تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وأمّا الثالثة وإن كانت باعتبار المفهوم تغاير كلاّ ممّا ذكر ، حتّى « أصالة عدم الاشتراك » المرادفة « لأصالة المجاز » بالمعنى الأخصّ ، غير أنّها باعتبار المورد أخصّ منهما ، حيث إنّها إنّما يؤخذ بها في مواردها على وجه المدركيّة لهما كما هو واضح. فالعمدة في المقام حينئذ إنّما هو النظر في تأسيس هذه الاصول وتحكيمها بالنظر إلى أنّه هل لها في نظر العرف والعادة دليل ومدرك صحيح أو لا ، ليتّضح منه حال المسائل المفروضة ، وما شاكلها من حيث الترجيح والوقف.

فنقول : أمّا « أصالة الاستعمال » فقد اتّضح حالها بما لا مزيد عليها ، وتبيّن أنّه من الاصول الّتي لم يثبت لها أصل ، فلا حكم لها حينئذ من حيث الترجيح أصلا.

وأمّا أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ : فالّذي يساعد عليه النظر إنّه أصل معتبر معوّل عليه ، والدليل عليه وجوه :

أحدها : بناء العرف وطريقة أهل اللغة ، فإنّهم لا يزالون يعاملون مع اللفظ المستعمل في معنى واحد معاملة الحقائق ، بترتيب أحكامها وإجراء آثارها عليه من غير تحقيق لشيء من الأمارات فيه ، فتراهم في اللفظ الوارد في الأشعار والقصائد القديمة ، والكتب المؤلّفة المندرسة من السير والتواريخ ، وكتب الأخبار والتفاسير ، وغيرها يحملونه على ما عثروا بكونه ثمّة مستعملا فيه من المعنى المعيّن وإن كان مهجورا في العرف الحاضر بنفسه أو بمعناه أو كليهما ، من دون وقف ، ولا اعتناء باحتمال مجازيّة هذا الاستعمال ، ولا كون اللفظ بالقياس إليه مجازا بلا حقيقة ، ولا ينكر ذلك عليهم تعليلا بالاحتمال المذكور ، بل لو ألقى إليهم شبهة هذا الاحتمال كان مستهجنا في نظرهم ، وليس إلاّ لسخافة الاحتمال ، وكونه في السقوط بحيث ليس من شأنه أن يلتفت إليه ولا أن يعتنى به ، وهذا مع ما علم ضرورة من وجوب مراعاة أصالة الحقيقة المشخّصة للمرادات لا يلائم إلاّ على كون اللفظ المفروض من حكمه اجراء أحكام الحقيقة عليه.

وكذا الحال فيما يوجد في العرف الحاضر مستعملا في معنى معيّن واحد من دون إحراز أمارة فيه بالقياس إلى ذلك المعنى ، ويرجع ذلك كلّه إلى أنّ اتّحاد

١٤١

المستعمل فيه ممّا يؤخذ به في نظر العرف والعادة مناطا لإجراء أحكام الحقيقة على اللفظ المستعمل إلى أن يقوم أمارة بخلافها ، فتأمّل جيّدا.

وثانيها : الاستقراء المفيد للقطع ، فإنّ مورد أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ على ما عرفت هو اللفظ المردّد بين الحقيقة بلا مجاز والمجاز بلا حقيقة.

وقضيّة الاستقراء القطع بكونه حقيقة ، فإنّ المجاز بلا حقيقة وإن كان أمرا ممكنا بحسب العقل ، غير أنّه ممّا لا خارج له ، بل هو « كالعنقاء » مجرّد اسم لا رسم له بحسب الخارج ، ومفهوم لا أثر له في الأعيان ، كيف وأهل القول بوقوعه لم يأتوا لوقوعه إلاّ بعدّة أمثلة زيّفناها في محلّه ، لمنع أصل المجازيّة في جملة ، ومنع كونها بلا حقيقة في اخرى ، وليس لهم ممّا عداها مثال آخر ، مع ما ارتكبوه ترويجا لمذهبهم من كلفة الفحص في تحصيله ليكون حجّة على من يخاصمهم.

ولا ريب أنّ عدم الوجدان بعد الفحص التامّ ممّا يفيد القطع بعدم الوجود ، فيتحصّل بذلك كبرى كلّية ، وهي : « إنّ اتّحاد معنى اللفظ المستعمل فيه ملزوم لحقيقيّته فيه » فإذا انضمّ إليها صغرى تفرض بالقياس إلى مورد الدوران ، كان نتيجتهما ترجيح جانب الحقيقة على سبيل الجزم.

وثالثها : إنّ اتّحاد المستعمل فيه في نحو مفروض المسألة على ما هو مورد أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ ممّا يكشف عن نحو اختصاص للّفظ به ، وإن لم يكن عن آثار الوضع الثابت له لا محالة ، المردّد بين هذا المستعمل فيه وغيره ممّا لم يستعمل فيه ، وذلك لأنّ الاستعمال مع اتّحاد المستعمل فيه في اللفظ المتداول عند نوع أهل اللغة يلزمه أن يكون متداولا فيما بين النوع ، على معنى أن يتداوله العرف في محاوراتهم ومخاطباتهم في المعنى المبحوث عنه.

ولا ريب أنّ نحو هذا الاستعمال ملزوم لنحو من الاختصاص سواء كان بحسب الواقع من آثار وضع الواضع ، أو من آثار نفس استعمال النوع ، فينكشف به الحقيقيّة لا محالة ، وإن كانت مردّدة بين وجهي الاختصاص.

وربّما يستدلّ عليه بحكمة الوضع ـ المتقدّم تفسيرها ـ فإنّها تقضي بترجيح

١٤٢

جانب الحقيقة ، إذ على تقدير المجاز يلزم مخالفة الحكمة ، سواء اخذ في الاستعمال بلا قرينة أو معها.

ويندفع : إنّ التجوّز إنّما يطرأ اللفظ غالبا من أهل اللسان لا من الواضع نفسه ، لغرض دعاهم إليه من قبل أن يستعملوه فيما وضع له ، المفروض وجوده لا محالة على تقدير المجازيّة ، ولا ريب أنّ حكمة الوضع لا تنفيه.

نعم لو فرض كون الاستعمال المفروض صادرا عنهم لمراعاة نحو هذه الحكمة ، على معنى كونهم إنّما استعملوا اللفظ لحصول التفاهم بلا حاجة إلى تجشّم القرينة لا تنهض بترجيح الحقيقة ، غير أنّ تنزيل البحث على نحو هذا الفرض خروج عن محلّه ، حسبما بيّنّاه من أنّ المقصود تأسيس أصل يرجع إليه على تقدير فقد أمارة الحقيقة والمجاز ، والاستعمال المفروض على الوجه المذكور بنفسه أمارة حقيقة لرجوعه في حاصل المعنى إلى الاستعمال المأخوذ في عنوان المقام الأوّل حسبما تقدّم.

