تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

لها إلاّ على تقدير حصول الآثار المقصودة منها ، من زوال قيد النكاح وعلاقة الزوجيّة ، وزوال الرقّيّة وانفكاك الملك ، ولزوم ما ألزم على النفس عليها ، فالفساد الّذي يضاف إلى هذه الماهيّات إنّما هو حيث لم يحصل هذه الآثار ، ومع عدم حصولها لا تحقّق لأصل هذه الماهيّات ، ضرورة أنّ تحقّق الإزالة بدون الزوال ، والفكّ بدون الانفكاك ، والإلزام بدون اللزوم ، بحسب الخارج غير معقول ، كما أنّ حقيقة الكسر بدون الانكسار والإيجاب بدون الوجوب والنقل بدون الانتقال غير معقولة ، فهي بدون الصحّة ـ على معنى انتفاء هذه الآثار ـ ليست بشيء في الخارج ، لتكون من مسمّى اللفظ أو نفس مسمّاه.

وعليه فلا يعقل فيها إلاّ الوضع للصحيحة ، وإطلاقها على الفاسدة الّتي فسادها لأجل انتفاء أصل ماهيّة المسمّى لا يصحّ هنا إلاّ لضرب من المجاز ، كالمجاز بالمشارفة أو الاستعمال في القصد والإرادة تسمية للسبب باسم المسبّب ، إلى غير ذلك ممّا يتحمّله المقام. فليتدبّر.

المقدّمة الثالثة : الصحّة على ما يساعد عليه أمارات الحقيقة وكواشف الوضع ، يطلق في العرف على الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود منه عليه.

وبعبارة اخرى : كونه بحيث يترتّب عليه ذلك الأثر ، فإنّ كونه بهذه الحيثيّة صفة منتزعة عنه باعتبار اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر ، فالصحيح هو ما له هذه الصفة والفساد في مقابله ، وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار عدم اشتماله على ما له دخل في ترتّب الأثر عليه.

وفي عرف الفقهاء والاصوليّين على الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار انطباقة على المأمور به واندراجه تحته ، وهذه الصفة عند المتكلّمين هي موافقة الأمر ، وعند الفقهاء إسقاط القضاء ، والظاهر إنّهما متلازمان ، فالاختلاف بين الفريقين كاللفظي ، حيث إنّ أحد الفريقين عقد الاصطلاح في أحد المتلازمين والفريق الآخر في المتلازم الآخر.

٣٢١

فما يقال : من أنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلقا ويظهر الثمرة بينهما في الصلاة بظنّ الطهارة ، لعلّه ليس بشيء ، ولتفصيل القول فيه محلّ آخر وانتظر له.

فالصحيح حينئذ ما له هذه الصفة ، ويفسّر بما يوافق الأمر تارة ، وما أسقط القضاء اخرى ، وفي مقابله الفاسد ، والمراد بالصحّة في المتنازع فيه إنّما هو المعنى الأوّل ، كما يفصح عنه ما في كلام جماعة من تفسير الصحيح بالماهيّة الجامعة لجميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود من الأجزاء والشرائط ، أو الجامعة لجميع الامور المعتبرة في المأمور به من الأجزاء والشرائط ، أو الجامعة لجميع الأجزاء والشرائط.

وأمّا الصحّة بالمعنى الثاني فينبغي القطع بعدم إرادتها هنا ، لأنّها بهذا المعنى من عوارض الشخص ولوازم الوجود الخارجي.

والكلام في محلّ البحث إنّما هو في كون الصحّة مأخوذة في مسمّيات ألفاظ العبادات وعدمه ، وظاهر أنّها موضوعة لمسمّياتها باعتبار مفاهيمها لا باعتبار وجوداتها ، وإذا لم يكن الوجود مأخوذا فيها فما هو من لوازمه أولى بالعدم ، وأيضا فإنّ الصحّة بالمعنى المذكور من توابع الأمر.

ولا ريب أنّ مرتبة الأمر والطلب متأخّرة عن مرتبتي التسمية والاختراع ، والكلام في المسألة على ما عرفت راجع إمّا إلى مرتبة الاختراع أو إلى مرتبة التسمية ، فلا يصحّ أن يؤخذ فيه من الصحّة ما هو متأخّر عنهما بحسب المرتبة ، وأيضا فإنّ المسمّى المأخوذ فيه الصحّة ـ على القول بها ـ موضوع للأمر الّذي ينتزع عنه الصحّة بالمعنى الثاني ، فلا يعقل كونها مأخوذة فيه ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه كما هو واضح.

نعم الصحّة والفساد بهذا المعنى إنّما اخذا محلاّ للبحث في مسألة النهي في العبادات ، والنسبة بينهما بهذا المعنى المأخوذ في مسألة النهي وبينهما بالمعنى الأوّل المأخوذ في محلّ البحث عموم وخصوص مطلق ، فإنّ الصحّة بالمعنى المأخوذ في مسألة النهي أخصّ منها بالمعنى المأخوذ في محلّ البحث مطلقا.

٣٢٢

ضرورة أنّ موافقة المأتيّ به للمأمور به يقتضي أمران (١) ، الأمر واشتماله على جميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود ، وما اشتمل على جميع ما له دخل في ترتّب ذلك الأثر أعمّ من كونه مأمورا به وعدمه ، كما أنّ الفساد في محلّ البحث أخصّ مطلقا منه بالمعنى المأخوذ في مسألة النهي ، ضرورة أنّ عدم موافقة المأتيّ به للمأمور به قد يكون لانتفاء الأمر كما في صلاة الحائض ، وقد يكون لاختلال فيما له دخل في ترتّب الأثر من جزء أو شرط كصلاة المحدث ، أو تارك السورة عمدا أو قارئ سورة العزيمة مثلا ، وبذلك يعلم الجواب عمّا احتجّ به من قال ـ في مسألة النهي بأنّه يدلّ على الصحّة ـ : من أنّ الصلاة في قوله : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » (٢) اسم للصحيحة ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فلا بدّ أن يكون الصلاة الصحيحة مقدورة للحائض لئلاّ يلزم التكليف بغير مقدور. وقضيّة ذلك كون صلاتها صحيحة.

