تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

إخراجه بها ، والإمساك المخصوص المقرون بها ، والمناسك المخصوصة المقرونة بها من جهة النقل ، وإنّما الشبهة في بدو حدوث ذلك النقل وابتداء زمانه ، لتردّده بين كونه حادثا فيما بعد زمان انقطاع الوحي أو متحقّقا في زمن الوحي ، إمّا بوضع الشارع من باب التعيين ، أو باستعماله مجازا إلى أن اشتهرت باستعمالاته ، أو الملفّق من استعمالاته واستعمالات تابعيه فبلغت حدّ وضع التعيّن في زمان الوحي.

وربّما يذكر هنا وجه ثالث ، وهو وصولها إليه من الشرائع السالفة ، موضوعة لكفاية التسمية الحاصلة ثمّة في انعقاد الحقيقة الشرعيّة ، وإن غاير المسمّى الجديد للمسمّى السابق بتصرّف الشارع فيه بزيادة أو نقيصة أو نحو ذلك ، بناء على أنّ تغيير المسمّى لا يستلزم تبدّل التسمية ولا انتفائها.

وهذا الوجه ذكره غير واحد حتّى أنّهم جوّزوا كون بناء الحقيقة الشرعيّة عليه ، غير أنّه عندنا لا يخلو عن تأمّل ما لم يلتزم بتجدّد التسمية أيضا من الشارع بأحد الوجهين الأوّلين ، فإنّه إنّما يستقيم لو فرض تحقّق التسمية في الشرائع السالفة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المأخوذة مع المسمّى كمّا وكيفا ، هيئة ومادّة ، وتحقّق التسمية ثمّة على هذا الوجه غير ثابت ، إن لم ندّع ظهور ثبوت خلافه ، كما يرشد إليه التأمّل.

وقضيّة ذلك انتفاء تلك التسمية حين تغيير المسمّى ، المستلزم لفوات بعض ما اعتبر معها ثمّة من الخصوصيّات ، وافتقار المسمّى الجديد إلى تسمية جديدة ، فانحصر الوجه في فرض تحقّق النقل في زمان الوحي في الوجهين المذكورين.

نعم لو فرض وصول التسمية من الشرائع السابقة على وجه لم يتغيّر معه المسمّى الثابت ثمّة أصلا اتّجه الوجه المذكور ، لكنّ الظاهر إنّه فرض لا وقوع له في الألفاظ الشرعيّة المتنازع فيها.

وبالجملة : فإشكال المسألة الّذي نشأ منه النزاع تحقّق النقل المذكور في زمن الوحي بالمعنى الأعمّ وحدوثه فيما بعده ، فعلى الأوّل يكون الألفاظ المتنازع فيها حقائق شرعيّة كما أنّها حقائق متشرّعة.

٢٦١

وعلى الثاني تكون حقائق متشرّعة لا غير ، فبين الحقيقة الشرعيّة وحقيقة المتشرّعة عموم مطلق ، إذ كلّ من قال بالاولى لزمه القول بالثانية ، ولا عكس.

ثمّ على الثاني ، فهل الألفاظ حيثما جرت على لسان الشارع وغيره هل هي مجازات لغويّة أو حقائق لغويّة؟ وجهان ، مبنيّان على ثبوت استعمال الشارع لها في غير معانيها اللغويّة من المعاني المحدثة الشرعيّة مجازا ، أو عدم استعماله لها إلاّ في معانيها اللغويّة. غاية الأمر ، إنّه أضاف إليها من الزوائد الثابتة في الشرع ما يكون بالقياس إليها قيودا وشروطا.

وقد صار إلى أوّلهما الجمهور ، والأكثرون من نفاة الحقيقة الشرعيّة أيضا.

وإلى ثانيهما القاضي على ما اشتهر من نسبة هذا القول إليه ، وإن نفاها بعض المحقّقين (١) قائلا : بأنّ المشهور اختيار القول بالمجازيّة ، وإنّ ما ذكر محض احتمال لم يقل به أحد ، فهو على النسبة المذكورة منكر لأصل استعمال هذه الألفاظ في لسان الشارع في المعاني الشرعيّة المحدثة الثابتة لها في عرف المتشرّعة ، ومحصّل مقالته : إنّها في لسان الشارع كانت مبقاة على معانيها اللغويّة ، ولم يتطرّق إليها نقل ولا تجوّز ، بل حيثما استعملت اريد منها هذه المعاني ولو في غير الأوامر والطلبات ، حتّى أنّ المطلوبات بتلك الأوامر إنّما هي هذه المعاني.

غاية الأمر ، اعتبار انضمام الزوائد إليها لكونها شروطا لوقوعها وامتثال الأوامر المتعلّقة بها ، وقد اتّفق غيره من نفاة الحقيقة الشرعيّة ومثبتيها على بطلان مقالته ، فعلم بما ذكر أنّ في الألفاظ الشرعيّة نزاعين :

أحدهما : ما وقع بين القاضي وغيره من إنكار أصل الاستعمال وإثباته.

وثانيهما : ما وقع بين غيره من إثبات الوضع الشرعي لتلك الألفاظ ونفيه ، مع اتّفاق الفريقين على تحقق أصل الاستعمال ولو على وجه المجاز.

وأمّا الأصل في المسألة : فلا بدّ من تأسيسه ليكون مرجعا في الموارد

__________________

(١) هو سلطان العلماء رحمه‌الله في حاشيته على المعالم.

٢٦٢

المشتبهة ، أو على تقدير فقد الدليل على ترجيح أحد أقوالها ، كما هو فائدة الأصل الّذي يؤسّس في جميع المسائل.

فنقول : إن كان النظر فيه إلى النزاع الأوّل ، فقد يقال : إنّ الأصل فيه مع القاضي ، لأنّ الاستعمال المتنازع فيه بالقياس إلى غير المعاني اللغويّة أمر حادث ، ينفيه الأصل.

ويزيّفه : إنّ أصل الاستعمال في لسان الشارع متيقّن الحدوث ، والشكّ إنّما هو في المستعمل فيه ، فلا يمكن نفي وقوعه على غير المعاني اللغويّة بالأصل ، إلاّ أن يقال : إنّ وقوع استعمال تلك الألفاظ في لسان الشارع على المعاني اللغويّة ممّا لا شكّ فيه ، بل الشكّ في الزائد وهو وقوعه على غير تلك المعاني أيضا ، والأصل عدمه لكون الشكّ حينئذ في الحدوث.