وربّما استدلّ أيضا بما تقدّم في بحث أصالة الاستعمال ، من أنّ المجاز يستلزم كثرة المؤن بخلاف الحقيقة فتكون أولى وأرجح ، وقد نفيناه بأنّ قلّة المؤن وكثرتها لا تقتضي رجحانا ولا مرجوحيّة ، فالحكم بمرجوحيّة المجاز لمجرّد استلزامه كثرة المؤن غير متّجه ، فإنّ مجازيّة لفظ في معنى إنّما تتبع وضع ذلك اللفظ بإزاء معنى آخر ، فهي معلولة عن مجموع أمرين وضع اللفظ بإزاء ما فرض وضعه له ، وعدم وضعه بإزاء ما فرض كونه مجازا فيه.

ولا ريب أنّ مرجوحيّة المعلول إنّما هي باعتبار مرجوحيّة علّته ، فإمّا أن يحكم بمرجوحيّة الوضع ، فيلزم أن يكون الوضع في كلّ لفظ موضوع أمرا مرجوحا ، أو مرجوحيّة عدمه بالقياس إلى ما لم يوضع له فيلزم رجحان خلافه ، ويلزم من ذلك وجوب اشتراك كلّ لفظ بين معاني غير محصورة ، واللازم بكلا قسميه باطل.

وبالجملة : قلّة المؤن وكثرتها لا تصلحان لتأسيس هذا الأصل ، ليتفرّع عليه رجحان الحقيقة ومرجوحيّة المجاز.

١٤٣

نعم إنّما يصلحان لتأسيس أصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، فيما لو دار اللفظ الصادر من متكلّم خاصّ بين إرادة معناه الحقيقي أو معناه المجازي ، فيقال : إنّ الحقيقة أرجح لما فيها من قلّة المؤن القاضية بسهولة التعبير ، وكأنّ توهّم الرجحان في المقام ناش عن الخلط بين المقامين.

وممّا يمكن أن يستدلّ أو استدلّ به أيضا ، الملازمة بين الأصل بالمعنى المبحوث عنه وأصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، فإنّ المقصود بالأصل ثمّة الحكم على اللفظ بكون المستعمل فيه المراد منه معناه الحقيقي وهو بعينه مقصود به هاهنا ، فالقول بأصالة الحقيقة ثمّة يستلزم القول بها هاهنا ، وسبق العلم بالمعنى الحقيقي وعدمه لا يصلح فارقا.

ويزيّفه : وضوح تغاير الأصلين مفهوما وموضوعا ، فإنّ ما يستعلم به حال المتكلّم أصل بمعنى ظهور الحقيقة ورجحانها ، وموضوعه اللفظ المستعمل المقصود به الإفهام المجرّد عن قرينة المجاز ، ومناط ظهوره في إرادة الحقيقة إنّما هو العلم بوضعه مع تجرّده عن القرينة ، وما يستعلم به حال اللفظ أصل بمعنى القاعدة الموجبة لترجيح الحقيقة ، وموضوعه اللفظ المستعمل مع جهالة حاله بالقياس إلى معناه المستعمل فيه من حيث الاقتران بالقرينة وتجرّده عنها ، ولا يلزم من ظهور الأوّل في كون المستعمل فيه المراد منه معناه الحقيقي ظهور الثاني فيه ، كما هو واضح.

فإن قلت : من المقرّر في تحقيق الأصل المذكور ـ على ما سيأتي تحقيقه ـ إنّ أصالة الحقيقة في حجّيتها ووجوب العمل بها لا يتفاوت فيهما الحال بين المشافه الّذي قصد إفهامه وغيره الّذي لم يقصد إفهامه فإنّهما في العمل بها سيّان ، فإذا فرض الجاهل المستعلم (١) لحال اللفظ ناظرا في لفظ قصد به إفهام مشافه غيره يحصل الملازمة بين الأصلين حينئذ في كون كلّ منهما يستظهر كون المستعمل فيه المراد منه هو المعنى الحقيقي ، غير أنّ المشافه إنّما يستظهره لأنّه مشافه قصد

__________________

(١) في الأصل « المستعمل » والصواب ما أثبتناه في المتن.

١٤٤

إفهامه والجاهل يستظهره لأنّه غير مشافه لا يتفاوت الحال بينه وبين المشافه في استظهار إرادة الحقيقة.

قلت : كما أنّ المشافه المقصود إفهامه وغيره سيّان في استظهار الحقيقة ، فكذلك هما سيّان في اشتراط سبق العلم بالموضوع له ، وتبيّن حال اللفظ من حيث تجرّده عن القرينة ، فإنّ منشأ ظهور الحقيقة هو اللفظ بهذا الشرط لا مطلقا ، فلا يمكن فرض الجاهل المستعلم لحال اللفظ من قبيل الغير المشافه العالم بحاله ، المستظهر للحقيقة لمجرّد علمه.

فإن قلت : ربّما تتأتّى الملازمة بين الأصلين فيما لو كان مستند علم الجاهل بالمعنى المستعمل فيه هو أصالة الحقيقة ، الّتي أعملها العالم بحال اللفظ مشافها مقصودا إفهامه أو غيره ، بأن علم في لفظ مستعمل بمعناه المستعمل فيه بسبب وقوفه على ما صنعه العالم بحاله من حمله على معنى معيّن ، تعويلا على ظهوره فيه كما هو مناط العمل بأصالة الحقيقة.

قلت : إن تبيّن له إنّه إنّما حمل اللفظ على ذلك المعيّن لمجرّد كونه بنفسه ظاهرا فيه ، فهو انكشاف للتبادر الّذي هو من أقوى أمارات الحقيقة ، فانكشاف الحقيقة في الحقيقة إنّما هو لأجل ذلك التبادر.

وقد عرفت أنّ نحو هذه الصورة خارج عن معقد الأصل بالمعنى المبحوث عنه ، وإن لم يتبيّن له إلاّ أنّه إنّما حمله لظهوره المردّد في نظره بين كونه لمجرّد اللفظ أو له بمعاونة القرينة ، فهو انكشاف للتبادر الظنّي.

فإن قلنا باعتباره في أمارات الحقيقة عاد الكلام السابق ، وإلاّ فلم يتبيّن له ظهور إرادة الحقيقة في نظر العالم ، ليكون ذلك منشأ لأصالة الحقيقة بالمعنى المبحوث عنه.

فإن قلت : ربّما أمكن فرض الملازمة بينهما فيما لو كان الجاهل بحال اللفظ بنفسه مخاطبا في استعمال هذا اللفظ مقصودا إفهامه ، فهو حينئذ يحكم بإرادة الحقيقة لأصالة الحقيقة.

