تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

ربا وهو حرام لقوله تعالى : ( وَحَرَّمَ الرِّبا )(١) بتقريب : أنّ الربا إمّا منقول عن معناه الأصلي وهو « الزيادة » إلى العقد المشتمل عليها ، أو إنّ المراد « بالربا » أخذ الزيادة بإضمار لفظ « الأخذ » ويرجّح الإضمار هنا أيضا للأصلين المتقدّمين ، ولا يعارضهما أصالة عدم الإضمار وظهور الهيئة التركيبيّة الكلاميّة في عدم الحذف ، وعلّل أيضا تارة : بأنّه عديل المجاز وهو أولى من الاشتراك والنقل.

واخرى : بأنّ الإضمار من باب الإيجاز والاختصار وهو من محاسن الكلام ، وليس المشترك والمنقول بهذه المثابة.

وثالثة : بأنّ دلالة اللفظ على المعنى على تقدير الإضمار ظاهرة لا يتحقّق فيها الإجمال إلاّ في صورة واحدة ، وهي ما إذا قام في المقام امور متعدّدة متكافئة في احتمال الإضمار مع انتفاء قرينة توجب تعيّن البعض ، بخلاف غير تلك الصورة من اتّحاد المضمر أو رجحان بعض ما يصلح للإضمار على الباقي ، فلا إجمال حينئذ لوجوب الأخذ بالراجح ، وليس المشترك بهذه المثابة لما فيه من عموم الإجمال الشامل لجميع صور وجودها بغير قرينة مراد ، وإنّ النقل يتوقّف على اتّفاق أهل اللسان وهو متعذّر أو متعسّر ، بخلاف الإضمار لدلالة باقي الكلام عليه ، والكلّ كما ترى.

الصورة العاشرة والإحدى عشر : تعارض الاشتراك أو النقل والنسخ أمّا الاولى : فكما لو قال : « ليكن ثوبي جونا » وعلمنا بوضع « الجون » للأبيض ، ثمّ عقّبه بعد تخلّل زمان بقوله : « ليكن أسود » فحصل الشكّ في وضع « الجون » للأسود أيضا حتّى يكون مشتركا ، فيكون القول الثاني قرينة معيّنة لإرادة ذلك من أوّل الأمر ، أو إنّه حقيقة خاصّة في الأبيض فيكون القول الثاني ناسخا لحكم الأوّل.

والظاهر إنّها مفروضة فيما لو لم يكن بين المعنيين علاقة مصحّحة للتجوّز ، أو علم بإيقاف من المتكلّم أو غيره من القرائن إنّه لم يتجوّز في لفظ « الجون » نفيا

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٢٠١

لاحتمال المجاز أيضا ، لئلاّ يعترض عليه بمنع الملازمة بين انتفاء الاشتراك والتزام النسخ ، لجواز نهوض القول الثاني بيانا باعتبار كونه قرينة للتجوّز.

وأمّا الثانية : فكما لو قال : « صلّوا في البيت » ثمّ قال : « طوفوا بالبيت » فإنّ الطواف به صلاة ، وعلمنا بأنّه لم يتجوّز في قوله الأوّل بإيقاف منه أو غيره من القرائن ، فيحتمل حينئذ كون الصلاة ممّا نقلها من معناها الأصلي ـ وهو الدعاء ـ إلى الطواف فيكون هو المراد من أوّل الأمر ، فيكون القول الثاني من باب القرينة المؤكّدة ، أو بقائها على المعنى الأصلي ليكون القول الثاني ناسخا.

والتعارض في الصورتين وإن ورد فرضه في كلامهم مطلقا ، إلاّ أنّه ينبغي تخصيصه بما لم يعلم ورود الخطاب الثاني بعد حضور وقت العمل بالخطاب الأوّل أو قبله ليتردّد بين الناسخيّة والبيانيّة ، ضرورة أنّه لو علم بتأخّر وروده عن حضور وقت العمل بالأوّل تعيّن كونه ناسخا ، لاستحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة ، الملازم للإغراء بالجهل. وقضيّة ذلك انتفاء الاشتراك والنقل.

ولو علم بتقدّم وروده على حضور وقت العمل بالأوّل ، تعيّن كونه بيانا أو تأكيدا حذرا عن البداء المحال ، أو الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن ، واللازم من ذلك ثبوت الاشتراك أو النقل ، وإلاّ لزم إمّا تجويز النسخ أو تغليط الاستعمال في تقدير ، إذ لا مصحّح لاستعمال اللفظ في الثاني على هذا التقدير ـ كما هو قضيّة جعله كاشفا عن كونه مرادا من اللفظ عن أوّل الأمر ـ سوى الوضع.

وحينئذ فالّذي يتراءى في بادئ النظر بضابطة ما تقدّم من ورود الاصول المحرزة لحال اللفظ ، على الاصول المحرزة لحال الاستعمال ، رجحان النسخ على كلّ من الاشتراك والنقل ، عملا بأصل العدم فيهما ، الوارد على أصالة عدم النسخ المحرزة لحال الاستعمال.

لكنّ الّذي ينبغي أن يقطع به بعد إمعان النظر انعكاس الفرض هنا ، لكون الشكّ في حال اللفظ من حيث الاشتراك أو النقل مع الشكّ في حال الاستعمال من حيث النسخ في الخطاب الأوّل ، مسببّا عن الشكّ في حضور وقت العمل بالخطاب

٢٠٢

الأوّل عند ورود الخطاب الثاني ، وظاهر : إنّ الأصل عدمه ، فأصالة عدم النسخ ، معناها أصالة عدم حضور وقت العمل بالخطاب الأوّل عند ورود الثاني.

وبه يرتفع احتمال الناسخيّة عن الخطاب الثاني ، فيرتفع معه موضوع الأصل النافي للاشتراك والنقل.

وقضيّة ذلك ترجيح كلّ من الأمرين على معارضهما.

نعم إن جوّزنا النسخ قبل حضور وقت العمل ، الّذي مرجعه إلى البداء بالمعنى الحقيقي المستحيل على العالم بالعواقب ، كما شاع وقوعه في خطابات الغير العالم بالعواقب كالامراء بالنسبة إلى رعاياهم والموالي بالنسبة الى العبيد ، كان ورود أصالة عدم الاشتراك وعدم النقل على أصالة عدم النسخ متّجها ، غير أنّ ذلك بمراحل عن موضوع كلام الاصوليّين كما هو واضح.