لكن يدفعه : أنّه إنّما يستقيم لو فرض اليقين والشكّ بالقياس إلى نوع الاستعمالين ، لكون تيقّن الحدوث بالنسبة إلى نوع أوّل الاستعمالين ، والشكّ فيه بالنسبة إلى نوع ثانيهما.

وأمّا لو فرضنا بالقياس إلى شخص الاستعمال الّذي فيه يغلب وقوع الاشتباه بل هو مورد الثمرة المطلوبة من الأصل فلا لرجوع الشكّ فيه إلى كونه في الحادث فإنّ الشارع تعالى لو قال ـ مثلا ـ : « الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر » فهو شخص استعمال لم يعلم حاله من حيث وقوعه على المعنى اللغوي ليكون المعنى الدعاء خير موضوع ، أو على المعنى الشرعي ليكون المعنى الأركان المخصوصة خير موضوع ، فحينئذ لا يمكن الأصل جزما.

نعم هاهنا أصل لفظي يساعد على مقالة القاضي ، وبيانه : إنّ لفرض وقوع استعمالات تلك الألفاظ في لسان الشارع على معانيها اللغويّة صورا أربع :

إحداها : استعماله إيّاها في نفس المعاني اللغويّة ، بلا انضمام الزوائد الثابتة في الشريعة إليها أصلا.

وثانيتها : استعماله فيها مقيّدة بتلك الزوائد على وجه لم يدخل القيد ولا

٢٦٣

التقييد في المستعمل فيه ، على حدّ ما هو المقرّر في إطلاق الكلّي على الفرد المتضمّن لإلغاء خصوصيّة الفرد.

وثالثتها : هذه الصورة بعينها مع فرض دخول التقيّد دون القيد في المستعمل فيه ، على حدّ ما هو المقرّر في استعمال الكلّي في الفرد الّذي يراد به دخول الخصوصيّة في المستعمل فيه.

ورابعتها : هذه الصورة مع دخول القيد في المستعمل فيه.

ولا ريب إنّ الصورة الاولى خارجة عن مقالة القاضي ، لتصريحه بانضمام الزوائد إلى ما اريد من الألفاظ من المعاني اللغويّة ، كما أنّ الصورة الرابعة أيضا كذلك ، لأنّ فرض الاستعمال على هذا الوجه أشبه بمقالة من يدّعي الاستعمال في المعاني الشرعيّة مجازا ، من نفاة الحقيقة الشرعيّة كما لا يخفى.

وإنّما تنطبق مقالة القاضي على إحدى الصورتين المتوسّطتين ، وإن تضمّن القول بثانيتهما الالتزام بنحو من التجوّز الّذي هو لازم استعمال العامّ في الخاصّ بقيد الخصوصيّة ، بناء على أنّه لا ينكر أصل التجوّز في الاستعمال ، وإنّما ينكر المجاز الّذي يلزم على تقدير وقوع الاستعمال في المعاني الشرعيّة المحدثة المغايرة للمعاني اللغويّة ، وعلى أيّ تقدير كان فما ادّعاه القاضي التزام بالتقييد في تلك الألفاظ وإن تضمّن تجوّزا في أحد وجهيه ، بناء على أنّه عندهم يطلق على ما يعمّ الوجهين ، كما يشهد به الخلاف الواقع فيه من حيث استلزامه تجوّزا في المطلق وعدمه.

والحقّ جواز كليهما ، وإنّما يختلف الحال بحسب الاعتبار ، وما ادّعاه غيره من النفاة والمثبتين للحقيقة الشرعيّة التزام بالمجاز من غير جهة التقييد أو النقل ، ومن المقرّر في محلّه رجحان التقييد على كليهما.

وإن كان النظر فيه إلى النزاع الثاني ، فالأصل مع النفاة لأصالة عدم تحقّق النقل إلى زمان يقطع فيه بتحقّقه ، وليس إلاّ الأزمنة المتأخّرة عن انقضاء زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانقطاع الوحي.

٢٦٤

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النزاع الأوّل في غاية السخافة ، وإنكار وقوع الاستعمال في لسان الشارع على المعاني الشرعيّة ولو مجازا في غاية السقوط.

ولعلّه لذا لم يتعرّض الأكثرون لهذا النزاع ، ولا أحد من السلف لدفع مقالة القاضي في إنكار أصل الاستعمال ، فإنّه لما ذكرنا نزّل منزلة ما لا ينبغي أن ينازع فيه ، ولا الالتفات إلى قول النافي.

لكنّا نتكلّم على هذا القول توضيحا لفساده ، ليجدي الغافل القاصر عن إدراك وجه فساده.

فنقول : إنّ في المقالة المنسوبة إلى القاضي نوع إجمال ، إذ لا يدري أنّه بما نفاه من الاستعمال هل أراد ما يعمّ الاستعمال في عرف زمان الشارع والاستعمال في عرف المتشرّعة ، على معنى أنّ هذه الألفاظ لم تستعمل قطّ في عرف زمان الشارع في المعاني المحدثة الشرعيّة ، ولا أنّها مستعملة فيها في عرف المتشرّعة ، بل هي حيثما استعملت في الأوّل أو تستعمل في الثاني فإنّما يقع استعمالاتها على المعاني اللغويّة ، أو أراد ما يختصّ بعرف زمان الشارع مع الاعتراف بكونها في عرف المتشرّعة مستعملة في المعاني الشرعيّة بل منقولة إليها عندهم.

فإن أراد الأوّل ، يدفعه : ما علم ضرورة من عرف المتشرّعة من أنّها في الاستعمالات الدائرة لديهم لا تقع إلاّ على المعاني الشرعيّة المعهودة عندهم ، ولا يتبادر منها إلاّ هذه المعاني ، بل المنصف إذا راجع وجدانه يجزم أنّه لا يدرك أحد في تلك الاستعمالات شأئبة من المعاني اللغويّة ، لا بنحو الاستقلال ولا بنحو الجزئيّة ، بل معاني أكثر هذه الألفاظ مجهولة لأكثر المتشرّعة ، ولا سيّما العوام والنسوان والصبيان منهم ، على عكس المعاني الشرعيّة بالقياس إلى أهل اللغة ، وكما أنّ هذه المعاني كانت مجهولة على أهل اللغة ولم يكونوا يعرفونها ، فكذلك المعاني اللغويّة لأكثر هذه الألفاظ بالقياس إلى أكثر المتشرّعة ، ومع ذلك فكيف يعقل وقوع استعمالاتهم الدائرة فيما بينهم على هذه المعاني.