١٤٥

غاية الأمر : أنّ المعنى الحقيقي لجهله به على نحو التعيين مشتبه في نظره ، فيتحرّى حينئذ في طلب العلم بالمستعمل فيه ، وإذا حصل له ذلك العلم انكشف له كونه المعنى الحقيقي بحكم الفرض الأوّل ، وهذا هو الملازمة بين الأصلين.

قلت : علمه بالمستعمل فيه لا بدّ له في نحو الصورة المفروضة من مستند ، وهو لا يخلو إمّا تنصيص المتكلّم فيما بعد الخطاب بما هو مراده على التعيين ، أو تتبعه الكاشف عن أنّ استعمال هذا اللفظ المتداول عند نوع أهل اللغة ما يقع على هذا المعنى المعيّن ، وأيّا ما كان ، فالفرض على الوجه الأوّل ممّا يخرج المورد عن معقد أصالة الحقيقة المشخّصة للمراد ، لترددّ تنصيص المستعمل حينئذ في نظره بين كونه لمجرّد رفع الإبهام وإزالة الاشتباه عن المعنى الحقيقي ، أو لنصب قرينة الدلالة الّتي يلزمها المجاز ، فهو بعد على جهله في حال اللفظ ووصفه.

وعلى الوجه الثاني ممّا يخرجه عن معقد أصالة الحقيقة بالمعنى المبحوث عنه ، لرجوع الاستعمال المفروض بضميمة كونه مقصودا به الإفهام مع تجرّد اللفظ عن القرينة إلى ما هو ملزوم للحقيقة ، وأمارة واقعيّة للوضع وهو الاستعمال المأخوذ في عنوان المقام الأوّل المتقدّم ذكره.

فالوجه في تأسيس الأصل المبحوث عنه هو ما قرّرناه من الوجوه الثلاث.

لكن لك أن تقول : بانحصار وجهه عند التحقيق في أوّل هذه الوجوه ، وهو بناء العرف وطريقة أهل اللسان خاصّة ، لأنّه الّذي يكون النتيجة الحاصلة منه أصالة الحقيقة المعلّقة على عدم قيام الأمارة بخلافها ، على معنى القاعدة المقتضية لإجراء أحكام الحقيقة إلى أن يقوم أمارة بخلافها ، وأمّا الوجهان الأخيران فإنّما يفيدان الحقيقيّة الواقعيّة ، فهما بأنفسهما ينهضان من أمارات الحقيقة ، ولا يعقل كونهما محرزين لهذا الأصل ، لأنّهما على البيان المتقدّم رافعان لموضوع الأصل ، وقيام ما يرفع موضوع أصل مدركا له ودليلا على تأسيسه غير معقول ، فالأصل المبحوث عنه ما يحرز بالوجه الأوّل فقط ، وحينئذ لا بدّ من فرض المورد بحيث لا يتأتّى فيه الوجهان الآخران ، أو لا بدّ من قطع النظر حين إجراء الأصل وإعماله عنهما على تقدير تأتّيهما وجريانهما في مجرى الأصل.

١٤٦

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ العبرة في الاتّحاد المأخوذ في مجرى هذا الأصل بما هو في نظر الجاهل لا ما هو بحسب الواقع ، ولا يعتبر فيه ظهور عدم التعدّد بل يكفي عدم ظهوره ، وهو على تقدير الاستناد إلى الاستقراء أعمّ من الحقيقي والحكمي ، كما لو استعمل اللفظ في معاني متعدّدة علم بمجازيّة غير الواحد منها ، غير أنّ المسألة معه من باب الدوران بين المجاز بلا حقيقة والحقيقة مع المجاز ، بعكس المسألة الثانية من الستّ المتقدّمة ، فمجموع المسائل مضافة إليها سبع.

ثمّ إنّ المستعمل فيه الواحد ، ربّما لا يندرج في معقد الأصل المذكور ، كما إذا كان بحيث علم بعدم مناسبته لشيء من المعاني ، أو علم بعدم ملاحظة مناسبته حين استعمالاته ، أو كان اللفظ الواقع عليه بحيث علم قبل العثور عليه بالملازمة الشخصيّة بين وضعه واستعماله ، على معنى العلم من جهة الخارج بأنّه وضع لمعنى لم يقع استعماله الخارجي إلاّ عليه ، فلا حاجة في هذه الفروض إلى النظر في الأصل ، لانكشاف الحقيقيّة الواقعيّة فيها من غير جهته.

وأمّا أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ : فقد اتّضح الدليل على أحد فرديها ، وهو المعنى الأخصّ منها.

وأمّا هي في فردها الآخر المختصّ بمتكثّر المعنى ، فقد استدلّ عليها بوجوه :

منها : الاستعمال بالتقرير المتقدّم عن السيّد ، من أنّ استعمال اللفظ في المعنيين فما زاد ليس إلاّ كاستعماله في المعنى الواحد في الدلالة على الحقيقة.

وفيه أوّلا : منع الحكم في المقيس عليه بالسند المتقدّم بما لا مزيد عليه ، فإنّ الاستعمال بنفسه قاصر عن إفادة شيء من الحقيقة والمجاز ، لكونه حقيقة جنسيّة لا يعقل معينّة لأحد أنواعها.

وثانيا : وجود الفارق ، فإنّ لوحدة المعنى المستعمل فيه مدخليّة في الحكم ، إمّا لأنّها السبب التامّ أو كونها جزءا للسبب ، على أن يكون السبب مركّبا منها ومن الاستعمال ، وأيّاما كان فالمقايسة باطلة ، لانتفاء السبب أو جزئه في المقيس.

وأمّا ما قيل في تتميم الاستدلال به من مقايسة استعمال اللفظ على حمل

١٤٧

المعنى المستعمل فيه عليه ، بدعوى : كونه بمنزلته ، لوضوح أنّ استعمال « الأسد » في الحيوان المفترس ، بمنزلة أن يقال : « الأسد الحيوان المفترس » فكما أنّ نحو ذلك لو ورد في كلام من يعتدّ بقوله ممّا يفيد كون اللفظ حقيقة فيه موضوعا بإزائه ، فكذلك ما هو بمنزلته ، فممّا يقضي الضرورة بفساده لمنع الحكم في الأصل ، فإنّ نحو هذا الحمل المتولّد من نحو هذا الاستعمال الأعمّ باعتبار جهالة حاله أعمّ من الحقيقة.

