تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

ـ تعليقة ـ

بقي من مسائل الدوران عدّة مسائل ، عمدتها مسألتان :

المسألة الاولى

في تعارض العرف واللغة

ففي تقديم العرف لقاعدة الإلحاق المقرّرة تارة : بأنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني العرفيّة فيلحق به المشتبه.

واخرى : بأنّ الغالب في المعاني العرفيّة العامّة ثبوتها من قديم الأيّام فيلحق به المشتبه ، كما عن الشيخ والعّلامة والشهيدين والبيضاوي ، وربّما عزى إلى الشهرة ، أو تقديم اللغة كما عن بعضهم لأصالة عدم النقل ، أو الوقف لتكافؤ الاحتمالين مع فقد ما يصلح مرجّحا لأحدهما ، وجوه بل أقوال.

وقبل الخوض في البحث ينبغي أن يعلم : أنّ السرّ في وقوع التعارض بين العرف واللغة ، هو إنّه قد علم في مباحث أصالة الحقيقة إنّ الأصل في اللفظ الّذي تميّز حقيقته عن مجازه ، ولم يعلم المراد منه وتجرّد عن قرينة المجاز ، أن يحمل على حقيقته.

وقضيّة ذلك الأصل حمل اللفظ الوارد في خطاب الشرع الحاوي للشروط المذكورة على معناه الحقيقي ، وقد يشتبه مورد ذلك الأصل باعتبار كون اللفظ الوارد في الخطاب ممّا ثبت له في اللغة معنى وفي العرف معنى آخر ، فاشتبه

٢٢١

حقيقة زمان الشارع هل هو المعنى اللغوي ليحمل عليه اللفظ المذكور بمقتضى أصالة الحقيقة ، أو هو المعنى العرفي ليحمل عليه بمقتضى أصالة الحقيقة أيضا ، فالمقصود من الترجيح من جهة أصل أو قاعدة تشخيص حقيقة زمان الشارع ، ليعمل فيه بأصالة الحقيقة.

ثمّ إنّ اللغة في كلام الاصوليّين قد تطلق على المعاني المثبتة من الواضع مهجورة كانت أو باقية ، وقد تطلق على المعاني المودّعة في كتب اللغة أصليّة كانت أو متجدّدة ، وبذلك يعلم أنّ النسبة بينهما عموم من وجه يجتمعان في الأصليّة المودّعة في كتب اللغة ، وفي كون المراد باللغة المقابلة للعرف في محلّ البحث هو المعنى الأوّل أو المعنى الثاني أو ما يعمّهما وجوه ، لم نقف في كلماتهم على ما يرشد إلى أحدها على التعيين ، وإن كان التمسّك لتقديم اللغة بأصالة عدم النقل ربّما يومئ بظاهره إلى إرادة الأوّل ، فاللازم حينئذ في مقام الترجيح فرض التعارض تارة بين العرف واللغة بالمعنى الأوّل ، واخرى بينه وبين اللغة بالمعنى الثاني.

لكن على الأوّل ينبغي القطع بخروج المهجورة من اللغة قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب ، والباقية منها إلى ما بعد زمان الشرع أو ما بعد صدور الخطاب عن موضوع المسألة ، لأنّه يتبيّن بحكم الفرض عدم كونه في الصورتين الاوليين حقيقة زمان الشارع ، كتبيّن كونه في الصورتين الاخريين حقيقة زمان الشارع ، فلا اشتباه في الفرضين معا.

كما أنّه على الثاني ينبغي القطع بخروج الثابتة من اللغة قبل زمان الشارع أو قبل صدور الخطاب ، والمتجدّدة منها بعد زمان الشارع أو بعد صدور الخطاب عن المتنازع فيه ، لتبيّن كون الأوّلين من حقيقة زمان الشارع ، وعدم ، كون الأخيرين منها ، فموضوع المسألة من كلّ من المعنيين ما شكّ في وجوده في زمان الشارع ، على معنى الشكّ في كون حقيقة زمان الشارع هو هذا أو غيره من المعنى العرفي.

وأمّا العرف ، فالمراد به هاهنا المعاني الموجودة في العرف العامّ المتداولة

٢٢٢

في استعمالات أهل اللسان ، أصليّة كانت أو ثابتة من قديم الأيّام أو قبل الشرع ، أو قبل صدور الخطاب أو متجدّدة بعد الخطاب أو بعد الشرع ، وموضوع المسألة من ذلك ما كان من المتجدّدة وشكّ في بدو زمان تجدّده ، هل تجدّد قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب أو بعدهما.

وربّما يشكل الحال في فرض التعارض بينه وبين اللغة بالمعنى الثاني ، باعتبار اتّحاد جهة الشكّ فيهما ، فإنّ الجهة المقتضية للشكّ فيها أيضا هي أنّ المعنى اللغوي المذكور في كتب اللغة هل هو من المعاني الأصليّة أو من المتجدّدة ، تجدّد قبل الشرع أو قبل صدور الخطاب أو بعدهما.

