تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

ألا ترى إنّه لو أمر السيّد عبده بإضافة العلماء فأحضرهم العبد في مجلس الضيافة إلاّ واحدا منهم ، واطّلع عليه السيّد وسأله عن وجهه فاعتذر بأنّه لم يحصل لي الظنّ بإرادته ، أو انقدح في نفسي الشكّ في أنّك أردته أيضا أو لا ، أو رأيت في المنام أنّك قلت : « ما أردته » فحصل لي الظّن ، بذلك لما سمع عذره وذمّه العقلاء وعاقبه السيّد تعليلا بعدم التنبيه على عدم إرادته وعدم نصبه القرينة على ذلك ، فقد خالفني حيث خرج عن ظاهر خطابي ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ الاصول اللفظيّة وظواهر الألفاظ معتبرة عندهم من باب النوع.

نعم يغلب في المحاورات اتّفاق حصول العلم أو الظنّ الفعلي بالمراد ، غير أنّه ليس لأجل أنّهما المناط في مقام المحاورة ، بحيث لولا أحدهما لما أخذ بظاهر الخطاب ، بل إنّما هو أمر يتحقّق من باب الاتّفاق ، فالغلبة المذكورة اتّفاقيّة لا غير.

وبالجملة : الظاهر حجّة ما لم يقم قرينة معتبرة في نظر العرف مفيدة لإرادة خلاف الظاهر ـ ولو من باب الظنّ النوعي أيضا ـ مطلقا ، وإذا قام نحو هذه القرينة فحينئذ سقط العمل بأصالة الحقيقة ، لا بمعنى أنّها قائمة ولا يعمل بها ، بل بمعنى ارتفاعها بارتفاع موضوعها ، وهو اللفظ المجرّد عن قرينة المجاز ، فإنّ التجرّد يزول بقيام القرينة المفروضة.

وهذا هو معنى ارتفاع موضوع الأصل والظاهر ، وهذا من جملة الشواهد بما تقدّم تحقيقه في مباحث الوضع ، من كون عدم القرينة في العمل على الحقائق جزءا لما يقتضي حمل اللفظ على معناه الحقيقي.

وثانيها : إنّ أصالة الحقيقة ـ بمعنى الظهور ـ كما يعمل بها في مقام الخطاب والمحاورة ، كذلك يعمل بها في مقام الكتابة بجميع مواردها ، لا بمعنى إعمال ذلك الأصل في الخطوط المأخوذة في الكتابة ، الدالّة بالوضع على ألفاظ مخصوصة موضوعة لمسمّياتها ، فإنّ كلّ خطّ خاصّ موضوع للفظ معيّن فهو بحيث يدلّ على مسمّاه بنحو النصوصيّة ولا يحتمل غيره ، فإنّ صورة « زيد » المكتوبة لا تحتمل غير لفظ « زيد » وكذلك عمرو وإنسان وغيرهما من حيث كونه هذا الخطّ الخاصّ.

١٨١

نعم ربّما يتّفق إنّ خطّا خاصّا يحتمل خطّا آخر غيره لمشاركته في صورة الكتابة ، كما في المرويّ من : « إنّ الدنيا رأس كلّ خطيئة » بكون « الدنيا » كلمة برأسها و « الرأس » كلمة اخرى كذلك ، فإنّه بحسب صورة الكتابة يشارك هذا الخطّ الّذي اعتبر « دينار » كلمة واحدة و « اسّ » بضم الهمزة كلمة اخرى ، مع كون ظاهر هذه الصورة في الرواية هو الأوّل وهي محتملة للثاني احتمالا مخالفا للظاهر ، إلاّ أنّه ليس احتمالا في الخطّ لخلاف مسمّاه وهو اللفظ الخاصّ ، ولو اخذ بالظهور المذكور فهو ليس أخذا بالظهور بمعنى أصالة الحقيقة ، لأن ذلك ظهور عرفي آخر يثبت عرفا في نظائر الفرض ولا مدخل لأصالة الحقيقة بمعنى ظهورها فيه ، فإذا اخذ بظاهر هذه الصورة وحمل على الخطّ الأوّل كان ذلك الخطّ حينئذ نصّا في مسمّاه.

ولا ريب أنّ النصوص الغير المحتملة لغير مسمّياتها ليست من موارد أصالة الحقيقة ومجاريها ، بل بمعنى إعمال ذلك الأصل في الألفاظ المدلول عليها بتلك الخطوط ، فإنّها الّتي تحتمل غير معانيها الحقيقيّة ، والمراد بإعمال الأصل فيها الأخذ بظواهرها من باب العمل بالظنّ النوعي.

وتوضيح ذلك : إنّ طريق استفادة المطالب من الألفاظ المدلول عليها بالخطوط المرسومة في مقام الكتابة ، يتصوّر على وجهين :

أحدهما : إنّ الناظر في تلك الخطوط لزمه في الغالب التلفّظ بالألفاظ المستفادة منها ، فهو من حيث إنّه متلفّظ بهذه الألفاظ ينزّل نفسه منزلة المتكلّم بها ، ومن حيث إنّه مدرك لمعانيها وفاهم لها ينزّل نفسه منزلة المخاطب لها ، فهو متكلّم ومخاطب باعتبارين ، فمن حيث إنّه مخاطب يستعمل في تلك الألفاظ جميع الاصول والقواعد المعمولتين في الألفاظ الواقعة في مقام الخطاب والمحاورة.

ومن جملة ذلك الأخذ بظواهرها وحملها على حقائقها ، تعويلا على أصالة الحقيقة المعمول بها من باب الظنّ النوعي ، المتضمّن لعدم مراعاة الظنّ وعدم الالتفات إلى ما انقدح في النفس من الشكّ أو الظنّ الغير المعتبر بإرادة خلاف الظاهر.

١٨٢

وثانيهما : إنّه ينزّل هذه الألفاظ المتلفّظ بها أو الحاضر في الذهن منزلة الألفاظ الواقعة في مقام المخاطبة بين متكلّم ومخاطب ، استعلاما لما ينبغي أن يراد منها وما ينبغي أن يستفاد منها في ذلك ، ثمّ يستعمل فيها جميع القواعد والاصول المعمولة في الألفاظ الواقعة في مقام المحاورة.

