تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

نعم كثيرا مّا لا يتفطّن به للعلم الضروري بأنّ بناء اللغة فيه حيثما طرء ـ لغاية سقوطه في نظر أهلها بل الواضع أيضا وعدم الاعتناء بشأنه ـ على تنزيل وجوده منزلة عدمه.

وإن شئت قلت : إنّ هذا البناء منهم اتّفاق كاشف عن رضا الواضع وترخيصه ـ بل إلزامه ـ بترتيب أحكام العدم في هذه الموارد ، وعدم الاعتناء باحتمال الوجود ما لم ينهض عليه دلالة قطعيّة.

فإن قلت : أصالة عدم تعدّد الوضع وإن ثبت اعتبارها بالعرف لكنّها معارضة بمثلها ، وهو أصالة عدم وجود العلاقة وأصالة عدم حصول الوضع النوعي المعتبر في المجازات ، فإنّ المجاز لا بدّ فيه من الأمرين معا والأصل ينفيهما.

قلت : هذان الأصلان قد انتقضا في نحو المقام بالفرض ، فلا مجرى لهما حينئذ.

أمّا الأوّل : فلأنّ كلامهم في مسألة دوران الأمر بين الاشتراك والحقيقة والمجاز مفروض فيما لو كان بين المعاني المستعمل فيها مناسبة معتبرة وعلاقة مصحّحة للتجوّز ليصّح من جهته احتمال التجوّز ، ضرورة استحالة المجاز بلا علاقة ، فانتفاؤها فيما بين المعاني حيثما فرض بنفسه آية الاشتراك ، وأمارة علميّة على تعدّد الوضع فارتفع معه التعارض ، وإذا علم بوجودها في محلّ التعارض فلا معنى لنفيه بالأصل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوضع المعتبر في المجازات لم يعتبر حصوله بالنسبة إلى أشخاص اللفظ بإزاء أشخاص المعنى ، بل هو معتبر بالقياس إلى النوع ، ولذا يسمّى « بالوضع النوعي » الّذي هو عبارة عن ترخيص الواضع في استعمال كلّ لفظ موضوع فيما يناسب معناه الموضوع له بإحدى أنواع العلائق المعهودة ، على ما هو طريقة المشهور في المجازات ، وحصول الوضع بهذا المعنى متيقّن من الواضع فيندرج فيه كلّ ما هو صالح له ، وضابطه كلّ لفظ موضوع لمعنى بإزاء معنى آخر مناسب له إذا اخذا ولو حظا لمجرّد تلك المناسبة ، وإن كان لذلك المعنى الآخر وضع آخر أيضا.

١٦١

وعليه فلا يتفاوت الحال بالنسبة إلى اليقين بحصول الوضع المجازي بين تقديري اشتراك اللفظ في محلّ التعارض بين المعاني المستعمل فيها أو كونه حقيقة في البعض ومجازا في الباقي ، فإنّه متيقّن الحصول على كلا التقديرين.

وإن شئت قلت : إنّ شمول الوضع النوعي المجازي يتبع وجود العلاقة ، فإذا كان وجودها في محلّ التعارض ممّا لا بدّ منه فلا جرم يكون الرخصة في اعتبارها شاملة لها ، لأنّ المصحّح للتجوّز هو العلاقة المرخّص فيها لا مطلقا ، فالمشترك مع القطع باشتراكه ربّما يندرج في هذا الوضع النوعي المجازي إذا حصل بين معانيه شيء من العلائق المرخّص فيها ، ولذا تراهم في تعريفي الحقيقة والمجاز اضطرّوا إلى اعتبار قيد الحيثيّة صونا للأوّل عن انتقاض الطرد ، والثاني عن انتقاض العكس بنحو المشترك المفروض إذا استعمل في أحد معانيه لمناسبته المعنى الآخر لا للوضع الثابت له.

وبالجملة : فاحتمال الاشتراك لا ينافي حصول الوضع المجازي ، بل هو في محلّ التعارض يلازمه كما يلازم وجود العلاقة.

وإن شئت قلت : إنّ فرض التعارض يلازم فرض وجود العلاقة المرخّص فيها بين المعاني المستعمل فيها فلا يعقل معه أصل العدم بالنسبة إلى الأمرين معا.

فإن قلت : هذا الأصل ربّما يعارضه أصالة عدم ملاحظة العلاقة الموجودة الّتي هي من لوازم التجوّز ، فإنّ مجرّد وجود العلاقة المرخّص فيها لا يكفي في صحّته ما لم تكن ملحوظة.

قلت : ملاحظة العلاقة في التجوّز ليست إلاّ من جهة كون العلاقة أحد مصحّحي الاستعمال اللذين ثانيهما الوضع في الحقائق ، فلو كان ملاحظة المصحّح ـ ولو إجمالا ـ لازمة للاستعمال فيكون الاستعمال ملزوما له في الحقائق أيضا ، ففي نحو محلّ الكلام يلاحظ مصحّح في استعمالاته لا محالة ، وهو بحسب الواقع إمّا الوضع أو العلاقة ، ومعه لا يعقل نفي كون الملحوظ هو العلاقة بأصالة عدم ملاحظتها كما هو واضح.

١٦٢

فإن قلت : إنّ التجوّز يستلزم امورا حادثة اخر هي تختصّ بالمجاز ، كنصب القرينة والتفات الجانبين إلى القرينة الموجودة وملاحظة المعنى الموضوع له ، والأصل في محلّ الكلام عدم كلّ هذه الامور ولا معارض له ، فيسقط أصالة عدم تعدّد الوضع بمعارضة هذا الأصل بل الاصول.

قلت : قد تبيّن بما قرّرناه في معنى الأصل في نحو المقام ، إنّ أصالة عدم تعدّد الوضع معناها القاعدة المقتضية لترتيب آثار العدم على الوضع المحتمل تعدّده ، وظاهر إنّ عدم هذا الوضع ليس له آثار ترتّب عليه إلاّ الالتزام بالامور المذكورة ولو كانت على خلاف الأصل الّذي يضاف إليها ، فالالتزام بهذه الامور بعينه معنى العمل بأصالة عدم تعدّد الوضع ، وبعد العمل بهذا الأصل لا مجال للأصل الآخر الّذي يضاف إلى هذه الامور.