وهكذا ينبغي أن يقال في ترجيح الاشتراك والنقل على النسخ ، لا كما في نهاية العلاّمة (١) من تعليل أولويّة الاشتراك ـ بعدما اختارها ـ باحتياطهم في النسخ دون التخصيص ، ولهذا جوّزوا تخصيص العامّ بخبر الواحد دون النسخ ، والأصل فيه إنّ الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل بخلاف التخصيص ، لوضوح فساده ، ولذا تنظّر فيه بأنّ ذلك إنّما يقتضي رجحان التخصيص على النسخ ، والمطلوب ترجيح الاشتراك عليه ، والتخصيص وإن ثبت رجحانه على الاشتراك سابقا ، فيكون راجحا على النسخ أيضا بضميمة ما ذكر هاهنا ، وهو لا يقضي برجحان الاشتراك على النسخ ولا العكس.

ويتلوه في الضعف ما استند إليه بعد تزييف الوجه المذكور بقوله : « بل الوجه توقّف الاشتراك على الوضع وتوقّف النسخ عليه وعلى رفع الحكم » (٢) فإنّ الاشتراك أيضا يتوقّف على الوضعين فيتساويان في مخالفة الأصل.

ومن الأفاضل (٣) من نقل الاستدلال عليه أيضا ، بعدما حكاه قولا بغلبة

__________________

(١ و ٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(١ و ٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(٣) هداية المسترشدين : ٦٥ ( الطبعة الحجريّة ).

٢٠٣

الاشتراك على النسخ ، وكونه ممّا يثبت بأيّ دليل ظنّي اقيم عليه بخلاف النسخ الّذي لا يثبت إلاّ بدليل شرعي ، بل ربّما يعتبر فيه ما يزيد على ما اعتبر في دليل سائر الأحكام ، وبأنّ غاية ما يلزم من الاشتراك ، الإجمال أحيانا بخلاف النسخ. فإنّ قضيّته إبطال العمل بالدليل السابق ، وفي الكلّ ما ترى.

واعترض عليه الفاضل المذكور ، بأنّه لا وجه لإثبات الوضع بهذه الوجوه الموهونة من غير قيام شاهد عليه من النقل أو الرجوع إلى لوازم الوضع ونحو ذلك ممّا يوجب ظنّا به ، فقال : إنّ الأظهر عدم ثبوت اشتراك اللفظ بين المعنيين بمجرّد رفع احتمال النسخ في مورد مخصوص ، ولا الحكم بثبوت النسخ هناك أيضا.

وقضيّة ذلك التوقّف في حكمه ، وإن كان البناء على حمله على معناه الثابت والحكم بكون الثاني ناسخا لا يخلو عن وجه. انتهى (١).

وفيه : إنّ الاشتراك على تقدير الالتزام به لا يثبت بمجرّد رفع احتمال النسخ ولا بغيره من الوجوه المذكورة ، بل بحكم الفرض من وقوع إحدى الحالتين مع تبيّن عدم تجوّز المتكلّم في الخطاب الأوّل بالقياس إلى المعنى الثاني ، فلم يبق بعد نفي احتمال النسخ مناص من الالتزام بالاشتراك.

وفي كلام بعض الأفاضل التعليل لترجيح النقل ـ كما احتمله وحكى اختياره عن المنية ـ بكثرة النقل بالنسبة إلى النسخ ، معترضا عليه : بأنّ بلوغ كثرة النقل وقلّة النسخ إلى حدّ يورث الظنّ بالأوّل غير معلوم ، لطريان النسخ كثيرا على الأحكام العاديّة والشرعيّة ، فقال : « إنّ قضيّة ثبوت المعنى الأوّل وعدم ثبوت الثاني هو البناء على النسخ أخذا بمقتضى الوضع الثابت » انتهى (٢).

وفيه : ما فيه بعد البناء على الترجيح بالأصل كما عرفت مشروحا.

هذا تمام الكلام في صور تعارض حالتين إحداهما من أحوال اللفظ.

وأمّا صور تعارض حالتين كلتيهما من أحوال الاستعمال ، الّذي مرجعه إلى تعارض الظاهرين.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٦٥.

(٢) المصدر السابق : ٦٧.

٢٠٤

فأولاها : تعارض المجاز والتخصيص ، ومثاله على ما ذكره العلاّمة في النهاية (١) وتبعه شارح التهذيب في المنية (٢) قوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(٣) نظرا إلى إجماعهم على اختصاص الحكم بغير أهل الذمّة ، فيحتمل حينئذ تخصيص الحكم ببعضهم وهو الحربي ، أو إرادة غير أهل الذمّة منهم مجازا ، وكأنّه مبنيّ على مذهبه في توجيه الكلام الاستثنائي دفعا للتناقض الواقع في الكلام من جعل الإخراج قبل الإسناد بعد إرادة العموم من اللفظ ، وإلاّ فإرادة البعض منه مجازا بجعل الاستثناء قرينة للتجوّز كما ذهب إليه الأكثر في دفع التناقض أيضا من باب المجاز ، فكيف يجعل وجها مقابلا له كما تنبّه عليه بعض الأعاظم ولذا يقال : إنّ التخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز ، لكنّه لمّا كان لهما مزيد اختصاص وامتياز أفردوهما من أقسام المجاز وجعلوهما قسيما له.

ويمكن توجيه المثال أيضا بأنّ تعارض التخصيص والمجاز هنا من جهة دوران الأمر بين التصرّف في هيئة العامّ ، فيكون مجازا من جهة التخصيص بإرادة الخصوص من الهيئة الموضوعة للعموم ، والتصرّف في مادّته وهو المشرك بإرادة الحربي منه من باب استعمال العامّ في الخاصّ بقيد الخصوصيّة فيكون مجازا من غير جهة التخصيص ، وهذا أوجه من سابقه وإن بعد من مذهب العلاّمة.