ويدفعه : بعد منع اتّحاد جهة الشكّ فيهما مطلقا ، لقيام احتمال كون المعنى من المعاني الأصليّة في اللغة دون العرف ، إنّ مرجع التعارض بينهما إلى تعارض العرفين ، العرف القريب من زمان الشارع والبعيد منه ، لكون ما في كتب اللغة من العرف القريب ، فإنّها إنّما دوّنت بعد زمن الشارع في عصر الصادقين عليهما‌السلام إلى عهد العسكري سلام الله عليه.

والسّر في التعارض إنّه لا يدرى أنّ حقيقة زمان الشارع هل هو المعنى اللغوي أو العرفي المتأخّر.

ومن هنا ربّما يمكن فرض وقوع التعارض بين العرف واللغة بالمعنى الأوّل واللغة بالمعنى الثاني ، في لفظ ثبت له معنى في صدر اللغة ومعنى آخر في كتب اللغة ومعنى ثالث في العرف ، على وجه دار حقيقة زمان الشارع بين هذه الثلاث.

ومن الأعاظم (١) من جعل العرف في محلّ النزاع أعمّ من قسميه العامّ والخاصّ ، ولعلّ مراده بالعرف الخاصّ المعارض للّغة طائفة خاصّة من أهل اللسان غير أرباب الفنون والصناعات في مصطلحاتهم المتجدّدة بعد الشرع ، كأن

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣٧ ( الطبعة الحجريّة ) حيث قال : « ويمكن دفعه : بأنّ المراد بالعرفيّة هنا غير ما ذكروه ثمّة وهي ما يستفاد منه المعنى في العرف مطلقا وإن كان المعنى أصليّا فهي أعمّ من اللغويّة من وجه ... ».

٢٢٣

يكون لفظ ثبت له لغة معنى وعند الطائفة المذكورة من أهل اللسان معنى آخر ، بحيث احتمل كون حقيقة زمان الشارع هو الأوّل واحتمل كونها الثاني ، وإلاّ فالخطابات الشرعيّة لا تنزّل على الامور الاصطلاحيّة بالبديهة.

وإذا تمهّد هذا كلّه ، فاعلم : أنّ ما تقدّم عن أهل القول بتقديم العرف من التمسّك بالغلبة ، واضح الضعف بكلّ من تقريريها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّه كما أنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني العرفيّة ، كذلك الغالب في المعاني العرفيّة كونها المعاني اللغويّة الأصليّة.

ونتيجة الغلبتين أنّ الغالب في خطابات الشرع كونها منزّلة على المعاني اللغويّة ، فنحو هذه الغلبة لا ينتج تقديم العرف ، إلاّ أن يراد بالغلبة ما هو كذلك في محلّ التعارض فتسلم عن هذه المناقشة ، إلاّ أنّه يتطرّق المنع إلى دعوى أصل هذه الغلبة.

وأمّا على التقرير الثاني : فلأنّ نحو هذه الغلبة موجودة في اللغة بكلّ من معنييها ، إذ كما أنّ الغالب في المعاني العرفيّة ثبوتها قبل الشرع ، كذلك الغالب في المعاني الأصليّة بقاؤها إلى زمان الشارع وما بعده ، والغالب في المعاني المودّعة في كتب اللغة ثبوتها قبل الشرع ، فالغلبة في كلّ معارضة بمثلها في الآخر.

ويمكن المناقشة في الحجّة المتقدّمة للقول بتقديم اللغة ـ وهي أصالة عدم النقل أيضا ـ بأنّه إن اريد بها إثبات عدم النقل المطلق الّذي مرجعه إلى نفي حدوث النقل رأسا.

ففيه : إنّه بالنسبة إلى اللغة بالمعنى الأوّل منتقض بيقين حدوث النقل لا محالة ، فإنّ مخالفة العرف للّغة لا جهة لها إلاّ نقل اللفظ في العرف عن معناه اللغوي إلى المعنى العرفي ، وبعد تيقّن حدوث النقل لا يمكن نفيه بالأصل.

نعم إنّما الشكّ في بدو حدوثه ، وهو ليس من مجرى أصالة عدم النقل بالمعنى المذكور.

٢٢٤

وإن اريد بها إثبات عدم النقل المقيّد ، وهو المغيّي إلى غاية العلم بحدوثه وهو ما بعد زمان الشرع.

