تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

ومنها : كون المراد به خصوص الإطلاق على وجه الحقيقة ، وعليه مبنى توهّم القول المذكور ، لكن يفسده الاستثناء المعلّل بوجوب المضيّ في جانب المستثنى ، فإنّه حكم شرعي لا ملازمة بينه وبين أصل الإطلاق في الحجّ ، ولا كونه على وجه الحقيقة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإطلاق إنّما يثبت لو كان وجوب المضيّ من جهة الأمر الأوّل الوارد بالحجّ وهو محلّ منع ، بل هو من جهة أمر آخر ورد بإتمام الفاسد ، فلا يكشف عن كون المراد بالحجّ الوارد في حيّز الأمر الأوّل ما يعمّ الفاسد.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة ، ووجوب المضيّ لا يلازم الحقيقيّة لعدم كونه من لوازمه ولا من ملزوماته.

ومنها : كون المراد به الإطلاق على لسان الشارع في حيّز الأوامر والطلبات ، كما جزم به جماعة تبعا لبعض الأعلام (١).

وهذا وإن كان يلائمه التعليل الواقع في الاستثناء في الجملة ، بدعوى : إنّ وجوب المضيّ في فاسد الحجّ ممّا يكشف عن كون المراد من لفظه في حيّز الأمر ما يعمّ الفاسد ، لكن قد عرفت منعه ، مع أنّه يبعّده تفريع مسألة الحنث ، لعدم الملازمة بين عدم ورود إطلاق ما عدا الحجّ في حيّز الأوامر على الفاسدة ، وبين كونه كذلك في لسان المتشرّعة في نحو مقام الحلف ، فإنّ أحدهما ليس بلازم للآخر ولا ملزومه.

ومنها : كون المراد به إطلاق المتشرّعة في خصوص مقام الحلف والنذر وغيرهما من العقود والإجارات ، وهذا وإن كان يساعد عليه التفريع ، لكن لا يلائمه الاستثناء ، لجواز جريان ذلك الحكم في لفظ « الحجّ » إذا ورد في نحو هذا المقام ، إلاّ أن يوجّه : بأنّ بناء المتشرّعة في هذه المقامات على مراعاة الرجحان ، ولا رجحان لفاسد غير الحجّ بخلاف الحجّ ، فإنّ فيه رجحانا مّا يكشف عنه

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٧.

٣٦١

وجوب المضيّ فيه ، فإنّه حكم شرعي يتبع رجحانا في متعلّقه ، وهذا الوجه بناء على التوجيه كما ترى أقلّ محذورا من غيره ، وإن كان بعيدا عن مساق العبارة.

وقد يعترض عليه : بناء على حمل العبارة على الوجه الثاني بالنقض بفاسد الصوم ، لوجوب المضيّ في فاسده أيضا ، فينبغي أن يطلق عليه اللفظ أيضا.

ويزيّفه : أنّ وجوب الإمساك عن المفطرات بعد إبطال الصوم ليس من باب الأمر بالصوم ولا إتمامه ، ليستلزم إطلاق الاسم عليه ، وإنّما هو تكليف بالإمساك اللغوي ، ولو سمّي صوما فإنّما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار الشرع.

نعم لو اريد دفع الاستدلال بناء على الحمل المذكور بنحو ذلك كان له وجه.

ومن الفضلاء من اعترض على بعض الأعلام ـ الحامل للعبارة على الوجه الثالث ـ بأنّه « إن أراد بالفاسدة ما يكون فاسدا على تقدير عدم تعلّق الأمر به فلا ريب أنّ جميع العبادات فاسدة بهذا المعنى ، وإن اعتبر الصحّة بحسب الواقع فلمانع أن يمنع لزوم تقدّمها على الأمر لجواز إنشائها به.

وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى الأمر المتعلّق به ، فما ذكره في غير الحجّ غير مفيد وفيه غير سديد ، ضرورة أنّ ما تعلّق به الأمر لا يكون فاسدا.

وإن أراد ما يكون فاسدا بالقياس إلى أمر آخر ، فهذا مع بعده عن مساق كلامه لا يساعد عليه تفريع مسألة الحجّ ». انتهى (١).

ومبناه كما ترى على أخذ الصحّة والفساد بمعنى موافقة الأمر ومخالفته ، وهو الّذي أوقعه في الترديد الّذي أخذه في الاعتراض.

وملخّصه : منع إطلاق الحجّ مع فرض وجود الأمر على الفاسد.

وجوابه : إنّ المراد بالفاسد ـ على ما تقدّم في شرحه ـ ما لا يترتّب عليه الأثر المقصود ، بسبب عدم اشتماله على جميع ما له دخل فيه.

ولا ريب أنّ فاسد الحجّ ، وهو بقيّة المناسك المأمور بفعلها فاسد بهذا المعنى وإن أمر به عقوبة أو لحكمة اخرى.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٥٢.

٣٦٢

وحينئذ فلا يتّجه النقض بسائر العبادات على تقدير عدم ورود الأمر بها ، إذ فسادها باعتبار انتفاء الأمر لا ينافي صحّتها باعتبار عدم دخول نقص فيها ببعض ما له دخل في ترتّب الآثار المقصودة منها ، كما أنّ ورود الأمر بفاسد الحجّ باعتبار دخول النقص فيه بالنظر إلى أصل ماهيّة الحجّ لحكمة العقوبة ـ كما هو أحد القولين في المسألة ـ أو غيرها لا ينافي فساده بالاعتبار المذكور.

وأمّا دعوى : إمكان منع لزوم تقدّم الصحّة على الأمر ، كدعوى جواز إنشائها بهذا الأمر.

ففيها أوّلا : إنّ الصحّة ليست من الامور الإنشائيّة لتوجد بالأمر ، كيف والأحكام الوضعيّة ليست من مجعولات الشارع المتوقّفة بالإنشاء ، وهي أولى بعدم الجعل ، كما قرّرناه في محلّه.

وثانيا : إنّها لازم التقدّم على الأمر في وجه ، ولازم التأخّر عنه في وجه آخر.

إذ لو اريد بها معناها العرفي وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار اشتماله على جميع ما له دخل في ترتّب الأثر المقصود منه ، فهي متقدّمة على الأمر لا محالة ، لوجوب تقدّم موضوع الحكم عليه.

