ، وعليه فإطلاق اللفظ عليه في بعض الأحيان لا وجه له إلاّ كونه مجازا باعتبار علاقة المشاكلة.

وثانيهما : ما هو من لوازم أصل الماهيّة ، ويلزمه كون انتفائها في موضع الحكم بالفساد ملازما لانتفاء الماهيّة ، ومعه لا معنى لصدق الاسم على وجه الحقيقة ، فهي في نحو « الطلاق » وغيره ممّا ذكر إنّما اخذت مع المسمّى من باب لوازم الماهيّة ، على معنى كون اللفظ اسما لملزوم الصحّة ، فانتفاؤها ممّا يكشف عن انتفاء ملزومها الّذي هو المسمّى ، بل لا يندرج نحوها في موضع الخلاف ولا تقبل القول بالأعمّ ، بخلاف البيع وغيره من العقود.

وضابط الفرق بينهما : إنّ المعنى إن كان من المركّبات الخارجيّة أو العقليّة ، ولو باعتبار لحوق التقييدات بماهيّة متعيّنة الموجبة لانضمام الخصوصيّات إلى

٣١٩

تلك الماهيّة ، فهو قابل لكلّ من الصحّة والعموم باعتبار الوضع والتسمية ، أمّا على تقدير التركّب الخارجي فكما في ألفاظ العبادات بالبيان الّذي سنقرّره عند توجيه القول بالصحيحة والأعمّ فيها.

وأمّا على تقدير التركّب العقلي فكما في لفظ « البيع » وغيره من ألفاظ العقود ، فإنّ مبادلة مال بمال على تقدير كونها معنى البيع باعتبار اللغة ، ماهيّة متعيّنة يعرفها العرف وأهل اللغة ، وقد لحقها من الخصوصيّات ما كشف عنه الشارع ، فإن كان المأخوذ في وضع اللفظ باعتبار العرف أو اللغة هذه الماهيّة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المنضمّة إليها باعتبار الشرع ـ كما رجّحناه ـ كان اللفظ اسما للأعمّ ، وهو القدر الجامع بين الصحيح والفاسد ، الّذي فساده باعتبار انتفاء الخصوصيّة في الجملة.

وإن كان المجموع من هذه الماهيّة والخصوصيّات المنضمّة إليها باعتبار لحوق القيود بها كان اللفظ اسما للصحيحة ، فلكون المعنى قابلا لكلا الاعتبارين وقع الاختلاف المتقدّم فيه ، وفي نظائره من العقود.

وإن كان من البسائط كما في « الطلاق » ونظائره المذكورة ، فهو غير قابل للنزاع في صحّته وعمومه ، بل المتّجه فيه كونه اسما لخصوص الصحيحة ، إذ ليس بينها وبين الفاسدة جامع يصلح لكونه المسمّى الحقيقي المأخوذ في وضع اللفظ ، فإنّ الفاسد إمّا أن يراد به ناقص الأجزاء فهو هاهنا خلاف فرض كون المعنى بسيطا ، أو يراد به ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود منه فهو أيضا لا يشارك الصحيح هاهنا في جامع بينهما ، فإنّ المعنى البسيط على تقدير وجوده في الخارج ووقوعه في نفس الأمر لا يعقل عدم ترتّب الأثر المقصود منه ، عليه وعلى تقدير عدمه فترتّب الأثر عليه غير معقول ، ولا يعقل بين الموجود والمعدوم جامع ليكون اللفظ موضوعا بإزائه ، فهو دائما إمّا صحيح وإمّا أنّه ليس بشيء ، فإزالة قيد النكاح وعلاقة الزوجيّة في معنى الطلاق ، وإزالة الرقّيّة أو فكّ الملك في مفهوم العتق ، وإلزام شيء على النفس في مفهوم النذر مثلا ، من الماهيّات البسيطة الّتي لا خارج

٣٢٠