ففيه : إنّه بهذا المعنى لا يجري في اللغة بالمعنى الثاني ، لأنّ كون اللفظ للمعنى اللغوي المذكور في كتب اللغة في صدر اللغة غير ثابت ، حتّى يحكم به من جهة الأصل إلى ما بعد زمان الشارع الّذي هو زمان حصول اليقين بحدوث النقل ، وتخصيص محلّ البحث باللغة بالمعنى الأوّل بعيد ، إلاّ أن يوجّه الأصل المذكور بأنّ المقصود من التمسّك به نفي حدوث صفة النقل في هذا اللفظ مع قطع النظر عن كونه في صدر اللغة لهذا المعنى وعدمه.

بتقريب : أنّ اللفظ كان له في صدر اللغة معنى لا محالة ، وإنّه ممّا لم يعرضه النقل في صدر اللغة جزما ، وإنّ كونه للمعنى العرفي إنّما هو من جهة النقل لا محالة ، وهذا النقل الحادث فيه جزما يشكّ في بدو زمان حدوثه ، فيحكم من جهة الأصل بعدم حدوثه ـ المتيقّن في صدر اللغة ـ حتّى ينتهي إلى زمان العلم بحدوثه ، وهو ما بعد زمان أهل اللغة المدوّنين لكتبها.

وقضيّة ذلك كون حقيقة اللفظ من صدر اللغة إلى زمان الشارع وما بعده إلى زمان أهل اللغة هو هذا المعنى المودّع في كتبهم ، وإنّما نقل عنه بعد زمانهم إلى المعنى العرفي ، فالأصل المذكور بعد هذا التوجيه يتساوى نسبة جريانه إلى اللغة بالمعنيين ، ويعضده بالقياس إليها بالمعنى الثاني أصالة عدم تعدّد النقل ، الّذي كان يلزم على تقدير تقديم العرف المقتضي لكون حقيقة زمان الشارع هو المعنى العرفي ، لأنّه يستلزم حينئذ نقل اللفظ تارة بعد زمان الشارع عن هذا المعنى إلى ما كان حقيقة فيه في زمان أئمّة اللغة.

واخرى بعد زمانهم إلى المعنى العرفي الّذي كان حقيقة فيه في زمان الشارع ، والمتيقّن حدوثه إنّما هو نقل واحد والزائد مشكوك فيه ، فيدفع بالأصل.

وهذا أيضا كأصالة عدم النقل بالمعنى المتقدّم ممّا يرجّح تقديم اللغة بالمعنى الثاني ، كما أنّ أصالة عدم النقل بانفرادها ترجّح تقديم اللغة بالمعنى الأوّل.

٢٢٥

فبجميع ما قرّرناه يعلم أنّ القول بتقديم اللغة مطلقا قويّ ، لقوّة دليله وهو الأصل ، بل الأصلان بالنسبة إلى اللغة بالمعنى الثاني ، ويؤيّدهما امور اخر :

منها : الاعتبار القاضي بأولويّة حمل كلام الشارع على العرف الأقرب إلى زمانه من حمله على العرف الأبعد من زمانه ، ووجه الأولويّة : كون احتمال مخالفة عرف زمان الشارع لعرف أهل اللغة أضعف من احتمال مخالفته للعرف المتأخّر كما هو واضح.

ومنها : كون المعاني المودّعة في كتب اللغة لغات باقية مستمرّة من زمان الشارع إلى زمان أهل اللغة ، وأمّا المهجورة منها فيما بين الزمانين فقليلة جدّا ، وظاهر إنّ المظنّة مع الكثرة والغلبة.

ومنها : ما اشتهر من أنّ الغرض الأصلي من تدوين اللغة وجمعها وضبطها هو أن يكون الكتب المؤلّفة فيها مرجعا للعلماء في فهم الكتاب والسنّة ، وحلّ ما فيهما من الألفاظ الغريبة واللغات المشكلة ، كما يعلم من تصريحات القوم وتلويحاتهم ، ويشهد به أيضا أسامي كثير من تلك الكتب المناسبة لما ذكر « كمجمع البحرين » و « الغريبين » و « غرائب القرآن » ونحوه.

وقضيّة ذلك كون المعاني المثبتة فيها هي المعاني المفهومة منها حال صدور الخطاب ، فإنّ الغرض المذكور إنّما يتأتّى على هذا التقدير.

ومنها : ما قيل من أنّه لو كان هذا المعنى مسبوقا بوضع آخر مهجور لوجب تقديمه أيضا لكونه عرفيّا بالنظر إلى المعنى الأوّل.

وقد اعترفتم بأنّ طريقة الشارع في مخاطباته ومحاوراته هي طريقة العرف دون اللغة ، فما أسّسه المشهور من الأساس على تقديم العرف لو تمّ إنّما يقضي بتقديم ما في كتب اللغة على العرف لما تقدّم ، وإن كان بالقياس إليه لغويّا.

هذا كلّه مع ضعف مستند المشهور إذ ليس لهم إلاّ وجوه :

منها : ما تقدّم مع وجه ضعفه.