ولو اريد بها معناها الاصطلاحي ، وهو الصفة المنتزعة عن الشيء باعتبار انطباقه على المأمور به الكلّي ، فهي متأخّرة عن الأمر لا محالة ، فلا يعقل فيها المقارنة للأمر فضلا عن كونها من الامور المتولّدة منه.

ثمّ يبقى الكلام في حقيقة معنى الفرع ـ حسبما ذكره الشهيد ـ من الاكتفاء في لزوم الحنث بمسمّى الصحّة الّذي فسّره بالدخول فيها ، على معنى الدخول في العمل على وجه الصحّة ، ووجه احتمال لزوم الحنث بمجرّد ذلك ، مع أنّه ليس من مسمّى الاسم قطعا ، مع وجه الاحتمال الآخر وهو عدم لزوم الحنث ، فإنّه لا يخلو عن غموض.

والّذي يقتضيه التدبّر هو ، إنّ وجه لزوم الحنث بمجرّد الدخول هو إنّ الحنث عبارة عن مخالفة الحلف ، أو مخالفة النهي الناشئ عنه ، ويكفي في لزومه صدق قضيّة المخالفة في نظر العرف.

٣٦٣

ولا ريب أنّ الحالف بمجرّد شروعه على العمل الّذي حلف على تركه جامعا للامور المعتبرة فيه من الشرائط يصدق عليه عرفا إنّه قد خالف الحلف ، وهذا معنى لزوم الحنث ، وإن أفسد العمل بعد ذلك ، ووجه العدم إنّه عبارة عن مخالفة الحلف بحسب الواقع.

وفرق واضح بينها وبين الحكم بالمخالفة ، وإنّما يلزم المخالفة الواقعيّة على تقدير إتمام العمل المحلوف على تركه على وجهه ، لكون مسمّى اللفظ الّذي تعلّق به الحلف هو تمام العمل.

والّذي تحقّق في الصورة المفروضة من المكلّف بعض العمل ، وهو ليس من مسمّى اللفظ في شيء ، حيث لا يسمّى صلاة ولا صوما شرعا ، فالمخالفة الواقعيّة حينئذ غير متحقّقة.

ولا ينافيه صدق القضيّة أوّلا بمجرّد الدخول في نظر العرف ، لأنّه حكم بالمخالفة ، وإنّما يصدر من العرف اعتمادا على ظاهر الحال من أنّ الفاعل إذا أقدم على فعل أتمّه ، وحينئذ فإذا طرئه القطع والفساد يكشف عن ورود الحكم الأوّل في غير محلّه.

فالحكم بالمخالفة أعمّ من نفس المخالفة ، ومدار الحنث على الثاني دون الأوّل فليتأمّل في ذلك ، فإنّ المقام من مطارح الأنظار وقد أظهر العجز في الوصول إليه غير واحد من الأزكياء.

وأمّا أصل المسألة : فاللفظي منه يساعد على القول بالأعمّ ، إن كان القائل بالصحيحة ممّن يلتزم بتعدّد الماهيّات المستلزم للاشتراك ، لكون ألفاظ العبادات حينئذ من باب مسألة دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي والاشتراك اللفظي. وقد تقدّم رجحان الأوّل.

وكذلك إن كان ممّن لا يلتزم به على القول برجحان الاشتراك المعنوي على المجاز ، لكونها حينئذ من باب مسألة الدوران بينهما ، وإلاّ ـ كما عليه جماعة ـ لا أصل يساعد على أحدهما ، فلا مناص من الوقف كما هو المختار.

٣٦٤

والاعتباري منه وهو أصالة العدم يساعد على القول بالأعمّ أيضا ، لأنّ الأصل عدم تعرّض الواضع لأخذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة جزءا في الموضوع له.

نعم يبقى الكلام في اعتباره في نظائر المقام ، وهو محلّ إشكال.

احتجّ أهل القول بالصحيحة بوجوه كثيرة ، كلّها ضعيفة :

منها : التبادر ، فإنّك إذا قلت : « صلّيت ، أو صمت ، أو توضّأت ، أو اغتسلت » لا يتبادر منها إلاّ الصحيحة.

وأضاف إليه بعض الأفاضل ، قوله : « وممّا يوضح ذلك إنّ المتشرّعة إنّما يحكمون بكون الصلاة وغيرها من الألفاظ المذكورة عبارة عن الامور الراجحة والعبادات المطلوبة لله تعالى ، ولا يجعلونها أسامي لما يعمّ الطاعة والمعصية إلى آخره » (١).

ويزيّفه : إنّ الصحيحة المتبادرة إن اريد بها مفهوم الصحيحة فهو واضح الفساد ، مع قضاء ضرورة عرف المتشرّعة بعدم مرادفة لفظ « الصحيحة » لألفاظ العبادات.

وإن اريد بها مصداق الصحيحة ، فدعوى تبادرها يناقض الاعتراف بالإجمال في ألفاظ العبادات لجهالة تمام حقيقة المسمّى بعدم معلوميّة تمام الأجزاء والشرائط المعتبرة فيه ، فإنّ تبادر المعنى ـ إن اريد به تبادر الناظر فيه لاستعلام الوضع ، كالعلم به إن اريد به تبادر المتشرّعة ـ مسبوق بالعلم بذات المعنى أو مستلزم له ، وهو لا يجامع الإجمال باعتبار المفهوم.

وإلى ذلك يرجع ما قيل ـ في دفع الاستدلال ـ : من أنّ التمسّك بأمثال هذه الأمارات ليس من وظيفة الصحيحي ، من جهة ما تقرّر عندهم كما صرّحوا به من أنّها امور توقيفيّة متلقّاة من صاحب الشرع ، لا تصحّ الرجوع فيها إلى عرف ولا عادة.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٠١ ( الطبعة الحجرية ).

٣٦٥

وما قيل في دفعه : من أنّ قضيّة القول بالصحيحة هو التوقّف في تعيين الأجزاء والشرائط تفصيلا ، وأمّا تشخيص مفهوم اللفظ إجمالا وتصوّره بوجه مّا ـ كأن يقال : ليس المراد من اللفظ هو المعنى العرفي بل الشرعي ، أو إنّ المراد جميع الأجزاء والشرائط ـ فلا غبار عليه ، غير مفيد كما لا يخفى.