فإنّ ما يثبت بهذه المقدّمات ـ بعد فرض صحّتها ـ إنّما هو الصحّة بالمعنى المأخوذ في مسألة الصحيح والأعمّ ، وهو أعمّ من الصحّة المأخوذة في مسألة النهي ، فهذه الصحّة لا تنافي الفساد بالمعنى المأخوذ في كلام القائل بدلالة النهي عليه ، كما لا يخفى.

وممّن تفطّن بهذا الجواب بعض الأعلام في جملة كلام له ، فراجع وتأمّل جيّدا. ولذا جعل صلاة الحائض من باب المنهيّ عنه لنفسه ، بإرجاع الظرف في قوله : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » إلى الموضوع أو الحكم والنسبة الحكميّة ، ردّا على من زعمه من باب المنهيّ عنه لوصفه ، بجعل الظرف قيدا للمحمول وهو الصلاة.

وتوجيه الردّ ـ لعلّه على ما يساعد عليه النظر ـ : أنّ المأمور به لا بدّ وأن يكون بجميع قيوده حتّى الشرائط ـ ولو باعتبار مبادئها ـ مقدورا وحالة الحيض من الامور الخارجة من القدرة حدوثا وارتفاعا ، فلا يصلح عدمها قيدا للمأمور

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : أمرين.

(٢) الكافي ٣ : ٨٣ ح ١ ، التهذيب ١ : ٣٨١ ح ١١٨٣ ، السنن الكبرى ١ : ٣٣٢ ، سنن الدار قطني ١ : ٢١٢.

٣٢٣

به ، ولذا تعدّ كحالة الجنون ونحوها من موانع الأمر ، فلا أمر بالصلاة معها لا أنّ الصلاة الحاصلة معها منهيّ عنها مع ثبوت الأمر بها ، لا معها.

وقضيّة ذلك أن يكون الحائض في تلك الحالة منهيّة عن الصلاة ، وإن اخذت الصلاة جامعة لجميع شروط الصحّة ، الّتي ليس منها عدم الحيض بمقتضى البرهان المذكور.

والعجب منه إنّه مع تفطّنه هاهنا بهذا التحقيق ، جعل « الصلاة » في هذا التركيب في محلّ البحث ممّا استعمل في الفاسدة ، بزعم ورود النهي عليها حال حصولها في أيّام الحيض وهي فاسدة ، لأنّ الصحيحة منها ما يحصل في غير هذه الأيّام ، وبين كلاميه من التهافت ما لا يخفى ، مع ورود كلامه في محلّ البحث على خلاف التحقيق كما عرفت.

وبما عرفته في دفع شبهة القائل بدلالة النهي على الصحّة تقدر على دفع ما أورده رحمه‌الله ـ تأييدا لما اختاره من القول بالأعمّ ـ على القول بالصحيحة باستلزامه في اليمين على ترك الصلاة المحال ، وهو أن يلزم من انعقاد اليمين عدم انعقاده.

حيث قال : إنّه لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه أو مباح مثلا وحصول الحنث بفعلها ، ويلزمهم على ذلك المحال ، لأنّه يلزم حينئذ من ثبوت اليمين نفيها ، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيّا عنها ، والنهي في العبادة مستلزم للفساد ، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها ، إذ هي إنّما تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم ، إلى آخره.

وتوضيح الدفع : بعد الغضّ عن كون المحذور على تقدير صحّته مشترك الورود ـ بناء على ما صرّح به غير مرّة من أنّها في نحو مقام النذر واليمين محمولة على إرادة الصحيحة على مذهب الأعمّي أيضا ـ إنّ الفساد الناشئ من النهي بحكم امتناع اجتماع الأمر والنهي إنّما هو الفساد اللازم من انتفاء الأمر ، وهو لا ينافي الصحّة بالمعنى الّذي يلتزم به القائل بالصحيحة ، واليمين لا يقتضي أزيد من الصحّة بهذا المعنى ، مضافا إلى أنّ المانع عن انعقاد اليمين إنّما هو الفساد السابق على

٣٢٤

اليمين ، وهو في المقام لاحق به لكونه من آثاره ، فلا يعقل كونه مؤثّرا في عدم انعقاده كما هو واضح.

ثمّ إنّ المراد بالصحيحة على القول بها بناء على ما عرفت من معنى الصحّة بحسب العرف ـ ما هو ملزوم للصحّة بهذا المعنى ـ وهو الماهيّة المشتملة على جميع ما له دخل من الأجزاء والشرائط في ترتّب ما هو الباعث على الأمر بها من الآثار ، ويلزمه أن يكون الصحّة بمعنى الصفة المذكورة بالنسبة إلى ماهيّة المسمّى من قبيل العرض اللازم ، فتكون وجودا وعدما دائرة مع الصحّة وجودا وعدما ، على معنى تحقّقها حيثما تتحقّق الصحّة وانتفائها حيثما تنتفي الصحّة.

وقضيّة ذلك أن يكون خروج الفاسدة عن الأوامر الواردة على الصحيحة خروجا موضوعيّا ، وهو الباعث على كون اللفظ حيثما يطلق عليها مجازا بعلاقة المشاكلة الصوريّة ونحوها ، لخروجها عن أصل المسمّى الحقيقي ، إلاّ إذا كان مبناه على نحو من التنزيل.

وبالأعمّ ما ليس ملزوما للصحّة ولا الفساد على معنى كون المسمّى بحيث اعتبر في لحاظ الوضع أو التسمية المطلقة ، على وجه يقبل كلا وصفي الصحّة والفساد.

ويلزمه أن يكون كلّ منهما بالقياس إلى أصل المسمّى من قبيل العرض المفارق ، فقد يتحقّق مع الصحّة وقد يتحقّق مع الفساد ، ويكون إطلاق اللفظ على كلّ منهما باعتباره على وجه الحقيقة.

نعم قد يكون الفاسدة بحيث يكون فسادها باعتبار انتفاء أصل ماهيّة المسمّى ويكون الإطلاق عليها حينئذ بهذا الاعتبار مجازا.

وقضيّة ذلك كلّه كون خروجها عن الأوامر تارة خروجا حكميّا واخرى خروجا موضوعيّا ، ويعلم التمييز بينهما بمراجعة الخارج.