والأولى أن يمثّل بقوله تعالى : ( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )(٤) بعد ملاحظة عدم وجوب الانتهاء عن المكروهات إجماعا ، فلا بدّ من تخصيص الموصول بالمحرّمات ، أو حمل الأمر على الاستحباب أو القدر الجامع بينه وبين الوجوب ، ونحوه الكلام في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٥) وأولى من الجميع التمثيل بقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ )(٦) بعد ملاحظة عدم وجوب الاستباق بالمستحبّات ، فإمّا أن يخصّص الخيرات بالواجبات ، أو يحمل الصيغة على الاستحباب.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

(٣) التوبة : ٥.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) المائدة : ١.

(٦) البقرة : ١٤٨.

٢٠٥

وكيف كان فالمعروف بين الاصوليّين ترجيح التخصيص ، وظاهرهم الإطباق عليه حيث لم نقف على مصرّح بالخلاف ولا على نقل تصريح بخلافه ، وهو كذلك لشيوع التخصيص وغلبة وقوعه في الخارج كما اعتمد عليه جماعة ، فإنّه في الشيوع وغلبة الوقوع بمثابة قيل فيه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه ».

ولا ريب إنّ ملاحظة ذلك ممّا يوجب وهنا في ظهور العامّ في إرادة العموم ، فيكون الحقيقة أظهر في إرادة معناها الحقيقي منه في إرادة العموم ، وظهورها أقوى الظهورين ، وقضيّة ذلك تطرّق التصرّف المتردّد بينهما إلى العامّ بالتخصيص.

وإلى ذلك يرجع مؤدّى الاستدلال أيضا بما في كلام غير واحد ، من أنّ العامّ عند انتفاء قرينة التخصيص يحمل على الجميع فيدخل فيه المراد أيضا ، بخلاف المجاز الّذي يحمل معه اللفظ عند انتفاء القرينة على حقيقته ، وقد لا تكون مرادة فيفوت الغرض بالمرّة فيكون التخصيص أرجح ، لعدم استلزامه فوات الغرض ، وإن استلزم دخول غيره معه كما اعتمد عليه العلاّمة (١) وجماعة.

ومحصّله : إنّه عند دوران الأمر بين حالتين إحداهما يتضمّن فوات مراد المتكلّم بالمرّة عند الغفلة عن القرينة ، والاخرى لا يتضمّن ذلك كانت الثانية أوفق بغرض المتكلّم وأقرب بمقام الإفادة والاستفادة ، وذلك يوجب أظهريّة الحقيقة في إرادة معناها الحقيقي.

ثمّ إنّ المجاز المقابل للتخصيص قد يعرض العامّ كما في مثال المشركين ، وقد يعرض اللفظ الواقع في الكلام المشتمل على العامّ كما في بواقي الأمثلة ، وقد يعرض اللفظ الواقع في كلام آخر غير ما اشتمل على العامّ كما في الخبرين المتعارضين ، إذا كان تعارضهما من حيث الدلالة باعتبار دوران الأمر بين المجاز في أحدهما والتخصيص في الآخر ، كما في الخبر المستفيض من قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) الدالّ بعمومه على اشتراط صلاة الجنازة بالطهارة على

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(٢) التهذيب ١ : ٤٩ ح ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٥٥ ح ١٦٠ ، الوسائل ١ : ٢٥٦ أبواب الوضوء باب ١ ح ١.

٢٠٦

تقدير كونها صلاة على وجه الحقيقة ، وما لو ورد في خبر آخر مثلا من قوله عليه‌السلام : « يستحبّ الوضوء لصلاة الجنازة » فإمّا أن يخصّص الأوّل بما عدا صلاة الجنازة ، أو يحمل قوله « يستحبّ » على إرادة « يجب » مجازا.

ومن الأعلام من زعم الاقتصار في ترجيح التخصيص على الصورة الاولى ، حيث خصّ غلبة التخصيص به في مقابل المجاز في العامّ لا مطلقا ، أو عليها وعلى الصورة الثانية أيضا بناء على أحد احتمالي عبارته وإن ضعف ، بناء على أن يكون المراد من المجاز في العامّ المجاز في الكلام المشتمل على العامّ ولو في لفظ آخر غير العامّ ، التفاتا إلى شيوع إطلاق العامّ في كلمات الفقهاء والاصوليّين على نحو هذا الكلام ، وكأنّه من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.

لكن قضيّة إطلاق الاصوليّين بكون التخصيص أرجح عدم الفرق بين الصور الثلاث ، وهو المستفاد أيضا من تضاعيف كلام الفقهاء في الكتب الاستدلاليّة ، حيث نراهم في مقام ترجيح أحد الدليلين المتعارضين إذا كان تعارضهما بالمجاز والتخصيص ، يرجّحون التخصيص على المجاز.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه لاتّحاد المناط ، فإنّ شيوع التخصيص وغلبة وقوعه في الخارج إذا أوجب وهنا في ظهور العامّ في العموم كان العامّ أضعف الظواهر فكان غيره أظهر ، وإذا كان الحقيقة أظهر في معناه الحقيقي من العامّ في العموم ، فلا يتفاوت الحال فيه بين الصور الثلاث المذكورة.

وما يقال : من أنّ التخصيص أغلب أفراد المجاز في العامّ لا مطلقا ، ويجعل ذلك وجها في الفرق ومناطا لتخصيص القاعدة بالصورة الاولى ، أو بما عدا الصورة الأخيرة.

يدفعه : إنّه على فرض تسليمه ، إنّما يصحّ لو قصد بإحراز شيوع التخصيص وغلبة وقوعه التمسّك في الترجيح بقاعدة الإلحاق ، أعني إلحاق مورد الشكّ بالأعمّ الأغلب ، فيقال ـ في مقام المناقشة في الدليل ـ : بأنّ القاعدة إنّما تجري في بعض الصور.

٢٠٧

لكن قد تبيّن بما قرّرناه من طريق الاستدلال ، إنّ المقصود من إحراز الشيوع والغلبة في جانب التخصيص إنّما هو بيان صيرورة ظهور العامّ في العموم موهونا بملاحظة شيوع التخصيص في العمومات وغلبة التخصيصات ، ليحرز به كون الحقيقة أظهر في معناها الحقيقي ، ولا فرق في ثبوت الأظهريّة لها وكون العامّ غير أظهر ، بين ما لو فرض المجاز في العامّ ، أو في الكلام المشتمل على العامّ ، أو في كلام آخر غيره ، كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا لوحظ التخصيص والمجاز بنوعيهما مع قطع النظر عن الخصوصيّات الطارئة لأحدهما ، الموجبة لرجحان المرجوح ومرجوحيّة الراجح ، على معنى أنّ التخصيص نوعا أرجح من المجاز نوعا ، لكون غيره من أنواع الحقائق نوعا أظهر من العامّ نوعا ، وهذا لا ينافي انعكاس الفرض باعتبار الطواري ، فإنّه ربّما يطرأ التخصيص أو المجاز من الخصوصيّات ما يوجب مرجوحيّة التخصيص ورجحان المجاز ، لكون العامّ مع ملاحظة هذه الخصوصيّة أظهر من مقابله.