كما أنّه لا يفيد أيضا ما قيل : من أنّ الرجوع إلى عرف المتشرّعة يصحّ على المذهبين فيستكشف عنه عرف الشارع ، لأنّ الموجود فيه هو الموروث عن الشارع المحفوظ لدى المتشرّعة ، كما يفصح عنه قولهم : « عرف المتشرّعة ميزان لعرف الشارع إن صحيحا فصحيح وإن أعمّ فأعمّ » فإنّ عرف المتشرّعة على مذهب الصحيحي الملازم لإجمال المسمّى باعتبار المفهوم لا يجدي نفعا في معرفة تمام المسمّى.

وبالجملة : دعوى تبادر الصحيحة من المعترف بالإجمال الناشئ عن جهالة تمام المسمّى عجيب.

وأعجب منه ما في كلام بعض الفضلاء ـ بعد ما تمسّك بتبادر الصحيحة أوّلا ، وصحّة السلب عن الفاسدة ثانيا ـ « من أنّ معيار الفرق والتميّز في نظائر المقام إنّما هو الوجدان ، ونحن إذا راجعنا وجداننا وجدنا المعاني الصحيحة متبادرة من تلك الألفاظ مع قطع النظر عن إطلاقها ، ووجدنا صحّة سلبها عن الفاسدة من غير ابتناء على التأويل ، فلا يصغى إلى المنع المورد على المقامين » (١).

وإنّما ذكره في دفع ما أورد على نفسه من سؤال : « إنّ التبادر إن اريد به ما يكون ناشئا عن الإطلاق فبعد تسليمه لا يثبت المقصود وإلاّ فممنوع ، وصحّة سلب الاسم عن الفاسدة لعلّها مبتنية على التأويل ، بتنزيل الفاسدة منزلة أمر مغاير للماهيّة ، نظرا إلى عدم ترتّب الفائدة المقصودة منها عليها » (٢).

فإنّ الوجدان مع قيام الإجمال لا طريق له إلى تعقّل أصل المعنى على ما هو عليه في الواقع ، فضلا عن إدراك كون انفهامه لمجرّد الوضع لا بواسطة الإطلاق.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٤٦.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٦.

٣٦٦

فإن قلت : المراد بالصحيحة المتبادرة الماهيّة المستجمعة للامور المعتبرة فيها من الأجزاء والشرائط.

قلت : إن اريد بالماهيّة على الوجه المذكور مفهومها ، فدعوى تبادرها كذب وفرية ، مع ضرورة انتفاء المرادفة ، وإن اريد مصداقها عاد المحذور.

فإن قلت : المراد بتبادر الصحيحة تبادر ما هو من لوازمها كالمطلوبيّة ، أو ما أمر به ، إذ لا ريب انّ قائلا إذا قال : « صلّى فلان » أو « صام أو حجّ » أو قال : « صلّيت أو صمت أو حججت » مثلا ، يتبادر منه أنّه أتى بما امر به ، والمفروض أنّ الأمر يلازم الصحّة باتّفاق الفريقين ، فينكشف به كون المسمّى هو الصحيحة لا غير.

قلت : مع أنّ هذا التبادر إن صحّحناه إنّما يستند إلى الأصل القطعي المركوز في الأذهان ، من لزوم حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة ، المقتضية لكون المأتيّ به هو المأمور به ، إنّ ما أمر به في دعوى هذا التبادر إن اريد به مفهومه فهو كذب أيضا ، مع انتفاء المرادفة جزما ، وإن اريد به مصداقه فدعوى هذا التبادر يؤول بالأخرة إلى الاعتراف بتبادر الأعمّ ، التفاتا إلى انّ مصداق المأمور به يختلف باختلاف المكلّفين بحسب اختلاف أحوالهم ، والقدر المسلّم من تبادر المصداق تبادر ما يتردّد بين وظائفهم المختلفة زيادة ونقيصة ، وتبادلا في الأجزاء أو الشرائط ، فإنّ وظيفة كلّ واحد في أيّ مرتبة كانت من مراتب الزيادة والنقيصة ممّا أمر به ذلك الواحد.

ودعوى : كون المتبادر مرتبة معيّنة هي أعلى المراتب وأكمل الوظائف ، ممّا لا يصغى إليها.

وقد عرفت سابقا إنّ وظيفة كلّ مكلّف وإن كانت صحيحة بالقياس إليه ، إلاّ أنّها فاسدة بالقياس إلى غيره ، لما بيّنّاه من أنّ الصحّة والفساد المبحوث عنهما من الامور الإضافيّة ، فيؤخذ كلّ منهما مقيسا إلى مكلّف دون غيره ، فتبادر هذا المعنى على جهة الترديد في معنى تبادر الأعمّ من الصحيح.

نعم ، إن اعتبر الصحّة في محلّ البحث بمعنى موافقة الأمر ، كان لدعوى التبادر

٣٦٧

على الوجه المفروض وجه في الجملة ، غير أنّه على ما حقّقناه بمعزل عن التحقيق وغفلة عن حقيقة محلّ النزاع ، مع بعده عن طريقة أهل هذا القول ، حيث إنّه لا ينهض حجّة ولا يسلّم إلاّ على تعدّد الماهيّات المستلزم للاشتراك ، وهو ممّا لا يظنّ الالتزام به عليهم.

وأمّا العلاوة الّتي في كلام بعض الأفاضل (١) فيدفعها : بعد تصحيح كون الفاسدة معصية ، إنّ حكم المتشرّعة بالرجحان والمطلوبيّة في المذكورات إنّما هو من جهة كون نظرهم في الغالب مقصورا على لحاظ عالم التكليف ، وهذا لا ينافي جعلهم الألفاظ أسامي للأعمّ ممّا يتحقّق به الطاعة وما يتحقّق به المعصية ، لو جرّدوا النظر عنه إلى لحاظ التسمية ، كما هو مقتضى أدلّة القول بالأعمّ.

ومنها : صحّة سلب الاسم عن الفاسدة ، فإنّها من أمارات المجاز.