ثمّ هذا النزاع لا ينبغي أن يرجع إلى مرتبة الطلب ، لاتّفاق الفريقين فيها على الصحيحة ولو بمعونة قرينة الطلب ، لوضوح إنّ الحكيم لا يأمر بما لا يترتّب عليه

٣٢٥

الأثر الباعث على الأمر ، بل إنّما يأمر بما يترتّب عليه هذا الأثر ، وليس إلاّ ما اشتمل على جميع ما له دخل في ترتّبه من الأجزاء والشرائط ، بل إنّما هو راجع إمّا إلى مرتبة التسمية أو إلى مرتبة الاختراع ، والنسبة بين المطلوب والمسمّى والمخترع هو التساوي على مذهب الصحيحي ، لكون هذه الامور على هذا المذهب عناوين مختلفة بالمفهوم متّحدة بالمصداق فتكون من المتساوية.

وأمّا على مذهب الأعمّي فإن رجع النزاع إلى مرتبة التسمية ـ بعد الاتّفاق على الصحّة في مرتبة الاختراع كالاتّفاق عليها في مرتبة الطلب ـ فالنسبة بين المسمّى وكلّ من المخترع والمطلوب عموم مطلق ، لكون المسمّى حينئذ أعمّ مطلقا من كلّ منهما ، وإن رجع إلى مرتبة الاختراع مع تبعيّة التسمية له كمّا وكيفا ، فبين المطلوب وكلّ من المسمّى والمخترع عموم مطلق ، لكون المطلوب حينئذ أخصّ مطلقا من كلّ منهما.

وفي رجوع النزاع إلى أيّ المرتبتين وجهان ، وظاهر العناوين حيث يعبّر فيها بالأسامي يساعد على رجوعه إلى مرتبة التسمية ، لكنّه لا ينافي سرايته إلى مرتبة الاختراع أيضا ، بناء على الملازمة بينهما بحكم التبعيّة المشار إليها.

وأمّا الأدلّة المقامة من الطرفين ، فمفاد جملة منها يساعد على رجوعه إلى مرتبة الاختراع ، كما أنّ مفاد جملة اخرى يساعد على رجوعه إلى مرتبة التسمية ، مع عدم منافاته السراية إلى مرتبة الاختراع.

ولعلّه لبعض ما ذكر اختلف بعض الانظار في تعيين مورده ، فإنّ من الأفاضل (١) من جزم بكونه واقعا في مرتبة الاختراع ، حيث قال : « والحاصل إنّ الكلام في أنّ ما أحدثه الشارع وقرّره من تلك الطبائع الجعليّة وعبّر عنها بتلك الألفاظ الخاصّة هل هو خصوص الصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة؟ وإن حكمنا بأنّ مطلوب الشارع هو قسم منها بعدما قام الدليل على فساد بعضها فهذا هو عين المتنازع فيه. انتهى ».

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٩٩ ( الطبعة الحجرية ).

٣٢٦

خلافا لما جزم به بعض الأعلام ، قائلا : « والحاصل إنّه لا ريب في أنّ الماهيّات المحدثة امور مخترعة من الشارع ، ولا شكّ أنّ ما أحدثه الشارع متّصف بالصحّة لا غير ، بمعنى أنّه بحيث لو أتى به المكلّف على ما اخترعه الشارع يكون موجبا للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث هو أمر بالماهيّة ، لكنّهم اختلفوا هذا الاختلاف بوجهين :

أحدهما : أن نقول إذا وضع الشارع أسماء لهذه المركّبات أو استعمل فيها بمناسبة فهو يريد تلك الماهيّة على الوجه الصحيح بالمعنى المذكور من الحيثيّة المذكورة ، وهذا القدر متيقّن الإرادة ، ولكنّه لمّا كان الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون مدخليّة الشرائط ، والشرائط خارجة عنها ، ولا مانع من وضع اللفظ بإزاء الماهيّة مع قطع النظر عن كونها جامعة للشرائط ، ولا من وضعه بإزاء الماهيّة مع ملاحظة اجتماعها لشرائط الصحّة.

فاختلفوا في أنّ الألفاظ هل هي موضوعة للماهيّة مع اجتماع الشرائط ، أو الماهيّة المطلقة. انتهى (١).

وصريح هذه العبارة يعطي كون النزاع في مرتبة التسمية بعد إحراز الصحّة في مرتبة الاختراع ، لكن لا يذهب عليك إنّ الصحّة الّتي التزم بها في تلك المرتبة هو صحّة الماهيّة باعتبار الأجزاء فقط ، على معنى عدم كون الشرائط ممّا اخذ معها بالتمام في هذه المرتبة ، لمكان قوله : « الماهيّة عبارة عن المركّب عن الأجزاء بأجمعها من دون مدخليّة الشرائط والشرائط خارجة عنها ».

وبهذا يظهر وجه الحيثيّة التي أخذها في معنى صحّة الماهيّة وتفسيرها ، فإنّ صحّة الماهيّة بحسب الأجزاء لا تنافي فسادها باعتبار الإخلال في الشرائط الخارجة عنها المعتبرة معها في المأمور به.

وعليه فما أورده عليه الفاضل المتقدّم ذكره في جملة اعتراضاته عليه ، بقوله :

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٣.

٣٢٧

« ثمّ إنّ اعتباره الحيثيّة في الأمر في قوله : للامتثال للأمر بالماهيّة من حيث إنّه أمر بالماهيّة ، غير مفهوم الجهة ، ليس على ما ينبغي ».

نعم يتوجّه إليه تجريد الماهيّة عن الشرائط في مقام الاختراع ، فإنّه غير واضح الوجه ، بل بظاهره فاسد الوضع ، إذ الماهيّة في مقام الاختراع تعتبر بجميع ما له دخل في ترتّب الأثر حتّى الشرائط ، فإن كانت متّصفة بالصحّة حينئذ بالقياس إلى الأجزاء فكذا بالنسبة إلى الشرائط وإلاّ فلا صحّة مطلقا ، فالفرق تحكّم ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ على القول بالفرق في الصحّة والعموم بين الأجزاء والشرائط ، وهو عادل عنه.

وكيف كان : فلا يتعلّق بتحقيق هذا المقام فائدة مهمّة ، ولعلّك تعرف الحقّ فيه بملاحظة كلماتنا الآتية في المقدّمات الاخر ، ولا نطيل هنا.

المقدّمة الرابعة : في نبذة ممّا يتعلّق بماهيّة العبادة باعتبار ما يضاف إليها من الجعل والاختراع وما يعتبر فيها من الأجزاء والشرائط.