وتوضيحه : إنّ الحمل فيما بين اللفظ المستعمل ومعناه المستعمل فيه ذاتي ، وهو يتأتّى في كلّ من الاستعمال الحقيقي والاستعمال المجازي ، وإنّما يعلم الحال بملاحظة الخارج ، فالحمل إنّما يعتبر ويؤخذ به بحسب الاستعمال الواقع فيما بين اللفظ ، فإذا كان الاستعمال على ما هو مفروض المقام بحيث جهل حاله كان الحمل المتولّد منه أيضا على هذا الوجه فلا يفيد شيئا ، وهو باعتبار كونه ضمنيّا تابعا لنحو هذا الاستعمال ليس نظير الحمل الصريح الواقع في كلام من يعتدّ بقوله في إثبات اللغات ، لأنّ كونه متعرّضا لبيان معنى اللفظ قرينة مقام أوجبت ظهور الحمل في إفادة الحقيقة ، فلا يقاس عليه الحمل الضمني الغير المقصود به إلاّ إفادة ذات المعنى من غير نظر إلى وصفه من الحقيقة والمجاز.

ومنها : إنّ الاشتراك أكثر في اللغة ، فيكون الحمل عليه أولى مع الاشتباه.

أمّا الاولى : فلأنّ الكلمة اسم وفعل وحرف ، والحروف كلّها مشتركة كما يشهد به كتب النحو ، وكذا الأفعال فإنّ الماضي والمستقبل مشتركان بين الخبر والدعاء ، والمضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، والأمر مشترك بين الوجوب والندب.

وأمّا الأسماء فإنّ الاشتراك فيها كثير على ما يشهد به تتبع اللغة ، فإذا ضمّ إليها الحروف والأفعال غلب الاشتراك على الانفراد.

وأمّا الثانية : فلأنّ المظنون لحوق المشتبه بالأكثر الأغلب.

ولا يخفى ضعفه : بل دعوى غلبة الاشتراك في اللغة من أوضح الأغلاط ، كيف وهو في القلّة بمرتبة أنكره قوم فأحالوه ، مع أنّ الأصل في الكلام الأسماء

١٤٨

والاشتراك فيها نادر جدّا ، واشتراك الأفعال والحروف ممّا لا يجدي نفعا مع ذلك كذا عن النهاية (١) مع توجّه المنع إلى الاشتراك في الامور المذكورة ، كيف ولو اريد به فيها ما ثبت بأمارات الوضع من تبادر أو نصّ لغوي أو غيرهما ، ففيه : منع واضح حيث لم يوجد لأمارات الوضع في اشتراكها أثر ، ولا شهادة به لما في كتب النحو بالقياس إلى الحروف ، ولا لما في اللغة بالنسبة إلى الأسماء ، لعدم اشتمال الأمرين إلاّ على أصل التعدّد ، وهو ليس بملزوم للاشتراك لوجوده في الحقيقة والمجاز ، فإنّهما كالمشترك من أقسام متكثّر المعنى ، ولا ريب أنّ اللازم الأعمّ غير صالح لأن يكشف عن ملزوم أخصّ.

وإن اريد به ما يستند إلى أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ وأصالة الاشتراك الّتي هي قسم منها ، ففيه : دور واضح ، إذ الاشتراك فيها لا يعرف إلاّ بالأصل ، والمفروض إنّ الأصل لا يعرف إلاّ بالاشتراك فيها ، مع أنّ الثابت فيها على التحقيق عدم الاشتراك.

أمّا الحروف : فلأنّها بأسرها حقائق في معانيها المعروفة الّتي يغلب استعمالها فيها ويكثر دورانها في الاستعمالات ، كالإلصاق في « الباء » والابتداء في « من » والانتهاء في « إلى » والظرفيّة في « في » والجمع في « الواو » والتفريق في « أو » وهكذا إلى سائر الحروف ، لأنّها المتبادر منها عند الإطلاق وغيرها غير متبادر منها ، مع ندرة الاستعمال فيها ، ووقوع الخلاف بين أئمّة اللغة في ثبوت أكثرها كما يشهد به التتبّع.

وأمّا الأفعال : فالماضي والمستقبل وإن استعملا في الخبر والدعاء معا غير أنّ الاستعمال بالنسبة إلى الدعاء يرد على سبيل المجاز ، لتبادر الخبر منهما عند الإطلاق وعدم تبادر غيره ، بل الظاهر إنّه محلّ وفاق عند أئمّة اللغة ، كما في كلام غير واحد من أساطين أهل الفنّ.

__________________

(١) نهاية الوصول في علم الاصول : الورقة ٢٢ ( مخطوط ).

١٤٩

نعم قد يدّعى حصول الوضع الجديد في بعض أفراد الماضي كصيغ العقود للإنشاء ، وهو ـ مع أنّه أخصّ من المدّعى ـ دعوى مردودة على مدّعيها ، حيث لا شاهد عليها بل الشاهد على خلافها ، لتبادر الخبر من صيغ العقود أيضا حيثما اطلقت ، وتبادر الإنشاء حيثما وردت في مقام عقد أو إيقاع إطلاقي لاستناده إلى قرينة المقام ، فإنّ التعرّض لمقام العقد أو الإيقاع بإيجاب أو قبول قرينة مقام تصلح مستندة للتبادر.

وأمّا فعل المضارع في الحال والاستقبال فالأقوال الثلاثة فيه معروفة ، غير أنّ الّذي يساعد عليه النظر بحكم التبادر وغيره كونه حقيقة في الحال خاصّة ، لأنّه المتبادر عند إطلاقه كما يشهد به المنصف ، وممّا يرشد إليه ، إنّه لا يستعمل في الاستقبال إلاّ مع القرينة وأدوات الاستقبال ، بخلاف استعماله في الحال فإنّه يرد مجرّدا في الغالب ، كما هو شأن اللفظ بالقياس إلى معنييه الحقيقي والمجازي.

وقد عزى القول به والذهاب إليه إلى جماعة من محقّقي النحاة ، منهم نجم الأئمّة الشيخ الرضي طاب ثراه ، فقال ـ في كلام محكيّ له ـ : لأنّه إذا خلا من القرائن لم يحمل إلاّ على الحال ، ولا يصرف إلى الاستقبال إلاّ لقرينة. وهذا شأن الحقيقة والمجاز ، وأيضا من المناسب أن يكون للحال صيغة خاصّة كما لأخويه. انتهى (١).

والمناقشة فيه : تأييدا للحقيقة في الاستقبال خاصّة ، بالقضيّة المشتهرة عن الحكماء من : أنّ الحال ليس بآن موجود ولا زمان محقّق يكون واسطة بين الماضي والاستقبال ، بل هو فصل وحدّ مشترك بينهما ، ولو كان زمانا لكان التنصيف تثليثا. تندفع : بعدم كون المراد بالحال هاهنا الحال الحكمي ، بل العرفي المفسّر تارة بالزمان الّذي أنت فيه ، واخرى بحال النطق المنطبق على الجزء الأخير من الماضي والجزء الأوّل من الاستقبال.