والسرّ في عدم انعكاس الأمر : إنّ كلّ مطلب وجودي أو عدمي إذا ثبت بأصل من الاصول المعتبرة ـ كائنا ما كان ـ وكان ذلك المطلب ملزوما لامور اخر كلّها مخالفة لنحو هذا الأصل ، وسببا لها على وجه يكون له تقدّم طبعي عليها في نظر العرف أو العقل أو الشرع ، فبناء العاملين بنحو هذه الاصول المعتبرين لها كلّ في مجراه ، على عدم الاعتداد بالأصل النافي للوازم هذا المطلب ومسبّباته ، وكأنّ ذلك في نظرهم ليس في مجراه مع هذا الفرض ، بل لا موضوع له في الحقيقة ، لكون الأصل الجاري في الملزوم المتقدّم بالطبع بإثباته ذلك الملزوم متقدّما رافعا لموضوع الأصل بالقياس إلى اللوازم ، ولذا يعدّ عندهم بالقياس إليه واردا عليه ، ولا معنى للورود إلاّ رفع الموضوع ، فلا أصل حينئذ ليكون معارضا لأصالة عدم تعدّد الوضع.

وثانيهما : قاعدة غلبة المجاز على الاشتراك القاضية بإلحاق المشتبه بالغالب وتقرير الغلبة ما اعتمد عليه غير واحد من الأساطين ، إنّ أكثر الألفاظ المستعملة في معان متعدّدة مجاز فيما عدا واحد منها ، وما هو حقيقة في أكثر من معنى قليل في الغاية بالنسبة إليه ، فيلحق به المشكوك فيه.

١٦٣

وقد يقرّر : بأنّ المعاني المجازيّة في اللغة أكثر من المعاني الحقيقيّة ، سواء اريد بالمعنى المجازي ما يصحّ استعمال اللفظ فيه ، أو ما وقع الاستعمال فيه فعلا.

وقرّر أيضا : بأنّ المعنى المجازي لكلّ لفظ أكثر من معناه الحقيقي ، وإنّما يتمّ ذلك إذا اريد بالمعنى المجازي ما هو بحسب الصلاحيّة.

وقرّر أيضا : بأنّ أكثر المعاني المودّعة في كتب اللغة مجازات.

والأجود هو الأوّل ، وعليه اعتمد المحقّقون ، بل المعظم على ما يلوح من كلامهم ، ولا مدافعة بينه وبين ما يوجد في كلامهم من إنكار الغلبة الّتي جزم بها ابن جنّي بالنسبة إلى مجازات اللغة ، لأنّها ـ على ما ظهر سابقا من عبارته المنقولة ـ غلبة في الاستعمالات المجازيّة بالقياس إلى الاستعمالات الحقيقيّة ، وإنكار هذه الغلبة لوضوح فسادها لا ينافي الاعتراف بغلبة المعاني المجازيّة.

وبالجملة : لا ينبغي الاسترابة في صغرى هذه الغلبة وأمّا كبراها فالظاهر أنّها أيضا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لاستقرار بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع معاملاتهم وكافّة عاداتهم ومحاوراتهم على إلحاق المشتبه بالغالب ، على معنى إجراء أحكامه عليه ، وعدم الالتفات إلى الفرد النادر.

ويؤيّده موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد الصالح عليه‌السلام إنّه قال : لا بأس بالصلاة في فرو اليماني ، وفيما صنع في أرض الإسلام.

قلت : فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس (١).

فتقرّر بجميع ما ذكر أنّ المعتبر من الاصول الأربع المتقدّمة إنّما هو أصالة الحقيقة وأصالة المجاز بمعناهما الأخصّ.

وربّما يحصل الإشكال في « أصالة المجاز » المعبّر عنها في كلام القوم بأولويّة المجاز من الاشتراك.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦٨ ح ١٥٣٢.

١٦٤

وهل هو في نظرهم مقصور على الاشتراك اللفظي أو يعمّه والاشتراك المعنوي أيضا ، فلو إنّ لفظا استعمل في معنيين بينهما جامع واحتمل كونه حقيقة فيهما على طريق الاشتراك المعنوي أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، يرجّح الثاني لأنّ المجاز خير من الاشتراك ، ومنشؤه ما في كلام بعض الأعلام من نسبة تخصيص هذه القاعدة إليهم بالاشتراك اللفظي ، وإنّهم لا يقولون بها مع الاشتراك المعنوي.

واعلم : أنّ الصور المتصوّرة في نحو اللفظ المفروض في بادئ الأمر ثلاث :

إحداهما : أن يعلم أنّ استعمال اللفظ في المعنيين إنّما هو باعتبار الجامع الموجود بينهما على وجه يكون هو المستعمل فيه.

وثانيتها : أن يعلم أنّه إنّما هو باعتبار الخصوصيّة لا غير.

وثالثتها : أن لا يعلم شيء من الأمرين ، بحيث احتمل كون الاستعمال باعتبار الجامع واحتمل كونه باعتبار الخصوصيّة.

وظاهر إنّ الصورة الاولى خارجة عن محلّ الكلام ، ضرورة أنّ قضيّة الفرض تحقّق الاشتراك ، ويقطع معه بالوضع للجامع.

وكذلك الثانية لحصول القطع معها بانتفاء الاشتراك المستلزم للمجاز في أحد المعنيين.

فمحلّ الكلام هو الثالثة ، وهذه الصورة يتكلّم فيها لجهتين :

الاولى : إنّ المجاز في نحو هذه الصورة هل يرجّح على الاشتراك ، لأنّه أولى وخير منه أو لا؟

والثانية : إنّ الاشتراك على تقدير عدم رجحان المجاز عليه ، هل يرجّح على المجاز إلى أن يعلم خلافه أو لا؟ بل لا بدّ من الوقف.

أمّا الجهة الاولى : فالّذي يساعد عليه النظر فيها صدق ما عرفته عن بعض الأعلام من نسبة التخصيص إلى المشهور ، فإنّ دليلهم على ترجيح المجاز ـ من الوجهين المتقدّم ذكرهما ـ غير جار فيه مع الاشتراك المعنوي ، أمّا أصالة عدم

١٦٥

تعدّد الوضع : فلأنّ هذا الاشتراك لا يتضمّن تعدّد الوضع حتّى ينفى احتماله بالأصل.

وأمّا غلبة المجاز في اللغة : فلأنّها في نحو الصورة المفروضة غير ثابتة بالقياس إلى المجاز إن لم نقل بثبوتها بالقياس إلى الاشتراك.