ومن جملة ذلك كون التخصيص المقابل للمجاز تخصيص الأكثر ، فإنّ العامّ عند معارضة تخصيص الأكثر والمجاز ـ لغاية مرجوحيّة ذلك التخصيص وقلّة وقوعه في الخارج ـ أظهر في العموم من مقابله في حقيقته ، فيرجّح المجاز عليه.

ومن جملة ذلك كون المجاز المقابل للتخصيص مجازا مشهورا ، فإنّ الشهرة في المعنى المجازي ـ على تقدير البناء على أصالة الحقيقة في المجاز المشهور في غير محلّ التعارض ـ توجب وهنا في ظهور الحقيقة ، ويصير العامّ بذلك أظهر في العموم من مقابله في حقيقته.

ومن جملة ذلك إعراض المعظم أو غير واحد من الأساطين المشاهير كالمحقّق والشهيدين (١) الأوّلين وأحزابهما في محلّ التعارض عن التخصيص إلى اختيار المجاز ، فإنّه يوجب قوّة في ظهور العامّ وضعفا في مقابله ، لكشفه عن قرينة معيّنة للمجاز قد بلغتهم ، فيكون العامّ أظهر.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٢٠٨

وقد يشكل الحال في محلّ الاختلاف بين شهرة القدماء وشهرة المتأخّرين بكون إحداهما في جانب التخصيص والاخرى في جانب المجاز ، من قرب عهد القدماء بزمان أهل العصمة ، وكثرة تعهّدهم بالقرائن الموجودة ثمّة ومن دقّة نظر المتأخّرين وكثرة تحقيقهم.

وقد توجب الخصوصيّة الطارئة لتكافؤ الحالتين وتساوي الظهورين ، كتخصيص المساوي مثلا.

وبالجملة : فلا بدّ في الترجيح من ملاحظة المقام ، ومراعاة الخصوصيّات الطارئة له.

هذا كلّه فيما يرجع إلى الصغرى وهو تشخيص الأظهر عن غيره.

وأمّا الكبرى وهو وجوب الترجيح بالأظهريّة والأخذ بظهور الأظهر وإرجاع التصرّف إلى الظاهر ، فكون ذلك أوفق بغرض المتكلّم وأقرب بمقام الإفادة والاستفادة ممّا لا ينبغي أن يستراب فيه ، إنّما الكلام في الالتزام بذلك في مجرى عادات المتكلّمين من أهل العرف ، بمعنى أنّه كما إنّ مبنى المحاورة ومدار الإفادة والاستفادة في غير محلّ التعارض على الأخذ بأصالة الحقيقة ، والتعويل على الظهور الأوّلي ، فهل هو في محلّ التعارض أيضا على الأخذ بظهور أظهر الظاهرين والعمل بأصالة الحقيقة فيه ، وإرجاع التصرّف إلى الظاهر ، أو لا التزام في بناء أهل العرف وطريقة أهل اللسان ، بل قد يؤخذ به وقد يؤخذ بظهور الظاهر.

ولكنّ الّذي ينبغي أن يقطع به هو الأوّل ، لإجماع العلماء على الترجيح بالأظهريّة من غير خلاف ، ولو وجد خلاف في بعض صور المسألة فهو راجع إلى الصغرى كما يظهر بالتدّبر.

وهذا الإجماع لا ينبغي أن يكون عن مستند شرعي لأنّ المسألة لغويّة ، والمسائل اللغويّة لا تؤخذ من الشرع ، بل لا بدّ وأن يكون عن مستند عرفي ، فيكشف عن كون الترجيح بالأظهريّة وإرجاع التصرّف إلى غير الأظهر من مجاري عادات العرف ، وإنّ الواجب في بناء أهل اللسان الأخذ بأصالة الحقيقة

٢٠٩

والظهور الأوّلي في الأظهر ، والتعويل على القرينة والظهور الثانوي في الظاهر الغير الأظهر.

وثانيتها : تعارض المجاز والتقييد ، كما في قوله تعالى : ( وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ )(١) لعدم وجوب المسارعة إلى فعل المستحبّات إجماعا ، فإمّا أن يقيّد المغفرة بالواجب أو يحمل الصيغة على الاستحباب مجازا ، وبما تقدّم في وجه ترجيح التخصيص على المجاز يتبيّن وجه رجحان التقييد عليه ، بل هو أولى بالترجيح لكونه أشيع من التخصيص ، من غير فرق في ذلك بين كون المجاز مفروضا في المطلق ، أو في الكلام المشتمل على المطلق ، أو في كلام آخر غير ما فيه المطلق ، كما في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ولذا يحمل المطلق على المقيّد مع قيام احتمال المجاز في الثاني بحمل الأمر على الاستحباب.

وثالثتها : تعارض المجاز والإضمار ، كما في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(٢) لاحتمال إرادة « الأهل » من القرية مجازا بعلاقة المجاورة ، أو إضمار « الأهل » ليصحّ تعلّق السؤال به ، فقالوا : إنّهما متساويان فلا رجحان لأحدهما على الآخر ، لاحتياج كلّ منهما إلى قرينة صارفة له عن ظاهره.

واعترض عليه : بأنّه لا يلزم من تساويهما في الاحتياج إلى القرينة الصارفة للّفظ عن ظاهره ، عدم رجحان أحدهما على الآخر.

ألا ترى أنّ التخصيص يساوي كلاّ منهما في الاحتياج المذكور مع ثبوت رجحانه عليهما معا ، بل الحقّ أنّ الإضمار أولى من المجاز ، لاحتياج المجاز إلى كلّ من الوضع السابق واللاحق والعلاقة ، واستغناء الإضمار عن ذلك.