قال الشارح الرضي (٢) : ومن ثمّ يقال : إنّ « يصلّي » في قولك : « زيد يصلّي »

__________________

(١ و ٢) شرح الكافية ٢ : ٢٢٦.

١٥٠

حال ، مع أنّ بعض صلاته ماض وبعضها باق ، فجعلوا الصلاة الواقعة في الآنات الكثيرة المتتالية واقعة في الحال.

والخلاف في فعل الأمر معلوم ضرورة ولهم فيه أقوال متشتّتة إلاّ أنّ أقواها على ما سنحقّقه في محلّه كونه حقيقة في الوجوب مجازا في الندب ، فلا اشتراك فيه أيضا.

ومع الغضّ عن جميع ذلك أيضا وتسليم الاشتراك في المذكورات ، يتوجّه المنع إلى الغلبة المدّعاة الموجبة للظنّ باللحوق ، إذ الألفاظ الموضوعة بأسرها منقسمة إلى موادّ وهيئات ، ومن الموادّ الحروف وهي بالإضافة إلى غيرها في غاية القلّة ، ومنها الأسماء الّتي يعترف الخصم بعدم أكثريّة الاشتراك فيها.

ومن الهيئات الأفعال الثلاث الّتي منها : الأمر المستعمل في معاني كثيرة قريبة من عشرين معنى مضبوطة في كتب الاصول ، ولا خلاف عندهم في مجازيّة أكثرها كما هو واضح.

ومنها : الهيئات الاسميّة من صيغ اسمي الفاعل والمفعول ، والصفة المشبهة واسم التفضيل ، وأسماء الزمان والمكان والآلة والمبالغة وغيرها ، ولا اشتراك في شيء منها ، وهي أكثر من الأفعال المذكورة ، فإذا انضمّ إليها الأسماء الغير المشتركة لغلب عدم الاشتراك على الاشتراك ، وإلاّ فلا أقلّ من التساوي ، فلا غلبة لجانب الاشتراك. مع أنّ المستدلّ على ما يشهد به صريح كلامه معترف بأكثريّة المجاز في الأسماء ، ومن جملتها المصادر الّتي هي على تقدير اشتقاق الفعل عنها سارية في الأفعال كلّها ، وقد ورد لغالبها ـ على ما يرشد إليه كتب اللغة ـ معاني متعدّدة ، وقد اشتملت الأفعال المأخوذة عنها على تلك المعاني ، وإذ فرضنا كون الغالب من تلك المعاني هي المجازات لزم كون الغالب في الأفعال باعتبار موادّها المجازات ، وإن كان الغالب فيها باعتبار هيئآتها الاشتراك.

وقضيّة ذلك اختيار تفصيل في المسألة ، بين ما لو كان مورد الاشتباه من قبيل الأسماء والأفعال باعتبار المادّة أو من قبيل الأفعال باعتبار الهيئة.

١٥١

ففي الأوّلين يحكم عليه بالمجاز إلحاقا بالغالب من صنفه ، وفي الأخير يحكم عليه بالاشتراك إلحاقا بالغالب من صنفه ، فإطلاق الحكم بالاشتراك ليس في محلّه إلاّ إذا ثبت كونه أكثر في أفراد نوع اللفظ ، لكنّه مع تطرّق المنع إليه لا يجدي نفعا في مقام الإلحاق ، حيث لا حكم لغلبة النوع مع قيام غلبة الصنف بخلافها.

وربّما يقرّر الغلبة المدّعاة ـ تأييدا لأصالة الاشتراك أو دليلا عليها ـ : بأنّ تعدّد المعنى في اللغة أكثر من اتّحاده ، كما يظهر بملاحظة حال الأسماء والأفعال والحروف ، ويشهد به تتبّع كتب اللغة العربيّة. ولا ريب أنّ المشتبه يلحق بالأعمّ الأكثر.

وهذا أضعف من سابقه إذ ليس الكلام في الاتّحاد والتعدّد ، ليرجع إلى غلبة التعدّد ، استعلاما لحكم ما يتردّد بينهما.

وقد عرفت أنّ التعدّد لا يلازم الاشتراك إلاّ أن يوجّه إلى تعدّد المعنى الموضوع له ، ففيه المنع حسبما تقدّم.

وأضعف منه أيضا ما حكى في تقرير الاستدلال على رجحان الاشتراك ، من : أنّ الألفاظ بأسرها من الأسماء والأفعال والحروف مشتركة ، إذ ما من لفظ إلاّ وهو مشترك بين معناه الّذي وضع بإزائه وبين نفس اللفظ ، وهو بهذا الاعتبار اسم وإن كان بالاعتبار الأوّل فعلا أو حرفا ، على ما ذكره النحاة في قولهم : « من » حرف جرّ و « ضرب » فعل ماض ، فإنّ معناه إنّ « من » و « ضرب » اسمان لهذين اللفظين ، وهما الفعل والحرف.

وفيه : إنّ « من » و « ضرب » ليسا اسمين لأنفسهما ، ولا للحرف والفعل ، بل الحرف والفعل في اصطلاح أهل العربيّة من قبيل أسماء الأجناس ، ومسمّاهما المفهومان الكلّيان الصادقان كلّ منهما على الكثرة الّتي منها « من » و « ضرب » كما أنّ الكلمة بالنسبة إلى الحرف والفعل ، واللفظ بالنسبة إلى الكلمة والكلام كذلك ، ولا يعقل في شيء منهما اشتراك بين المعنى الموضوع له ونفس اللفظ.

ولعلّ التوهّم نشأ عن الحمل في قضيّة قولهم : « من » حرف ، و « ضرب » فعل ،

١٥٢

قياسا له على الحمل في نحو « الأسد الحيوان المفترس » المقتضي لكون لفظ « الأسد » اسما للحيوان المفترس ، وفيه : من الفساد من وجوه شتّى ما لا يخفى.

ومنها : بعض الاعتبارات الذوقيّة والاستحسانات العقليّة الّتي يضبطها كون الاشتراك مشتملا على فوائد لا يوجد شيء منها في المجاز ، ككونه مطّردا باعتبار أنّه حقيقة فلا اضطراب فيه ، بخلاف المجاز الّذي قد لا يطرّد فيضطرب.

وكونه ممّا يصحّ الاشتقاق منه بكلا معنييه فيتّسع به الكلام ، بخلاف المجاز فإنّه قد لا يشتقّ منه.

وإنّه ممّا يصحّ التجوّز منه باعتبار كلّ من معنييه فيتّسع به الكلام ويحصل به الفائدة المطلوبة من المجاز ، بخلاف المجاز فإنّه لا يصحّ منه التجوّز.