وإن أراد الثاني ، يدفعه : أمران :

٢٦٥

الأوّل : إنّ الاعتراف بحدوث النقل المفروض في الأزمنة المتأخّرة عن انقطاع الوحي ، يؤول بالأخرة إلى الاعتراف بتحقّق الاستعمالات المجازيّة في زمان الوحي ، الواقعة على المعاني الشرعيّة المتداولة عند المتشرّعة ، وذلك لأنّ النقل الملتزم بحدوثه فيما بعد زمن الوحي لا يمكن فرض كونه من باب التعيين ، إذ كما أنّ أصل النقل وتحقّقه في عرف المتشرّعة معلوم بالضرورة ، فكذلك عدم تعرّض أحد منهم لنقل هذه الألفاظ بوضع التعيين معلوم ضرورة من عرفهم ، ولم يدّعه أحد على تقدير عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة ولو ادّعاه أحد نكذّبه ، وملاحظة كلام العلماء تعطي إطباقهم على خلافه ، فلا بدّ وأن يكون ذلك النقل حاصلا من باب التعيّن المسبّب عن كثرة الاستعمالات المجازيّة.

ولا ريب انّ هذه الاستعمالات المجازيّة ليست إلاّ المتحقّقة في عرف زمان الشارع ، وقد تسرّت وتعدّت من هذا العرف إلى عرف المتشرّعة إلى أن بلغت حدّا أوجبت معه حدوث وضع التعيّن.

واحتمال حدوثها كأصل النقل ممّا بعد زمن الشرع في غاية البعد ، بل ممّا ينبغي القطع ببطلانه ، فإنّ مرجعه إلى دعوى أنّ طريقة الشارع وتابعيه ما دام زمن الوحي باقيا كانت مستقرّة على أخذ الألفاظ في استعمالاتهم لمعانيها اللغويّة مقيّدة بالزوائد ، فإذا انقضى زمان الشرع وانقطع الوحي بنى المتشرّعة على تغيير الطريقة المستمرّة من ابتداء الشرع إلى هذا الزمان ، بأن يستعملوا الألفاظ في غير ما استعملها الشارع وتابعيه مجازا ، فاستقرّت عليه طريقتهم إلى أن اشتهرت الاستعمالات المجازيّة فوصلت حدّ وضع التعيّن.

وهذا كما ترى من جملة المضحكات الّتي لا يتفوّه بها جاهل فضلا عن العلماء الأزكياء.

فإن قلت : إنّ سبق الاستعمالات المجازيّة على وضع التعيّن وإن كان من القضايا المشهورة ، إلاّ أنّه لا دليل على اعتباره في ماهيّة نقل التعيّن ، فمن الجائز حينئذ أن يكون استعمالات هذه الألفاظ في عرف الشارع واردة على معانيها

٢٦٦

اللغويّة المقيّدة من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، فاشتهرت الإطلاقات الواردة على هذا الوجه إلى أن بلغت عرف المتشرّعة ، فأوجبت ثمّة تعيّن الألفاظ لما اطلقت عليها من أفراد المعاني الحقيقيّة ، فإنّ ذلك أيضا نحو من النقل التعيّني على ما جوّزه بعض متأخّري المتأخّرين ، من دون استلزامه الاعتراف بخلاف المطلوب.

قلت : أوّلا : إنّ هذا النحو من النقل وإن جوّزه بعض ممّن لا خبرة له بطريقة أهل الاصطلاح ، إلاّ أنّه ينافيه ما يستفاد منهم من انحصار نقل التعيّن فيما سبقه الاستعمالات المجازيّة.

وثانيا : إنّ فرض حصول النقل بالتعيّن بواسطة تكثّر الاستعمالات الواردة على سبيل إطلاق الكلّي على الفرد غير ممكن ، لإفضائه إلى اجتماع المتناقضين ، فإنّ وضع التعيّن بالنسبة إلى الفرد يستدعي أخذ الخصوصيّة في المنقول إليه ، وهو لكونه ناشئا عن تكثّر الاستعمالات لا يتأتّى إلاّ إذا اعتبر هذه الخصوصيّة في الاستعمالات أيضا ، وأخذ هذه الاستعمالات على وجه إطلاق الكلّي على الفرد كما هو المفروض يستدعي إلغاء الخصوصيّة ، وظاهر إنّ اعتبار الخصوصيّة وإلغاءها أمران متناقضان فلا يجتمعان في استعمال واحد ، فاستحال من جهته تحقّق النقل إلى ما لا بدّ فيه من أخذ الخصوصيّة.

وثالثا : إنّ هذا الفرض على فرض إمكانه في حصول نقل التعيّن ، إنّما يصحّ لو كان النقل المتحقّق في هذه الألفاظ من باب النقل عن الكلّي إلى الفرد.

وقضيّة كون المنقول إليه هو الفرد انفهام المعاني اللغويّة في استعمالات الألفاظ الجارية على لسان المتشرّعة ، لأنّ الفرد عبارة عن الماهيّة المقيّدة ـ بوصف التقيّد ـ وهو ممّا يبطله دليل الخلف ، بملاحظة ما بيّنّاه من أنّه لا يدرك في استعمالات هذه الألفاظ في عرف المتشرّعة شائبة من معانيها اللغويّة مطلقا.

وقضيّة ذلك كون النقل المفروض متحقّقا هنا من باب النقل عن المبائن إلى مثله ، وهذا كما ترى ممّا لا يمكن فرضه مسبوقا بإطلاق الكلّي على الفرد.

٢٦٧

وبهذا الوجه يندفع ما لو عساه يقال ـ تفصّيا عن محذور ما ذكرناه في الوجه الثاني ـ : من أنّ نقل التعيّن يفرض مسبوقا بالاستعمالات المتحقّقة في عرف زمن الشرع مجازا على الوجه المفروض في الصورة الثالثة ممّا تقدّم ، المحتمل في مقالة القاضي المدّعى للتقييد بدعوى ما تقدّم من أنّه لم يظهر منه إنكار هذه النحو من المجاز ، لا على الوجه الّذي هو المتنازع فيه ، فإنّ ذلك لا ينتج ثبوت النقل على الوجه الثابت بالفرض في عرف المتشرّعة كما لا يخفى.