ومن جملتها الأخذ بظواهرها وحملها على حقائقها إلى أن يقوم قرينة معتبرة بخلافها.

وهذا هو الأظهر بملاحظة العرف ومراجعة الوجدان ، غير أنّه أيّامّا كان من الطريقين فلا ينبغي التأمّل في العمل بأصالة الحقيقة في الألفاظ المدلول عليها بخطوط الكتابة على الوجه المذكور ، لأنّه المعلوم من بناء العرف وطريقة العقلاء في جميع الملل والأديان ، لاستقرارهما بالأخذ بظواهرها من حيث هي من دون مراعاة ظنّ فعلي ، ولا التفات إلى الشكّ ، ولا احتمال القرينة ، ولا الظنّ الغير المعتبر ، ومن أنكر ذلك مطلقا أو في الجملة فقد كابر وجدانه.

وثالثها : إنّ من الأعلام من فصّل في حجّية الظواهر من جهة أصالة الحقيقة فخصّ الحجّية بمن قصد إفهامه مشافها كان أو لا ، حاضرا في مجلس الخطاب أو لا ، موجودا في زمن الخطاب أو لا ، كما في الوصايا ومؤلّفات المؤلّفين حيث إنّ المقصود فيها استفادة كلّ من يلاحظها المطالب منها مطلقا ، دون من لم يقصد إفهامه ولو كان حاضرا في مجلس الخطاب أو موجودا في زمنه.

ويمكن كون مستنده حسبما يتخيّل أحد الأمرين ، من منع صغرى العمل بالظواهر وهو إنّ هذا ظاهر ، أو منع كبراه وهو إنّ كلّ ظاهر حجّة.

أمّا الأوّل : فيمكن تقريره تارة بأنّ ظهور الحقيقة متأخّر رتبة عن ظهورات اخر ، لو لم تكن محرزة لم يحرز الظهور ، وهي ظهور قصد اللفظ وظهور قصد المعنى وظهور قصد إفهام المعنى.

والأصل الأوّلي في جميع هذه المراتب وإن كان هو العدم ، إلاّ أنّ الأصل الثانوي بمعنى الظهور من جهة غلبة اتّفاق القصد في جميع المراتب الثلاث هو

١٨٣

كون الكلام الصادر من المتكلّم مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، ولذا أطبق العقلاء في الأعصار والأمصار على حمل كلام كلّ متكلّم على ما ذكر ، والقدر الثابت المسلّم من هذا الأصل الثانوي إنّما هو ثبوته لمن قصد إفهامه لا غير.

واخرى : بأنّ الظهورات الثلاث المذكورة وإن كان ثبوتها عامّا بالقياس إلى الفريقين ، غير أنّ ظهور الحقيقة لا يحرز إلاّ بالقياس إلى من قصد إفهامه ، لابتنائه على اصول عديدة لا تجري بالقياس إلى غيره.

وذلك لأنّ المتكلّم على تقدير كون مراده المعنى المجازي ، فإمّا أن ينصب عليه قرينة ثمّ اختفت هذه القرينة على المخاطب أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن لا ينصبها عمدا أو سهوا أو غفلة ، وهذه الاحتمالات ما دامت قائمة لا ظهور للحقيقة ، إلاّ أنّ الأوّل منها ينفيه الأصل.

والثاني منفّي بأصل عقلي قاض بالقبح في مثله ، ومنافاته الحكمة.

والثالث كالرابع ، منفيّ بأصالة عدم طروّ السهو والغفلة له ، مع أنّ الغالب في آحاد المتكلّمين وغيرهم عدم عروض هذه الصفات.

وينهض مجموع هذه الاصول أمارة محرزة لظهور إرادة الحقيقة ، والقدر الثابت المسلّم من هذه الأمارة ما كان ناهضا فيما قصد به إفهام الغير بالنسبة إلى من قصد إفهامه.

كيف والعمدة من هذه الأمارة هو الأصل العقلي الّذي اخذ في موضوعه الاختصاص بمن قصد إفهامه كما هو واضح.

وأمّا الثاني : فإمّا لعدم استقرار بناء العقلاء على العمل بالظواهر فيما لم يقصد إفهامه ، أو لعدم الدليل على اعتبار بناء العقلاء هنا بالخصوص ، ولا يخفى ما في الكلّ من خروجه عن حدّ الاعتدال.

أمّا منع الصغرى فيدفعه : في تقريره الأوّل إنّ الكلام إذا كان بنفسه ظاهرا في قصد اللفظ وقصد المعنى وقصد الإفهام ، وحكم عليه مع ذلك في بناء العقلاء بكونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام ، فيتساوى نسبته إلى محلّ قصد الإفهام وغيره.

١٨٤

ولا يعقل الفرق بينهما بكونه كذلك بالقياس إلى الأوّل دون الثاني ، لأنّ الشيء الواحد لا يتحمّل طرفي النقيض ، فإذا نفي احتمال عدم القصد في الجهات الثلاث بالظهور أو بناء العقلاء بالنسبة إلى محلّ قصد الإفهام ، كان منفيّا بالقياس إلى غيره أيضا.

غاية الأمر : عدم كون قصد الإفهام متحقّقا بالنسبة إلى ذلك الغير بالخصوص ، ولا يلزم منه عدم كون الكلام مقصودا به الإفهام أصلا.

كما يدفعه في تقريره الثاني : أنّ الاصول العدميّة لا يتفاوت الحال في جريانها بين من قصد إفهامه وغيره ، لأنّ احتمال الحدوث في كلّ شيء إذا لم يساعد عليه أمارة ينفى بالأصل مطلقا.

وبعبارة اخرى : كلّ حادث إذا شكّ في حدوثه فالأصل عدمه ، من غير تعقّل فرق بين آحاد الشاكّ.

والأصل العقلي ممّا لا ينبغي أخذه من أجزاء الأمارة المحرزة للظهور ، لأنّه أصل اخذ في موضوعه الظهور ، فهو في الحقيقة دليل على الملازمة بين ظهور إرادة المعنى الحقيقي وكون المراد هو المعنى الحقيقي ، فيكون من أدّلة الكبرى ، وقصوره لإثبات الكبرى بالنسبة إلى من لم يقصد إفهامه لما اخذ في موضوعه من الاختصاص بمن قصد إفهامه غير ضائر ، لعدم انحصار دليل الكبرى فيه.