٢٢٦

ومنها : الاستقراء بتقرير آخر ذكره بعض الأعاظم (١) وهو ندرة النقل في العرف العامّ بعد الشرع ، فيلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

وفيه : مع أنّه لا يجري في مقابلة اللغة بالمعنى الثاني ، إنّه معارض بمثله لندرة ما لم يستمرّ من المعاني اللغويّة إلى زمان الشارع ، فيلحق المشكوك بالأعمّ الأغلب.

ومنها : الشهرة حسبما تقدّم من كون تقديم العرف هو المشهور ، وهي إن لم تفد العلم فلا أقلّ من إفادتها الظنّ وهو حجّة في اللغات.

وفيه : إنّ الشهرة مع فساد المستند لا تفيد الظنّ فضلا عن عدم إفادتها العلم.

ومنها : بعد مخالفة عرف الشارع لهذا العرف ، مع أنّه لم يمض بينهما إلاّ قليل من الزمان ، والمخالفة المنبئة عن النقل تحتاج إلى مضيّ زمان طويل.

وفيه : مع أنّ مخالفة عرف الشارع لعرف أئمّة اللغة أبعد ، لما عرفت من كونه أقرب العرفين إليه ، وإنّ مجرّد الاستبعاد لا ينهض حجّة على الخصم ، مع قلّة الزمان المتخلّل بين زمان الشارع والعرف العامّ.

ولو سلّم فالبعد المتوهّم يرتفع بفرض كون النقل تعيّنيّا كما هو الغالب في المنقولات ، مع سبق الاستعمالات المجازيّة البالغة حدّ الكثرة على زمان الشارع واستمرارها إلى زمانه ، حتّى بلغت بعد زمانه حدّا أوجب النقل وتعيّن اللفظ للمعنى العرفي المفروض كونه مجازيّا في زمان الشارع وما قبله.

ومنها : طريقة العرف وقاطبة أهل اللسان حيث تراهم أنّهم لا يزالون يحملون كلام الشارع على ما هو المتعارف عندهم من دون فحص عن اللغة ، وبحثهم عن مخالفة متعارفهم لما هو المثبت في الكتب ، فلو كان احتمال تقديم اللغة ممّا يعتنى به عندهم لما أهملوا في أمر الفحص ، ولما تركوه بالمرّة.

وفيه : إنّ عدم التزامهم بالفحص والبحث إنّما هو لما ارتكز في أذهانهم من

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣٧ ( الطبعة الحجريّة ).

٢٢٧

غلبة المطابقة بين العرف واللغة ، وإنّ النادر ممّا لا يلتفت إليه في محلّ الشكّ ، وهذا بمجرّده لا يقضي باستقرار طريقتهم على تقديم العرف في محلّ تبيّن المخالفة كما لا يخفى.

ودعوى استقرارها على حمل الخطاب على متعارفهم حتّى مع تبيّن المخالفة ، ممّا لم نقف على شاهد عليه كما لا يخفى ، وبجميع ما عرفت يظهر لك ضعف مستند الوقف.

المسألة الثانية

تعارض عرفي المتكلّم والمخاطب

المعبّر عنه تارة بتعارض عرفي الراوي والمرويّ عنه. واخرى بتعارض عرفي السائل والمسؤول ، كما في لفظ ثبت له معنى عند طائفة من أهل اللسان ومعنى آخر عند طائفة اخرى ، ووقع المخاطبة به بين متكلّم هو من إحدى الطائفتين ومخاطب هو من الطائفة الاخرى ، ومثّل في الكتب الاصوليّة « بالرطل » الوارد في رواية ابن أبي عمير (١) الواردة في تحديد الكرّ بألف ومائتي رطل ، باعتبار أنّ « الرطل » مقول بالاشتراك على العراقي وهو مائة وثلاثون درهما ، والمدني وهو مائة وخمسة وتسعون درهما ، مع وقوع التخاطب به في الرواية بين أبي عبد الله عليه‌السلام الّذي هو من أهل المدينة ، وابن أبي عمير الّذي هو من أهل الكوفة ، فيتعارض فيه العرفان.

وفي كون هذا التعارض باعتبار دوران اللفظ بين حقيقته ومجازه ، بتقريب : إنّ حقيقة اللفظ الّذي استعمله المتكلّم إنّما هو مصطلحه لأنّه معناه الموضوع له عنده ، بخلاف مصطلح المخاطب فإنّه خلاف المعنى الموضوع له عنده فيكون مجازا للّفظ المفروض ، كما يقتضيه احتجاج بعض القائلين بترجيح عرف المتكلّم بأنّ

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣ الطهارة ب ٢ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٤١ / ١١٣ ، الاستبصار ١ : ١٠ / ١٥ ، الوسائل ١ : ١٦٧ أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ١.

٢٢٨

الاستعمال المجرّد عن قرينة المجاز يحمل على الحقيقة لأصالة الحقيقة ، وعرف المتكلّم هو الحقيقة عنده فليحمل عليه.