وأمّا غلبة نوع المجاز فإنّما ادّعيت في كلامهم في مقابلة الاشتراك لفظا لا مطلقا ، فتأمّل.

وأمّا الجهة الثانية : فاختلف فيها الجمهور فإنّهم بعدما اتّفقوا على أنّ المجاز في نحو هذه الصورة لا يرجّح على الاشتراك بين قائل بترجيح الاشتراك كما عن المحقّق والعلاّمة والبيضاوي والرازي ، وذاهب إلى الوقف كالمصنّف والعميدي والأسوي ، وقد تقدّم نقل هذين القولين ، ومستند الأوّلين على ما يلوح من تتبّع كلماتهم المتفرّقة في سائر الأبواب والمسائل الاصوليّة ، الأصل بمعنى القاعدة المستفادة من حكمة الوضع القاضية بأولويّة الحقيقة الواحدة بالقياس إلى المجاز والاشتراك ، فإنّهما على خلاف الأصل بمعنى حكمة الوضع فيرجّح الأوّل.

وقد تمسّكوا بهذا الدليل في عدّة مواضع ، منها : صيغة إفعل على القول باشتراكها معنى بين الوجوب والندب.

ومستند الآخرين على ما يلوح منهم في المواضع المشار إليها ، نقض هذا الدليل بكون التزام الوضع للقدر الجامع كرّا على ما فرّوا منه من المجاز المخالف للأصل ، التفاتا إلى أنّ استعمال العامّ في الخاصّ أيضا مجاز فلم يحصل التفصّي منه بالتزام الحقيقة الواحدة.

وأنت خبير بورود هذا النقض في غير محلّه ، لأنّ المجاز الّذي يلزم مع الوضع للجامع ـ بناء على قاعدة استعمال العامّ في الخاصّ ـ أهون من المجاز اللازم على تقدير الوضع لأحد المعنيين خاصّة ، وأقرب إلى حكمة الوضع لأنّ له وجه حقيقة وهو مجاز يمكن التفصّي عنه بإلغاء الخصوصيّة عند أخذ المعنيين في استعمالات اللفظ ، فيكون الاستعمال حينئذ على وجه الحقيقة.

١٦٦

والتجوّز في الاستعمال بناء على هذا الوجه غير لازم ، بخلاف المجاز الآخر فإنّه ممّا لا يمكن التفصّي عنه عند استعمالات اللفظ في خلاف ما وضع له ، إذ ليس له وجه حقيقة.

وظاهر أنّ كون أحد المجازين أهون وأقرب إلى حكمة الوضع يصلح لأن يكون باعثا للواضع على اختيار ملزومه ـ حين وضع اللفظ ـ على ملزوم المجاز الآخر.

فالعمدة في هدم الدليل المذكور وإصلاحه ، النظر في أنّ حكمة الوضع هل يصلح للتأسيس والترجيح ليثمر في نحو محلّ البحث أو لا؟

والّذي يقتضيه الإنصاف ويساعد عليه مجانبة الاعتساف ، عدم صلوحها لهما ، فإنّها ليست إلاّ حكمة باعثة على فتح باب نوع الوضع ، وليست علّة مستقلّة مطّردة في جميع أشخاص الوضع بالقياس إلى موارده الكلّية والجزئيّة ، لتثمر في الموارد المشتبهة بالرجوع إليها للحكم على المشتبه بالوضع إلى أن يعلم خلافه من الخارج.

وممّا يؤيّد ذلك إنّه لم يعهد منهم إلاّ من شذّ وندر الاستناد إليها لإثبات الوضع في الموارد المشتبهة ، بل طريقتهم الالتزام بمراجعة الأمارات ، ثمّ الوقف أو الاستناد إلى الاستعمال أو غيره من الاصول الكلّية حسبما عرفت.

وأيضا فإنّ من المعلوم شيوع وقوع المجاز بل الاشتراك في الألفاظ المستعملة في معنيين بينهما جامع ، ويدلّ ذلك على أنّ هنالك حكما خفيّة ربّما تكون في نظر الواضع واردة على حكمة الوضع ، باعثة على اختيار المجاز أو الاشتراك ، وعليه فلا يمكن الحكم في نحو محلّ البحث على اللفظ بوضعه للجامع لمجرّد حكمة الوضع ، لجواز أن يقوم من الحكم الخفيّة ما دعاه إلى اختيار المجاز في أحد المعنيين ، إلاّ أن يقال : إنّ حكمة الوضع معلوم الثبوت وقيام حكمة اخرى غير معلوم ، والأصل عدمه.

ويدفعه : أنّ الأصل إن اريد به الاستصحاب ، فهو فرع على وجود الحالة السابقة المنتفية في المقام ، وإن اريد به معنى آخر فهو غير ثابت.

١٦٧

فالمتّجه حينئذ هو الوقف لفقد ما يصلح للترجيح ، من غير فرق في ذلك بين ما لو عارضهما اشتراك لفظي أو لا ، إذ غاية ما هنالك حينئذ إنّه ينفى الاشتراك اللفظي بأصالة عدم تعدّد الوضع وغلبة الاشتراك المعنوي مع المجاز ، وتبقى التعارض بعد بين الأوّلين.

وبما نبّهنا عليه ينقدح الحال فيما لو كان الاشتراك المعنوي بحيث عارضه الاشتراك اللفظي لا غير ، إذ لا ينبغي التأمّل حينئذ في ترجيح الأوّل لعين ما يرجّح المجاز على الثاني ، من أصالة عدم تعدّد الوضع ، وغلبة الاشتراك المعنوي بالقياس إلى اللفظي.

فتقرّر بجميع ما ذكر من البداية إلى تلك النهاية حال المسائل الستّ المتقدّمة ، من حيث كون البناء فيها على الترجيح في ثلاث منها ، وهي المسألة الاولى والرابعة والخامسة ، أمّا الاولى فلأصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ ، وأمّا الثانية والثالثة فلما مرّ من الأصل والغلبة وأصالة المجاز بالمعنى الأخصّ ، والوقف في الثلاث الباقية ، وهي الثانية والثالثة والسادسة لفقد المرجّح.