فنقول : إنّ اختراع الماهيّة الجعليّة باعتبار الأجزاء ، عبارة عن أن يلاحظ عدّة امور مختلفة الحقائق ، متشاركة في الجنس المقول عليها ، ثمّ يعتبر انضمام بعضها إلى بعض ، فيحصل به ماهيّة ملتئمة عن أجزاء.

وباعتبار الشرائط أن يلاحظة عدّة امور اخر غير مشاركة للماهيّة في الجنس المقول عليها ، ثمّ يعتبر تقييدها بتلك الامور ، فيحصل ماهيّة ملتئمة عن أجزاء مشتملة على شرائط.

وبذلك يعلم الفرق بين الأجزاء والشرائط ، فإنّ جزء الشيء عبارة عمّا يشاركه في الجنس المقول عليه ، سواء كان من مقولة الجواهر أو الأعراض ، وشرطه عبارة عمّا لا يشاركه في ذلك الجنس ، فإن كان من مقولة الجوهر لا بدّ وأن يكون جزؤه أيضا من هذه المقولة وشرطه من غير هذه المقولة من أنواع العرض ، وإن كان من مقولة عرض الفعل مثلا فجزؤه أيضا لا بدّ وأن يكون من هذه المقولة ، وشرطه من غيرها ممّا هو من مقولة الكيف أو الكمّ أو غيرهما.

٣٢٨

فالجنس المقول على « الصلاة » مثلا هو فعل المكلّف بالمعنى اللغوي المتناول للحركة والسكون ، ولذا يقال ـ في تفسيرها ـ إنّها عبارة عن أكوان مخصوصة من الحركات والسكنات المعهودة ، وأجزائها حينئذ هي هذه الحركات والسكنات من التكبيرة والقيام والقراءة والركوع والسجود والطمأنينة في مواضع مخصوصة ، الّتي هي عبارة عن سكون الأعضاء ، وشرائطها هي الطهارة من الحدث والخبث والستر والاستقبال ، بمعنى كونه مستور العورة ومستقبل القبلة لا بمعناهما المصدري ، فإنّه بهذا الاعتبار غير قارّ بالذات فلا يصلح شرطا ، وإنّما هو مقدّمة لحصول الشرط الّذي هو الأثر الحاصل منه المقارن للعمل.

وإلى ما بيّنّاه من ضابط الفرق ينظر ما في كلامهم من أنّ جزء الشيء ما كان داخلا فيه وشرطه ما كان خارجا عنه ، بناء على أن ليس المراد بالدخول والخروج الحسّي منهما ، كما قد يسبق إلى بعض الأوهام ، بل الدخول والخروج العقليّين ، على معنى الدخول في الجنس والخروج عن الجنس.

وبهذا كلّه يندفع الشبهة الّتي أوردها بعض الأعلام ـ في جملة كلام له على القائل بالفرق في الصحّة والعموم بين الأجزاء والشرائط ـ بقوله : مع أنّ تحديد الشرط والجزء في غاية الإشكال.

ولعلّ نظر من فرّق بينهما إلى أنّ الشرط خارج عن الماهيّة والجزء داخل فيها.

وأنت خبير بأنّ الشرط أيضا قد يكون داخلا في الماهيّة ، فإنّ قولنا : الطمأنينة بمقدار الذكر شرط في صحّة الركوع ، في قوّة قولنا : يجب الكون الطويل بالمقدار المعلوم في حال الركوع.

وكما يمكن أن يقال : يجب الطمأنينة في القيام بعد الركوع ، يمكن أن يقال : يجب المقدار الزائد عن تحقّق طبيعة القيام بعد الركوع. انتهى (١).

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٥٩.

٣٢٩

وهذا كما ترى ليس في محلّه ، فإنّ الجزء والشرط على ما بيّنّاه من الضابط لا يشتبهان ، والشرط من الحيثيّة الّتي هو شرط لا يمكن كونه من هذه الحيثيّة جزء ، وكذا الجزء من الحيثيّة الّتي عليها مبنى جزئيّته فلا يمكن فرضه شرطا من هذه الحيثيّة.

والنقض بالطمأنينة غير سديد ، لأنّها عبارة عن سكون الأعضاء ، فإن اعتبرت مقيسة إلى الركوع الّذي هو من مقولة الفعل بمعنى الحركة كانت شرطا لا غير ، وإن اعتبرت مقيسة إلى الصلاة الملتئمة عن عدّة حركات وسكنات كانت جزء لا غير لكونها من جملة السكنات ، وهذا واضح.

وعلى هذا فمقتضى التفصيل بين الأجزاء والشرائط في الصحّة والعموم دخولها في مسمّى الصلاة دون الركوع ، إلاّ على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه أيضا ، مع كون الوضع الشرعي ثابتا لمجموع ما يلتئم من المعنى اللغوي وغيره ممّا اعتبر معه ، فيكون كالصلاة في جزئيّة الطمأنينة حينئذ.

ثمّ إنّ أجزاء العبادة قد تنقسم عندهم إلى الأركان وغيرها.

والأوّل : ما كان الإخلال به عمدا أو سهوا بزيادة أو نقيصة مبطلا.

والثاني : ما كان الإخلال به عمدا مبطلا.

وربّما يتوهّم كون مبنى هذا الفرق على كون الجزء مقوّما للماهيّة وعدم كونه مقوّما لها ، فكلّ ركن مقوّم لها ، بحيث يلزم من انتفائه انتفاؤها ، ولا شيء من غير الركن مقوّما لها ، فلا يلزم من انتفائه انتفاؤها.

وكأنّه لهذا التوهّم جزم بعض الأعلام (١) ـ بعدما اختار القول بالأعمّ مطلقا ـ بكون « الصلاة » اسما للتكبيرة والقيام والركوع والسجود بناء على أنّ هذه الأجزاء هى الّتي ينعقد بها الماهيّة فيكون ما عداها خارجا عن المسمّى بالمرّة لعدم مدخل لها في قوام الماهيّة ، وهذا كما ترى ليس كما توهّم ، فإنّ انقسام الأجزاء إلى ما ذكر وكون الفرق بين القسمين ما عرفت ممّا أطبق عليه الكلّ ، واعترف به الصحيحي

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٥٨.