الثاني : احتفاف كثير من تلك الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ـ بل أكثرها ـ بما يقضي من القرائن اللفظيّة والاعتباريّة قضاء واضحا بعدم إرادة المعاني اللغويّة منها ، ومن جملة ذلك الإقامة والإيتاء في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) المتكرّر في كتابه العزيز ، إذ لا ملائمة بينهما وبين الدعاء والنموّ ، وإن قيّدا بالزوائد ، فإنّه لو قيل : يجب عليكم إقامة الدعاء وإعطاء النموّ ، ففيه من الركاكة والحزازة الموجبين لاستهجان العرف ما لا يخفى ، بخلاف ما لو اريد منهما المعنى الشرعي ولو مجازا لعلاقة المشابهة في الاولى والسببيّة في الثانية ، التفاتا إلى أنّ إعطاء القدر المخصوص من المال يوجب فيه نموّا وزيادة.

وأيضا فإن كان مبنى إطلاق الحجّ في موارده الّتي منها قوله تعالى : ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(١) على إرادة القصد المقيّد بزوائد مخصوصة ، لكان ينبغي إطلاقه على سائر العبادات أيضا لعموم هذا المعنى باعتبار المفهوم ووجوده فيها ، ولم يعهد إلى الآن ورود نحو هذا الإطلاق في كتاب ولا سنّة ، وهذا ممّا يكشف عن إنّ هاهنا تخصيصا اعتبره الشارع في ذلك اللفظ ، وهو إمّا تجوّز به في المعنى الشرعي من حيث إنّه عبادة مخصوصة ممتازة عمّا عداها ، أو نقل له إليه ، وعلى أيّ تقدير فهو بهذا الاعتبار غير صالح لأن يطلق على غير تلك العبادة.

وقد شاع بين المتأخّرين دفع مقالة القاضي بصدق المصلّي على الأخرس

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

٢٦٨

المنفرد ، لانتفاء الدعاء الّذي هو ذكر لفظي عنه ، وعدم اتّباعه بحكم الفرض ، وعدم محاذاة رأسه لعظم ورك من يتقدّم عليه في صفوف الجماعة ، على ما قيل من أنّها تأتي لعظم الورك ، وإنّما يسمّى المصلّي مصلّيا لمحاذاة رأسه عظم ورك غيره في الجماعة ، وكأنّه مبنيّ على زعم أن ما ينكره القاضي إنّما هو الاستعمال بالمعنى الأعمّ ـ حسبما احتملناه سابقا ـ وإلاّ فغير جيّد ، لإمكان التفصّي عنه بأنّ الصدق إن اريد به ما هو كذلك في عرف المتشرّعة فمسلّم ولكنّه غير مجد ، وإن اريد به ما هو كذلك في عرف الشارع فغير ثابت.

وقد يدفع هذه المقالة بأنّ بطلانها على القول بالحقيقة الشرعيّة واضح ، فإنّ « الصلاة » اسم لهذا المركّب ، وكذا الغسل والوضوء ، فكيف يحملها على الدعاء والغسل بفتح العين المعجمة ، وعلى القول بعدمها فبعد وجود القرينة الصارفة عن اللغوي لا بدّ أن يحمل على الشرعي لكونه أشهر مجازاته وأشيعها ، وكأنّه مبنيّ على إرجاع كلام القاضي إلى نفي الثمرة ، وإلاّ فقد عرفت أنّه لا يقول بشيء من الحقيقة والمجاز بالنسبة إلى المعاني الشرعيّة ، وحينئذ فالوجه المذكور ليس بسديد جزما.

[٤٩] قوله : (فذهب إلى كلّ فريق ... الخ)

واعلم أنّ المعروف المشهور بين الاصوليّين من العامّة والخاصّة في محلّ الخلاف من النزاع الثاني قولان ، الإثبات مطلقا والنفي كذلك ، كما أنّ المعروف من هذين القولين هو الإثبات مطلقا ، حتّى أنّ القول بالنفي المطلق لم ينسب في أكثر الكتب الاصوليّة إلاّ إلى القاضي.

ومنهم من أضاف إليه شرذمة اخرى من العامّة ، بل لم يعرف من أصحابنا القول بالنفي كذلك ، عدا المصنّف حيث رجّحه في آخر كلامه بعد ما زيّف حجج الطرفين ، بل في كلام بعض الأجلّة : إنّ ظاهر الاصوليّين الاتّفاق على القولين المذكورين.

وعن بعضهم التصريح بأنّه لا ثالث لهما ، وعن جماعة من متقدّميهم ومنهم

٢٦٩

السيّد والشيخ والحلّي دعوى الإجماع على ثبوتها في غير واحد من الألفاظ ، وربّما عزى الميل إلى النفي إلى جماعة من متأخّري المتأخّرين.

نعم قد نسب إلى جماعة منهم أيضا حيث لم يروا وجها لإنكارها بالمرّة ، ولم يتيسّر لهم إقامة الدليل على الثبوت المطلق ، إحداث تفاصيل عديدة :

منها : ثبوتها في ألفاظ العبادات دون المعاملات الّتي يرجع فيها إلى اللغة أو العرف ، كالبيع والهبة والصلح والدين والرهن والإجارة والعارية والوديعة والغصب والميراث والقصاص والدية وغيرها ، فإنّه باقية على معانيها الأصليّة من دون طروّ نقل لها من الشارع إلى معان اخر ، وإن توقّفت صحّتها شرعا على شرائطها المقرّرة في الشريعة ، فإنّ ذلك لا ينافيه بعد قضاء الاشتراط بخروج الشرط عن ماهيّة المشروط ، القاضي بصدق اسمه بدونه ، بخلاف العبادات الّتي لا بدّ وأن تكون متلقّاة من الشارع ، كما يرشد إليه قولهم : « بأنّها توقيفيّة دون المعاملات » بعد ملاحظة عدم كون المراد بالتوقيفيّة توقيفيّة أحكامها ، فإنّ الأحكام بأسرها توقيفيّة من غير فرق بين العبادات والمعاملات ، بل توقيفيّة موضوعاتها فإنّ موضوع العبادات كنفس الحكم الشرعي مأخوذ من الشارع بخلاف المعاملات ، فإنّ المرجع فيها إلى اللغة أو العرف.

ومنها : ثبوتها في الألفاظ المتكرّر الاستعمال ، الكثير الدوران في لسان الشارع والمتشرّعة ، كلفظ الوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصوم والحجّ والإيمان والكفر ، دون غيرها ممّا لم يتحقّق عندنا كثرة استعمالها في كلام الشارع مثل الخلع والمبارات والقسم واللعان والعدالة والفسق ، وذلك لأنّ الموجب لصيرورة اللفظ حقيقة و ـ هو كثرة الاستعمال وتحقّق الغلبة ـ قد حصل في القسم الأوّل قطعا فوجب المصير إلى مقتضاه دون الثاني ، فإنّ المفروض فيه عدم حصول الكثرة والغلبة أو الشكّ في حصولهما ، وعلى التقديرين يتعيّن النفي.