أو باعتبار دورانه بين حقيقتيه ، حقيقته عند طائفة ، وحقيقته الاخرى عند طائفة اخرى.

بتقريب : إنّ الحقيقة هو الاستعمال التابع للوضع ـ كما يرشد إليه قيد الحيثيّة المأخوذة في تعريف الحقيقة ـ ولا كلام في وقوع الاستعمال المفروض تبعا لوضع ، لكنّ الوضع المتبوع مردّد بين ما ثبت للفظ في عرف المتكلّم وما ثبت له في عرف المخاطب ، فالاستعمال على أيّ تقدير وقع على وجه الحقيقة كما هو ظاهر أكثر أطراف المسألة ، وجهان أظهرهما الأخير ، لوضوح عدم كون مبنى عقد المسألة على أنّ المتكلّم هل تجوّز في استعماله أو لم يتجوّز؟

وما عرفت من الحجّة فاسد الوضع ، بل على أنّه هل تبع في استعماله عرف نفسه أو عرف مخاطبه؟ وهو نظير البحث المتقدّم في تعارض العرف واللغة باعتبار اشتباه مورد أصالة الحقيقة الّتي عوّل عليها المتكلّم في إفادة ما في ضميره ، فإنّ هذا الاشتباه قد يتأتّى باعتبار اشتباه حقيقة زمان المخاطبة كما في المسألة المتقدّمة ، وقد يتأتّى باعتبار تعدّد الحقيقة في زمان المخاطبة كما فيما نحن فيه ، فمرجع الاشتباه إلى أنّ أصالة الحقيقة الّتي عوّل عليها المتكلّم والمخاطب في تفهيم المراد وفهمه ، هل هي التابعة لعرف المتكلّم أو التابعة لعرف المخاطب؟

ومن طريق هذا البيان يعلم صحّة ما يلوح من بعض الأعاظم (١) من كون المتنازع فيه ما لو علم السائل باصطلاح المتكلّم ، مع علم المتكلّم أيضا باصطلاح السائل ، لأنّه الّذي يمكن تعويل الطرفين على ما يتردّد بين العرفين من أصالة الحقيقة.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٠ ( الطبعة الحجريّة ).

٢٢٩

وأمّا في غيره كما لو لم يعلم السامع أنّ للمتكلّم اصطلاحا آخر أو لم يعلم المتكلّم أنّ للسامع اصطلاحا آخر فلا يتصوّر التعارض بينهما ، لتعيّن حمله في الأوّل على عرف السامع حذرا عن الإغراء بالجهل.

وفي الثاني على عرف المتكلّم حذرا عن التكليف بالمحال ، لأنّ إرادة ما لا يعلمه المتكلّم من اللفظ محال.

ومرجع الكلام في الترجيح على أنّ الثابت في مجاري العادات والمحاورات عند اختلاف عرفي المتكلّم والمخاطب ، هو أن يعوّلا على أصالة الحقيقة التابعة لعرف المتكلّم مطلقا ، أو على التابعة لعرف المخاطب كذلك ، أو يختلف ذلك باختلاف الموارد أو الألفاظ أو غير ذلك ، فيه خلاف على أقوال فعن السيّد (١) ترجيح عرف المتكلّم مطلقا ، واختاره جماعة من أجلّة الأعلام.

وعن العلاّمة في المختلف (٢) ترجيح عرف المخاطب مطلقا ، وقيل بأنّ له تبعة من الأصحاب ، منهم الشهيد الثاني.

وفي كلام محكيّ عن الذخيرة (٣) الحكم بأقربيّة عرف بلد التكلّم ، إلاّ أنّه خصّه بالأوزان.

وعن جماعة منهم صاحب المدارك (٤) الوقف ، وقد يحكى أقوال اخر كتقديم عرف بلد السؤال إذا وافق عرف السائل ، وتقديمه أيضا إذا وافق عرف المسؤول وتقديمه أيضا إذا وافق عرف أحدهما.

ومن الأجلّة من قسّم المتكلّم والمخاطب بالأقسام الأربعة الآتية ثمّ قطع بتعيين عرف المتكلّم مع جهالة التعدّد مطلقا ، وكذلك تعيين عرف المخاطب مع

__________________

(١) وهو السيّد المرتضى رحمه‌الله حكى عنه في الذخيرة : ١٢٢.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ١٨٦ حيث قال ـ في بحث حدّ الكرّ ـ : إنّه لا اعتبار ببلدهم عليهم‌السلام بل ببلد السائل ...

(٣) الذخيرة : ١٢٢ حيث قال : « ... والأقرب أنّ الأوزان إنّما يحمل على بلد السؤال كما لا يخفى على من تتبّع مجاري العادات ... ».

(٤) مدارك الأحكام ١ : ٤٨.