وفيه : إنّ الاعتراض على الدليل المذكور بنحو ما ذكر وإن كان في محلّه ، ضرورة عدم قضاء تشارك الحالتين المتعارضتين في الاحتياج إلى القرينة بتعادلهما وتساويهما في مرتبة الرجحان ، ولا ينافي وقوع التراجيح بينهما ، غير أنّ ترجيح

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(٢) يوسف : ٨٢.

٢١٠

الإضمار بنحو ما ذكر في غير محلّه ، لوضوح أنّ الامور المذكورة إنّما تصلح مرجّحة لملزومها إذا كان مع معارضه من أحوال اللفظ لا مطلقا.

كيف وحصول الوضعين والعلاقة المصحّحة للتجوّز فيما يحتمل التجوّز من شروط موضوع المسألة ، ضرورة امتناع التجوّز مع انتفاء هذه الامور كلاّ أم بعضا ، فهي على تقدير كون الحالة الواقعة هو الإضمار متيقّن الحصول ، فلا يمكن نفيه بكون المجاز ملزوما لها.

فالوجه في الترجيح النظر في إحراز الأظهريّة ، والظاهر انتفاء الأظهريّة هاهنا ، فمعنى تساوي الحالتين تساوي ما يحتمل الإضمار وما يحتمل التجوّز في مرتبة الظهور ، مع عدم قيام ما يوجب قوّة في ظهور أحدهما وضعفا في الآخر ، من شيوع وغلبة وقوع في الخارج.

وعليه فيستحيل الترجيح ، وحينئذ فإن لم يختلف الحكم الشرعي باختلاف الحالتين المتعارضتين كما في المثال فلا كلام ، وإلاّ فلا بدّ من مراعاة ما يرجّح أحدهما من القرائن الجزئيّة الغير المنضبطة ، أو الوقف في حال الخطاب والأخذ بالاصول العمليّة ـ كلّ في مورده ـ إحرازا لكيفيّة العمل.

ورابعتها : تعارض المجاز والنسخ ، كما في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ )(١) الظاهر في وجوب البدءة في غسل اليدين من رؤوس الأصاب والانتهاء إلى المرافق مع ما دلّ من إجماع أو رواية قطعيّة الصدور على أنّ تكليفنا اليوم البدأة من المرافق والانتهاء إلى الأصابع ، فالآية محتملة حينئذ لنسخ الحكم الأوّل فيكون ذلك الدليل ناسخا ، أو للتجوّز في كلمة « الانتهاء » بإرادة الابتداء منها ، فيكون ذلك الدليل من باب البيان.

ولا يضرّ كونه هو الإجماع باحتمال البيانيّة ، نظرا إلى جواز تأخّر انعقاده عن زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل عصر الأئمّة عليهم‌السلام أيضا ، فيلزم تأخّر البيان عن وقت الحاجة ،

__________________

(١) المائدة : ٦.

٢١١

لأنّ معنى كون الإجماع بيانا ، إنّه يكشف عن وجود قرينة حاليّة أو فعليّة أو قوليّة حال الخطاب أفادت التجوّز وقد اختفت علينا.

كما لا يقدح كونه رواية في احتمال الناسخيّة إلاّ إذا كانت رواية نبويّة ، نظرا إلى استحالة النسخ بعد انقطاع الوحي ، لأنّ حقيقة النسخ هو بيان انتهاء مدّة استمرار الحكم ، وإنّما يستحيل وقوعه بعد انقطاع الوحي إذا كان مستنده الوحي أو الإلهام أو نزول جبرئيل ، أو غير ذلك ممّا يختصّ بالأنبياء.

وأمّا إذا كان مستنده إيقاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإخباره لوصيّة عليه‌السلام باستمرار الحكم إلى غاية فلانيّة مع أمره عليه‌السلام إيّاه عليه‌السلام ببيان انتهاء مدّة استمراره عند حلول الغاية ، فلا استحالة فيه أصلا.

نعم إنّما يعتبر في الرواية مطلقا كونها قطعيّة الصدور ، بتواتر أو استفاضة أو احتفاف بالقرائن القطعيّة ، حذرا عن النسخ بخبر الواحد.

وكيف كان : فالأرجح في هذه الصورة هو المجاز كما هو المعروف ، من غير خلاف يعرف فيه ، عملا بقاعدة الإلحاق الملحقة لمورد الاشتباه ـ وهو الحالة الواقعة في الخطاب المردّدة بين المجاز والنسخ ـ بالأعمّ الأغلب ، نظرا إلى كون وقوع المجاز في خطابات الشرع في غاية الشيوع والكثرة وليس كذلك النسخ.

مضافا إلى كون ظهور الخطاب بنفسه في استمرار الحكم أقوى وأكثر من ظهور ما يحتمل فيه المجاز في معناه الحقيقي ، فيجب الالتزام بالمجاز ترجيحا للأظهر على الظاهر.

ولو سلّم منع الأظهريّة الذاتيّة فشيوع وقوع المجاز في خطابات الشرع وقلّة وقوع النسخ ممّا يقوي ظهور الخطاب في الاستمرار ، ويوهن ظهور الحقيقة في معناه الحقيقي ، فيكون الأوّل أيضا ، أظهر فيجب ترجيحه المقتضي لنفي احتمال النسخ.

وربّما استدلّ أيضا بما استفاض من الروايات : بأنّ حلال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة.

٢١٢

وفيه : من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ هذه الروايات إنّما سيقت لبيان استمرار شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم القيامة ، على معنى أنّها لا تنقطع بشرع نبيّ آخر ، حيث لا نبيّ بعد خاتم النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولذا لا يفهم تعارض بينها وبين أدّلة وقوع النسخ في موارد مخصوصة ، وعليه فيكون المجموع من الناسخ والمنسوخ من شريعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعنى استمراره : إنّ الأمر الدائر بين الناسخ والمنسوخ حكم مستمرّ إلى يوم القيامة.

وأضعف منه التمسّك باستصحاب عدم النسخ ، فإنّ مرجع الكلام في الترجيح في باب تعارض الأحوال إلى إحراز دلالة الخطاب ، والاستصحاب من الاصول العمليّة الّتي اخذ في موضوعاتها انتفاء الدلالة رأسا.