أمّا على الأوّل : فلأنّ انتفاء العلّة يستلزم انتفاء المعلول.

وأمّا على الثاني : فلأنّ النقل على خلاف الأصل ، فيقتصر فيما خالفه على موضع القطع والتعيين.

٢٧٠

ومنها : إنّ تلك الألفاظ إنّما صارت حقائق في زمان الباقر والصادق عليهما السلام دون ما تقدّمه من الأزمنة ، إذ الأصل بقاء المعنى اللغوي حتّى يعلم خلافه ، وقد حصل العلم في زمانهما بالاستقراء والجزم بالغلبة والاشتهار فيه ، ولأنّ الظاهر وقوع النزاع في ذلك الزمان أو ما قاربه ، فيجب الحكم بمقتضى العلم فيه دون غيره لانتفاء المقتضى ، وهذا كما ترى ليس قولا بالتفصيل في الحقيقة الشرعيّة بل هو راجع إلى النفي المطلق.

غاية الأمر ، إنّه يفارقه في تضمّنه تعيين زمان النقل ، فلا معنى لعدّه من أقوال ثبوت الحقيقة الشرعيّة.

ومنها : ثبوتها في الألفاظ الكثير الدوران في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وفي غيرها في زمان الصادقين عليهما‌السلام ، وهذا كما ترى راجع إلى التفصيل الثاني ، إلاّ في تعيين زمان النقل في غير الكثير الدوران ، فلا معنى لأخذه في الطرف المقابل له.

ومنها : ثبوتها في بعض الألفاظ في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي الآخر في زمن الحسنين عليهما‌السلام وفي ثالث في زمن الصادقين عليهما‌السلام وهكذا ، وبعضها لم يصر حقيقة إلى الآن.

ومنها : إنّ المنقولات المتداولة على لسان المتشرّعة مختلفة في القطع بكلّ من استعمالها ونقلها بحسب اختلاف الأزمنة اختلافا بيّنا ، حتّى أنّ منها ما يقطع بحصول الأمرين فيه في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومنها ما يقطع باستعمال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في المعنى الشرعي لكن لا يعلم صيرورتها حقيقة إلاّ في زمان انتشار الشرع ، وظهور الفقهاء والمتكلّمين الباحثين عن الأحكام المتعلقة بتلك الألفاظ.

ومنها : ما لا يقطع فيه باستعمال الشارع ، فضلا عن نقله وصيرورته حقيقة في زمانه ، ومنها ما لا يقطع فيه بتجدّد النقل والاستعمال في زمان الفقهاء.

وإذا كانت الألفاظ مختلفة هذا الاختلاف فكيف يحكم بتحقّق النقل فيها في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل الواجب حينئذ هو التفصيل بينها بحسب العلم بتحقّق موجب الوضع وانتفائه ، وطريقه التتبّع الكاشف عن حصول الغلبة والاشتهار.

٢٧١

[٥٠] قوله : (وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام الشارع ، فإنّها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأوّل ، وعلى اللغويّة بناء على الثاني ... الخ)

وظاهر إنّ ثمرة النزاع إنّما تظهر إذا تجرّدت الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة عمّا يفيد من القرائن إرادة المعنى اللغوي أو إرادة المعنى الشرعي.

وقد اضطربت عباراتهم في تقرير الثمرة اضطرابا فاحشا ، فمنهم من أطلق الحكم بالحمل على الشرعي على القول بالثبوت ، واللغوي على القول الآخر كالمصنّف وغيره.

ومنهم من فصّل كبعض الأعلام بين وضع التعيين فيحمل على الشرعي مطلقا ، ووضع التعيّن فلا يحمل عليه إلاّ إذا علم بتأخّر الصدور عن الوضع ، وأمّا إذا لم يعلم به فيمكن صدوره قبله مع احتمال إرادة المعنى الشرعي بقرينة اختفيت علينا ، أو إرادة المعنى اللغوي فيحمل على اللغوي في الجميع ، وإطلاقه يقضي بعدم الفرق بين العلم بصدوره قبله وعدمه.

ومنهم من فصّل بنحو ما ذكر ، لكن جعل الصور على تقدير وضع التعيّن ثلاثيّة من حيث العلم بتاريخي الوضع والصدور ، والعلم بتارخى أحدهما ، والجهل بتاريخهما ، فعلى الأوّل يحمل على الشرعي إن كان المتقدّم تاريخ الوضع ، واللغوي إن كان المتقدّم تاريخ الصدور ، وكذلك على الثاني بعد انضمام أصالة التأخّر المقتضية لتأخّر ما جهل تاريخه ، فإذا تأخّر يلحقه حكمه حسبما ذكر ، وأمّا على الثالث فلا بدّ من الوقف ، لتعارض الأصلين وتكافؤ الاحتمالين ، وعدم مرجّح في البين.

ومنهم من فصّل بنحو ما ذكر ، مع ترجيح الحمل على الشرعي في الصورة الثالثة ، بناء على إعمال الأصلين المنتج للمقارنة المقتضية له ، مع استشكال فيه بملاحظة أنّ المقارنة بين التاريخين إن كانت فهي من الامور الاتّفاقيّة فيعزّ وقوعها ، بخلاف الجهل بالتاريخين فإنّه واقع في غالب الألفاظ بالنظر إلى غالب

٢٧٢

استعمالاتها ، فلو بنى على إعمال الأصلين لإثبات المقارنة لحكمنا بغلبة ما لا نشكّ في ندرته ، ومرجعه إلى مخالفة العلم الإجمالي المانع عن الاعتبار ، فتعيّن رجحان الوقف.

ومنهم من اعترض على إطلاق الحكم في وضع التعيين أيضا ، لجريان احتمال التقدّم والتأخّر بالنسبة إلى الصدور والوضع فيه أيضا ، فلا وجه لتخصيص ما تقدّم من التفصيل بوضع التعيّن ، ثمّ اعتذر عنه بأنّ الّذي يظهر من تتبّع أحوال الواضعين أنّهم حين التعرّض للوضع يقدّمونه على الاستعمال حذرا عن اللغو.

وهذا هو وجه الإطلاق وعدم إجراء التفصيل في وضع التعيين ، وقد يضاف إليه كونه ممّا يقضي به ما دلّ على ثبوت الوضع من باب التعيين في صدر الإسلام ، وهو كون الوضع ممّا يحصل معه الغناء عن تجشّم القرائن الّتي هي في معرض الزوال وعدم الثبات ، فثبوته من مقتضى الحكمة الإلهيّة.