المقام الثالث : في غلبة الاستعمال الّتي صار جماعة إلى دلالتها على الحقيقة ، والظاهر أنّه كذلك لملازمة عرفيّة مضافة إلى الملازمة الغالبيّة ، بناء على أنّ الغالب في الألفاظ غلبة استعمالها في معانيها الحقيقيّة وندرة استعمالها في معانيها المجازيّة.

وما تقدّم عن ابن جنّي من دعوى غلبة الاستعمالات المجازيّة في الألفاظ الموضوعة ممّا ينبغي القطع بفساده ، فلا يرد أنّ الاستعمال إذا كان أعمّ من الحقيقة فلا يخرجه الغلبة عن كونه أعمّ.

المقام الرابع : في أصالة الحقيقة بالمعنى المشخّص للمراد ، وتفصيل القول فيه يستدعي التكلّم في جهات :

الجهة الاولى : فيما يرجع إليه موضوعا.

١٦٨

فاعلم أنّ أظهر محامل الأصل هنا بالنظر إلى كلمات الاصوليّين وإطلاقاتهم اللاحقة بتلك اللفظة إنّما هو الظهور ، فأصالة الحقيقة يراد بها ظهور الحقيقة ، على معنى ظهور اللفظ الموضوع المجرّد في إرادة معناه الحقيقي.

وأمّا حمله على القاعدة المقتضية لحمل اللفظ على حقيقته ، وإن كان محتملا التفاتا إلى أنّ وجوب حمل كلّ لفظ موضوع مجرّد على إرادة معناه الحقيقي قاعدة مستفادة من العرف أو من العقل ، صونا لكلام المتكلّم الحكيم عن الإغراء بالجهل القبيح عليه من جهة منافاته الحكمة ، غير أنّه بعيد عن ظاهر كلماتهم وإطلاقاتهم.

وممّا يبعّده أيضا : أنّ ظاهر كلامهم في الاستدلال على حجّية أصالة الحقيقة كون الغرض منه إثبات حكم لموضوع محرز وهو أصالة الحقيقة ، وقضيّة الحمل على القاعدة كون الغرض من البحث والاستدلال إثبات أصالة الحقيقة ، لا إثبات حكم لها.

وبالجملة : فرق بين البحث عن حكم أصالة الحقيقة والبحث عن أصالة الحقيقة ، ظاهر كلام الاصوليّين هو الأوّل.

والحاصل : إنّ المستفاد من ظاهر كلام الاصوليّين كون أصالة الحقيقة موضوعا لحكم اصولي لا إنّها نفس الحكم الاصولي ، وكونها موضوعا لا يستقيم إلاّ بالحمل على الظهور.

وأبعد ممّا ذكر حمله على إرادة الدليل ، بتقريب : كون الاستعمال المجرّد عن القرينة أو اللفظ المجرّد عنها دليلا على إرادة الحقيقة ، فإنّه أيضا لا يلائم بحث الحجّية ، لرجوعه حينئذ إلى إثبات الدليل ، لا إثبات حكم للدليل ، أو ما هو من أحوال الدليل.

وأبعد من الجميع ما قد يتخيّل من إمكان إرادة الاستصحاب ، بتقريب : أنّ البناء على الحقيقة والحمل عليها إنّما هو من مقتضى أصالة عدم القرينة أو أصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، فأصالة الحقيقة معناها الاستصحاب المقتضي للبناء على الحقيقة.

١٦٩

وفيه : مع بعده في نفسه لا يلائمه البحث عن الحجّية كما لا يخفى ، هذا مع فساد هذا الاحتمال من غير هذه الجهة.

أمّا أوّلا : فلأنّ أصالة الحقيقة كثيرا مّا تجري فيما لا يجري فيه الاستصحاب المذكور ، وهو ما لو علم تجرّد اللفظ عن القرينة ، أو عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، بل هذه الصورة أظهر مجاري هذا الأصل على ما ستعرف.

وأمّا ثانيا : فلما عرفت سابقا من عدم كون مبنى العمل بالأصل في الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ ، على العمل بالاستصحاب ، لعدم ابتنائه على مراعاة الحالة السابقة والتعويل عليها ، كما هو واضح.

ثمّ إنّ الظهور في معنى أصالة الحقيقة إنّما يحرز بإحراز ظهورات عديدة ، كظهور كون المتكلّم قاصدا للّفظ قبالا لاحتمال كونه ساهيا أو غير شاعر ، وظهور كونه قاصدا للمعنى قبالا لاحتمال كونه هازلا أو لاغيا ، وظهور كونه قاصدا لإفهام المعنى المقصود قبالا لاحتمال كون غرضه التعمية والإبهام ، وظهور كون المعنى المقصود الّذي قصد إفهامه هو المعنى الحقيقي قبالا لاحتمال كونه المعنى المجازي ، والظهورات الثلاث الاول محرزة ببعد احتمال خلافها عن حالة التخاطب ، ولذا أطبق العقلاء في جميع المخاطبات في قاطبة الأعصار وكافّة الأمصار على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، والظهور الرابع يحرز بفرض تجرّد اللفظ عن القرينة ولو بحكم الأصل.

ثمّ المتكلّم قد يصدر منه ما يعلم بالمعنى المراد منه ، وقد يصدر منه ما يقترن بقرينة المجاز ، وقد يصدر منه ما تجرّد عن القرينة ، وقد يصدر منه ما يشكّ في تجرّده واقترانه لاحتمال اعتباره قرينة خفيّة اختفت على السامع ، وقد يصدر منه ما يقترن به ما يشكّ في كونه قرينة معتبرة في نظر العقلاء ، على معنى كونه ممّا يعامل معه معاملة القرائن ويعوّل عليه في إفهام المعنى المقصود.

والأوّل مع الثاني خارجان عن مجرى أصالة الحقيقة كما هو واضح ، ككون الثالث من مجراها ، بل هو أظهر مجاريها وهل هي جارية في الصورتين الأخيرتين أو لا؟

١٧٠

والحاصل : إنّ هذا الأصل هل يجري في جميع الصور الثلاث الباقية أو يختصّ بالصورة الاولى ، أو يجري فيما عدا الصورة الأخيرة؟

فقد يقال : بجريانها في جميع الصور ، كما هو لازم قول من يقدّم الحقيقة المرجوحة في المجاز المشهور ، عملا بأصالة الحقيقة مع اقتران اللفظ بما يشكّ كونه من القرائن وهو الشهرة ، ويمكن كون الأمر المتعقّب للحظر أيضا كذلك على رأي من يجعله للوجوب.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر عدم جريانها في الصورة الأخيرة ، لأنّها إن اخذت بمعنى ظهور الحقيقة فلا ظهور في تلك الصورة ، لأنّ اقتران اللفظ بما يشكّ كونه من القرائن المعتبرة في العرف أوجب خروجه عن الظهور وصيرورته مجملا ومعه لا معنى لظهور الحقيقة ، وإن اخذت بمعنى القاعدة المقتضية لحمل اللفظ على حقيقته ، فهي بهذا المعنى غير شاملة لنحو هذه الصورة ، سواء اريد بالقاعدة ما استفيد من العرف أو من العقل.