وإنّه يتعيّن في أحد معنييه بتعذّر الآخر ، بخلاف المجاز الّذي قد لا يتعيّن عند تعذّر الحقيقة.

وإنّه ممّا يفهم منه المعنى بأدنى قرينة ، بخلاف المجاز المفتقر إلى قرينة قويّة تعادل أصالة الحقيقة.

مضافا إلى اشتماله على مفاسد لا يوجد شيء منها مع الاشتراك ، حيث إنّه ربّما يفضي إلى الخطأ ، كما لو تجرّد اللفظ عن قرينة الدلالة فيحمل على الحقيقة الّتي ليست بمرادة ، بخلاف الاشتراك الّذي لا يوجب مع فقد القرينة إلاّ الوقف.

وإنّه يتوقّف على وضعين وقرينة وعلاقة بخلاف الاشتراك الّذي لا يفتقر معه إلى جميع ذلك.

وإنّه مخالف للظاهر ولذا يفتقر إلى قرينة الدلالة بخلاف الاشتراك الّذي لا يفتقر إلى تلك القرينة ، وإنّ شاركه في الافتقار إلى القرينة في الجملة.

وفيه أوّلا : إنّ غلبة وقوع المجاز ممّا يكشف عن انعكاس الفرض ، أو عن عدم العبرة في نظر الواضع بنحو هذا المفروض.

وثانيا : إنّ الاستناد إلى نحو ما ذكر يرجع إلى إثبات اللغة بالترجيحات العقليّة ، وقد تقدّم وجه بطلانه.

١٥٣

وثالثا : إنّ الاطّراد وعدمه وإنّ كانا من خواصّ الحقيقة والمجاز ، غير أنّ الاضطراب وعدمه ممّا لا أثر لهما في الفرق ، من حيث انتفاء الاضطراب في كليهما على تقدير ، وحصوله فيهما على تقدير آخر.

وتوضيحه : إنّ الحقيقة تتبع الوضع والمجاز يتبع العلاقة ، فإن كان النظر في الوجه المزبور إلى من هو من أهل اللغة ، العارفين بأوضاعها وحقائقها عن مجازاتها فلا اضطراب لهم في شيء من موارد الحقيقة وموارد المجاز ، إذ لا يشتبه موارد وجود العلاقة ولا موارد عدم وجودها على أحد من أهل اللغة ، وإنّ كان النظر إلى الأجنبيّ الغير العارف على التفصيل بحقائق اللغة ومجازاتها فربّما يحصل له الاضطراب في الحقيقة ، لعدم علمه على التفصيل بجميع موارد الوضع ، كما يتأتّى له الاضطراب في المجاز لعدم علمه على التفصيل بموارد وجود العلاقة. والاشتقاق فيما يصلح له ـ باعتبار حدثيّة المعنى ـ إنّما يختلف الحال فيه صحّة وعدمها ، بجريان عادة أهل اللغة بمراعاته لقيام الدواعي إليها وعدمه لعدم قيام الدواعي إليها ، ولا مدخل للحقيقة والمجاز فيهما أصلا ، وربّ حقيقة لم يجر العادة بالاشتقاق منها أيضا ، وما يوجد في بعض المجازات من عدم صحّته فإنّما هو لذلك لا غير ، كيف ولم يوجد له مورد إلاّ لفظ « الأمر » بالقياس إلى الفعل على القول بكونه مجازا فيه ، وهذا كما ترى مشترك الالتزام بين هذا القول والقول باشتراكه بينه وبين المعنى الإنشائي ، فإنّ القائل بكونه حقيقة في الفعل أيضا لا محيص له عن الالتزام بعدم صحّة الاشتقاق بالنسبة إليه ، وهذا أقوى شاهد بأنّ ذلك إنّما لزم هذا اللفظ في هذا المعنى لأمر آخر غير جهة المجازيّة ، وليس إلاّ عدم جريان العادة بالاشتقاق منه ، وحينئذ فلو كانت العادة جارية به لإلتزم به القائل بالمجازيّة أيضا.

والاعتراف بصحّة التجوّز في كلا معنيي المشترك اعتراف بفساد أصالة الاشتراك ، وعدم كونها أصلا قرّره الواضع أو أهل اللغة ، وإلاّ لقضت بتحقّق الاشتراك بالنسبة إلى غير المعنيين أيضا ممّا يتجوّز له على الفرض ، مع أنّ صحّة

١٥٤

التجوّز على الوجه المذكور وإنّ أوجبت اتّساع الكلام غير أنّ الاعتماد عليها في اختيار الاشتراك ارتكاب بخلاف ظاهر في خلاف أصل ، فإنّ الاشتراك مخالف للأصل بمعنى أصالة عدم تعدّد الوضع والمجاز على ما اعترف به المستدلّ في ذكر مفاسد المجاز مخالف للظاهر.

ولا ريب أنّ الاقتصار على أحدهما أولى ، فيقع التعارض بين رجحان الاتّساع ومرجوحيّة ذلك فلا رجحان للاشتراك بالوجه المذكور.

والمشترك أيضا لا يتعيّن إذا تجاوز معناه الحقيقي عن اثنين كما هو الغالب ، بناء على أصالة الاشتراك ، كما أنّ المجاز قد يتعيّن إذا انحصر في واحد.

وبالجملة : تعدّد المعنى حقيقيّا كان أو مجازيّا إنّ كان بين معنيين فلازمه تعيّن أحدهما بتعذّر صاحبه ولو مجازيّا ، وإن كان بين ما زاد عليهما فلازمه عدم تعيّن البعض بتعذّر بعض معيّن غيره ولو حقيقيّا ، فبطل الفرق بين الاشتراك والمجاز من جهة التعيّن وعدمه.

والقاضي بالمرجوحيّة في موضع الافتقار إلى القرينة إنّما هو ذات القرينة لا وصفها من حيث الضعف والقوّة ، وذلك القرينة معتبرة في كليهما فتكون المرجوحيّة الناشئة عنها مشتركة بينهما ، واختلاف الوصف لا مدخل له في الرجحان والمرجوحيّة بما يعتدّ به في العرف والعادة.

والوقوع في الخطأ لا يوجب مرجوحيّة راجعة إلى الواضع داعية له إلى اختيار الاشتراك على المجاز في موضع دوران اللفظ في نظره بين أنّ يضعه مشتركا أو يدعه مجازا ، وإلاّ لانسدّ باب المجاز بالمرّة ووجب الاشتراك في كافّة الألفاظ ، ولا يرضى به المستدلّ مع وضوح بطلانه ، وإنّما توجب من المرجوحيّة ما يرجع إلى المتكلّم فيما إذا دار الأمر في نظره بين اختيار لفظ هو مشترك بين معنيين لإفادة أحدهما ، أو اختيار لفظ آخر هو مجاز في أحدهما لإفادته وهذه كما ترى مسألة اخرى خارجة عمّا نحن فيه.