وأمّا منع الكبرى فيدفعه : عدم الفرق في بناء العقلاء في الأخذ بالظواهر بين المقامين ، فإنّا نراهم في المراسلات والمكاتبات مطبقين على أخذهم من ظواهرها مطالب من أرسلها ، واستفادة مقاصده وعقائده من غير مراعاة كونهم مقصودين بالإفهام وعدمه ، بل لو فرضنا أنّ أحدا ينكر على من يستفيد المطلب وليس ممّن قصد إفهامه ويشنّعه لأطبقوا على ذمّه والتشنيع عليه.

وكيف كان : فاستقرار بنائهم على ما ذكر من غير نكير ممّا لا يمكن الاسترابة فيه.

وأمّا منع الدليل على اعتبار بنائهم هنا بالخصوص فلم يتحقّق معناه ، فإنّ بناء

١٨٥

العقلاء حيثما قام في أمر اللغات كان بنفسه كاشفا قطعيّا عن إذن الواضع وترخيصه ، ولا يحتاج بعد كشفه القطعي إلى دليل الاعتبار.

ومع الغضّ عن ذلك فقوله تعالى : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١) كاف في دليل اعتباره ، لقضائه بإمضائه تعالى كلّ طريقة للعقلاء متعلّقة بلغاتهم.

ومن جملة ذلك أخذهم بظواهر الألفاظ مطلقا ، ولو في غير محلّ قصد الإفهام.

فإن قلت : لعلّ مستند المنع في نظر المانع عن الحجّية لمن لم يقصد إفهامه دعوى وجود المانع لا توهّم فقد المقتضي ، وهو العلم الإجمالي بوجود القرائن من المتّصلة والمنفصلة مع جملة كثيرة من الظواهر حين الخطاب قد اختفت على غير من قصد إفهامه.

أمّا القرائن المنفصلة فلأنها امور فيما بين المتكلّم والمخاطب قد زالت بزوال حالة المخاطبة.

وأمّا القرائن المتّصلة فلزوالها أيضا بواسطة التقطيع الّذي تطرّق إلى الأخبار ، فإنّ أجزاء الكلام كثيرا مّا يفسّر بعضها بعضا ، وقد زال هذا الوصف عنه بالتقطيع فاشتبه محلّ انتفاء القرينة بمحلّ وجودها ، ومعه سقط الاعتبار عن الظواهر رأسا بل خرجت عن الظهور.

قلت : إن اريد بالعلم الإجمالي المفروض ما هو حاصل بالنسبة إلى نوع الظواهر ، حتّى ظواهر غير الكتاب والسنّة من المراسلات وغيرها ، فهو واضح المنع ، وإن اريد به ما هو كذلك في خصوص ظواهر الكتاب والسنّة ـ فمع توجّه المنع إلى دعوى عموم العلم الإجمالي بالقياس إلى ظواهر الكتاب والسنّة حتّى غير العمومات ـ إنّ العلم الإجمالي إنّما يعالج ويتخلّص عنه بالتزام الفحص ، فإنّ من يجوّز العمل بنحو هذه الظواهر يوجب الفحص عمّا يصادمها إلى أن يخرج المورد عن طرف العلم الإجمالي.

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

١٨٦

ولا ينافيه الإجماع على عدم لزوم الفحص عن قرينة المجاز عند العمل على الحقيقة ، لأنّ هذا الإجماع مقصور على الحقائق الّتي لم يصادمها علم إجمالي ، بأن لا يكون في مقابلة احتمال الحقيقة إلاّ احتمال المجاز من جهة احتمال وجود القرينة من غير علم إجمالي فحينئذ يجب الأخذ بظاهر الحقيقة من دون توقّف إجماعا.

وأما ما صادمه علم إجمالي فلا إجماع على عدم وجوب الفحص ، إن لم ندّع الإجماع على وجوبه لرفع أثر العلم الإجمالي. فليتدبّر.

رابعها : إنّ أصالة الحقيقة بمعنى ظهورها يقال له الظهور الأوّلي ، قبالا للظهور الثانوي بالمعنى الآتي.

وقد عرفت في تضاعيف ما تقدّم : إنّه إنّما يحصل في اللفظ حيث لم يقم قرينة معتبرة في نظر العرف بخلاف الظاهر.

والمراد بها ما يعوّل عليه عرفا في الخروج عن الظاهر لإفادته الظنّ شخصا أو نوعا بإرادة خلافه ، وإذا قام مع اللفظ نحو هذه القرينة انقلب الظهور الأوّلي بالظهور الثانوي.

وحينئذ يتعيّن العمل بالظهور الثانوي ولا أثر للظهور الأوّلي ، لا بمعنى أنّه قائم ولا يعمل به ، بل بمعنى ارتفاعه بارتفاع موضوعه ، وهو التجرّد عن نحو القرينة المفروضة.

ومن هنا يعلم أنّه لا يقع تعارض بين الظهور الأوّلي والظهور الثانوي ، لورود الثاني على الأوّل دائما ، فالظهور الثانوي حيثما كان قائما لا مقابل له في طرف الحقيقة ليعارضه ، على حدّ ما هو الحال في الأصل الثانوي الوارد على الأصل الأوّلي دائما.

نعم إنّما يحصل التعارض بين الظهورين الأوّليين كما في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) مثلا ، فإنّ الأمر ظاهر في الوجوب ، والعامّ في العموم الشامل للعقود الجائزة.

__________________

(١) المائدة : ١.

١٨٧

ولا يمكن الأخذ بالظهورين للزوم وجوب الوفاء بالعقود الجائزة ، فلا بدّ من طرح أحد الظهورين ، فيتعارض ظهور الصيغة في الوجوب والعامّ في العموم ، وهو الّذي يعبّر عنه بتعارض المجاز والتخصيص ، ونحوه الكلام في قوله : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ )(١). ولتعارض الظهورين صور كثيرة ، باعتبار ظهور لفظ غير عامّ ولا مطلق في معناه الحقيقي ، وظهور العامّ في العموم ، وظهور المطلق في الإطلاق ، وظهور الهيئة التركيبيّة الكلاميّة في عدم حذف شيء من أجزائها ، وظهور الخطاب في دوام الحكم واستمراره ، وصور التعارض بين هذه الظهورات الخمس الّذي يعبّر عنه بالتعارض بين كلّ واحد من المجاز والتخصيص والتقييد والإضمار والنسخ مع الآخر ، عشرة.