أمّا على الأوّل : فلأنّ كون بناء العرف على الحمل على الحقيقة في هذه الصورة غير ثابت ، إن لم نقل بثبوت خلافه ، بل المعلوم من العرف كون بنائهم فيها على الوقف.

وأمّا على الثاني : فلأنّ لزوم الإغراء بالجهل حكم عقلي موضوعه الظهور إذا اريد خلافه بغير قرينة ، وقد عرفت انتفاء الظهور في نحو هذه الصورة.

وأمّا الصورتان الاخريان فيمكن بناء المسألة ـ من حيث جريان أصالة الحقيقة فيهما معا ، أو اختصاصها بصورة واحدة وهي صورة التجرّد عن القرينة ـ على مسألة كون عدم القرينة ـ بمعنى تجرّد اللفظ عن القرينة ـ جزءا لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، أو كون وجود القرينة مانعا عن الحمل.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه اختصاصها بصورة التجرّد ، وإن قلنا بالثاني : لزمه جريانها في الصورتين معا. أمّا صورة التجرّد فواضح ، وأمّا صورة الشكّ في التجرّد والاقتران فلأنّ المانع يكفي في إحراز عدمه عدم العلم بوجوده.

١٧١

ويزيّفه : أنّ التجرّد عن القرينة ـ في نظر من يجعله جزءا ـ أعمّ ممّا يحرز بالأصل وهو أصالة عدم القرينة ، فتجرّد اللفظ عن القرينة لا يلازم اختصاص أصالة الحقيقة بصورة واحدة ، بل لا ينافي جريانها في صورة الشكّ أيضا.

غاية الأمر أنّه باعتبار كونه جزءا للمقتضي ، قد يكون محرزا بالفرض وقد يحرز بواسطة الأصل.

ويمكن بناء المسألة أيضا على كون المراد من أصالة الحقيقة ، ـ بمعنى ظهور الحقيقة ـ ما يوجب الظنّ الشخصي بإرادة الحقيقة ، أو ما يوجب الظنّ النوعي.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه الاختصاص ، وإن قلنا بالثاني : لزمه عموم الجريان.

ويزيّفه أيضا : أنّ التجرّد بنفسه لا يلازم الظنّ الشخصي ، بل غايته الظنّ النوعي وهو حصول الظنّ من جهته لنوع المخاطبين ، فقد يتّفق في بعض الأشخاص عدم حصول ظنّ فعليّ له لمانع.

ويمكن بناؤها أيضا على كون المناط في أصالة الحقيقة ـ بمعنى الظهور ـ والمقتضى لها ـ على معنى المحقّق للظهور ـ هو الوضع ، أو كونه حكم العقل بلزوم الإغراء بالجهل لولا إرادة الحقيقة.

فإن قلنا بالأوّل : لزمه جريانها في الصورتين معا ، لوجود المقتضي وهو الوضع فيهما.

وإن قلنا بالثاني : لزمه الاختصاص ، لعدم حكم العقل بلزوم الإغراء بالجهل في صورة الشكّ في التجرّد والاقتران ، لولا إرادة الحقيقة ، لأنّ إرادة المجاز احتمال مبنيّ على احتمال الاقتران بالقرينة ، فإرادة المعنى المجازي في الواقع اعتمادا على القرينة الموجودة مع اللفظ ليس إغراء بالجهل.

وهذا هو الوجه الصحيح في مبنى المسألة ، مع كون مناط الأصل والمحقّق لظهور الحقيقة هو الوضع ، وإن كان لبعد التجوّز في صورة التجرّد وبعد الاكتفاء بالقرينة الخفيّة أيضا مدخليّة في هذا الظهور ، لأنّه المستفاد من تضاعيف كلمات الاصوليّين ومطاوي عباراتهم.

١٧٢

وممّا يرشد إليه أيضا إنّهم جعلوا موضوع أصالة الحقيقة ، اللفظ الموضوع الّذي تميّز حقيقته عن مجازه إذا تجرّد عن قرينة المجاز.

وقضيّة كون الموضوع هو اللفظ الموضوع ، كون الوضع هو المناط المحقّق لظهور الحقيقة ، وحيث إنّ الوضع حاصل في الصورتين معا لزمه جريان أصالة الحقيقة فيهما أيضا.

ولا ينتقض ذلك بصورة الاقتران بما يتردّد بين كونه من القرائن المعتبرة عند العرف في المجاز ، بتقريب : أنّ الوضع المجعول مناطا حاصل في هذه الصورة أيضا ، فوجب انعقاد أصالة [ الحقيقة ](١) فيها أيضا ، لأنّ الوضع في استلزامه ظهور الحقيقة ليس علّة تامّة لا يتخلّف عنها الظهور ، بل هو معتبر من باب المقتضي ، ومن حكم المقتضي جواز مصادفة فقدان الشرط أو وجود المانع فلا يقتضي ، وتجرّد اللفظ عن القرينة ولو بحكم الأصل شرط ، واقترانه بالقرينة المعتبرة في المجاز أو بما يتردّد بين كونه من القرائن المعتبرة في المجاز مانع ، حيث إنّه على الأوّل يوجب انقلاب ظهور الحقيقة بظهور المجاز.

وعلى الثاني يوجب زوال ظهور الحقيقة لطروّ الإجمال ، فعدم انعقاد أصالة الحقيقة في الصورة المذكورة ليس من جهة فقد المقتضي ، بل لوجود المانع.

الجهة الثانية : مقتضى الأصل الأوّلي في الظنّ في اللغات عدم حجّية أصالة الحقيقة ، والظنّ الحاصل منها.