فلو قيل : بمنع وجوب الاشتراك على تقدير رجوع المرجوحيّة إلى الواضع ،

١٥٥

لجواز كونه إنّما اختار المجاز في مواضع ثبوته لحكمة اخرى راجحة على مصلحة عدم الوقوع في الخطأ.

لقلنا : إذا جاز قيام نحو هذه الحكمة مرجّحة للمجاز ، لجاز قيامها في نحو المسألة المبحوث عنها ، ومعه بطل ترجيح الاشتراك بما ذكر من مصلحة عدم الوقوع في الخطأ.

لا يقال : الأصل في مصلحة عدم الوقوع في الخطأ الإعمال إلى أنّ يعلم بقيام مصلحة راجحة والأصل عدمها ، لأنّ الأصل في هذين الأصلين إنّ اريد به ما يتوقّف العلم به على أصالة الاشتراك لزم الدور ، لتوقّف معرفة كلّ من الأصلين على الآخر ، وإلاّ فدعوى الأصل المذكور غير مسموعة.

والمشترك أيضا يتوقّف على وضعين وقرينتين.

ومخالفة المجاز للظاهر لا توجب إلاّ حمل اللفظ في بعض الأحيان على ما ليس بمراد ، فيرجع ذلك أيضا إلى الوجه السابق وقد عرفت ما فيه.

ومنها : إنّ المجاز من حكمه أنّ يثبت كونه مجازا بضرورة وسبب ضروري من أهل اللغة ، فكلّما لم ينهض بمجازيّته الضرورة فليس بمجاز بل هو حقيقة.

وهذا الوجه مستفاد من السيّد في مواضع من كلامه ـ في مبحث ألفاظ العموم والخصوص ـ حيث قال : ألا ترى إنّه لا أحد خالط أهل اللغة إلاّ وهو يعلم من حالهم ضرورة إنّهم إنّما سمّوا « البليد » حمارا و « الشديد » أسدا على سبيل التشبيه المجاز ، فكان يجب أنّ يثبت مثل ذلك في إجراء لفظ العموم على الخصوص.

وقال في موضع آخر : وممّا يقال لهم كيف وجب في كلّ شيء تجوّز أهل اللغة به من الألفاظ ، واستعملوه في غير ما وضع له كالتشبيه الّذي ذكرناه في « حمار » و « بليد » وكالحذف في قوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ )(١) والزيادة في قوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(٢) ونظائر ذلك وأمثاله وما تفرّع عليه وتشعّب ، أن يعلم أنّهم

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

(٢) الشورى : ١١.

١٥٦

بذلك متجوّزون وقارنون إلى اللفظ ما يدلّ على المراد ضرورة بغير إشكال ولا حاجة إلى نظر واستدلال ، ولم يجب مثل ذلك في استعمال صيغة العموم في الخصوص وهو ضرب من ضروب المجاز عندكم ـ إلى أنّ قال ـ فنقول : قد ثبت بلا شكّ استعمال هذه اللفظة في العموم والخصوص وما وقفنا أهل اللغة ولا علمنا ضرورة من حالهم مع المداخلة لهم أنّهم متجوّزون بها في الخصوص ، كما علمنا ذلك منهم في صنوف المجاز على اختلافها ، فوجب أنّ تكون مشتركة.

فإذا قيل لنا : فلعلّ كونهم متجوّزين بها في الخصوص يعلم بالاستدلال دون الضرورة ، فلم قصرتم هذا العلم على الضرورة.

قلنا : كيف وقف هذا الباب من المجاز على الاستدلال ولم يقف غيره من ضروب المجاز في كلامهم على الاستدلال لولا بطلان هذه الدعوى ، وفي خروج هذا الموضع عن بابه دلالة على خلاف مذهبكم. انتهى.

والجواب : إنّه بظاهره بل صريحه القاضي بانحصار طريق إثبات المجاز في الضرورة من اللغة ، يفضي إلى إنكار الأمارات المقرّرة لإثبات المجازيّة من عدم التبادر وصحّة السلب وغيرهما ، لأنّها أسباب نظريّة يستند إليها بطريق الاستدلال ويلزم منه إنكار أمارات الحقيقة المقرّرة عندهم ، لأنّ الكلّ باعتبار كون الدلالة في الجميع من باب الكشف ، نحو كشف المعلول عن علّته ، واللازم عن ملزومه من واد واحد.

والفرق بين كواشف الحقيقة وكواشف المجاز بالاعتبار في الأوّل ـ ولو كانت نظريّة ـ وعدمه في الثاني لعلّه تحكّم ، وحينئذ فيدلّ على بطلان هذا المطلب نفس الأدّلة المقامة على تلك الأمارات حسبما عرفت.

وأيضا ففرق واضح بين بلوغ الشيء الثابت بطريق الاستدلال بسبب التسامع والتظافر إلى حدّ الضرورة وثبوته بالضرورة.

والّذي يوجد في مجازات اللغة ـ كما في حقائقها ـ عند أهلها إنّما هو الأوّل دون الثاني ، فإنّ ضروريّة مجازيّة مجازات اللغة كضروريّة حقيقيّة حقائقها

١٥٧

معلومة لنا حصل العلم بها بالتسامع والتظافر ، لا أنّ علمنا بأصل المجازيّة والحقيقيّة حاصل بالضرورة ، بل هو حاصل بالنظر والاستدلال بواسطة نصّ أو تبادر وعدمه أو غيرهما قبل العثور على الضرورة.

فأوّل ما يتفّق للجاهل المستعلم إنّما هو هذا العلم النظري ، ثمّ يتبعه العلم بكون المعلوم من ضروريّات أهل اللغة بحيث يعلمه كلّ واحد من آحادها ، وإذا اتّفق مورد حصل له الاشتباه في وصفي الحقيقة والمجاز كما في ألفاظ العموم الواقعة على الخصوص مثلا فإنّما هو لعجزه عن إحراز الأمارة النظريّة ، وقصور نظره عن إدراك طريق الواقع الّذي يقع عليه النظر والاستدلال ، لا لأجل انتفاء الضرورة على تقدير كونه مجازا ، وهي الطريق إلى إثباته بل الوصف على تقدير كونه للمجازيّة ضروري عند أهل اللغة.

ولا طريق للجاهل إلى العثور عليه حيث لا طريق له إلى العثور على أصل الوصف ، فجهله بالمجازيّة ـ لو كانت هي الواقعي ـ لا ينافي كونها ضروريّة عند أهل اللغة ، ولمّا كان الوصف الضروري عندهم مردّدا في نظره بين كونه الحقيقيّة أو المجازيّة فلا مناص له عن الوقف ، إنّ لم يكن هناك أصل معتبر يقتضي إجراء أحكام أحدهما إلى أن يتبيّن خلافه ، ولا يعقل معه ترجيح جانب الحقيقة لمجرّد عدم تبيّن ضروريّة المجازيّة كما لا يخفى.