وهذه الأحوال هي الّتي يعبّر عن تعارض بعضها بعضا بتعارض الأحوال.

والضابط الكلّي في تعارض الظواهر بعضها بعضا على وجه يشمل العشرة المذكورة وغيرها ، أن يرد في كلام المتكلّم ظاهران قام قرينة معتبرة على تصرّف المتكلّم في أحدهما وخروجه عن ظهوره لا بعينه ، فيتعارضان حينئذ باشتباه محلّ هذا التصرّف.

وقد يذكر من الأحوال المتعارضة الاشتراك والنقل ، بل في جملة من كتب الاصول الاقتصار عليهما مع المجاز والتخصيص والإضمار ، وعليه فصور التعارض بعد انضمام الاشتراك والنقل إلى الخمس المتقدّمة ترتقى إلى أحد وعشرين ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

ثمّ الظاهر أنّ المجاز المقابل للاشتراك والنقل في باب تعارض الأحوال لا يراد منه كون اللفظ مجازا في أحد المعنيين فصاعدا ، قبالا لكونه مشتركا بينهما ، لدخول ذلك في عنوان مسألة اخرى تقدّم البحث عنها ونقل الخلاف فيها بين السيّد والمشهور ، من حيث كون الأصل هو الاشتراك أو المجاز ، بل المراد به

__________________

(١) البقرة : ١٤٨.

١٨٨

الاستعمال المجازي والتجوّز في لفظ وارد في الكلام قبالا للاشتراك في لفظ آخر ، كما في قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(١) فإنّ النكاح حقيقة في العقد بلا إشكال ، فلو كان المراد به العقد كان مفاد ظاهر الآية تحريم منكوحة الأب ولو بالعقد الفاسد على الابن.

وهذا في المعقود عليها بالعقد الفاسد خلاف الإجماع ، فلا بدّ إمّا من الإلتزام باشتراك النكاح بين العقد والوطء ، وحمله في الآية على إرادة الواطئ ، أو التجوّز في النهي بإرادة القدر الجامع بين الحرمة والكراهة ، فيتعارض الاشتراك والمجاز بالمعنى المذكور حينئذ ، ونحو ذلك هو الّذي ينبغي أن يراد من المجاز في مباحث تعارض الأحوال.

وربّما يشكل صحّة فرض التعارض بين الاشتراك والنقل وغيرهما من الأحوال الباقية حتّى المجاز بالمعنى المذكور ، فإنّ الاشتراك والنقل من الأحوال العارضة للّفظ من حيث هو ، ومع قطع النظر عن خصوصيّات الاستعمال ، فيقصد بمعرفتهما استعلام حال اللفظ من حيث كونه مشتركا أو منقولا بخلاف البواقي ، فإنّها أحوال عارضة للاستعمال أو اللفظ باعتبار عروض الاستعمال الخاصّ له ، وتقصد بمعرفتها تشخيص مراد المتكلّم.

والأوّل من وظيفة العالم بالاستعمال الشاكّ في حال اللفظ.

والثاني من وظيفة العالم بحال اللفظ الشاكّ في حال الاستعمال.

ولا ريب أنّ تعدّد موضوعي الحالتين يأبى وقوع التعارض بينهما.

وأيضا فإنّا نرى أنّ كلاّ من المجاز والتخصيص والتقييد والإضمار والنسخ ممّا يجامع الاشتراك بل النقل أيضا في الأمثلة الّتي ذكروها لصور التعارض بينه وبينها.

ألا ترى أنّ في مثل قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٢) يصحّ أن

__________________

(١ و ٢) النساء : ٢٢.

١٨٩

يقال : لم لا يجوز كون النكاح مشتركا واريد به في الآية « العقد » مع التجوّز في النهي لئلاّ يلزم خلاف الإجماع.

وهكذا يقال : في مثال صورة تعارض الاشتراك والتخصيص ، أو الاشتراك والتقييد ، وهو هذا المثال بناء على كون الموصول من أدوات العموم أو كونه مطلقا ، نظرا إلى أنّ مخالفة الإجماع كما تندفع بالتجوّز ، فكذلك بالتخصيص أو التقييد في الموصول ، إخراجا للمعقود عليها بالعقد الفاسد ، فيجوز حينئذ الالتزام باشتراك النكاح مع التزام التخصيص أو التقييد ، على تقدير إرادة العقد الّذي هو أحد المعنيين المشترك فيهما.

وكذا الكلام في مثالي صورتي تعارض الاشتراك والإضمار ، وتعارض الاشتراك والنسخ.

وهذا كما ترى آية عدم وقوع التعارض بين الاشتراك بل النقل ومقابلاته ، ومعه لا يصحّ أخذهما من الأحوال المتعارضة.

ويمكن دفعه : بأنّ مسائل تعارض الأحوال مفروضة فيمن علم بواسطة الخارج بوقوع إحدى الحالتين في الخطاب من غير تعيين في نظره ، وقضيّة الفرض كونه شاكّا في كلّ من الحالتين من باب الشكّ في الحادث بعد العلم بحدوثه ، وهو موضوع واحد لا تعدّد فيه ، وبالتأمّل في ذلك يندفع ما ذكرناه في العلاوة ، فإنّ كون كلّ من أحوال الاستعمال ممّا يجامع الاشتراك أو النقل لا ينافي وقوع التعارض ، لأنّ التعارض المفروض في تعارض الأحوال ليس تعارضا ذاتيّا ، بأن يكون الحالتان المتعارضتان لذاتهما مقتضيتين للتنافي واستحالة الاجتماع في محلّ واحد ، بل هو تعارض عرضي نشأ عن الخارج ، القائم بوقوع إحدى الحالتين على سبيل البدليّة والترديد المفيد للعلم الإجمالي.

فبمقتضى العلم الإجمالي لا بدّ من التزام إحداهما إمّا هذه أو تلك ، وهما يتعارضان ، فالتزام كلتيهما يبطله دليل الخلف ، لمنافاته العلم الإجمالي.