ولا ريب أنّ ما احذ في موضوعه انتفاء الدلالة لا يصلح محرزا للدلالة ، فالوجه في الترجيح هو ما بيّنّاه من الوجوه الثلاث.

وخامستها : تعارض التخصيص والتقييد ، الّذي مرجعه إلى تعارض العموم والإطلاق كما في قوله : « أكرم العلماء ، ولا تكرم الفاسق » مثلا ، لتعارضهما في مادّة الاجتماع وهو « العالم الفاسق » فلا بدّ من تصرّف إمّا بتخصيص العامّ أو تقييد المطلق ، والأرجح هاهنا هو التقييد كما ذكره الاصوليّون ، لقاعدة الإلحاق الملحقة للمشتبه بالأعمّ الأغلب ، لغلبة التقييد بحسب الوقوع الخارجي على التخصيص ، كما ربّما يفصح عنه كون المطلقات أكثر بمراتب شتّى من العمومات الّتي ليس لها إلاّ صيغ مخصوصة.

وبالجملة : العمومات مقصورة على ألفاظ مخصوصة ولا كذلك المطلقات ، فإنّها بغاية كثرتها كغير المحصور ، فتأمّل.

هذا مضافا إلى أنّ العامّ بنفسه أظهر في العموم من المطلق في الإطلاق ، ولك أن تأخذ غلبة التقييد بالنظر إلى التخصيص جهة لتقوية ظهور العامّ وتوهين ظهور المطلق ، وأيّا ما كان فالواجب اختيار التقييد ترجيحا للأظهر على الظاهر.

وقد يستدلّ بناء على ما حقّقه سلطان العلماء من كون التقييد حقيقة ، بأنّ

٢١٣

الحكم بالإطلاق من حيث عدم البيان والعامّ بيان ، فإنّ عدم بيان التقييد جزء من مقتضى الإطلاق ، وبيان التخصيص مانع عن اقتضاء العامّ للعموم ، فإذا رفعنا المانع عن العموم بالأصل والمفروض وجود المقتضى له يثبت بيان التقييد ، وارتفع المقتضى للإطلاق ، فالمطلق دليل تعليقي والعامّ دليل تنجيزي.

ويزيّفه : إنّ بيان التخصيص في العامّ وإن كان مانعا ، إلاّ أنّ عدم المانع هنا جزء من مقتضى ظهور العامّ في العموم ، فإنّ ظهور العامّ في العموم إنّما هو من باب أصالة الحقيقة بمعنى ظهور الحقيقة.

وقد عرفت أنّ ظهور الحقيقة في موارد أصالة الحقيقة ، معلّق على تجرّد اللفظ عن قرينة المجاز ولو بحكم الأصل ، فالتجرّد الّذي هو في العامّ ، عبارة عن عدم بيان التخصيص ولو بحكم الأصل جزء من مقتضى العموم ، فيكون كلّ من العامّ والمطلق من هذه الجهة دليلا تعليقيّا ، مع أنّ جريان الأصل النافي لاحتمال التخصيص مع قيام احتمال التقييد فيما يصلح له الّذي ينفيه الأصل أيضا مشكل.

فالوجه أن يقال : إنّ ظهور العامّ في العموم وضعي وظهور المطلق في الإطلاق عقلي ، بناء على مذهب السلطان ، فإنّ أخذ الخصوصيّة مع الماهيّة في لحاظ جعل الحكم لا يلازم أخذها في لحاظ الاستعمال.

وقضيّة ذلك : أن لا يكون أصالة الحقيقة المحرزة لحال الاستعمال في المطلق منافية لتقييد الماهيّة في لحاظ الجعل ، لكنّ المتكلّم لمّا ترك بيان التقييد وسكت عن ذكر القيد في مقام البيان حكم العقل بكون المأخوذ في لحاظ الجعل أيضا هو الماهيّة المطلقة ، لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل بإرادة الماهيّة المقيّدة بالخصوصيّة من غير بيان ، والظهور الوضعي وارد على الظهور العقلي ، لأنّ حكم العقل بالإطلاق إنّما هو حيث لم يقابل المطلق ظهور ولا عامّ ، فيبقى ظهور العامّ سليما عن المعارض وينهض بذلك بيانا للتقييد ، فالمطلق دليل تعليقي بهذا المعنى لا بالمعنى المتقدّم.

نعم على مذهب بعض الأعلام (١) في التقييد من كونه تجوّزا في المطلق

__________________

(١) والمراد منه صاحب القوانين رحمه‌الله.

٢١٤

لا محالة ، كان كلّ من ظهوري العامّ والمطلق وضعيّا يحصل من باب أصالة الحقيقة ، فسقط معه التمسّك في الترجيح بقاعدة الورود ، وتعيّن الاستناد إلى الوجهين الأوّلين.

ثمّ عموم العامّ المقابل للتخصيص فيما يحتمله قد يثبت بغير الوضع ، كالثابت بدليل الحكمة ، أو بقاعدة السريان في مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) أو بقاعدة الامتنان ، أو بقاعدة ورود الخطاب مورد إعطاء ضابط كلّي ، وغير ذلك من القرائن الكلّية أو الجزئيّة المثبتة للعموم فيما ليس بعامّ وضعا ، والظاهر بملاحظة إطلاق الاصوليّين ترجيح التقييد على التخصيص عدم الفرق بين تعارض الإطلاق والعموم الوضعي وتعارضه والعموم الغير الوضعي ، وكأنّ مستنده الغلبة المحرزة لقاعدة الإلحاق.

كما أنّ قضيّة إطلاقهم أيضا في الترجيح بالنسبة إلى التقييد ، عدم الفرق فيه بين كون محلّ التقييد المحتمل هو المطلق ، بمعنى ما دلّ على الماهيّة من حيث هي ، وكونه المطلق بمعنى ما دلّ على الفرد المنتشر كالنكرة وما بمعناها.

وسادستها : تعارض التخصيص والإضمار ، كما في قوله عليه‌السلام : « لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل » (٢) فإنّ صحّة انعقاد النفل بالنيّة المتأخّرة عن الليل إلى الزوال ـ بل ما بعده أيضا ـ يقضي بتخصيص العامّ بما عدا النفل ، أو إضمار ما يرجع إليه ممّا عدا الصحّة كالكمال والفضيلة ، وحيث ثبت رجحان التخصيص على المجاز لشيوعه وغلبة وقوعه ، قضى ذلك برجحانه على الإضمار المعادل له ، بعين ما ذكر مع أظهريّة الخطاب في عدم الإضمار بنفسه من العامّ في العموم ، كما هو واضح.