نعم إذا تعلّق بالأحكام الشرعيّة وحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام جاز الأخذ به ، لا من حيث إنّه عمل بالظنّ في اللغات وهو حجّة ، بل من حيث إنّه عمل بالظنّ في الأحكام وهو حجّة ، إلاّ أنّ هذا الأصل قد انقلب بالنسبة إلى خصوص المقام ، لثبوت حجّيته بالخصوص بعنوان القطع.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

١٧٣

والدليل عليه : بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع المخاطبات والمحاورات في كافّة الأعصار والأمصار من لدن أبينا آدم إلى يومنا هذا ، فكما إنّهم مطبقون على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والإفهام ، فكذلك مطبقون على حمله عند تجرّده عن القرينة ـ ولو بحكم الأصل ـ على حقيقته ، تعويلا على أصالة الحقيقة ، على معنى ظهورها من غير نكير ولا توقّف ، بل لو اتّفق إنّ أحدا توقّف عن الحمل ، اعتذارا بعدم العلم بالمراد لم يكن عذره مسموعا ، وأطبقوا على ذمّه والتشنيع عليه ، وليس إلاّ من جهة كون التوقّف عن الحمل توقّفا فيما لا ينبغي التأمّل فيه ، ولا ينافيه ما قد يقع من السؤال عن حقيقة المراد لأنّه احتياط يراد به تحصيل الجزم ، لا أنّه بناء على عدم الاعتناء بأصالة الحقيقة.

وهذا كلّه يكشف عن إذن الواضع ، على معنى كون البناء على أصالة الحقيقة وحمل الألفاظ الموضوعة المجرّدة عن قرائن المجاز على معانيها الحقيقيّة إلى أن يظهر خلافه من الخارج ، ممّا رخّص فيه الواضع.

ويدلّ عليه أيضا إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا من العامّة والخاصّة على الاعتماد على أصالة الحقيقة من غير نكير ولا توقّف ، وهذا وإن لم يكن من الإجماع المصطلح عليه ليكشف عن رأي المعصوم ، باعتبار عدم كون معقده ممّا بيانه وظيفة المعصوم ، غير أنّه يكشف عن حقيقة مورده ، وهو جواز البناء على أصالة الحقيقة في العمل بالحقائق وترتيب أحكامها على ما قام به الظهور اللفظي.

ولا يصادمه ما عرفته عن ابن جنّي من دعوى غلبة الاستعمالات المجازيّة ، إن كانت مسوقة لإنكار أصالة الحقيقة ـ كما هو أظهر الوجوه المحتملة في عبارته المتقدّمة ـ لابتنائه على أصل فاسد ، لمنع الغلبة المدّعاة ، بل الغلبة في جانب الاستعمالات الحقيقيّة حسبما أشرنا إليه في المقام الثالث ، مع أنّه إن أراد بغلبة الاستعمالات المجازيّة ما هو معتبر في المجاز المشهور ، فهو يقضي بكون الألفاظ بأسرها أو أكثرها مجازات مشهورة. وهذا كما ترى ، كيف والمجاز المشهور في

١٧٤

الندرة بمثابة استحاله بعضهم ، فقال : إنّه غير ممكن ، وإن اريد به ما دون ذلك فهو لا يزاحم الأصل بمعنى ظهور الحقيقة ، لأنّ غلبة الاستعمال المجازي لقرينة لا ينافي ظهور الحقيقة مع التجرّد ، وهذا هو محلّ الكلام.

ويدلّ عليه أيضا أنّ المعنى الحقيقي هو الظاهر من اللفظ عند إطلاقه فتعيّن إرادته في كلام الحكيم ، لأنّ إرادة غير الظاهر من دون نصب قرينة توجب حصول الغرض والإفهام المقصود من الكلام تستلزم الإغراء بالجهل ، مضافا إلى قضائه في بعض الأحيان بلزوم تكليف ما لا يطاق ، وانتفاء الفائدة في إرسال الرسل وإنزال الكتب ، فإنّ الفائدة العظمى فيهما حصول النظام بتبليغ الأحكام الموقوف على المخاطبة والإفهام.

وربّما يمكن الناقشة فيه : بكونه أخصّ من موضوع المسألة ، بملاحظة ما قدّمناه من عدم قضاء العقل في صورة الشكّ في القرينة بالإغراء بالجهل لولا إرادة الحقيقة.

إلاّ أن يدفع : بأنّ احتمال إرادة المجاز في هذه الصورة إنّما هو من جهة احتمال اعتماد المتكلّم على قرينة خفيّة غفل عنها السامع ، ويبعد من المتكلّم المريد للإفهام أن يعتمد على نحو القرينة المفروضة ، كما يبعد منه إرادة المجاز من دون نصب قرينة.

وبالجملة : نصب قرينة يغفل عنها السامع كعدم نصب القرينة أصلا في بعده عن غرض المتكلّم المريد للإفهام ، وقضيّة البعد في المقامين ظهور إرادة الحقيقة فيهما ولو بحسب النوع ، وحينئذ يلزم من إرادة غير هذا الظاهر ما ذكر من الإغراء بالجهل.

ويرد عليه : عدم كون غفلة السامع مقصورة على خفاء القرينة ، بل قد تحصل مع القرينة الجليّة أيضا ، فلا يلزم الإغراء كما نبّهنا عليه في تضاعيف الجهة الاولى ، فالمناقشة المذكورة واردة في الجملة.

وأمّا ما عساه يناقش في أصل الملازمة ، من أنّ محذور الإغراء بالجهل إنّما

١٧٥

يلزم لو حمل اللفظ المقصود منه خلاف الظاهر على ظاهره ، وهذا ليس بلازم لجواز الوقف ، كما هو قضيّة عدم ثبوت حجّية أصالة الحقيقة في نظر السامع ، فإنّ غاية ما يستلزمه إنّما هو الوقف عن الحمل ، لا الحمل على المعنى الحقيقي الغير المراد من اللفظ بالفرض.

فيدفعه : أنّ قبح الإغراء بالجهل على الحكيم إنّما هو من جهة قبح نقض الغرض ، فإنّ إيراد الكلام المقصود به الإفهام على وجه لا يحصل منه فهم المعنى المقصود إفهامه نقض للغرض ، وهذا لا يتفاوت في لزومه بين الوقف والحمل على المعنى الغير المقصود.