وهل البحث يختصّ بما لو اختلف الحكم باختلاف الحالتين المتعارضتين ،

١٩٠

كما في قوله : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ )(١) لدوران الحكم الشرعي فيه بين استحباب المبادرة إلى كلّ خير ولو مندوبا أو وجوب المبادرة إلى الواجبات ، أو يعمّه وما اتّحد الحكم كما في قوله : « في خمس من الإبل شاة » (٢) في مثال تعارض الاشتراك والإضمار وجهان ، من اختصاص ثمرة البحث بصورة الاختلاف ، ومن اشتمال أمثلة صور التعارض على كلا القسمين.

ألا ترى أنّ العلاّمة (٣) مثّل لصورة تعارض المجاز والتخصيص ، بقوله تعالى : ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ )(٤) مع اتّحاد الحكم في التقديرين ، وهو وجوب قتل أهل الحرب من المشركين خاصّة دون أهل الذمّة.

ولكن الأرجح الوجه الثاني عملا بمقتضى الأمثلة ، ولا ينافيه اختصاص الثمرة بصورة الاختلاف ، لأنّ اختصاص الثمرة ببعض أفراد موضوع المسألة لا يخصّص البحث في المسألة بذلك الفرد ، كما هو الحال في كافّة المسائل ، اصوليّة وفروعيّة.

ألا ترى أنّ ثمرة البحث في كون صيغة « إفعل » حقيقة في الوجوب إنّما يظهر في صورة التجرّد عن القرينة ، مع أنّ كون الصيغة حقيقة لا يختصّ بها كما لا يخفى.

ولنقدّم البحث في تعارض الاشتراك والنقل كلّ مع الآخر ، ومع كلّ من الأحوال الخمس الباقية ، وهي أحد عشر صورة :

الصورة الاولى : تعارض الاشتراك والنقل الّذي مثل له بما لا يخلو عن مناقشة ، وهو « الصلاة » في قوله : « الطواف بالبيت صلاة » لاحتمال كونها منقولة عن المعنى اللغوي إلى الشرعي ، فيجب حملها على المعنى المنقول إليه عند

__________________

(١) البقرة : ١٤٨.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ كتاب الزكاة ، سنن أبي داود ٢ : ٩٦ ح ١٥٦٧ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٣ ح ١٧٩٨.

(٣) نهاية الوصول في علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(٤) التوبة : ٥.

١٩١

تجرّدها عن القرينة ، ولازمه اشتراط الطواف بالطهارة في المثال ، أو مشتركة بين المعنيين فلا يحمل على أحدهما إلاّ بقرينة واضحة ، ولازمه عدم اشتراطه بالطهارة.

واختلف في الترجيح ، فعن جماعة منهم العلاّمة في التهذيب (١) ترجيح النقل ، وعن آخرين منهم العلاّمة في النهاية (٢) ترجيح الاشتراك ، وليعلم أنّ الترجيح في هذه الصورة وغيرها ممّا كان ما هو من أحوال اللفظ طرفا للتعارض إمّا أن يناط بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى حكمة الوضع ، على معنى اختيار ما هو أقرب إليها على ما هو أبعد منها ، أو بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى غرض المتكلّم وهو تفهيم حقيقة مراده من اللفظ وفهمه ، على معنى اختيار ما هو أقرب إلى هذا الغرض على ما هو أبعد عنه ، أو بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى الوقوع الخارجي ، على معنى اختيار ما هو أقرب إلى الوقوع على ما هو أبعد منه ، أو بموافقة أصل من الاصول العدميّة ومخالفته ، على معنى ترجيح الموافق للأصل على مخالفه.

ولعلّه إلى الطريق الأوّل ينظر احتجاج الأوّلين لترجيح النقل : بأنّ الاشتراك لتعدّد الحقيقة فيه موجب لاختلال الفهم بخلاف النقل ، فإنّ الحقيقة فيه واحدة على كلّ حال فلا اختلال فيه ، لوجوب حمل اللفظ على المنقول منه قبل النقل لأنّه الحقيقة حينئذ ، والمنقول إليه بعده لأنّه الحقيقة حينئذ.

وملخّصه : أنّ الاشتراك أبعد عن حكمة الوضع لما فيه بتعدّد الحقيقة من اختلال فهم المعنى المراد ، لأنّ اللفظ إن اخذ في الاستعمال بلا قرينة معيّنة فلا يحصل فهم المراد على التعيين ، وإن أخذ مع القرينة فربّما يغفل عنها السامع فلا يحصل الفهم أيضا ، فيجب على الواضع الحكيم مراعاة لحكمة الوضع أن يختار النقل على الاشتراك في لفظ دار أمره في نظره أن يضعه لمعنيين ليكون مشتركا بينهما أو يضعه لمعنى ثمّ ينقله إلى آخر ليكون منقولا.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٦ ( مخطوط ).

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

١٩٢

ويزيّفه : إنّه إنّما يتمّ لو كان كلّ من الاشتراك والنقل بحيث حصل في موارده عن واضع أصل اللغة ، والكلّ موضع منع ، فإنّ الاشتراك قد يحصل بوضع غير الواضع للّفظ الموضوع في اللغة لمعنى آخر لعدم اطّلاعه على وضعه اللغوي ، أو عدم التفاته إليه.

والمعهود من النقل في موارده حصوله من أهل اللسان لغرض دعاهم إليه ، والغالب فيه استناده إلى الاستعمالات المجازيّة ، فليس مبنى شيء من الاشتراك والنقل على مراعاة حكمة الوضع ، ليختار ما هو أقرب إليها.

وأيضا قد عرفت سابقا أنّ حكمة الوضع لا تكون إلاّ حكمة باعثة على فتح باب نوع الوضع ، فليست علّة مستقلّة مطّردة في جميع موارد الوضع ليستدلّ بها على إثبات شيء ونفي شيء آخر.

وأيضا قد عرفت أنّ وقوع الاشتراك في موارده يكشف عن أنّ هناك حكما خفيّة ربّما تكون في نظر الواضع راجحة على حكمة الوضع ، باعثة على اختياره الاشتراك. ومن الجائز كون المقام أيضا مشتملا على نحو هذه الحكم.

وتوهّم أنّ حكمة الوضع معلوم الثبوت وغيرها ممّا يترجّح عليها غير معلوم. والأصل عدمه ، قد عرفت دفعه.