وسابعتها : تعارض التخصيص والنسخ ، وإنّما يتأتّى ذلك في العامّ والخاصّ المتنافيي الظاهر ، وتفصيل القول في أحكامهما موكول إلى محلّه ، إلاّ أنّ مجمل القول في هذا التعارض إنّه مفروض فيما إذا لم يكن هناك احتمال آخر غير

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) سنن الدار قطني ٢ : ١٧١ / ١ وفيه : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا صيام لمن يبيّت الصيام من الليل.

٢١٥

التخصيص والنسخ ، أو إنّ الكلام في علاج هذا التعارض من حيث إنّه واقع بين الأمرين مع قطع النظر عن احتمال آخر ، من غير فرق في ذلك بين تقدّم الخاصّ على العامّ كما لو قال : « لا تكرم زيدا العالم » ثمّ قال : « أكرم العلماء » أو تأخّره عن العامّ كما في المثال إذا قال : « لا تكرم زيدا العالم » بعد قوله : « أكرم العلماء ».

أمّا الأوّل : فمرجع التعارض فيه إلى دوران الأمر بين نسخ الخاصّ أو تخصيص العامّ ، على معنى تعدّد موردي المتعارضين ، وشرطه تأخّر ورود العامّ عن حضور وقت العمل بالخاصّ ، فيرجّح التخصيص لشيوعه وغلبة وقوعه ، مضافا إلى كون الخاصّ أظهر في دوام الحكم واستمراره من العامّ في العموم الأفرادي ، مع أنّ مرجع هذا التعارض ـ عند التحقيق ـ إلى تعارض ظهور واحد لظهورين ، ظهور كلّ من الخطابين في استمرار حكمه من بدو الشريعة إلى يوم القيام ، والقول بالنسخ طرح لكلا الظهورين كما لا يخفى ، بخلاف القول بالتخصيص فإنّه طرح لظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وظاهر إنّ هذا الظهور لا يكافئ أحد الظهورين المذكورين فضلا عن كليهما ، فلا ينبغي طرحهما بظهور واحد.

وأمّا الثاني : فمرجع التعارض فيه إلى الدوران بين التخصيص والنسخ في العامّ على معنى وحدة مورديهما ، وشرطه اشتباه حال الخاصّ من حيث تأخّره عن حضور وقت العمل بالعامّ أو تقدّمه عليه ، فيرجّح التخصيص أيضا لعين ما ذكر ، ولا سيّما لزوم طرح ظهورين باختيار النسخ.

وأمّا مع العلم بتقدّم ورود الخاصّ على حضور وقت العمل بالعامّ ، كما لو علم بتقدّم ورود العامّ على حضور وقت العمل بالخاصّ ، فالمتعيّن فيه التخصيص لاستحالة النسخ حينئذ ، حذرا عن البداء المحال على الله تعالى.

وأمّا مع العلم بتأخّر الخاصّ عن حضور وقت العمل بالعامّ فربّما يشكل الحال بالنظر إلى بعض الصور ، فإنّه قد يكون بحيث علم من الخارج بكون تكليف السابقين المخاطبين بالعامّ ظاهرا وواقعا هو العمل بعموم العامّ ، ولا إشكال حينئذ في تعيّن النسخ.

٢١٦

وقد يكون بحيث علم من الخارج بكون تكليفهم ظاهرا وواقعا هو العمل بالخاصّ ، وإنّما يصحّ ذلك إذا انكشف ـ ولو من ملاحظة ورود الخاصّ ـ قرينة كانت مع العامّ حين وروده أفادت إرادة الخصوص من العامّ واختفت علينا ، فلا إشكال حينئذ في كون ورود الخاصّ من باب التخصيص ، بل الكاشف عن وجود المخصّص مع العامّ.

وقد يكون بحيث علم بكون تكليفهم ظاهرا هو العمل بالعموم وواقعا هو العمل بالخصوص.

وإنّما يصحّ ذلك إذا كانت هناك مصلحة اقتضت إخفاء هذا الحكم إلى زمان ورود الخاصّ ، فيكون وروده حينئذ بالنظر إلى التكليف الظاهري من باب النسخ وإن كان إطلاق النسخ على نحو ذلك لا يخلو عن مسامحة ، وبالنظر إلى التكليف الواقعي من باب التخصيص.

وقد يكون بحيث لم يتبيّن شيء من ذلك وهذا هو محلّ الإشكال ، ومرجعه إلى التعارض بين الظهورات الثلاث ، ظهور العامّ في العموم الأفرادي ، وظهور الخطاب في كون مؤدّاه هو تكليف المخاطبين ظاهرا وواقعا ، وظهوره في دوام ذلك الحكم واستمراره ، وأظهر موارد هذا الإشكال العمومات الواردة في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الوصيّ أو بعض الأئمّة عليهم‌السلام المقابلة للخصوصات الواردة بعد انقضاء مدّة عن باقي الأئمّة ، فيدور الأمر فيها بين نسخ الحكم الواقعي عن بعض أفراد العامّ ، أو كشف الخاصّ عن قرينة مع العامّ مختفية ، أو كون المخاطبين بالعامّ مكلّفين ظاهرا بالعمل بالعموم وواقعا بالخصوص المراد من العامّ في الواقع.

لكن احتمال النسخ ينفى ببعده وقلّة وقوعه ، مضافا إلى استلزامه طرح ظهور كلا الخطابين في استمرار مفاديهما من أوّل الشريعة إلى آخرها ، فإنّ النسخ يوجب عدم استمرار حكم العامّ إلى آخر الشريعة ، كما يوجب عدم استمرار حكم الخاصّ من أوّل الشريعة ، إلاّ أن يمنع ظهوره في ثبوت حكمه بالنسبة إلى ما قبل صدوره ، أو يفرض بحيث لم يكن ظاهرا فيه.