٢٣٠

جهله وعلم المتكلّم بحقيقة الحال ، إذا كان المقام مقام البيان وكان المتكلّم حكيما ، ثمّ قال : ويبقى ما عدا ذلك محتملا لوجوه :

الأوّل : تقديم عرف المتكلّم.

الثاني : تقديم عرف المخاطب.

الثالث : تقديم عرف بلد الخطاب.

الرابع : تقديم عرف المتكلّم إذا وافق عرف بلد الخطاب ، وإلاّ فعرف المخاطب.

الخامس : تقديم عرف المخاطب إذا وافق عرف بلد الخطاب ، وإلاّ فعرف المتكلّم.

السادس : تقديم العرف الموافق لاصطلاح البلد ، سواء كان عرف المتكلّم أو المخاطب.

السابع : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المتكلّم والمخاطب جميعا.

الثامن : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المتكلّم.

التاسع : تقديم عرف البلد إلاّ إذا خالف عرف المخاطب.

العاشر : التوقّف في جميع ذلك ، ثمّ قال : والأقرب تقديم عرف المتكلّم مطلقا سيّما إذا وافق عرف بلد الخطاب. هذا.

وتحقيق المقام على وجه يتضمّن استيفاء جميع الصور الداخلة في المتنازع فيه ، والصور الخارجة عنه وبيان أحكامها ، أن يقال : إنّ المتكلّم والمخاطب إمّا أن يكونا عالمين بتعدّد العرف ، على معنى كون كلّ عالما باصطلاح صاحبه ، أو جاهلين ، أو المتكلّم عالما والمخاطب جاهلا ، أو بالعكس.

ففي صورة جهلهما معا يتعيّن عرف المتكلّم ، تحمل الخطاب عليه بل لا تعارض في تلك الصورة أصلا ، وإن كان ما فهمه المخاطب غير ذلك ، إذ ليس في قانون اللغة ولا طريقة العرف والعقلاء أن يلزم المتكلّم على إرادة ما لا يعلمه من كلامه لكونها محالا ، فلو فرض وقوع نحو هذه الصورة في خطابات الشرع من

٢٣١

باب فرض المحال ، وجب القطع بتنزيل الخطاب على مصطلح المتكلّم ، ولا يلتفت فيه إلى فهم المخاطب.

ولا ينافيه ما ذكروه من أنّ الواجب على غير الحاضرين المشافهين في إحراز تكاليفهم وموضوعاتها الرجوع إلى فهمهم وتحصيل ما فهموه من الخطابات ، لأنّ اعتبار فهم المخاطب لغيره ليس من باب الموضوعيّة بل إنّما اعتبر على وجه الطريقيّة ، باعتبار أنّه الطريق إلى العلم بمرادات الشارع من خطاباته ، إمّا لأنّه لا طريق إليه في الغالب إلاّ هذا ، أو لما علم من سيرة الشارع وامنائه عليهم‌السلام أنّهم كانوا يتكلّمون الناس بما يعقلونه ويفهمونه ، كما يشير إليه ما روي من : « أنّ الله سبحانه أجلّ من أن يخاطب قوما بخاطب ويريد منهم خلاف ما هو بلسانهم وما يفهمونه » ففهم المخاطب إنّما يؤخذ به على أنّه مراد الشارع من خطابه لا على أنّه فهمه من حيث هو فهمه ، فإذا حصل لنا في بعض الموارد طريق آخر إلى إحراز المراد سقط اعتبار فهم المخاطب ولا حاجة إلى مراعاته.

وبما ذكرناه ظهر حكم ما لو جهل المتكلّم بعرف المخاطب مع علمه بعرف المتكلّم ، فإنّ المتعيّن أيضا عرف المتكلّم لعين ما بيّنّاه ، من غير فرق فيه بين ما لو علم المخاطب بحالة المتكلّم أو جهل بها. إمّا لعدم التفاته أو شكّه أو اعتقاده بالخلاف.

وفي صورة علم المتكلّم بعرف المخاطب مع جهل المخاطب بعرف المتكلّم ، فإن كان مع علمه بعرف المخاطب عالما بحاله وجهله بعرفه ، وجب تقديم عرف المخاطب ، والحكم بأنّ المتكلّم إنّما اتّبع في نحو هذه الصورة عرف المخاطب وأراد من اللفظ مصطلحه لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل القبيح على الحكيم.

لا يقال : إنّ الحكم بلزوم الإغراء بالجهل لولا اتّباع عرف المخاطب هنا إنّما يصحّ لو ثبت أنّ المخاطبة إنّما وقعت في مقام البيان ، وإنّ تكليف المخاطب واقعا وظاهرا إنّما هو مقتضى عرفه ، ويتطرّق المنع إلى كلتا المقدّمتين ، لجواز وقوع المخاطبة في مقام التعمية والإجمال ، أو كون تكليف المخاطب ظاهرا هو مقتضى عرف المتكلّم ، وإنّما أخفى عليه تكليفه الواقعي ـ وهو مقتضى عرفه ـ لمصلحة

٢٣٢

ولو نحو التقيّة ، لاندفاع كلّ من الاحتمالين المذكورين في منع المقدّمتين بالأصل والظهور.