ويمكن تنزيل الوجه المذكور إلى الطريق الثاني ، بتقريب : أنّ المتكلّم إذا كان غرضه تفهيم مراده وفهمه ، فالواجب عليه مراعاة ما هو أقرب إلى غرضه ، وهو أن يختار في كلامه الاشتراك.

ويزيّفه : إنّه إنّما يتمّ فيما لو كان هناك لفظان أحدهما مشترك والآخر منقول وصحّ أخذ كلّ منهما في الكلام ، ودار الأمر عند المتكلّم في وضع كلامه بين أن يأخذ فيه اللفظ المشترك أو اللفظ المنقول ، فيقال حينئذ : إنّ الأقرب إلى غرضه المنقول فوجب اختياره.

وهذا كما ترى مسألة اخرى لا دخل لها في محلّ البحث ، الّذي علم إجمالا بوقوع إحدى الحالتين من الاشتراك والنقل في اللفظ المأخوذ في الكلام.

١٩٣

حجّة ترجيح الاشتراك : إنّ المشترك أكثر وجودا من المنقول في جميع اللغات فيكون راجحا ، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح لو كانا متساويين ، أو ترجيح المرجوح على الراجح لو كان المشترك مرجوحا ، وكلاهما محالان على الواضع.

ويزيّفه أوّلا : ابتناؤه على كون الاشتراك الّذي كثر وقوعه في موارده من وضع واضع واحد مع التفاته إلى وضعه السابق.

وقد عرفت أنّه ليس بلازم في الاشتراك ، ومع تعدّد الواضع وعدم اطّلاع الواضع الثاني على الوضع الأوّل ، أو عدم التفاته إليه ، لا يصحّ فرض الرجحان والمرجوحيّة والتساوي.

وثانيا : إنّ رجحان الاشتراك في نظر الواضع ـ على تقدير تسليم وحدته ـ ليس ذاتيّا ، كيف ومخالفته لحكمة الوضع وغيرها من الاصول قاضية بمرجوحيّته لذاته ، بل هو رجحان عرضي مسبّب عن حكم خفيّة تترجّح على حكمة الوضع ، ولا يمكن الاستناد إلى نحو هذا الرجحان في ترجيح الاشتراك في مورد الشكّ ، لمكان الشكّ في وجود سبب الرجحان فيه كما هو واضح.

ولو رام أحد التمسّك في هذا الوجه بنفس الأكثريّة ، عملا بقاعدة الإلحاق فيزيّفه : عدم التعويل على الأكثريّة الغير المعتدّ بها.

واستدلّ أيضا : بأنّ الاشتراك والنقل وإن تشاركا في تعدّد الوضع وتعاقب الوضعين لمعنيين ، غير أنّ النقل يقتضي نسخ الوضع الأوّل بخلاف الاشتراك ، والنسخ يقتضي بطلان المنسوخ والاشتراك يقتضي التوقّف ، فيكون أولى.

ويمكن إرجاع ذلك إلى الطريق الثالث ، وهو إناطة الترجيح بالأقربيّة والأبعديّة بالنظر إلى الوقوع في الخارج.

بدعوى : أنّ ما لا يتضمّن النسخ وبطلان المنسوخ أقرب بالوقوع في الخارج.

ويزيّفه : إنّ هذه الأقربيّة بعد تسليمها ظنّية فلا تعويل عليها ، بناء على أصالة عدم حجّية الظنّ في اللغات مطلقا.

كما يمكن إرجاعه إلى الطريق الرابع ، وهو الإناطة بموافقة الأصل ومخالفته ،

١٩٤

بناء على أنّ الأصل عدم نسخ الوضع الأوّل على معنى هجره ، وإذا انجرّ الكلام إلى مراعاة موافقة الأصل ومخالفته فنقول : إنّ لدوران الأمر بين النقل والاشتراك صورا يختلف باختلافها الأصل :

إحداها : أن يكون اللفظ في اللغة موضوعا لمعنى وفي العرف لمعنى آخر ، واحتمل نقله من الأوّل إلى الثاني أو اشتراكه بينهما ، وله فروض ثلاث :

الأوّل : أن يثبت كونه للمعنى العرفي باعتبار وضع التعيين ، وحينئذ فمرجع الدوران بينهما إلى الشكّ في حدوث لوازم النقل الزائدة على تعدّد الوضع ، كنسخ الوضع الأوّل إن قلنا باعتبار الهجر في النقل ، وملاحظة المناسبة بين المعنيين عند الوضع الثاني ، والأصل عدمهما فيترجّح الاشتراك.

الثاني : أن يثبت كونه باعتبار وضع التعيّن ، فإن قلنا بالاشتراك التعيّني ـ كما جوّزه بعض ـ فانحصر المايز بينهما في اعتبار هجر المعنى اللغوي في النقل دون الاشتراك ، والشكّ راجع إليه والأصل عدمه ، فيترجّح الاشتراك أيضا.

وإن قلنا بعدمه كما هو الأظهر ـ بناء على ظهور كلامهم في الفرق بين النقل والاشتراك بملاحظة المناسبة في الأوّل دون الثاني ، في كون الحصر بينهما عقليّا دائرا بين الإثبات والنفي قاضيا بانتفاء الواسطة ، كما هو قضيّة عبائرهم عند تقسيم اللفظ ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بجعل السلب في كلامهم بالنسبة إلى المشترك كلّيا والإيجاب بالنسبة إلى المنقول جزئيّا ، على معنى اعتبار ملاحظة المناسبة ولو للتجوّز في الاستعمالات السابقة على التعيّن في نقل التعيّن ـ سقط حينئذ احتمال الاشتراك وخرج الفرض معه عن موضوع التعارض ، كما هو واضح.

الثالث : أن لا يثبت شيء من الوجهين ، بل كان الوضع المفروض للمعنى العرفي مردّدا بين التعيين والتعيّن ، وكان ذلك سببا لدوران الأمر بين الاشتراك والنقل.

فإن قلنا بأصالة وضع التعيّن في نظائر الفرض ، كما قيل بها استنادا إلى أصالة تأخّر الحادث وأصالة عدم الوضع يترجّح النقل ، المبنيّ على كون الوضع العرفي

١٩٥

وضع تعيّن وإلاّ لا مناص من الوقف ، وحيث إنّا قد بيّنّا فساد ذلك الأصل ـ في تعريف الفقه ـ لفساد مدركيه فيتعيّن الوقف في الفرض المذكور.