ومن الأفاضل من أضاف إليها عدم صحّة السلب عن الصحيحة ، قائلا : بأنّه إذا اخذت الماهيّة مستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط المعتبرة في صحّتها ، فلا يصحّ سلب الصلاة عنها في عرف المتشرّعة ، فيكون ذلك عين معناها. (٢)

والجواب عن ذلك : ـ بعد ملاحظة أنّ المعتبر في السلب في الصحّة وعدمها إنّما هو سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الموضوع له لا غير ـ يظهر بالتأمّل فيما مرّ ، فإنّ صحّة السلب وعدمها على القول بالصحيحة ـ المتضمّن للإجمال المفهومي ـ لا طريق إلى إحرازهما ، بل لا يمكن معه أصل السلب لينظر في صحّته أو عدمه ، التفاتا إلى أنّ السلب في الحمليّات السوالب كالحمل في الموجبات مسبوق بتصوّر موضوع القضيّة ومحمولها ، وهو مسبوق بالعلم بذات الموضوع والمحمول ، وهو لا يجامع الإجمال الناشئ عن جهالة ذات المسمّى ، من غير فرق بين كون المراد بهما ما ينعقد في نظر الجاهل المستدلّ بهما أو ما ينعقد في نظر المتشرّعة

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٠١ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) المصدر السابق : ١٠٢.

٣٦٨

نظرا إلى أنّ الإجمال المدّعى في ألفاظ العبادات ما يعمّ كافّة المتشرّعة ، لا أنّه مخصوص بأهل القول بالصحيحة من العلماء منهم ، كما لا يخفى.

فلو علم بانعقادهما عندهم ـ كما هو واضح ـ كان كاشفا عن صحّة القول بالأعمّ ، مع ابتناء الصحّة على التأويل بتنزيل الفاسدة منزلة الأمر المغاير للمسمّى ، أو على كون جهة الفساد في الفاسدة المسلوب عنها اختلال ما هو من مقوّمات الصورة النوعيّة.

وبالجملة : على القول بالصحيحة لا يمكن أصل السلب ، فضلا عن إدراك صحّته أو عدمها.

وما يقال : من أنّ الإجمال لا ينافي العلم بعدم صدقه على بعض الموارد ، فيعلم بذلك أنّ المورد المسلوب عنه الاسم ليس من حقيقة المسمّى ، وذلك لا يلازم تعيينه المنافي لإجماله المفروض عند القائل بالصحيح ، كلام ظاهري منشأه عدم استيفاء النظر في أطراف المسألة.

لا يقال : ما ذكرته ـ بناء على ما اعترفت به سابقا من كون الإجمال مشترك اللزوم بين القولين ـ مشترك الورود فكيف صحّحت الصحّة وعدمها على القول بالأعمّ ، لأنّ الإجمال اللازم للقول بالأعمّ ـ على ما بيّنّاه ـ إجمال مرادي وهو لا ينافي بيان المفهوم والمسمّى كما لا يخفى.

نعم لو علم بالصحّة أو عدمها في نظر الشارع المطّلع على حقيقة المسمّى بتفاصيله اتّجه التمسّك بهما على القول بالصحيحة ، إلاّ أنّ الكلام حينئذ في طريق هذا العلم ، وأيّ طريق إلى إحرازهما على هذا الوجه.

فإن قلت : الطريق إلى إحراز صحّة السلب هو الروايات المميّزة للصلاة ونحوها عمّا دخله الاختلال جزءا أو شرطا ، كقوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١)

__________________

(١) تفسير أبي الفتوح الرازي ١ : ١٥ ، عوالي اللآلي ٢ : ٢١٨ ، مستدرك الوسائل ٤ : ١٥٨ أبواب القراءة باب ١ حديث ٥ ، ٨.

٣٦٩

و « لا صلاة لمن لم يقم صلبه » و « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) و « لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل » (٢) ونحو ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، فإنّ مفاد النفي في هذه الروايات إنّ ما لا فاتحة فيه ليس بصلاة ، وما لا قيام فيه ليس بصلاة ، وما لا طهور فيه ليس بصلاة ، وما لا عزم فيه من الليل ليس بصيام وهكذا.

وهذا يكفي في إثبات المطلب ، وإن كان مفاده الإيجاب الجزئي.

قلت : بعد الغضّ عن أنّه خلط بين التمسّك بصحّة السلب والاستناد إلى هذه الروايات مع أنّ ظاهرهم كون كلّ منهما حجّة مستقلّة ، إنّ إحراز صحّة السلب في نظر الشارع بهذه الروايات ونظائرها مبنيّ على كون النافية الواردة فيها مرادا بها نفي الماهيّة ، وهو وإن كان يساعد عليه أصل وضع هذه الكلمة ، لكنّه في خصوص المقام في حيّز المنع ـ لا لما قيل من حصول الوضع العرفي الثانوي في هذه الهيئات التركيبيّة الّتي مدخول « لا » فيها من الماهيّات المركّبة الجعليّة ، أو الحمل على النظائر في أخوات هذه التراكيب مثل « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » (٣) و « لا نكاح إلاّ بوليّ » و « لا عمل إلاّ بنيّة » أو لزوم الدور لو اريد إثبات كون الاسم للصحيحة بالحمل على إرادة الحقيقة المتوقّف على كونه للصحيحة ، أو لزوم التخصيص في أغلب الموارد. لعدم انتفاء الماهيّة في صورة نسيان الفاتحة أو عدم القدرة على قراءتها ، أو كون المصلّي مأموما وإنّ الصوم قد يصحّ مع عدم العزم عليه من الليل ، كما يستفاد أكثر هذه الوجوه من بعض الأعلام ـ بل لأنّ أصالة الحقيقة في لفظ وارد من المتكلّم لا تصلح أمارة للوضع في لفظ آخر مصاحب له ، مجهول حاله مردّد بين معنيين باعتبار جهالة وضعه ، مع العلم باعتماد المتكلّم في استعماله على أصالة الحقيقة فيه ، المردّدة بين كونها في جانب هذا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٩ ح ١٤٤ ، الاستبصار ١ : ٥٥ ح ١٦٠ ، الوسائل ١ : ٢٥٦ أبواب الوضوء باب ١ ح ١.

(٢) سنن الدار قطني ٢ : ١٧٣ ، عوالي اللئالي ٣ : ١٣٣.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٤٧.