٢١٧

وكيف كان : فيبقى الخاصّ بعد نفي احتمال النسخ مردّدا بين الكشف والتخصيص ، والنظر في ترجيح أحد هذين الوجهين ممّا لا يرجع إلى طائل ، حيث إنّ تكليفنا اليوم ظاهرا وواقعا هو العمل بالخاصّ ، والمفروض إنّ تكليف السابقين المخاطبين بالعامّ واقعا أيضا هو العمل به ، غير إنّه يبقى الشبهة في أنّ تكليفهم ظاهرا أيضا كان هو العمل به أو العمل بالعامّ ، وقد اختفى عليهم الحكم الواقعي لمصلحة ، وهذا شيء لا يترتّب على تحقيقه بالنسبة إلينا فائدة مهمّة ، ولا يتفرّع عليه ثمرة عمليّة ، فلا داعي إلى الخوض في تحقيقه.

مع أنّه قد يقال : إنّ الكشف واختفاء القرائن المخصّصة للعمومات حين ورودها ممّا يبعّده عادة ، بل يستحيله عموم البلوى بها علما وعملا ، وهو يقضي بعدم اختفائها لو كانت مع العمومات مع إمكان دعوى العلم بعملهم بالعمومات وعدم علمهم بقرائن معها ، بل المعلوم جهلهم بها.

وقضيّة ذلك تعيّن التخصيص ، ولا بعد فيه أصلا كما لا مانع عنه عقلا ولا شرعا ، إذ كما يجوز رفع مقتضى البراءة الأصليّة الثابتة بحكم العقل ببيان التكليف الإلزامي على التدريج ، على ما هو معلوم من سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الأحكام مع اشتراك الكلّ في الأحكام الواقعيّة ، فكذلك يجوز ورود التخصيص والتقييد ببيان ما يخصّص العمومات ويقيّد المطلقات الواردتين في أوائل البعثة على التدريج ، مع كون الحكم الظاهري للسابقين العمل بعمومها وإطلاقها ، لاقتضاء المصلحة إخفاء الحكم الواقعي بالنسبة إلى بعض أفراد العامّ والمطلق عليهم وعلى من يضاهيهم إلى زمان ورود بيان التخصيص أو التقييد ، من غير فرق فيه بين كون الحكم الظاهري المعلّق على العامّ أو المطلق الترخيص في فعل شيء أو تركه ، المستلزم لكون الحكم الواقعي في بعض الأفراد التكليف الإلزامي بالترك أو الفعل مع اختفائه لمصلحة ، أو كونه التكليف الإلزامي بفعل أو ترك لمصلحة في أصل التكليف مع كون الحكم الواقعي هو الترخيص في الترك أو الفعل ، وقد اختفى عليهم للمصلحة المذكورة.

٢١٨

ودعوى الفرق بين إخفاء التكليف الفعلي وإبقاء المكلّف على ما كان عليه من الفعل والترك عملا بمقتضى البراءة الأصليّة ، وبين إنشاء الرخصة له في فعل الحرام الواقعي أو ترك الواجب الواقعي تحكّم ، وإن حصل الفرق بينهما بكون الأوّل من باب عدم البيان والثاني من باب بيان العدم ، وهذا ممّا لا قبح فيه بعد مساعدة المصلحة عليه ، بل المستفاد من تتبّع الأخبار ـ كما هو الظاهر من خلوّ العمومات والمطلقات عن القرائن المخرجة عنها ـ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نصب وصيّه عليه‌السلام مبيّنا لجميع ما أطلقه أو أهمله ، أو أطلق أو أهمل في الكتاب العزيز وأودعه علمه ، وكذا الوصيّ بالقياس إلى من بعده من الأوصياء عليهم‌السلام ، فبيّنوا ما رأوا المصلحة في بيانه ، وأخفوا ما رأوا المصلحة في إخفائه ، بل ربّما يستظهر تقرير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو وصيّه للسابقين على العمل بعموم العمومات وإطلاق المطلقات مع كون الواقع في بعض الأفراد خلافه ممّا ورد في خطبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الغدير ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « معاشر الناس ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويباعدكم عن النار إلاّ وقد أمرتكم به ، وما من شيء يقرّبكم إلى النار ويباعدكم عن الجنّة إلاّ وقد نهيتكم عنه » (١) مع ملاحظة أنّ كثيرا ممّا بيّنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مودّعا عند الأوصياء مخفيّا على السابقين.

هذا كلّه فيما لو تأخّر ورود الخاصّ عن حضور وقت العمل بالعامّ ، من دون تبيّن حال العامّ من حيث العمل به وعدمه.

وأمّا لو تأخّر عن العمل بالعامّ أيضا ، مع تأخّره عن حضور وقت العمل به فسقط عنه احتمال الكشف ، وبقي مردّدا بين النسخ والتخصيص المبيّن للحكم الواقعي الوارد على خلاف الحكم الظاهري ، الّذي تعبّد به السابقون بمقتضى العامّ ، لكنّ النسخ أيضا ينتفي بما تقدّم ويتعيّن التخصيص.

وثامنتها مع تاسعتها وعاشرتها : تعارض التقييد والإضمار أو النسخ ، وتعارض الإضمار والنسخ ، ففي الاولى والثانية يرجّح التقييد ، وفي الثالثة يرجّح

__________________

(١) المحاسن : ٢٧٨.

٢١٩

الإضمار ويظهر الوجه في الجميع بملاحظة ما مرّ ، كما يظهر أمثلة هذه الصور بالتأمّل.

وقد يمثّل للتقييد والإضمار بقوله عليه‌السلام : « الصلاة خير موضوع من شاء استقلّ ومن شاء استكثر » (١) نظرا إلى عدم جواز التعدّي عن الموظّف من الفرض لا تقليلا ولا تكثيرا ، فإمّا أن يقيّد الصلاة بالنفل أو يضمر النافلة عقيب قوله : « استقلّ ».

وللإضمار والنسخ بقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ )(٢) مع ملاحظة وجوب تطهير ما باشره الكلب ، فعلى تقدير إطلاق الآية بالقياس إلى موضع العزّ إمّا أن يضمر ما يفيد خروجه عن الإطلاق ، أو يلتزم بنسخ مقتضى الإطلاق بالنسبة إلى هذا الموضع.

__________________

(١) معاني الأخبار : ٣٣٣.

(٢) المائدة : ٤.

٢٢٠