أمّا دفع الاحتمال الأوّل : فلأنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم وروده في مقام البيان ، لغلبة البيان في خطابات المتكلّمين جنسا ونوعا وصنفا ، حسبما قرّر في محلّه.

ومن الظاهر إنّ المشتبه يلحق بالغالب ، هذا مضافا إلى ظهور السؤال في كلّ خطاب سبقه السؤال في وقوعه في مقام الحاجة المساوق لمقام البيان.

وأمّا دفع الاحتمال الثاني ، فأوّلا : بأنّ الأصل في كلّ كلام كون مضمونه تكليف المخاطب ظاهرا وواقعا ، على معنى ظهوره فيه ، فلا يعدل عنه لمجرّد الاحتمال المرجوح.

وثانيا : بأنّ هذا الاحتمال ممّا لا يتمشّى في نحو المقام ، إذ الإغراء بالجهل كما يقبح على الحكيم في مقام بيان الحكم الواقعي ، فكذلك يقبح في مقام بيان الحكم الظاهري.

ولا ريب أنّ إفادة الحكم الظاهري للمخاطب بما لا طريق له إلى معرفته ـ كما هو قضيّة جهله في مفروض المقام بعرف المتكلّم ـ إغراء بالجهل ، وهو قبيح كقبح الإغراء بالجهل اللازم في مقام بيان الحكم الواقعي.

نعم لو فرض كون الحكم الواقعي للمخاطب هو مقتضى عرف المتكلّم ، وأخفى على المخاطب بسبب تقريره على جهله ، مع كون حكمه الظاهري هو مقتضى عرفه سلم عن اتّباع المتكلّم عرف نفسه حزازة الإغراء بالجهل ، لكنّه أيضا مع كون هذا الغرض يتأتّى على تقدير اتّباعه مصطلح المخاطب أيضا ، يندفع بالأصل المتقدّم.

فإن قلت : نفي الاحتمالين بالأصل والظهور لا ينافي قيامهما ، ولزوم الإغراء بالجهل حكم عقلي وهو مع قيام احتمال ما ينافيه ممتنع.

قلت : الاحتمال المنافي إنّما يمنع عن حكم العقل إذا كان قائما في قضيّة هذا الحكم لا مطلقا.

٢٣٣

وقضيّة حكم العقل هنا كبرويّة ، والاحتمال المذكور قائم في صغرى هذه القضيّة ولا يمنع عن حكم العقل فيها ، لأنّ القضايا العقليّة إذا كانت كبرويّة إنّما تصدر من العقل على تقدير تحقّق الصغرى.

فغاية ما هنالك إنّ صغرى الإغراء بالجهل تحرز بالظنّ والظهور ، وظاهر إنّ ظنّية الصغرى لا توجب ظنّية الكبرى.

نعم إنّما توجب ظنّية النتيجة ، وهو لا يقدح في ترجيح عرف المخاطب ، لأنّ مرجع البحث في الترجيح في نظائر المسألة إلى إحراز دلالة الخطاب ، ولا خفاء أنّ دلالات الخطاب تحرز في الغالب بالظنون والظواهر.

ولا ينافيه ما تقدّم من أصالة عدم حجّية الظنّ في اللغات ، لأنّه إنّما هو في تشخيص الظواهر وإثبات الأوضاع لا في إحراز الدلالات وتشخيص المرادات ، فإنّ الطريق الغالب في ذلك إنّما هو الظنون والظواهر.

وإن كان مع علمه بعرف المخاطب شاكّا في حاله ، فقضيّة لزوم التخلّص عن الإغراء بالجهل أيضا هو ترجيح عرف المخاطب ، والحكم على المتكلّم باتّباعه مصطلح مخاطبه.

فإنّ قضيّة ذلك إذا كان الحكيم في مقام البيان أن يؤدّى المطلب بما يوجب حصول البيان على وجه يطمئنّ بحصوله ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا أراد مصطلح المخاطب ، لأنّه المعهود لديه الحاضر في ذهنه ، أو بأن ينبّهه على اتّباعه لمصطلح نفسه ، وحيث سكت عن التنبيه كشف عن اتّباعه لمصطلح مخاطبه ، لأنّه المحصّل للبيان على الوجه المذكور.

وإن كان غير ملتفت إلى حاله أو معتقدا لخلاف حاله فهما في الحكم يلحقان بما بقى من الصور الأربع ، وهو ما لو كان كلّ من المتكلّم والمخاطب عارفا باصطلاح صاحبه.