٣٧٠

المعنى وبين كونها في جانب ذلك المعنى ، بحيث لو كانت في جانب الأوّل لاستلزم بقاء أصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل على حالها ، ولو كانت في جانب الثاني لاستلزم الخروج عن أصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل ، وحينئذ لا يمكن الحكم بأصالة الحقيقة في اللفظ الأوّل بكون اللفظ موضوعا لما لا يستلزم إرادته الخروج عنها ، لا لأنّ أصالة الحقيقة موجودة ولا يعبأ بها ، بل لأنّها في نحو الصورة المفروضة ما دام الجهل بوضع اللفظ الآخر باقيا ليست في مجراها ، فإنّها عبارة عن ظهور إرادة المعنى الحقيقي من باب الظنّ الشخصي أو الظنّ النوعي ـ على الخلاف فيها ـ وهي بهذا المعنى إنّما تجري وتنهض حجّة على إرادة المعنى الحقيقي إذا لم يصادفها ما يقتضي إجمال اللفظ ، على معنى تردّده في النظر بين إرادة المعنى الحقيقي أو المجازي على جهة سواء.

ولا ريب إنّ تردّد اللفظ الآخر بين معنيين باعتبار جهالة وضعه يوجب إجمال هذا اللفظ وتردّده بين معنييه الحقيقي والمجازي ، ومعه لا يعقل أصالة الحقيقة ، ولو اعتبرت من باب الظنّ النوعي ، كيف والشكّ فيها مسبّب في الشكّ عن اللفظ الآخر المجهول حاله من حيث الوضع.

ولا ريب إنّ حمل كلمة « لا » على إرادة نفي الماهيّة لا مقتضى له إلاّ توهّم أصالة الحقيقة ، وهي لمكان طروّ الإجمال لها لعارض ليست في مجراها.

وهذا هو معنى قولنا : « إنّ أصالة الحقيقة في لفظ لا تصلح أمارة للوضع في لفظ آخر وارد معه في كلام المتكلّم ».

نعم لو قام من الخارج دليل على كون لفظ « الصلاة » ونحوه اسما للصحيحة وتردّد كلمة « لا » بين نفي الماهيّة ونفي الصفة ، كانت أصالة الحقيقة بالنسبة إليها في مجراها ، لزوال المانع حينئذ بارتفاع علّته ، إلاّ أنّه خارج عن الفرض.

وأمّا الوجوه الاخر المذكورة في سند منع الحمل على نفي الحقيقة فليست بسديدة.

أمّا الأوّل : فلتطرّق المنع إلى طروّ الوضع الجديد العرفي ، مع مخالفته الأصل.

٣٧١

وأمّا الثاني : فلأنّ ثبوت التجوّز في لفظ بقرينة وإن شاع لا يوجب التجوّز فيه عند تجرّدة عن القرينة.

وأمّا الثالث : فلمنع الدور ، فإنّ العلم بكون لفظ « الصلاة » وغيرها اسما للصحيحة وإن كان متوقّفا على حمل كلمة « لا » على نفي الحقيقة ، إلاّ أنّه لا يتوقّف على العلم المذكور ، بل يتوقّف على العلم بوضع هذه الكلمة لنفي الحقيقة ، وهو غير متوقّف على العلم بكون الصلاة اسما للصحيحة بالضرورة ، فلا دور ، إلاّ أن يرجع توهّم لزومه إلى ما قرّرناه في منع جريان أصالة الحقيقة ، بأن يقال : إنّ العلم بالوضع للصحيحة موقوف على أصالة الحقيقة في كلمة « لا » وهي موقوفة على العلم بوجود مقتضيها وهو الوضع ، وفقد مانعها وهو الإجمال ، والعلم بفقد المانع موقوف على العلم بالوضع للصحيحة ، وهذا دور واضح.

وأمّا الرابع : فلشيوع التخصيص وكونه خيرا من المجاز ، مع كون لزومه مشترك الورود على تقدير الحمل على نفي الصحّة كما لا يخفى ، والحمل على نفي الكمال خلاف الإجماع ، فإنّها بعد صرفها عن نفي الماهيّة لا محمل لها إلاّ نفي الصحّة.

ومنها : قضاء الوجدان بذلك ، فإنّا إذا راجعنا وجداننا بعد تتبّع أوضاع المركّبات الخارجيّة ـ عرفيّة وغيرها ـ وفرضنا أنفسنا واضعين للفظ لمعنى مخترع مركّب ، نجد من أنفسنا حين الوضع عدم التخطّي عن الوضع للمركّب التامّ الأجزاء والشرائط ، مضافا إلى أنّه الّذي كونه الموضوع له ممّا يقتضي حكمة الوضع ، وهي مسيس الحاجة إلى التعبير عنه ، والحكم عليه بما هو من لوازمه وآثاره.

وأمّا استعماله في الناقص فلا نجده إلاّ مسامحة ، تنزيلا للمعدوم أو الفاقد منزلة الموجود أو الواجد.

وجوابه : تكذيب هذا الوجدان بإطلاقه ، ومحصّله : إنّا نجد من أنفسنا بعد المراجعة والتتبّع أنّ الواضع قد يتعلّق غرضه بأن لا يطلق اللفظ إلاّ على المركّب التامّ من حيث هو دون ما يغايره من زائد عليه أو ناقص منه ، وقد يتعلّق غرضه

٣٧٢

بالإطلاق عليه وعلى الناقص بمراتبه ، وإنّما يختلف هذا الغرض باختلاف المركّب باعتبار الأثر المقصود ترتّبه على المسمّى والفائدة المطلوبة منه ، فقد يكون ذلك الأمر بحيث لا يترتّب إلاّ على المركّب التامّ بقيد التمام.

وقضيّة ذلك بحكم الوجدان أو حكمة الوضع ، تعلّق الغرض بإطلاق اللفظ عليه خاصّة. فيوضع له بحيث يخرج بحدّيه كلّ مغاير له من الزائد والناقص ، بأن يلاحظ ما فيه من الأجزاء والشرائط الواقعيّة مع ما طرئها من الهيئتين المتقدّم ذكرهما ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط هاتين الهيئتين بكلّ من طرفي الزيادة والنقيصة.

وقد يكون بحيث مع ترتّبه على المركّب التامّ يترتّب على الناقص بمراتبه ، ولو باعتبار مراتبه المختلفة ، بأن يترتّب أعلى مراتبه على التامّ وما دونه على ما ينقص منه ، وهكذا إلى أنزل مراتبه.