ومنهم من التزم بإجراء التفصيل في وضع التعيين أيضا بزيادة يسيرة فيه ، وهو إنّه إمّا أن يعلم كون تحقّق الوضع قبل أوائل الاستعمال ، أو يعلم كونه بعدها ، أو لا يعلم بشيء منهما ، والأوّل حكمه واضح من حيث تعيّن حمله على المعنى الشرعي ، وكذلك على الثاني إن علم بالتاريخين مع تقدّم تاريخ الوضع ، أو علم تاريخ الوضع مع جهالة تاريخ الصدور بعد الحكم عليه بالتأخّر عملا بأصالة التأخّر ، بخلاف ما لو تقدّم تاريخ الصدور ، أو كان المعلوم هو الصدور ، لوجوب الحمل حينئذ على اللغوي ولو بانضمام الأصل.

وأمّا مع جهالة التاريخين فكلّ من تعرّض لذلك التفصيل فبناؤه على الوقف لتعارض الأصلين مع تكافؤ الاحتمالين.

ويمكن الذبّ عن الوقف بأنّ احتمال تحقّق الوضع بعد أواسط الاستعمال أو أواخره بعيد جدّا ، بخلاف الصدور ، فإنّ احتمال كون تحقّقه بعد الأواسط أو بعد الأوائل ليس بذلك البعيد ، بل ليس إلاّ كاحتمال كونه بعد الأوائل بل قبلها ، فإنّ الكلّ محتمل على حدّ سواء ، فيصحّ الحكم بتأخّره إلى ما بعد أواخر

٢٧٣

الاستعمال استنادا إلى الأصل ، ولازمه الحمل على المعنى الشرعي أخذا بموجب تقدّم الوضع.

وفي جميع ما ذكر من التشويش وعدم الانضباط ما لا يخفى.

وتحقيق المقام : أنّ أخذ الثمرة مسبوق بإحراز كون الوضع على القول بالثبوت وضع تعيين أو تعيّن ، وطريقه النظر في مفاد الأدّلة المقامة على الثبوت ، فإمّا أن يكون مفاد الجميع وضع تعيين ، أو مفاد الجميع وضع تعيّن ، أو مفاد البعض وضع تعيّن مع سكوت الباقي أو بالعكس ، أو مفاد البعض وضع تعيين والآخر وضع تعيّن على وجه التعارض ، أو يكون الكلّ ساكتة.

وهذه ستّ صور يحمل اللفظ في اوليها وثالثتها على المعنى الشرعي مطلقا ، لأصالة الحقيقة التابعة للوضع الشرعي ، وكذلك في الثانية والرابعة مع العلم بتأخّر الصدور عن الوضع.

وأمّا مع عدمه فلا مناص من الوقف مطلقا.

أمّا مع الجهل بتاريخيهما أو تاريخ أحدهما ، فلعدم جريان أصالة الحقيقة المقتضية لحمل اللفظ على معناه اللغوي أو الشرعي ، سواء كان مبناها على الظهور الشخصي أو النوعي ، لصيرورة اللفظ المستعمل لأجل الوضع المردّد بين كونه الوضع اللغوي أو الوضع الشرعي مجملا ، لتردّده بين حقيقته اللغويّة وحقيقته الشرعيّة ، فالاشتباه إنّما هو في تعيين المقتضي للحمل على الحقيقة هل هو الوضع اللغوي أو الوضع الشرعي ، وليس من باب ما يتردّد بين حقيقته ومجازه ليكون الاشتباه من جهة احتمال التجوّز.

وأمّا مع العلم بتقدّم الصدور على الوضع ، فلأنّ تحقّق نقل التعيّن وتأخّره عن الصدور يكشف عن كون اللفظ حين صدوره من المجاز المشهور ، بناء على أنّ كلّ نقل تعيّني مسبوق بالمجاز المشهور ، والمشهور في المجاز المشهور هو الوقف.

وتوهّم جريان التفصيل في وضع التعيين أيضا ، يدفعه : إنّ المعلوم من حال الواضعين بالتتّبع إنّهم يقدّمونه على نوع الاستعمالات ، مع أنّ الحكمة الّتي تدعو

٢٧٤

الشارع إلى الوضع والتعيين ـ وهو رفع كلفة مراعاة القرينة للتفهيم أو التفهّم ـ تدعوه إلى تقديمه على نوع الاستعمال كما هو واضح.

واحتمال أنّ الشارع بنى أوّلا على التجوّز ، ثمّ بدا له بعد مدّة أن يضعه لرفع تجشّم القرينة ، احتمال سخيف لا يلتفت إليه ، ودعوى جوازه ممّا لا يصغى إليه.

أمّا الخامسة ، فهي لمكان التعارض راجعة إلى السادسة ، وفيهما لا بدّ من الرجوع إلى مسألة دوران الوضع الثابت بين نوعيه ، فإن كان ثمّة أصل يعوّل عليه ـ كما زعمه بعض في جانب التعيّن استنادا إلى أصالة التأخّر وأصالة عدم الوضع ـ فيؤخذ بموجبه ويلحقه الحكم المتقدّم ، وإلاّ فلا مناص من الوقف ، وحيث إنّه قد تقدّم منّا ـ في تعريف الفقه ـ منع وجود نحو هذا الأصل بالمناقشة فيما عرفته من الأصلين ، فالمتّجه حينئذ هو الوقف لا غير.

الأمر السادس : في بيان ما ينضبط به موضوع المسألة ، ويعنون به محلّ النزاع ليتميّز به عمّا هو خارج عنه.

وبعبارة اخرى : الضابط الكلّي الّذي يندرج فيه كلّ ما هو من موضوع المسألة ويخرج عنه ما عداه ، وهو يتصوّر من وجوه :

أحدها : الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة المستعملة في غير معانيها الأصليّة اللغويّة ،فما ليس بوارد فيهما ، أو ليس بمستعمل في غير المعاني اللغويّة خارج عن المتنازع.

وثانيها : الماهيّات المخترعة الشرعيّة الّتي اخترعها وأحدثها الشارع ، المغايرة لماهيّات المعاني اللغويّة ، فالمتنازع فيه الألفاظ الواقعة على تلك الماهيّات دون ما يقع على غيرها.