ثانيتها : أن يكون للّفظ لغة معنى وفي العرف معنى آخر يشكّ في ثبوته في اللغة ليكون مشتركا بينهما ، فيعامل معه معاملة المشتركات بحسب اللغة ، وإن لزمه هجر المعنى اللغوي في العرف للقطع بعدم ثبوته فيه ، وعدمه ليكون منقولا فيتعارض فيه العرف واللغة ، ولكن أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي ـ على معنى عدم تعرّض واضع اللغة لوضعين في ذلك اللفظ ـ مع أصالة تأخّر الحادث بالنظر إلى الوضع للمعنى العرفي ينفي احتمال ثبوت هذا المعنى في اللغة ويعيّن النقل ولا يعارضه أصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، للقطع بحصول الهجر من جهة القطع بعدم ثبوت المعنى اللغوي في العرف.

وقد يعكس الفرض المذكور بالشكّ في ثبوت المعنى اللغوي في العرف مع القطع بعدم ثبوت المعنى العرفي في اللغة ، فيدور الأمر بين الاشتراك في العرف الحاصل بوضع لغوي ووضع عرفي ، والنقل عن المعنى اللغوي إلى العرفي.

وقضيّة أصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، مع أصالة عدم ملاحظة المناسبة عند الوضع العرفي ينفي احتمال النقل ، فيترجّح الاشتراك.

وقد يشكّ في ثبوت كلّ في كلّ ليكون مشتركا في اللغة والعرف معا ، وعدمه ليكون منقولا.

وقضيّة الاصول المذكورة في الفرضين الأوّلين ثبوت الاشتراك بينهما عرفا ، لأن أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي ، مع أصالة تأخّر الحادث تنفي ثبوت المعنى العرفي في اللغة.

وأصالة عدم هجر المعنى اللغوي ، مع أصالة عدم ملاحظة المناسبة ، تعيّن الاشتراك الحاصل من وضع لغوي ووضع عرفي.

ثالثتها : أن يكون للّفظ معنيان بحسب العرف ، ويوجد استعماله لغة في معنى ثالث يناسبهما ، فيشكّ حينئذ في كونه حقيقة في ذلك المعنى خاصّة ، فيكون

١٩٦

بحسب اللغة من متّحد المعنى ، ولازمه كونه منقولا في العرف من هذا المعنى إلى المعنيين المذكورين ، أو كونه حقيقة فيهما من أوّل الأمر فيكون مشتركا بحسب اللغة من دون أن يكون هناك نقل.

وقد يحتمل فيه عدم وضعه بحسب اللغة للمعنى الثالث ولا المعنيين ، أو عدم كونه حقيقة في شيء من ذلك ، أو كونه موضوعا للثالث وأحد المعنيين ، أو له ولكلّ منهما ليكون مشتركا بين الجميع.

لكن ينبغي أن يقطع بكونه بحسب اللغة موضوعا بل حقيقة في شيء لا محالة ، لئلاّ يلزم المجاز بلا وضع والمجاز بلا حقيقة ، واحتمال كونه موضوعا للمعنيين معا ينفيه أصالة عدم تعدّد الوضع اللغوي بالمعنى المتقدّم ، كما أنّ احتمال كونه موضوعا للثالث وأحد المعنيين ، أوله ولهما ينفيه ذلك الأصل ، ويعتضد بأصالة تأخّر الحادث بالقياس إلى الوضع الحاصل للمعنيين.

وقضيّة الأصلين ترجيح النقل على الاشتراك ، ولا يعارضهما أصالة عدم ثبوت الوضع للمعنى الثالث ، لانتقاض هذا الأصل بفرض العلم الإجمالي بكونه بحسب اللغة موضوعا لا محالة ، كما لا يعارضهما أصالة عدم ملاحظة المناسبة في وضعه عرفا للمعنيين ، لورودهما عليه.

وقد يقال : إنّ أصالة تأخّر الحادث قاضية بعدم الوضع لهما في اللغة ، ولمّا لم يكن وضعه للمعنى الآخر معلوما من أصله ، فقضيّة الأصل عدم ثبوت الوضع له أيضا ، وحينئذ فيحتمل القول بثبوت المعنيين له بحسب اللغة أيضا ، لأصالة عدم تغيّر الحال فيه ، أو بوضعه لأحدهما ثمّ طروّ وضعه للآخر عرفا ، اقتصارا في إثبات الحادث على القدر الثابت ، وفيه ما لا يخفى.

رابعتها : أن يكون مشتركا بين معنيين بحسب اللغة واستعمل عرفا في معنى ثالث مجازا ، واشتهر استعماله فيه إلى أن يحصل الشكّ في حصول النقل وهجر المعنيين ، فيدور الأمر بين النقل واشتراكه عرفا كما كان لغة ، وحكمه بعد ملاحظة أصالة عدم النقل وأصالة بقاء حالته الأوّلية ـ وهو الاشتراك ـ إنّما هو ترجيح الاشتراك لا غير.

١٩٧

ويمكن إرجاع هذه الصورة إلى مسألة الدوران بين النقل والمجاز ، وأصالة عدم النقل تعيّن المجاز ، ولزمه بقاء الاشتراك اللغوي.

الصورة الثانية والثالثة : تعارض الاشتراك أو النقل والمجاز ، فإن اريد بالمجاز هنا كون اللفظ مجازا في أحد المعنيين المستعمل فيهما اللفظ ، قبالا لكونه مشتركا بينهما أو منقولا إليه ـ ومرجعه إلى تعارض حالتين من أحوال اللفظ ـ وجب ترجيح المجاز ، أمّا في الاشتراك فقد اتّضح وجهه مشروحا في مباحث الاستعمال.

وأمّا في النقل فلأصالة عدم النقل ، ولا يعارضها أصالة عدم القرينة وغيرها من لوازم المجاز لورودها عليها ، ويؤكّدها شيوع المجاز وقلّة المنقول.