وقضيّة ذلك بحكم الوجدان والحكمة تعلّق الغرض بإطلاق اللفظ على كلّ ما يترتّب عليه الأثر في أيّ مرتبة فيوضع اللفظ حينئذ على هذا الوجه ، بأن يلاحظ من الأجزاء أقلّ ما يتقوّم به الصورة النوعيّة ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط ما عليها من الهيئة الاجتماعيّة في طرف النقيصة ولا بشرطها في طرف الزيادة ، ليسري ذلك الوضع إلى الزائد بجميع مراتبها الّتي منها المركّب التامّ الّذي هو أعلى المراتب.

وظاهر أنّ ماهيّات العبادات من قبيل القسم الثاني ، كما يعترف به المستدلّ مصرّحا بكون الناقص ممّا يترتّب عليه ما يترتّب على التامّ ، ويوجد فيه الخاصيّة بدون الجزء المفقود أيضا ، واعتذر عن وجه إطلاق اللفظ عليه على وجه الحقيقة بأنّه في نظر العرف صار عين الموضوع له حقيقة ، بحيث لا التفات لهم في إطلاق اللفظ عليه إلى التسامح.

وهذا كما ترى ممّا يناقض مفاد الدليل ، فإنّ هذا الناقص بالقياس إلى من وظيفته المركّب التامّ ليس إلاّ فاسدا ، ولو لا الإطلاق الحقيقي عليه من أثر أصل

٣٧٣

الوضع الطارئ للتامّ ـ على الوجه الّذي قرّرناه ـ فكيف يعقل عدم التسامح في الإطلاق عليه ، إلاّ بالتزام تجدّد الوضع من العرف ودونه في نظر العرف والاعتبار خرط القتاد.

بل نقول : إنّ مراجعة الوجدان وتتبّع حال العرف يقضي بأنّ الإطلاق على كلّ ناقص ما دام مشتملا على الصورة النوعيّة ليس إلاّ على حدّ الإطلاق على التامّ ، فإنّ كلاّ منهما في نظر العرف والاعتبار يعدّ من أثر وضع واحد ، والمسامحة المدّعاة في طيّ الاستدلال لا نجد لها في نظر العرف عينا ولا أثرا.

فالقول بأنّا نجد من أنفسنا أنّ العلاقة المصحّحة لاستعمال اللفظ في الناقص هو التنزيل والمسامحة دون سائر الروابط والعلائق المسوّغة للتجوّز ، وهذه هي الطريقة المألوفة في استعمال الألفاظ الموضوعة للمقادير والأوزان في مرتبة خاصّة فيما هو زائد عليها أو ناقص عنها بضرب من التنزيل والمسامحة ، مكابرة للوجدان أو مجازفة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وبالجملة : بعد مراجعة العرف والوجدان لا نجد إطلاق « الصلاة * على ركعتي المسافر إلاّ نحو إطلاقنا على ركعات الحاضر ، ولا إطلاقها على صلاة ناسي الفاتحة إلاّ نحو إطلاقها على قارئها وهكذا.

ثمّ لا نجد فرقا بين تاركها نسيانا وتاركها عمدا كما في المأموم ، بل التارك عصيانا.

نعم ربّما يسلب عنها الاسم لكشف الترك العمدي عصيانا عن عدم كونه ناويا من حين الدخول لعنوان الصلاة ، فإنّ قصد العنوان في كلّ فعل اختياري معتبر في الصدق ، كما لا يخفى.

ومنها : إنّه لا ريب في أنّ في الشرع ماهيّات مخترعة مطلوبة ، هي ذوات أجزاء وشروط ، قد تصدّى الشارع لبيانها ببيان أجزائها وشرائطها وأحكامها ، وحثّ في المواظبة عليها.

وظاهر إنّ هذه ليست إلاّ العبادات الصحيحة ، وحيث كان أسهل طرق التفهيم والتفاهم بتأدية الألفاظ ، مست الحاجة إلى نصب ألفاظ على تلك الماهيّات.

٣٧٤

إمّا بالوضع ، فقضيّة الحكمة والعادة حينئذ أن يكون الوضع بإزاء تلك الماهيّات المطلوبة لا الأعمّ منها ، لئلاّ يختلّ فهم المراد في الموارد الّتي هي أهمّ موارد استعمالاتها ، مع ما فيه من الاقتصار على قدر الحاجة.

وإمّا بالتجوّز ، فلا يكون المستعمل فيه في أكثر الموارد ـ كموارد الأمر والبيان في ذكر الشرائط والأحكام ونحو ذلك ـ إلاّ تلك الماهيّات المطلوبة لا الأعمّ منها ، لعدم تعلّق الطلب حقيقة إلاّ بها ، وعدم تعلّق القصد ببيان غيرها ، وعدم كون الشرائط والأحكام ثابتة لغيرها ، وظاهر إنّ هذه الموارد هي معظم موارد استعمال هذه الألفاظ حتّى إنّه يندر استعمالها في غيرها ، فتصير تلك الألفاظ حقائق في تلك الماهيّات بالغلبة وهو المطلوب.

وجوابه : يظهر بالتأمّل فيما مرّ ، وتوضيحه : أنّ المستدلّ إمّا أن يعترف باختلاف وظائف المكلّفين بالزيادة والنقصان ، وتبادل الأجزاء بعضها ببعض ، بسبب اختلاف أحوالهم ، أو لا.

والثاني ممّا لا يستحقّ الجواب ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يعترف بكون وظيفة كلّ مكلّف صحيحة بالقياس إليه وفاسدة بالقياس إلى غيره ، أو لا.

والثاني أيضا ممّا لا يستحقّ الجواب ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يعترف بشمول الوضع الشرعي أو الاستعمال المجازي المتأدّي إلى الوضع بالغلبة لوظيفة كلّ مكلّف ، أو لا.