٣٣٠

كالأعمّي ، ولا يلائمه كون مبنى الفرق على ما توهّم ، إذ لو اريد به كونه كذلك في نظر الصحيحي فمن مذهبه عدم الفرق بين الأركان وغيرها في تقويم الماهيّة ، على معنى كون الجزء كائنا ما كان ولو غير ركني مقوّما لها داخلا في المسمّى ، بحيث يلزم من انتفائه الانتفاء ، فلو كان مبنى الفرق على ما ذكر يلزم كون الصحيحي منكرا للانقسام والفرق المذكورين. وهذا كما ترى.

ولو اريد به كونه كذلك في نظر الأعمّي ، يرد عليه : انتقاضه في طرده وعكسه.

أمّا الأوّل : فلقضائه بكون ما اقتصر فيه المكلّف على مجرّد الأركان من دون انضمام شيء من غيرها إليها صلاة على وجه الحقيقة ، بحيث لم يصحّ سلب الاسم عنها بعد الاطّلاع على حقيقة الحال.

وأمّا الثاني : فلقضائه بعدم كون صلاة المرائي ، وصلاة من يخلّ بالقيام المتّصل بالركوع ، ومن لا يمتاز ركوعه عن قيامه كما يشاهد من الأعراب ، صلاة على وجه الحقيقة ، ولا نظنّ إنّ الأعمّي يلتزم بشيء من ذلك ، بل المعلوم من طريقته خلافه ، وإنّما مبنى الفرق على شيء آخر وهو أنّ الجزء قد يكون معتبرا في حقّ نوع المكلّف ، أعمّ من المختار والمضطرّ ، وقد يكون معتبرا في حقّ صنفه وهو المختار ، والركن وغيره اصطلاح عن هذا الفرق ، فلذا لا يتفاوت الحال في الركن بين حالتي العمد والسهو ، نظرا إلى أنّ السهو والنسيان من جهات الاضطرار ، وإنّما لا يخلّ السهو في غير الركن بالصحّة لعدم كونه جزءا في حقّ الساهي ، وإنّما يخلّ النقيصة والزيادة في الركن مطلقا لابتنائه على كون الحركة بفعله مرّة والسكون عمّا زاد ممّا اعتبر كلّ منهما جزءا ، وكذا في غير الركن للعامد.

وقد ينقسم أجزاء العبادة أيضا إلى الواجبة والمسنونة ، فمن المسنونة قنوت الصلاة ، والاولى من صيغتي التسليم ، بل التسليم نفسه على القول باستحبابه ، والأذان والإقامة ومضمضة الوضوء والغسل واستنشاقهما وغسل اليدين من الزندين في الأوّل ، وكذا في الثاني منه أو من نصف الذراع ، أو من المرفقين على اختلاف الروايات.

٣٣١

وربما يستشكل في معنى استحباب الجزء والّذي يتصوّر فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون معناه استحباب العبادة مشتملة عليه ، ومرجعه : إلى كون العبادة المشتملة عليه أفضل فردي الماهيّة ، بناء على أنّ استحباب الواجب معناه الأفضليّة وأكثريّة الثواب ، وعليه يكون ذلك الجزء مقدّمة لحصول الأفضل المحكوم عليه بالاستحباب ، فيكون مستحبّا بالاستحباب الغيري بحكم المقدّمة.

وثانيهما : أن يكون معناه استحبابه لذاته في العبادة ، على معنى كون العبادة محلاّ له أثناء أو قبلا أو بعدا.

وعليه فيكون العبادة مقدّمة لحصوله على عكس الوجه الأوّل ، فتكون واجبة ومستحبّة بالاعتبارين ، بناء على القول بجواز اجتماع الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري ، إن لم يخدشه منع المقدّميّة بجميع أقسامها ، وإنّما غايته كونها من لوازم وجوده من غير جهة المقدّميّة ، فيعرضها الاستحباب على سبيل المسامحة والمجاز ، لكون العارض كالمعروض الحقيقي واحدا ، وإنّما يتعدّد العروض بالفرض والاعتبار على حدّ الوجوب العرضي الّذي يضاف إلى استقبال الامور المحاذية للقبلة باعتبار وقوعها في جهتها عند الخطاب باستقبالها المستلزم لاستقبال جميع ما بحذاها.

وكيف كان : فإطلاق الجزء على هذا الوجه عليه مسامحة ، يرد لضرب من المجاز ، لكونه باعتبار وقوعه في العبادة يشبه الجزء.

ومن فروع الفرق بين الوجهين اشتراط ذلك الجزء المسنون بما اشترط به العبادة على الأوّل وعدمه على الثاني ، ويظهر أثر هذا الفرع في الأذان والإقامة والتكبيرات الستّ من السبع الافتتاحيّة على تقدير تأخير تكبيرة الإحرام ، فعلى ثاني الوجهين يجوز الإتيان بها محدثا وغير مستقبل القبلة ـ كما هو الأقوى على ما حقّقناه في الفقه (١) ـ وكذا التسليم على القول باستحبابه.

__________________

(١) في كتابه الكبير الموسوم بـ « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام » نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لطبعه ونشره إن شاء الله تعالى.

٣٣٢

ومنها : جواز مقارنة النيّة على القول بكونها الإخطار للأذان أو الإقامة في الصلاة ، وغسل اليدين أو المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل على الأوّل وعدمه على الثاني.

ومنها : ما لو شكّ في قراءة السورة بعد الدخول في القنوت ، وفي التشهّد بعد أداء الصيغة الاولى من صيغ التسليم ونحو ذلك ، فعلى الأوّل يكون من باب الشكّ في الشيء بعد تجاوز المحلّ بخلافه على الثاني فيجب العود حينئذ.

ومنها : ما لو شكّ في شيء من الصلاة ـ ولو في عدد الركعات ـ بعد التشهّد وقبل التسليم على القول باستحبابه ، فإنّه على ثاني الوجهين يكون من باب الشكّ بعد الفراغ فلا عبرة به ، لأنّ الفراغ إنّما حصل بالتشهّد ، ومعنى استحباب التسليم حينئذ يرجع إلى استحباب لحوقه بالصلاة كما في التعقيب ، بخلافه على الأوّل.