وقد يستدلّ أيضا بتوقّف النقل على اتّفاق أهل اللسان على تغيير الوضع ، وهو متعذّر كما في النهاية (١) أو متعسّر كما في العميدي (٢) بخلاف المجاز الّذي يتوقّف على وجود العلاقة كما في الثاني ، أو قرينة صارفة عن الحقيقة كما في الأوّل ، وهو متيسّر ولا يخفى ضعفه.

وإن اريد به التجوّز في لفظ قبالا لاحتمال الاشتراك أو النقل في آخر مع كونهما مأخوذين في الكلام ، كما في قوله تعالى : ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٣) حيث إنّ إرادة العقد من « النكاح » والتحريم من الصيغة تفضي إلى مخالفة الإجماع من تحريم المعقود عليه بالعقد الفاسد ، فلا بدّ من الالتزام بالتجوّز في النهي بإرادة القدر الجامع بين الحرمة والكراهة ، أو باشتراك النكاح بين العقد والوطء مع إرادة الواطئ منه بقرينة الإجماع المذكور ، أو بكونه منقولا من العقد إلى الواطئ فاريد منه الوطء لأنّه الحقيقة بعد النقل.

ومرجعه إلى تعارض حالتين : إحداهما من أحوال اللفظ ، والاخرى من

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٧ ( مخطوط ).

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

(٣) النساء : ٢٢.

١٩٨

أحوال الاستعمال ، وحيث إنّ وقوع الاشتراك أو النقل في لفظ « النكاح » وغيره من نظائره ممّا لم يقم عليه أمارة معتبرة ، فينفى احتماله بأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ، ويتعيّن معه التجوّز في اللفظ الآخر.

لا يقال : إنّ احتمال التجوّز أيضا ينفيه أصالة الحقيقة ، فالأصلان المذكوران يعارضهما أصالة الحقيقة ، لأنّ أصالة الحقيقة لكونها من الاصول المشخّصة للمراد لا تصلح لمعارضة الأصلين ، لكون الاصول المحرزة لحال اللفظ واردة على الاصول المشخّصة للمراد ، الّتي اخذ في موضوعاتها خلاف مقتضيات الاصول المحرزة لحال اللفظ ، فإنّ أصالة الحقيقة في لفظ النهي في المثال قد اخذ في موضوعها ولو بحكم الفرض من جهة القرينة في القضيّة الشخصيّة ، وقوع الاشتراك أو النقل في لفظ « النكاح » ، وإذا نفي احتمال وقوعهما بالأصلين ارتفع به موضوع أصالة الحقيقة ، ومعه لا معنى لتوهّم المعارضة بينها وبينهما.

وأيضا أصالة الحقيقة بمعنى ظهور اللفظ في إرادة الحقيقة إنّما تنهض حيث لم يطرأه ما يوجب إجماله ، والقرينة المردّدة بين كونها معيّنة لأحد معنيي المشترك أو صارفة للّفظ الآخر عن حقيقته كالإجماع ونحوه ، أوجبت إجماله ، فلا ظهور للحقيقة حينئذ حتّى يعارض به الأصلان ، وإذا نفي احتمال الاشتراك أو النقل بهما انتفى عن هذه القرينة احتمال كونها معيّنة أو مؤكّدة ، وبعد تعيّن كونها صارفة لا معنى لأصالة الحقيقة معها.

الصورة الرابعة والخامسة : تعارض الاشتراك والتخصيص أو النقل والتخصيص كما في المثال المتقدّم ، إذا فرض دوران الأمر بين التصرّف في قوله [ تعالى ] : ( ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(١) بطريق التخصيص ، بناء على كون الموصول من أدوات العموم بإخراج المعقود عليه بالعقد الفاسد عن العموم ، والالتزام باشتراك النكاح بين العقد والوطء ، أو نقله إلى الوطء.

__________________

(١) النساء : ٢٢.

١٩٩

والكلام فيه من حيث الترجيح ، والسؤال الوارد عليه ودفع هذا السؤال بما عرفت من الوجهين كما تقدّم ، فيترجّح التخصيص.

والمعروف في الاستدلال عليه : إنّه خير من المجاز ، الّذي هو خير من الاشتراك والنقل ، وخير الخير من شيء خير من ذلك الشيء ، وربّما يقوى بملاحظة شيوع التخصيص وكثرته ورجحانه على الاشتراك والنقل ولا يخلو عن ضعف.

الصورة السادسة والسابعة : تعارض الاشتراك والتقييد ، أو النقل والتقييد كما في المثال المتقدّم أيضا ، بناء على الدوران بين التصرّف في لفظ « النكاح » في قوله [ تعالى ]( ما نَكَحَ )(١) بتقييده بالصحيح ، أو الالتزام بالاشتراك أو النقل فيه ، ومثّل لتعارض النقل والتقييد بقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) بتقريب : أنّ « البيع » يحتمل بقاؤه على معناه الأصلي وهو مطلق المبادلة الواقعة بين الناس ، فلا بدّ حينئذ من تقييده بالصحيح الجامع للأركان والشرائط الشرعيّة ، أو الالتزام بنقل الشارع إيّاه إلى الصحيح الجامع للشرائط.

وكيف كان فالمتعيّن فيه أيضا ترجيح التقييد ، والكلام في وجهه والسؤال الوارد عليه مع ما يدفعه نظير ما مرّ أيضا حرفا بحرف.

الصورة الثامنة والتاسعة : تعارض الاشتراك أو النقل والإضمار ،أمّا الأوّل فكما في قوله عليه‌السلام : « في خمس من الإبل شاة » (٣) بعد ملاحظة أنّ حمل كلمة « في » على حقيقتها المعلومة وهي الظرفيّة المقتضية للاشتمال يستلزم الكذب ، فلا بدّ من التزام اشتراكها بين الظرفيّة والسببيّة ، فتحمل على إرادة السببيّة حذرا عن الكذب أو إضمار ما يضاف إلى الشاة كالمقدار ونحوه ، ويصحّ فرض ذلك مثالا للثاني أيضا ، إلاّ أنّه مثّل له بأن يقال : لا يجوز بيع الجنس بمثله مع زيادة لأنّه

__________________

(١) النساء : ٢٢.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ١٤٦ كتاب الزكاة ، سنن أبي داود ٢ : ٩٦ ح ١٥٦٧ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٧٣ ح ١٧٩٨.

٢٠٠