والثاني : ما مرّ جوابه ، مضافا إلى ما يأتي عند الاحتجاج للقول بالأعمّ ، والاعتراف بالأوّل اعتراف بالأعمّ ، إذ لا يعني من الوضع للأعمّ ـ بمعنى القدر المشترك بين الزائد والناقص والصحيح والفاسد ـ إلاّ هذا ، وتصويره ما تقدّم من اعتبار الوضع بحيث يسري إلى كلّ زائد وناقص ، والمفروض أنّ كلاّ منهما حال كونه صحيحا بالإضافة إلى مكلّف فاسد بالإضافة إلى مكلّف آخر ، حتّى أنّ المركّب التامّ صحّته إنّما هي بالإضافة إلى الحاضر وهو بعينه بالإضافة إلى المسافر فاسد ، وكيف يعقل اختلاف حاله في شمول الوضع له على الأوّل وعدم

٣٧٥

شموله له على الثاني ، إلاّ إذا اخذ الأمر والمطلوبيّة معه في لحاظ الوضع ، ويلزم منه إمّا تقدّم الشيء على نفسه ، أو التزام التجريد في الخطابات المعطيّة للمطلوبيّة. وهذا كما ترى.

فعلم بما ذكر أنّ ثبوت الماهيّات المخترعة المطلوبة الّتي هي ذوات أجزاء وشرائط ، وتصدّى الشارع لبيانها ببيان أجزائها وشرائطها وأحكامها لا ينافي الوضع للأعمّ ، بل هو بملاحظة ما ذكر من أنّ هذه الماهيّات بحسب الشرع يطرئها زيادة ونقص في الأجزاء أو الشرائط ، وتبادل فيهما بالقياس إلى المكلّفين المختلفين بحسب أحوالهم يؤكّده.

فدعوى : إنّ هذه ليست إلاّ العبادات الصحيحة ليست إلاّ مجازفة أو غفلة عن حقيقة الحال ، فإنّ هذه العبادات إنّما تكون صحيحة باعتبار إضافة ، وهي باعتبار إضافة اخرى بأعيانها فاسدة.

وأمّا سائر فقرات الدليل فليست إلاّ ترجيحات عقليّة ومصادرات واضحة ، فلا يلتفت إليها.

ومنها : أنّ جميع العبادات مطلوبة للشارع متعلّقة لأمره ولا شيء من الفاسدة كذلك ، فلا شيء من الفاسدة بعبادة.

أمّا الصغري فلأمرين ، الأوّل : إطلاق الأوامر المتعلّقة بها وذلك ظاهر ، الثاني : إنّ العبادة ليست إلاّ ما رجّح فعله على تركه ، وظاهر أنّ الرجحان إنّما يتحقّق بعد تعلّق أمر الشارع وطلبه بها ، فلا بدّ في كونها عبادات من كونها متعلّقة لطلب الشارع وأمره ، وهو المقصود من الصغرى.

وأمّا الكبرى : فظاهر ضرورة أنّ أوامر الشارع لا تتعلّق بالفاسدة ، وإلاّ لخرجت عن كونها فاسدة.

وفيه : ما لا يخفى من الخلط بين مقام الطلب ومقام التسمية ، والمسمّى عند الأعمّي ـ على ما عرفت سابقا ـ أعمّ من المطلوب ، وإنّما يصير عبادة بعد ما تعلّق به الأمر إمّا مطلقا إن فسّرناها بما كان مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به ،

٣٧٦

أو الأمر المتوقّف امتثاله على النيّة إن فسّرناها بما كان صحّته متوقّفة على النيّة ، ولا ينافيه إطلاق العبادة عليه بقول مطلق في قولهم : « ألفاظ العبادات أسام للأعمّ أو للصحيحة منها » لأنّ المراد به ما كان العبادة في نوعه وهو لا يقضي بعباديّة كلّ فرد منه ، ومنه يعلم توجيه الرجحان المعتبر في العبادة ، فإنّه بالقياس إلى كلّ مكلّف معتبر في نوع المسمّى ، ولذا يكون كلّ فرد منه راجحا بالقياس إلى مكلّف غير راجح بالقياس إلى غيره ، وعليه فيتطرّق المنع إلى الكلّية المدّعاة في الصغرى إن اريد بالعبادات مسمّيات الألفاظ المتنازع فيها بقول مطلق ، حيث لا قاضي بها من عقل ولا شرع.

والتعليل بما ذكر من الوجهين عليل جدّا ، أمّا إطلاق الأمر فليس له مفهوم محصّل ، إلاّ أن يوجّه بأنّ خروج الفاسدة على قول الصحيحي عن الأمر خروج موضوعي ، لعدم دخولها في المسمّى بالفرض.

وعلى قول الأعمّي خروج حكمي منوط بالتقييد المنافي للإطلاق ، ومرجعه إلى التمسّك لإثبات الصحيحة بالإطلاق ، إذ على الأعمّ يلزم التقييد في مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١).

ومن المقرّر عندهم أنّ الإطلاق في نحو المقام محكّم.

وفيه : أنّ الإطلاق مع جهالة حال اللفظ لتردّده بين ملزوم الإطلاق وملزوم التقييد غير معقول.

وملخّصه : أنّ أصل الإطلاق كأصالة الحقيقة لا يصلح أمارة للوضع ، وإلاّ لزم الدور.

ألا ترى أنّه لا يمكن إثبات كون « الصعيد » لخصوص التراب ، بعد ما قام الدليل على عدم جواز التيمّم على الحجر ، تمسّكا بإطلاق قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً )(٢).

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

(٢) النساء : ٤٣.

٣٧٧

ومع الغضّ عن ذلك ـ بالبناء على تصحيح هذا الإطلاق المتوهّم ـ فالأمر في خروج الفاسدة يدور بين التقييد والمجاز ، والأوّل على ما قرّر في محلّه أولى فتأمّل.

وأمّا الرجحان فلأنّ اعتباره في العبادة مسلّم ، ولكنّه على ما عرفت لا يجدي.

ومنها : أنّها لو كانت تلك الألفاظ أسامي للصحيحة كان لها وجه ضبط في المعنى الموضوع له ، كالصحيحة أو المبرئة للذمّة أو المطلوبة للشرع أو نحو ذلك.

وأمّا إذا كانت موضوعة للأعمّ لم يكن لها وجه ضبط بحيث يمكن تعقّله حتّى يصحّ أن تكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها.

ولا يمكن القول بأنّها موضوعة لجملة من تلك الأفعال ، لعدم صدقها عندهم على كلّ جملة منها ، ولا يصحّ أخذها على وجه يعتبر فيه الصدق عرفا ، للزوم الدور فإنّ الصدق عرفا يتوقّف على الوضع ، فلو توقّف الوضع عليه كان دورا.