وثالثها : الألفاظ الّتي هي حقائق متشرّعة ،وهي الّتي صارت حقائق عند المتشرّعة في غير معانيها اللغويّة ، سواء كانت من الماهيّات المخترعة أو غيرها ، فما ليس بحقيقة عند المتشرّعة فليس بداخل في موضوع المسألة.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه لوجوب كون موضوع المسألة معنونا بعنوان يتوارد عليه أقوالها.

٢٧٥

وقد عرفت أنّ العمدة من نفاة الحقيقة الشرعيّة هو القاضي المنكر لأصل الاستعمال ، فلو أخذ العنوان على الوجه المذكور لتدافع دعواه لأصل العنوان كما لا يخفى.

أو يقال : إنّ موضوع المسألة في النزاع الثاني بعينه موضوعها في النزاع الأوّل ، ومعه لا يعقل أخذ العنوان على الوجه المذكور. فتأمّل.

والثاني أيضا ممّا لا سبيل إليه ، أمّا أوّلا : فلما يوجد منهم من دعوى الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ مخصوصة ليس معانيها من الماهيّات المخترعة.

ومن جملة ذلك صيغ العقود ، المدّعى في كلام جماعة منهم كونها حقائق شرعيّة في الإنشاء ، الّذي ليس من محدثات الشارع.

ومنها ما ذهب إليه بعضهم من كون الأمر الواقع عقيب الحظر حقيقة شرعيّة في الإباحة ، ومنها ما عليه السيّد المرتضى في صيغة « إفعل » من كونها لغة مشتركة بين الوجوب والندب ، لكنّها في عرف الشارع صارت حقيقة شرعيّة في الوجوب خاصّة (١) إلى غير ذلك من المواضع الّتي يقف عليها البصير.

وأمّا ثانيا : فلقضائه بعدم إمكان دخول القاضي في النزاع بالتقريب المذكور ، نظرا إلى أنّ إنكار الاستعمال بالمرّة يتضمنّ إنكار الاختراع الشرعي أيضا ، كما هو واضح فتعيّن الثالث ، وهو الّذي يساعد عليه تعبيرات الاصوليّين وعنواناتهم ، فإنّها لمن يراجعها بين صريحة وبين ظاهرة في ذلك ، ولذا قرّروا النزاع في بدو زمان حدوث الوضع والنقل ، بعد الفراغ عن إثباتهما في عرف المتشرّعة والاتّفاق عليه.

وإن شئت لا حظ عبارة المصنّف وغيره ، وإنّما يظهر فائدة ما بيّنّاه من الضابط في الموارد المشتبهة ، بعد الفراغ عن إثبات الحقيقة الشرعيّة ـ ولو في الجملة ـ من الألفاظ المخصوصة الّتي ربّما وقع الخلاف بين الفقهاء في كتبهم الفقهيّة في ثبوت

__________________

(١) الذريعة إلى اصول الشريعة ١ : ٥١.

٢٧٦

الحقيقة الشرعيّة فيها أيضا أو عدم ثبوتها فيها خاصّة ، فإنّ الاشتباه فيها ربّما ينشأ عن عدم تبيّن اندراجها في صغرى المسألة ، الّتي لا يحرزها إلاّ الضابط المذكور ، وربّما ينشأ عن عدم تبيّن اندراجها في كبراها الّتي أحرزها الاصوليّون. وربّما ينشأ عنهما معا.

فعلى الأوّل يعرض المورد على الضابط المذكور ، فإمّا أن يتبيّن الاندراج أو عدمه. وعلى التقديرين ارتفع الإشكال.

وعلى الثاني يعرض على دليل الكبرى المقام عليه ما في المسألة الاصوليّة استعلاما لعمومه له وعدمه ، فيرتفع الإشكال لا محالة.

وعلى الثالث يعرض على الأوّل ، فإن تبيّن الاندراج في الصغرى يعرض على دليل الكبرى فيتخلّص عن الاشتباه إن شاء الله.

[٥١] قوله : احتجّ المثبتون ... الخ

الحقّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة في الجملة ، والعمدة من دليله الاستقراء ، والمعتمد في تقريره : الاستقراء في طريقة المخترعين من أرباب الحرف والصنائع وغيرهم ممّن أحدث مركّبا جعليّا ، واخترع ماهيّة مركّبة مثل المركّبات الاعتباريّة الخارجيّة ومعاجين الأطبّاء وغيرها ، فإنّ عادة كلّ مخترع في مخترعه جارية بجعل تسمية ووضع اسم له ، ليجديه في مقام الإفادة والاستفادة ، ويرفع عنه وعن تابعيه كلفة نصب القرائن ، وتجشّم مراعاة ما يعين في فهم المقصود وتفهيم ما في الضمير ، بل الالتزام به من فطريّات المخترع كائنا من كان ، كما لا يخفى على المتدبّر.

ومن هذا الباب ألفاظ الفنون المدوّنة ، ومصطلحاتها المتداولة المعهودة ، وأسامي الرسائل المؤلّفة والكتب المصنّفة.

وبالجملة : لم يعهد عن مخترع إهماله جعل التسمية ووضع الاسم لمخترعه ، بل المعهود عن قاطبة المخترعين الاهتمام فيهما ، بل الغالب فيما بينهم تقديم الوضع والتسمية على الشروع في اختراع المسمّى أو إتمامه ، كما نشاهده في

٢٧٧

تسمية المصنّفين والمؤلّفين لمصنّفاتهم ومؤلّفاتهم بأساميها المعهودة ، فكيف بالشارع تعالى مع ما فيه من الحكمة البالغة ، ومخترعاته مع ما فيها من شدّة الاهتمام بشأنها ، وكثرة المحافظة عليها ، والقصد فيها إلى استمرارها وبقائها أبد الدهور ، وإنّه تعالى رتّب عليها أحكاما ، وتعلّق غرضه بامتثالها ، وبنى أمر المحاورة مع تابعيه ورعيّته على التخاطب بها ، وأخذها في مكالماته وسائر مخاطباته ، فيحصل القطع الضروري لمن راجع وجدانه وفطرته الأصليّة بأنّه لم يهمل جعل التسمية ووضع أسام لها ، مع ما فيهما من تسهيل الأمر على تابعيه ، حيث يتضمّن رفع تجشّم مراعاة القرائن عنهم ، والعمل على موجب حكمته البالغة لما في الوضع من حصول كمال المقصود ، وعدم كون اللفظ معه في معرض فوات ما قصد إفادته به ، من حيث ثباته حيثما حصل وعدم زواله فيستحيل عنه التخلّف ، بخلاف القرائن الّتي يعتمد عليها في مكان الوضع ، فإنّها تارة : في معرض الزوال ، واخرى : في معرض الخفاء ، وثالثة : في معرض الغفلة وعدم الالتفات إليها من السامع ، فيغلب عليها فوات الغرض من الخطاب.