ومنها : ما لو أتى بذلك الجزء على الوجه المنهيّ عنه ، كما في القنوت لو أتى به رياء ، والمضمضة والاستنشاق وغسل اليدين لو أوجدها بالماء المغصوب ، فإنّه يفسد العبادة رأسا على الوجه الأوّل ، لمكان النهي عن الشيء باعتبار جزئه ، فالفرد المنويّ وهو الأفضل لم يحصل وما حصل ليس بمنويّ ، بخلافه على الثاني لكون النهي حينئذ من باب ما نهى عنه لأمر خارج. فليتأمّل.

ثمّ إنّ الماهيّة المخترعة بحسب الأجزاء والشرائط معا باعتبار المكلّف تنقسم إلى قسمين

أحدهما : ما هو وظيفة الحاضر العالم القادر العامد المختار ، الّذي لم يطرئه جهة اضطرار أصلا.

وثانيهما : ما هو وظيفة غيره من المكلّفين ، المختلفين باختلاف أحوالهم الّتي أخذها الشارع على جهة الموضوعيّة ، من السفر والجهل والعجز والسهو والنسيان والاضطرار ، وعليه فربّما يشكل الحال على الصحيحي من حيث إنّ المسمّى المتّصف بالصحّة في نظره هل هو الاولى بالخصوص ، أو ما يعمّها. والثانية بأنواعها المختلفة بحسب اختلاف الموضوعات المذكورة ، ولا سبيل له إلى شيء من ذلك.

٣٣٣

أمّا الأوّل : فلقضائه بعدم كون وظيفة سائر المكلّفين بشيء من أنواعها صلاة على وجه الحقيقة ، لمكان فساد الجميع بالقياس إلى مسمّى اللفظ ، فيصحّ سلب الاسم ، ولا يظنّ عليه أنّه يلتزم بذلك ، مع فساده في نفسه بملاحظة عرف المتشرّعة.

وأمّا الثاني : فلأنّ لفظ « الصلاة » مثلا إمّا أن يكون مقولا على الجميع بالاشتراك اللفظي أو بالاشتراك المعنوي ، والأوّل مع مخالفته الأصل يفضي إلى الاستعمال في الأكثر نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) بناء على كون الحكم بالنسبة إلى جميع آحاد المكلّفين مستفادا منه ومن نظائره ، ولا قائل بشيء من ذلك ، حتّى أنّ الصحيحي لا يلتزم به.

والثاني : يستدعي جامعا يكون مسمّى اللفظ متحقّقا مع الجميع ، وهو إمّا أن يكون أمرا مركّبا موجودا في ضمن الجميع ، أو أمرا بسيطا كذلك ، ولا سبيل إلى شيء منه.

أمّا الأوّل : فلأنّ ذلك الأمر المركّب إن اخذ مع الجميع بوصف الصحّة فهو غير معقول ، ضرورة أنّ هذا المركّب في أيّ مرتبة من مراتب التركيب إذا كان صحيحا من مكلّف فهو بعينه فاسد من غيره ، وكلّما هو فاسد في حقّ مكلّف فهو بحيث يمكن أن يكون صحيحا في حقّ غيره بل هو كذلك ، فكلّما يتصوّر كونه القدر الجامع فهو صحيح وفاسد بالاعتبارين.

ألا ترى إنّ الصلاة تماما صحيحة من الحاضر فاسدة من المسافر ، وهي قصرا بالعكس ، والصلاة بلا فاتحة أو بلا سورة أو نحو ذلك صحيحة من الناسي فاسدة من العامد ، وهي عن قعود ونحوه صحيحة من المريض فاسدة من الصحيح ، وبالإيماء للركوع والسجود صحيحة من العاري فاسدة من غيره ، وعلى الراحلة أو ماشيا صحيحة من المتنفّل فاسدة من غيره ، وكذلك صلاة الخوف والغريق والمهدوم عليه والأخرس وغيره.

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

٣٣٤

وإن اخذ لا بوصف الصحّة فهو عدول إلى القول بالأعمّ كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلأنّ ذلك الأمر البسيط لا يعقل إلاّ أن يكون نحو المعنى اللغوي وهو الدعاء ، أو المطلوب ، أو المبرء للذمّة ، أو الناهي عن الفحشاء بالخاصيّة ، والالتزام بالأوّل عدول عن القول بالماهيّات المخترعة إلى الأخذ بالمعنى اللغوي الأصلي فيبطله دليل الخلف ، والبواقي إن اعتبرت بمفاهيمها يلزم المرادفة بين لفظ « الصلاة » وألفاظ هذه المفاهيم.

ويبطله : عدم كون المنساق المتبادر منها في الإطلاقات شيء من مفاهيم هذه الألفاظ ، وإن اعتبرت بمصاديقها عاد المحذور السابق ، إذ المصاديق ليست إلاّ الماهيّات المفروضة المختلفة بحسب اختلاف أحوال المكلّفين.

وقد يذبّ عن الإشكال باختيار الشقّ الأوّل من الترديد الأوّل ـ وهو كون اللفظ بحسب أصل الوضع الشرعي اسما للمركّب التامّ الّذي هو وظيفة من لم يطرئه شيء من جهات الاضطرار ـ ومنع محذور المجاز ، بأنّ المتشرّعة توسّعوا في تسمية غير المركّب التامّ صلاة من حيث حصول ما هو المقصود من المركّب التامّ من غيره أيضا ، فصارت حقيقة عندهم لا عند الشارع ، كما سمّوا كلّ مسكر خمرا وإن لم يكن مأخوذا من العنب ، مع أنّ الخمر هو المأخوذ منه ، ونظيره لفظ « الإجماع » فإنّه في مصطلح العامّة والخاصّة على ما يظهر من تحديداتهم هو اتّفاق الكلّ غير أنّهم لما وقفوا على حصول ما هو المقصود من اتّفاق الكلّ في اتّفاق البعض الكاشف توسّعوا في الإطلاق ، حتّى صار ذلك الاتّفاق أيضا من موارد استعمال اللفظ على وجه الحقيقة عندهم ، فكأنّ مناط التسمية بالصلاة موجود عندهم في غير ذلك المركّب التامّ الجامع ، والوضع فيها نظير الوضع العامّ لموضوع له خاصّ دون الاشتراك اللفظي.