ويدلّ عليه أيضا ، قوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(١) فإنّ اللسان اريد منه اللغة مجازا ، تسمية للشيء باسم آلته وهو مجاز شائع ، واللغة مشتملة على موادّ وهيئآت مفردة وهيئآت مركّبة ، وأحوال عامّة من العمل على أصالة الحقيقة ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم الإضمار ، وغير ذلك من الاصول اللفظيّة الّتي استقرّ طريقة قوم كلّ رسول على العمل بها والتعويل عليها ، وإرسال كلّ رسول بلغة قومه إمضاء للغة القوم بجميع الجهات المذكورة ، ولولا الجهات المذكورة بأجمعها من أصل اللغة لما ساغ إمضاؤها ، ولا يعنى من الحجيّة إلاّ هذا.

وبما قرّرناه في وجه الاستدلال يندفع ما عساه يورد : من أنّ الاستدلال بالآية إن اريد به إثبات صغرى ، وهو كون طريقة كلّ قوم حمل ألفاظ لغتهم على حقائقها تعويلا على الأصل بمعنى ظهور الحقيقة ، فالآية قاصرة عن إفادة ذلك كما هو واضح ، وإن اريد به إثبات كبرى لهذه الصغرى وهي حجّية هذه الطريقة ، فمرجعه إلى إثبات حجّية طريقة العقلاء في العمل بأصالة الحقيقة ، وهو ليس من إثبات حجّية أصالة الحقيقة كما هو المبحوث عنه ، فإنّ حجّية طريقة العقلاء في

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

١٧٦

العمل بأصالة الحقيقة تستلزم حجّية أصالة الحقيقة ، غاية ما هنالك ، كون دلالة الآية على ما هو المقصد الأصلي بالالتزام لا بالمطابقة ، وهو كاف في تماميّة الدليل.

ويدلّ عليه أيضا : ما ورد في الخبر : من « أنّ الله سبحانه أجلّ من أن يخاطب قوما بخطاب ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » فإنّ إرادة المعنى الحقيقي ، هو الّذي يفهم من الخطاب عند إطلاقه ، وكون المراد معناه المجازي احتمال ينفيه قوله عليه‌السلام : « أجلّ ... إلى آخره » فيرجع مفاد الرواية إلى دوام مطابقة مراداته تعالى لظواهر خطاباته ، بل يدلّ على أنّ إرادة خلاف الظاهر مع قيام الظاهر لا تلائم شأن الحكيم وحكمته ، وبذلك يثبت عموم المدّعى.

لا يقال : إنّ الفهم ظاهر في الإدراك بالمعنى العامّ للتصوّر ، فالرواية إنّما تدلّ على نفي إرادة ما لا يدخل في إدراك السامع وذهنه أصلا ، وكون المعنى المجازي ممّا لا يدخل في الإدراك أصلا ممنوع ، بل خلاف ما يدرك بالوجدان كما يرشد إليه فرض مجرى أصالة الحقيقة فيما يتردّد بين حقيقته ومجازه ، لأنّ المراد من فهم المعنى ما يتمّ به مقام التخاطب ، ولا يكون إلاّ الفهم التصديقي ، على معنى التصديق بالمعنى على أنّه مراد من الخطاب ولو بالنوع ، المستند إلى الظهور النوعي.

ولا ريب أنّ الفهم بهذا المعنى في الخطاب المجرّد عن القرينة ـ ولو بحكم الأصل ـ مقصور على الحقيقة ، فيكون المجاز خلاف ما يفهم من الخطاب ، وقد نفت الرواية بنفي إرادته ، والظاهر أنّها باعتبار السند متلقّاة عند العلماء بالقبول.

واستدلّ أيضا : بأنّه لو لم يجب الحمل على الحقيقة لوجب التوقّف أو الحمل على المجاز ، وكلاهما باطلان.

أمّا الأوّل : فلأنّ وجوب التوقّف لا يكون إلاّ لإجمال اللفظ وتردّد الذهن في تعيين المراد منه ، والحكم بكون الألفاظ بأسرها مجملة متردّدة بين حقائقها ومجازاتها أبدا ممّا يكذّبه الوجدان ، وكذا الاتّفاق على وجود اللفظ المحكم الدلالة وعدم الانحصار في المجمل.

١٧٧

وأمّا الثاني : فلأنّه يقتضي كون المجاز أصلا وفساده ظاهر ، إذ من الممتنع أن يعيّن الواضع لفظا لمعنى ثمّ يكون استعماله فيما لم يوضع له أصلا في تلك اللغة ، وبأنّ اللفظ إذا تجرّد عن القرينة فإمّا أن يحمل على حقيقته ، أو على مجازه ، أو عليهما معا ، أو لا على واحد منهما.

والثلاث الأخيرة باطلة ، لأن من شرط المجاز وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي ، والمفروض انتفاؤها فيتسحيل الحمل عليه ، والحمل عليهما يقتضي كون اللفظ حقيقة في مجموع الحقيقة والمجاز ، أو مشتركا بينهما ، وهو باطل بالضرورة ، والإخلاء عنهما يستلزم تعطيل اللفظ وإلحاقه بالألفاظ المهملة والمفروض خلافه ، فتعيّن الأوّل وهو الحمل على الحقيقة كما هو المطلوب ، ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا الأوّل : فلمنع انحصار الجهة المقتضية للوقف في الإجمال ، فإنّ الظهور الغير المعتبر كالظنّ الغير المعتبر الحاصل منه كالإجمال في وجوب الوقف ، فالإجماع على وجود اللفظ المحكم الدلالة إن اريد به ما يعمّ النصّ والظاهر ، لا ينافي وجوب الوقف المسبّب عن عدم اعتبار ظهور الظاهر إلاّ بشهادة قطعيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ عدم الحمل على الحقيقة ـ لعدم ثبوت اعتبار ظاهرها إلاّ بدلالة قطعيّة ـ مع عدم الحمل على المجاز ـ لعدم تحقّق القرينة عليه ـ لا يوجب تعطيل نوع هذا اللفظ وإهماله حتّى مع وجود الدلالة القطعيّة على الاعتبار ، أو على إرادة الحقيقة أو مع قيام القرينة على إرادة المجاز كما هو واضح.