ومنها : ما يستفاد من كلامه ; أيضا في جملة من عبارته في المبحث المذكور من أنّ مدّعى المجازيّة يرجع قوله إلى دعوى الزيادة على ما يدّعيه مدّعي الحقيقة ، فإنّ قوله ينحلّ إلى دعوى الاستعمال مع مصاحبة القرينة ، ومدّعي الحقيقة إنّما يدّعي الاستعمال ، فهما متّفقان في دعوى الاستعمال ومختلفان في دعوى مصاحبة القرينة ، ومعلوم أنّ مدّعي الزيادة يطالب بالدليل ، وكلّ من يطالب بالدليل فدعواه مخالف للأصل ، فالمجاز على خلاف الأصل.

وجوابه أوّلا : بالقلب فإنّ مدّعي المجازيّة في نحو المقام إنّما يدّعي وحدة الوضع مثلا ، ومدّعي الاشتراك يدّعي تعدّده ، فهما متّفقان في الوضع الواحد

١٥٨

ومختلفان في الزائد ، والدليل على مدّعي الزيادة ، فيكون الاشتراك هو المخالف للأصل.

لا يقال : إنّ المجاز أيضا يتضمّن الوضع النوعي لا محالة ، فمدّعي المجازيّة أيضا يدّعي وضعين : أحدهما شخصي بالقياس إلى المعنى الحقيقي ، والآخر وضع نوعي بالقياس إلى المعنى المجازي ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة.

لأنّا نقول : إنّ الوضع النوعي إنّما ثبت بالقياس إلى النوع لا خصوص هذا الشخص ، فهو ثابت لا محالة على كلا تقديري الاشتراك والمجاز فيه.

غاية الأمر إنّه على تقدير الاشتراك غير مندرج في هذا الوضع النوعي ، لا أنّ من يدّعي الاشتراك ينكره وناف له فإنّه غير معقول ، فالمدّعي للمجازيّة لا يدّعي من الأمر الحادث في خصوص هذا الشخص ما زاد على الوضع الواحد ، وخصمه يدّعيه ، بعدما اتّفقا على حدوث الوضع النوعي بالقياس إلى النوع.

وثانيا : الأصل الّذي يحكم بكون المجاز مخالفا له ، إن اريد به أصل العدم الّذي ربّما يتخيّل كونه من باب الاستصحاب فالمجاز لا يخالفه ، وإن اريد به القاعدة بمعنى الغلبة فلا يخالفه أيضا ، وإن اريد به القاعدة بمعنى حكمة الوضع فالاشتراك أيضا يخالفه ، ضرورة أنّ مقتضى حكمة الوضع هو الحقيقة الواحدة لا مطلقا ، وإن اريد به الظاهر فإنّما يكون مخالفا له إذا تجرّد عن قرينة الدلالة وأمّا معها فهو بنفسه يكون ظاهرا ولو بالظهور الثانوي.

فالإنصاف : إنّ أصالة الحقيقة بالمعنى الأعمّ ممّا لا أصل له في نظر العرف واللغة أصلا ، وأمّا أصالة المجاز بالمعنى الأعمّ فلم يعرف له قائل ، ولا نقل القول بها ناقل عدا ما في كلام غير واحد من نسبته إلى ابن جنّي ، باستظهاره ممّا اشتهر منه من أنّ المجاز أكثر اللغة ، لكن قد عرفت أنّ عبارته المنقولة عنه في بيان هذه القضيّة آبية لتلك النسبة ، بل هي مسوقة بظاهرها لإنكار أصالة الحقيقة بالمعنى المعروف المشخّص للمراد ، أو لإنكار دلالة غلبة الاستعمال على الحقيقة حسبما زعمه جماعة ، غير إنّا نتكلّم فيها على تقدير تحقّق القول من أيّ قائل كان ، أو على

١٥٩

احتمال كونه قولا لقائل ، ونقول : إنّه يكفي في إبطال هذا القول ما تقدّم من أدّلة أصالة الحقيقة بالمعنى الأخصّ فراجع وتأمّل ، ولا حاجة إلى الإعادة.

وأمّا أصالة المجاز بالمعنى الأخصّ : فاستدلّ لها بوجوه عمدتها أمران :

أحدهما : أصالة عدم تعدّد الوضع ، والظاهر إنّ هذا الأصل وأصالة عدم النقل وأصالة عدم القرينة وأصالة عدم الإضمار وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ونحو ذلك كلّها من باب واحد مفهوما واعتبارا ، فلا يراد بالأصل في شي منها الاستصحاب كما قد يتوهّم ، للقطع بانتفاء ما هو العمدة من أركان الاستصحاب وهو ملاحظة الحالة السابقة والتعويل عليها في مجاري هذه الاصول ، بل المراد به القاعدة المقتضية للحكم بالعدم وترتيب أحكامه ، الملازم لعدم الاعتناء باحتمال الوجود والالتفات إليه.

ومدرك هذه القاعدة بناء العرف وطريقة أهل اللسان في جميع الألسنة وكافّة اللغات ، وعلى هذه الاصول مبنى المحاورات ومدار المخاطبات ، ولولا البناء عليها لاختلّ أمر المحاورة بالمرّة ، بل انسدّ باب استفادة المطالب من المراسلات والمكاتبات الواصلة من البلاد النائية ، والمؤلّفات القديمة من الرسائل والقصائد والأشعار وكتب السير والتواريخ وغيرها الباقية من القرون الخالية.

ألا ترى إنّ الألفاظ المأخوذة فيها تحمل على حقائقها الموجودة في العرف الحاضر من دون اعتناء باحتمال النقل ، أو على ما علم من حقائقها الثابتة لها في بلد الكتابة والتأليف أو في زمانهما ، ولو مع العلم بوقوع استعمالهما في غير تلك المعاني واحتمال الاشتراك وتعدّد الوضع بالقياس إليه ، من دون التفات إلى ذلك الاحتمال ، بل ولو توقّف أحد وتقاعد عن الحمل اعتذارا بذلك الاحتمال كان مستنكرا وموجبا لرميه بسوء الطريقة وسخافة الرأي ، وليس ذلك إلاّ لوضوح سقوط نحو هذا الاحتمال عن درجة الاعتداد والاعتبار.

لا يقال : لعلّ عدم الاعتناء بذلك الاحتمال لعدم طروّه ، أو لعدم التفطّن بالاحتمال الطاري ، لأنّ طروّ أصل الاحتمال ضروري.

١٦٠