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح ومخالفته الأصل ، إنّه يلزم حينئذ أن لا يكون التكليف بوظائف سائر المكلّفين مستفادا من نحو الكتاب والسنّة ، ويلزم أيضا فيما لو ورد في الخطاب كتابا أو سنّة اعتبار شيء في الصلاة جزء كقوله :

٣٣٥

« لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) أو شرطا كقوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) مثلا ، أن لا يثبت اعتبار ذلك لغير المركّب التامّ ، لعدم كونه من المسمّى الشرعي المحمول عليه الخطاب.

وكلّ ذلك كما ترى يخالف طريقة الفقهاء ، وتوهّم كون التكليف بغير المركّب التامّ إنّما يثبت بنحو أدلّة الاشتراك ، بعيد جدّا.

وأبعد منه توسيط الاشتراك في إثبات ما ثبت اعتباره بالخطاب في غير المركّب التامّ ، لما يظهر من طريقتهم إنّ ذلك إنّما يثبت لغيره بواسطة كونه صلاة لا غير.

المقدّمة الخامسة : في نبذة ممّا يتعلّق بالماهيّات الجعليّة باعتبار ما يضاف إليها من الوضع والتسمية ، لينكشف به حقيقة المعنى المراد بالوضع للصحيحة أو الأعمّ.

واعلم أنّه إذا حصل الانضمام بين امور إمّا باعتبار الجعل والاختراع ، أو من باب البغت والاتّفاق ، فلا جرم يحصل لمجموع هذه الامور باعتبار ما طرأها من الانضمام في نظر العقل والاعتبار جزءان ، مادّي وهو نفس هذه الامور وذواتها ، وصوري وهو الهيئة الاجتماعيّة القائمة بها الطارئة لها بسبب الانضمام ، ولهذه الهيئة الاجتماعيّة باعتبار كونها هذا الشخص من الهيئة ، حدّان :

أحدهما : ما يمنع غيره في طرف الزيادة ، نظرا إلى أنّ زيادة ما زاد على هذه الامور يوجب تبدّل هذا الشخص من الهيئة بشخص آخر.

وثانيهما : ما ينفي غيره في طرف النقيصة ، نظرا إلى أنّ النقص في هذه الامور يوجب تبدّل هذا الشخص أيضا بشخص آخر غيره.

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ١ : ١٥ ، عوالي اللآلي ٢ : ٢١٨ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ أبواب القراءة باب ١ حديث ٥ ، ٨.

(٢) التهذيب ١ : ٤٩ ح ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٥٥ ح ١٦٠ ، الوسائل ١ : ٢٥٦ أبواب الوضوء باب ١ ح ١.

٣٣٦

وحينئذ إذا اخذ بوضع لفظ لهذه الامور فيتصوّر له صور :

إحداها : وضعه لها بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة ، على معنى أخذ الهيئة الاجتماعيّة بكلّ من حدّيها جزءا للموضوع له ، ويلزم منه كون استعماله في كلّ من الزائد والناقص مجازا أو غلطا ، لفوات جزء الموضوع له عن المستعمل فيه.

وثانيتها : وضعه لها لا بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة ، على معنى عدم أخذها جزءا للموضوع له بكلّ من حدّيها ، ويلزمه كون استعماله في كلّ من الزائد والناقص على وجه الحقيقة.

وثالثتها : وضعه لها بشرط هذه الهيئة في طرف النقيصة لا بشرطها في طرف الزيادة ، على معنى كونها في أحد حدّيها وعدم كونها في الحدّ الآخر جزءا ، ويلزمه أن يكون استعماله في الزائد على وجه الحقيقة ، وفي الناقص مجازا أو غلطا.

ورابعتها : عكس الثالثة ، ويلزمه أن يكون الاستعمال في الناقص على وجه الحقيقة ، وفي الزائد مجازا أو غلطا.

وخامستها : وضعه لها بشرط عدم الهيئة الاجتماعيّة ، ومرجعه إلى اعتبار الوضع لكلّ واحد منها بشرط الانفراد ، ويلزمه أن يكون استعماله فيها مع الهيئة الاجتماعيّة مجازا أو غلطا.

ولا يخفى عليك إنّ هذه الأقسام بأسرها واقعة بحسب الخارج فيما بين الألفاظ الموضوعة.

فمن القسم الأوّل : أسماء العدد مفردة ومركّبة ، ولذا يكون استعمالها في الزائد والناقص خروجا عن الحقيقة ، ومنه أيضا المثنّيات الموضوعة للفردين من ماهيّة ، ولذا لا يقع استعمالها في الزائد والناقص.

ومن القسم الثاني : لفظ « القرآن » المقول على المجموع وكلّ بعض من باب الاشتراك المعنوي كما هو الحقّ ، إذ ليس المراد بالقدر المشترك الّذي وضع له

٣٣٧

اللفظ إلاّ هذه الخطوط المعهودة لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة ولا بشرط عدمها ، ولذا يقع استعماله في المجموع وكلّ واحد من الأبعاض بقيد الخصوصيّة ـ ولو كلمة واحدة بل حرفا واحدا ـ على وجه الحقيقة ، ولا يراد من تفسيره بالكلام المنزل على وجه الإعجاز وجعله القدر الجامع بين المجموع والأبعاض بيان كون مسمّى اللفظ هو هذا المفهوم ، وإلاّ لقضى اعتبار الخصوصيّة في لحاظ الاستعمال بالتجوّز ، وهو خلاف ما علم ضرورة من ملاحظة الإطلاقات ، بل المراد به تعريف المسمّى بما هو من صفاته اللازمة ، على أنّه وصف منتزع عنه مرأتا إلى إدراكه في موضع التعريف.

ومنه أيضا : أعلام الأشخاص بناء على أنّها مركّبات من الجوارح المخصوصة مقيّدة بالناطقيّة ، ولذا يقع استعمالها مع الصغر والكبر ومع الهزال والسمن ومع النقص في بعض الجوارح والزيادة عليها.

وبالجملة : مسمّى « زيد » إذا سمّي بهذا الاسم حال صغره كان الموضوع له هذا الهيكل المحسوس المؤلّف من الجوارح المخصوصة لا بشرط هذه الهيئة الخاصّة زيادة ونقيصة ، ولذا لا يفترق الحال في التسمية مع طريان حالات عديدة وهيئآت غير متناهية ، وزيادات غير محصورة ، ونواقص كثيرة فيما بين الرضاع والشيخوخة.