الجهة الثالثة : في ختم المسألة ببيان امور مهمّة :

أحدها : أنّه قد عرفت أنّ أصالة الحقيقة معناها ظهور الحقيقة ، وهو عبارة عن رجحان إرادة المعنى الحقيقي في نظر المخاطب ، وهو الّذي سيق إليه الخطاب وقصد به إفهامه ، أو في نظر السامع وهو الّذي يسمع الخطاب لحضوره في مجلسه وإن لم يقصد إفهامه ، أو في نظر من يستفيد من الخطاب وإن لم يكن سامعا أو مقصودا إفهامه لعدم حضوره في مجلس الخطاب ، بل عدم وجوده في زمانه على أحد الوجوه المحتملة الّتي يأتي الكلام في تحقيقها.

١٧٨

ورجحان إرادة المعنى الحقيقي المتصوّر بأحد الوجوه المذكورة ، قد يعتبر بحسب الفعل على معنى كون اللفظ الصادر من المتكلّم المجرّد عن القرينة ـ ولو بحكم الأصل ـ بحيث حصل منه الظنّ الفعلي بإرادة المعنى الحقيقي ، ويعبّر عنه « بالظنّ الشخصي » لحصول الظنّ الفعلي في شخص الاستعمال اللاحق باللفظ.

وقد يعتبر بحسب الشأن والصلاحيّة ، على معنى كون اللفظ المذكور بحيث لو خلّي وطبعه حصل منه الظنّ بإرادة المعنى الحقيقي ، وإن اتّفق في بعض الأحيان أنّه لم يحصل منه ظنّ فعلا لفقد شرط ، كالالتفات إلى بعد احتمال إرادة المجاز من غير نصب قرينة أو بعد احتمال الاعتماد على قرينة خفيّة مغفول عنها ، أو وجود مانع كالأسباب الغير المعتبرة الموجبة للشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز من النوم أو الرمل أو الجفر ، أو خبر صبّي أو قياس أو غير ذلك ، ويعبّر عنه « بالظنّ النوعي » لحصول الظنّ في نوع الاستعمالات الدائرة على اللفظ لا في كلّ شخص منها.

وهل المعتبر في حجّية أصالة الحقيقة هو الظنّ الشخصي ، على معنى كونها حجّة من باب الظنّ الشخصي ، أو هو الظنّ النوعي ، على معنى كون حجّيتها من باب الظنّ النوعي ، وعلى الثاني فهل المراد من نوعيّة الظنّ النوعي إنّ حصول الظنّ الفعلي بإرادة الحقيقة ليس شرطا في العمل بها ، وإن أضرّبها الشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز ، ومرجعه إلى مانعيّة الشكّ والظنّ المذكورين ، أو إنّ المراد بها ما يتضمّن عدم شرطيّة الظنّ الفعلي مع عدم مانعيّة الشكّ ، وإن أضرّبها الظنّ بإرادة المجاز وإن لم يكن معتبرا ، أو أنّ المراد بها ما يتضمّن عدم شرطيّة الظنّ الفعلي وعدم مانعيّة الشكّ والظنّ الغير المعتبر وجوه ، وإن كان المعنى المعهود عندهم الواقع في كلامهم من الظنّ النوعي ، هو المعنى الأخير.

وكيف كان : فحجيّة أصالة الحقيقة تتصوّر على وجوه أربع ، وقد وقع الخلاف في معنى حجّيتها.

فعن بعض المتأخّرين : أنّها حجّة إذا حصل الظنّ الفعلي بإرادة المعنى الحقيقي لا غير ، سواء حصل بخلافها ظنّ أو لا.

١٧٩

وقيل : إنّها حجّة ما لم يظنّ بخلافها ولو ظنّا غير معتبر ، فما ظنّ بخلافه ليس حجّة.

والأكثر على أنّه حجّة ما لم يقم قرينة معتبرة بخلاف الحقيقة ، سواء حصل الظنّ الفعلي بإرادة الحقيقة أو لا ، حصل الظنّ الغير المعتبر بإرادة المجاز أو لا.

وهذا هو المعنى المعروف من العمل بأصالة الحقيقة ، بل العمل بمطلق الظواهر من باب الظنّ النوعي ، بل ربّما ينسب إلى عمل العلماء قديما وحديثا في عامّة المسائل الفرعيّة وغيرها ، وهو المعتمد بل الحقّ الّذي لا محيص عنه.

ومن الأفاضل من فصّل بين ما لو كانت الشبهة في حدوث القرينة فيبنى عليها ويعمل بها ، سواء كانت موهومة أو مشكوكة أو مظنونة بالظنّ الغير المعتبر ، وما لو كانت الشبهة في صلاحيّة الحادث لكونه قرينة بحسب العرف فلا يبنى عليها ، ومرجعه إلى جريان أصالة العدم بالنسبة إلى قرينة المجاز وعدم جريانها.

وهذا بمعزل عن التحقيق ، سيّما إذا اخذ أصالة الحقيقة بمعنى ظهور الحقيقة ، لما أشرنا إليه سابقا من عدم ظهور للحقيقة مع قيام ما يتردّد بين كونه قرينة في نظر العرف وعدمه ، لا من باب الظنّ الشخصي ولا الظنّ النوعي ، لصيرورته مجملا فعدم الحجّية حينئذ إنّما هو من باب السالبة المنتفية الموضوع ، ونحو ذلك ممّا لا ينبغي أخذه للتفصيل في المسألة ، لأنّ كلاّ من الإثبات والنفي المأخوذين في المسألة لا بدّ وأن يرد على ما هو داخل فيها موضوعا وهذا خارج عن موضوع المسألة ، إلاّ أن يقصد من التفصيل التنبيه على خروجه الموضوعي ، وكيف كان فهو لا يخلو عن بعد وتكلّف.

ولنا : على ما رجّحناه عين ما دلّ على حجّية أصالة الحقيقة ، فإنّ العمدة من أدّلته إنّما هو بناء العرف وطريقة العقلاء في الأخذ بالظواهر ، لاستقرارها في الأخذ من حيث هي من دون مراعاة الظنّ الفعلي في شخص المورد ، ولا الاعتناء بالشكّ ولا احتمال وجود القرينة ولا الظنّ الغير المعتبر القائم بخلاف الظاهر ، بل لو توقّف أحد في مورد عن الأخذ بالظاهر استنادا إلى عدم اتّفاق الظنّ الفعلي وإلى اتّفاق أحد الامور المذكورة كان مستنكرا في نظرهم.

١٨٠