وفيه : أنّ المسمّى على القول بالصحيحة أولى بعدم الانضباط ، بعد ملاحظة أنّ المأخوذ في الوضع لا يمكن أن يكون مفاهيم هذه المذكورات ، إذ مصداق الصحيحة والمبرأ والمطلوب يختلف على حسب اختلاف الموضوعات ، حسبما قرّرناه غير مرّة.

ولا جامع لها إلاّ عدّة من الأجزاء اخذت في الوضع لا بشرط الهيئة الإجتماعيّة الطارئة لها باعتبار طرف الزيادة.

غاية الأمر ، عدم إمكان تحديد هذه الأجزاء وتعيينها إلاّ ببيان الواضع الشارع ، وهو لا يوجب نقضا بالقاعدة الّتي يساعد عليها العرف والاعتبار ، فوجود وجه الضبط على القول بالأعمّ أظهر وأبين.

ومنها : ظواهر جملة من الآيات والأخبار الواردة في مقام خواصّ العبادات وآثارها ، كقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ )(١) وقوله

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٣٧٨

( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً )(١) وقوله عليه‌السلام : « الصلاة عمود الدين » و « الصلاة قربان كلّ تقيّ » و « الصوم جنّة من النار » و « الصوم لي وأنا أجزي به » فإنّ حمل تلك المحمولات على المعرّف باللام ظاهر جدّا في اتّصاف الطبيعة المقرّرة من الشارع المحدثة منه بها ، فهي بحكم عكس النقيض تدلّ على أنّ ما ليس فيه هذه الصفات ليس بصلاة.

وفيه : إنّه لا يرجع إلى محصّل إلاّ تحكيم الإطلاق ، وهو مع فرض الإجمال المسبّب عن جهالة المسمّى المردّد في النظر بين ما هو ملزوم هذا الإطلاق وما هو ملزوم خلافه ، غير معقول.

وعليه فلا يثبت الإطلاق إلاّ على تقدير ثبوت الوضع للصحيحة ، فلو ثبت ذلك بالإطلاق لزم الدور.

ومنها : إنّ العبادات كلّها امور توقيفيّة لا تعرف إلاّ من قبل الشارع اتّفاقا ، فلو كانت ألفاظها أسامي للأعمّ لما كانت كذلك ، لكون المرجع فيها حينئذ إلى العرف دون الشرع.

وفيه : منع الملازمة ، فإنّ العرف إنّما يرجع إليه لمجرّد استعلام كون وضع الاسم للأعمّ وهو القدر المشترك بين الزائد والناقص والأجزاء المتبادلة ، وهذا لا ينافي مرجعيّة الشرع لاستعلام الزوائد وكمّيّتها وما يقبل التبادل وما لا يقبل ، إذ ليس المراد بالزائد والبدل ما يختاره المكلّف اقتراحا واختراعا من قبل نفسه ، بل ما اعتبر الزيادة والبدليّة له الشرع ، ولا يعلم ذلك إلاّ بمراجعة الشرع ، كما يوضح ذلك ما قرّرنا عند تحقيق الثمرة من أنّ القول بالأعمّ يلزمه الإجمال المرادي.

ولا ريب أنّ المراد لا يحرز إلاّ بمراجعة الأدلّة ، ومع عدم وفائها وبقاء الشبهة لا مناص من مراجعة الأصل المتقدّم ثمّة ، وهذا كلّه من جهة أنّ العرف لا مدخل له في إفادة مرادات الشارع على ما ينبغي في ألفاظ العبادات.

__________________

(١) النساء : ١٠٣.

٣٧٩

ومنها : وجوه اخر واضحة الضعف ، مثل : انّها لو كانت أسامي للصحيحة لم يلحقها تقييد بخلاف ما لو كانت للأعمّ للزومها تقييدات كثيرة غاية الكثرة ، وظاهر انّ الواحد منها خلاف الأصل فضلا عن الكثير.

وإنّ الفقهاء يفسّرون هذه الماهيّات بألفاظ مجملة ، كقولهم : « الصلاة اسم للأركان المخصوصة ، والصوم لإمساك مخصوص ، والزكاة لإخراج مال مخصوص ، والحجّ لمناسك مخصوصة مؤدّاة في مشاعر مخصوصة » فإنّ ذلك يقضي بكونها عندهم مجملة ، وهو من لوازم الصحيحة إذ لا إجمال على غيرها ، وإنّ تقسيماتهم الماهيّات إلى الواجب والمندوب ، في قولهم : « الوضوء إمّا واجب أو مندوب مثلا » ظاهرة في انحصارها فيهما ، وإنّه ليس لها قسم سواهما وإلاّ أدرجوه في التقسيم.

ولا ريب أنّ الفاسد ليس بواجب ولا مندوب فيكون خارجا عن المقسم ، وإنّهم اتّفقوا على أنّ الفاتحة والركوع والسجود ونحوها من أجزاء الصلاة ، وانّ الطهارة والاستقبال وسترة العورة من شرائطها ، وظاهر أنّ الجزء والشرط ما ينتفي بانتفائه الكلّ والمشروط ، فدعوى إنّ هذه الامور ليست من الأجزاء والشرائط تخالف الإجماع ، كما أنّ القول بأنّ الكلّ والمشروط لا ينتفيان بانتفاء الجزء والشرط ينافي الضرورة والوجدان.

نعم رجوعهما إلى المطلوب دون الماهيّة وإن كان ممكنا ، غير أنّه ممّا يكذّبه ظهور كلامهم في رجوعهما إلى الماهيّة.

وقد يقرّر وجه الظهور : بأنّ قولهم : « يجب في الوضوء أو في الصلاة كذا وكذا ، وتشترط فيهما كذا وكذا » يعطي الدخول في الماهيّة كظهور لفظة « في » في الظرفيّة ، فإنّ معنى كون الشيء في الشيء دخوله فيه ، وإنّ هذه الألفاظ قد كثر استعمالها في الصحيحة الجامعة للأجزاء والشرائط سيّما في حيّز الطلب.

ومن البعيد عدم بلوغها مع تلك الكثرة حدّ الحقيقة ، وضعف هذه الوجوه يظهر بالتأمّل في كلماتنا السابقة.

٣٨٠