ولا ريب أنّه ليس بأوضاع متعدّدة بل الاستعمال في جميع هذه المراتب على وجه الحقيقة من توابع الوضع الأوّل ، ولا يكون إلاّ لعروضه الجوارح لا بشرط الهيئة الخاصّة.

وما يقال ـ في منع التركيب ـ : من أنّ الأعلام الشخصيّة إنّما وضعت للنفوس الناطقة المتعلّقة بالأبدان بمعزل عن التحقيق ، لوضوح أنّ الأشخاص ليست من المجرّدات وإلاّ لزم أن لا تكون أفرادا للإنسان الّذي هو الحيوان الناطق ، وهو باطل بالضرورة.

وإذا كان « زيد » مثلا حيوانا ناطقا فلازمه الجسميّة ، لكون الحيوان من مقولة الجسم ، ولازم الجسميّة التركّب من هذه الجوارح.

٣٣٨

نعم إنّما قيد ذلك الجسم بالناطقيّة ، ولذا لا يكون الاستعمال بعد الموت على وجه الحقيقة كما هو واضح.

ومن القسم الثالث : صيغ الجمع فإنّها لا تصدق على ما نقص من الثلاثة على وجه الحقيقة ، بخلاف ما زاد عليها إلى ما لا يحصى في الكثرة عددا ، وليس إلاّ لأنّ الهيئة الخاصّة فيما بين الثلاثة مأخوذة في الوضع باعتبار طرف النقص ، وملغاة باعتبار طرف الزيادة.

ومنه أيضا : لفظ « الدار » و « البيت » المرادف له ، فإنّ الملحوظ في وضعهما من الأجزاء إنّما هو أقلّ ما يتقوّم به الصورة النوعيّة وهو ما اشتمل على الجدران الأربع مع حجرة بينهما ، بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في طرف النقيصة فقط ، ولذا لا يكون استعمالها في الجدران المجرّدة عن الحجرة ، أو الحجرة المجرّدة عن الجدران على وجه الحقيقة ، بخلاف الاستعمال فيما زاد عليها بجميع مراتب الزيادة ، على حسبما اقتضته حوائج الناس من المواضع المبنيّة بينها من الحجرات والسراديب والحياض والاصطبلات ومساكن الدوابّ ومواضع الحطب والحشيش وغيرها ، فإنّه يقع في الجميع على وجه الحقيقة.

ومن القسم الرابع : صيغ جموع القلّة على القول بالفرق بينها وبين جموع الكثرة بكون أكثر الاولى عشرة ، فإنّ العشرة ما وضع له اللفظ بشرط هذه الهيئة الخاصّة في طرف الزيادة دون النقيصة في الجملة ، فليتأمّل.

ومن القسم الخامس : أسماء الإشارة ومضاهياتها في الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فإنّ الملحوظ في وضع اسم الإشارة إنّما هو الامور الخارجيّة الملحوظة بعنوان الإشارة بشرط عدم الهيئة الاجتماعيّة ، من دون أن يدخل الإشارة في الوضع ولا في الاستعمال ، بل هي في كلّ من لحاظي الوضع والاستعمال اعتبرت طريقا إلى الإدراك ، غير أنّه في لحاظ الوضع اعتبرت كلّي الإشارة عنوانا لملاحظة الموارد الّتي انتزعت عن جماعة منها هذه الصفة ، لتكون آلة لملاحظة الجميع على الإجمال ، وفي لحاظ الاستعمال يعتبر جزئي الإشارة

٣٣٩

طريقا إلى إدراك المستعمل فيه المراد من اللفظ من باب نصب القرينة للإفهام.

وإذا تمهّد ذلك كلّه فيعلم به حقيقة معنى النزاع ، ولمّ المسألة حسبما رامه الفريقان ، فإنّ مرجع القول بالصحيحة إلى دعوى : كون الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة فيما بين الأجزاء المعتبرة في الشرع مأخوذة في المسمّى بكلّ من طرفيها ، ويلزم منه التجوّز في الناقص ، بل الزائد إن كانت الزيادة ممّا لم يعتبرها الشارع ، غير أنّ الصحيحي إن كان قائلا باتّحاد الماهيّة وإنّها بحسب الوضع الأصلي الشرعي ليست إلاّ وظيفة المختار الجامع لجهات الاختيار بأسرها ، يرجع دعواه إلى أنّ اللفظ بحسب الوضع الشرعي موضوع لمجموع الأجزاء المعتبرة بالإضافة إلى هذا المكلّف ، بشرط ما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة في كلّ من طرفي الزيادة والنقيصة. وإن كان قائلا بتعدّد الماهيّات يرجع دعواه إلى اعتبار الهيئة الاجتماعيّة مطلقا في كلّ مرتبة من مراتب التركيب الحاصل بالقياس إلى وظيفة كلّ مكلف ، جزءا للمسمّى ، إن كان اللفظ عنده في جميع هذه المراتب مقولا بالاشتراك اللفظي ، فيكون الاستعمال في الزائد والناقص في كلّ مرتبة بالقياس إلى وضع هذه المرتبة على وجه المجاز ، لانتفاء ما هو جزء الموضوع له عن المستعمل فيه.

وأمّا القول بالأعمّ فمرجعه إلى إنكار مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة ـ حسبما يدّعيه القائل بالصحيحة ـ في الموضوع له.

وفي رجوعه حينئذ إلى نفي المدخليّة عنها بالمرّة لتكون من القسم الثاني ، أو في خصوص طرف النقيصة لتكون من القسم الرابع ، أو في خصوص طرف الزيادة لتكون من القسم الثالث ، احتمالات.

لا سبيل إلى الأوّل منها جدّا وإلاّ لزم كون « الصلاة » مثلا كالقرآن صادقة على كلّ جزء ـ ولو نحو الطمأنينة وذكر الركوع ـ على وجه الحقيقة وهو كما ترى ، مضافا إلى أنّ المستفاد من كلماتهم صراحة وظهورا أنّ الأعمّي يعترف بانتفاء الماهيّة وصدق الاسم في بعض صور الإخلال بالعبادة ، ولذا قد يقال : إنّه قد يكون كالصحيحي من حيث الثمرة ، كما إذا رجع الشكّ في مدخليّة شيء جزءا أم شرطا

٣٤٠