ويتأكّد ذلك الحكم مضافا إلى ما ذكر ، بملاحظة ما تقدّم من عدم ظهور الخلاف بين قدماء أصحابنا في ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، بل ظهور إطباقهم عليه وإجماعاتهم المنقولة عليه في جملة من الألفاظ.

وقضيّة ذلك كلّه انعقاد ذلك اصطلاحا له حادثا منه من أوّل بناء الشرع ، واردا على الاصطلاح القديم الثابت من أهل اللغة ، فالمتعيّن حينئذ وجوب حمل خطاباته على مصطلحاته عملا بالأصل فيه ، إلى أن يعلم خلافه بقيام قرينة قاضية به.

وما يقال ـ في الاعتراض عليه من دعوى معارضته بالاستقراء المقرّر بأنّ الألفاظ الّتي كان تكلّمه فيها بمقتضى الاصطلاح القديم لا تحصى عددا ، وما نحن فيه بالقياس إليه قطرة في مقابلة البحر ـ غير مفهوم المراد إذ لو اريد به نفي الثمرة المذكورة فإنّما يتّجه إذا لم ينعقد له اصطلاح خاصّ به ، ودار كلامه بين أن يتوجّه إلى ما اقتضاه العرف القديم أو ما يساعد عليه العرف الحادث بعد زمانه.

٢٧٨

وأمّا مع انعقاده كما هو مفروض المقام ، ومفاد الدليل المقام عليه ، فالمتعيّن متابعته ولو كان حادثا.

وإن اريد به القدح في الدليل فلا يعارضه بعد ملاحظة ثبوت تكلّمه بتلك الألفاظ أيضا ، لإفادة المعاني الجديدة ـ ولو مجازا ـ كما هو مفروض المقام. مسلّم على كلّ تقدير ، إذ الكلام إنّما هو بعد الفراغ عن دفع شبهة القاضي في إنكار أصل الاستعمال ، فالاعتراض بالوجه المذكور في نحو المقام في غاية السقوط.

ويقرب منه في السقوط ما أورد على المختار أو دليله المذكور ، بقوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(١).

وفيه : إنّ لسان القوم لا يتغيّر بمجرّد تغيير التسمية وإثبات المسمّى الآخر ، كما أنّه لا يتغيّر بالتجوّز على تقدير انتفاء التسمية ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ هذه الألفاظ من ألفاظ لغتهم بموادّها وهيئاتها واسلوب المركّبات التي هي واقعة فيها.

لا يقال : لعلّ الدليل المذكور عقيم بالنسبة إلى إنتاج الوضع للألفاظ المتنازع فيها ، إذ غاية ما يفيده ثبوت تسمية بإزاء المعاني الشرعيّة ، وأمّا كونها واقعة على تلك الألفاظ فلا.

لأنّا نقول : يندفع ذلك بما علم ضرورة وبإجماعهم المعلوم كذلك عليه ، من أنّ المعاني الشرعيّة المتداولة في عرف المتشرّعة لو كانت بحيث تصدّى الشارع بوضع ألفاظ لها ، فلا تكون هذه الألفاظ إلاّ الألفاظ المعهودة الواقعة عليها في عرف المتشرّعة.

نعم إنّما يتوجّه الإشكال إلى الدليل من حيث عموم نتيجته بالقياس إلى جميع الألفاظ المتنازع فيها وخصوصها.

وبعبارة اخرى : كون نتيجته محصورة كلّية أو مهملة حيث اخذ في مورده الاختراع فلا يدرى أنّ المعاني المستعمل فيها هل هي بأجمعها من مخترعات الشارع أو لا؟

__________________

(١) إبراهيم : ٤.

٢٧٩

ويظهر أثر هذا الإشكال في ألفاظ المعاملات بعد ما تبيّن كون ماهيّات العبادات من مخترعات الشارع ، فالمعاملات بهذا الاعتبار ممّا اشتبه حاله من حيث اندراجه في كبرى المسألة ، وفيها اشتباه آخر من حيث اندراجها في صغرى المسألة ، المتقدّم ذكرها عند بيان الضابط الكلّي ، الّذي يعنون به موضوع المسألة فينبغي التكلّم فيها من جهتين.

الجهة الاولى : في أنّ الألفاظ الواقعة على المعاملات هل ثبت فيها للمتشرّعة اصطلاح خاصّ وارد على اصطلاح العرف واللغة ، لتكون حقائق متشرّعة أو لا؟ وينبغي الإشارة أوّلا : إلى الفرق بين العبادات والمعاملات ، وبيان ما هو محلّ الاشتباه من المعاملات.

فنقول : إنّ العبادات قد تطلق على ما لا مقابل لها من المعاملات ، وهو كلّ ما يتوقّف ترتّب الثواب عليه على النيّة وقصد القربة ، ويدخل فيها بهذا المعنى جميع المعاملات من العقود والإيقاعات وجميع المباحات الأصليّة بل المكروهات أيضا ، فضلا عن الواجبات والمندوبات ، لما ثبت في كلّ واحد جهة رجحان بعروض بعض الوجوه والاعتبارات ، لو أتى به المكلّف بداعي ذلك الرجحان لاستحقّ الثواب ، ولا ينبغي أن ينزّل عليه العبادات في قول من خصّ الحقيقة الشرعيّة بها لوضوح فساده.

وقد تطلق على ما هو أخصّ من الأوّل وهو كلّ ما كان مبنى مشروعيّته في الدين على ورود الأمر به إيجابا أو ندبا سواء توقّف صحّته على النيّة أو لا ، فدخل فيه جميع الواجبات الأصليّة تعبّديّة أو توصليّة ، بل المندوبات كذلك ، ويقابله المعاملات ، وهذا أيضا ممّا لا ينبغي أن يكون مرادا لمخصّص الحقيقة الشرعيّة بالعبادات ، وإلاّ لزم منه القول بما لم يتفوّه به أحد ، من ثبوت الحقيقة الشرعيّة في مثل الغسل عن الأخباث ، وإزالة النجاسة عن المسجد ، وكفن الأموات ودفنهم وإنقاذ الغريق ، وإطفاء الحريق ، وغير ذلك من التوصّليّات.

وقد تطلق على ما هو أخصّ ممّا ذكر ، وهو كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة

٢٨٠