وهذه الصورة باعتبار علم كلّ منهما بحال الآخر أو جهله بحاله ـ إمّا بمعنى عدم التفاته أو شكّه أو اعتقاده بالخلاف ـ تنحلّ إلى صور كثيرة ، ينبغي أن يخرج منها ما لو اعتقد المتكلّم جهل المخاطب بعرفه أو شكّ في جهله ومعرفته ، لتعيّن

٢٣٤

تقديم عرف المخاطب فيهما ، والحكم على المتكلّم بالجري على مصطلح مخاطبه ، لئلاّ يلزم الإغراء بحسب اعتقاده ، أو يحصل البيان على الوجه المتقدّم على حسب شكّه ، وإن كان أمكن كون ما فهمه المخاطب في الواقع هو مصطلح المتكلّم.

وأمّا البواقي وما الحق بها فالّذي يقتضيه التدبّر وإمعان النظر في مجاري عادات الناس تقديم عرف المتكلّم ، لأنّ المعلوم من عادة المتكلّمين في غالب محاوراتهم هو الجري على مصطلحهم لا مصطلح الغير ، على معنى إنّ الغالب في كلام المتكلّمين هو ذلك ، وظاهر إنّ المشتبه يلحق بالغالب.

وتوهّم انتفاء شرط قاعدة الإلحاق هنا ، وهو كون مورد الشكّ متّحد الصنف مع مورد الغالب ، ومورد الشكّ هنا من جملة ما اختلف فيه العرفان ، والغلبة المدّعاة إنّما ثبتت فيما اتّحد العرفان ، فلا يلحق بها ما هو من أفراد الصنف ، وثبوت الغلبة في أفراد الصنف محلّ منع.

يدفعه : أنّ المعتبر في قاعدة الإلحاق إنّما هو اتّحاد العنوان جنسا كان أو نوعا أو صنفا لا خصوص اتّحاد الصنف ، فمناط الإلحاق هو الغلبة ـ صنفيّة كانت أو نوعيّة أو جنسيّة ـ ما لم يزاحمها في النوع غلبة صنفيّة ولا في الجنس غلبة نوعيّة أو صنفيّة ، والغلبة المدّعاة وإن كانت نوعيّة غير أنّها مع عدم مزاحمة الغلبة الصنفيّة متّبعة ، لإفادتها الظنّ باللحوق في موضع عدم المزاحمة ، وهي في أفراد الصنف غير ثابتة في جانب تقديم عرف المخاطب ، إن لم نقل بثبوتها في جانب تقديم عرف المتكلّم.

لا يقال : إنّ قاعدة تقديم عرف المتكلّم حسبما قرّرته يكذّبها صحيحة محمّد ابن مسلم (١) ومرسلة ابن أبي عمير (٢) الواردتين عن أبي عبد الله عليه‌السلام في تحديد

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤١٤ / ١٣٠٨ ، الاستبصار ١ : ١١ / ١٧ ، الوسائل ١ : ١٦٨ أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ٣.

(٢) الكافي ٣ : ٣ الطهارة ب ٢ ح ٦ ، التهذيب ١ : ٤١ / ١١٣ ، الاستبصار ١ : ١٠ / ١٥ ، الوسائل ١ : ١٦٧ أبواب الماء المطلق ب ١١ ح ١.

٢٣٥

الكرّ ، مع اشتمال الاولى على تحديده بستّمائة رطل ، والثانية على تحديده بألف ومائتي رطل.

وقد جمع العلماء بينهما بحمل الاولى على الأرطال المكّيّة والثانية على الأرطال العراقيّة ، فيتوافقان حينئذ بملاحظة كون الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي ، فالستّمائة من الأرطال المكّيّة تساوي الألف والمائتين من الأرطال العراقيّة ، وأيّدوه بموافقة عرف المخاطب ، فإنّ الراوي ـ في الصحيحة ـ وهو محمّد بن مسلم على ما عن النقد عن رجال الشيخ من أهل الطائف وهو من توابع مكّة ، وابن [ أبي ] عمير أرسل الرواية عن بعض أصحابه ، وظاهره كونه من مشايخه وهو مع مشايخه كلّهم عراقيّون ، وهذا كلّه يقضي بكون المعتبر في مقام التعارض عرف المخاطب لا المتكلّم ، ولذا جرى الإمام عليه‌السلام في كلّ من الروايتين على مصطلح مخاطبه ، كما هو قضيّة الجمع المذكور.

لأنّا ندفعه ، أوّلا : بأنّ مدرك القاعدة ـ حسبما بيّنّاه ـ هو الغلبة ، ولا خفاء أنّ الغالب لا ينافيه النادر ، ومن الجائز كون مورد الروايتين من النادر.

وثانيا : بمنع معرفة المخاطب في مورد الروايتين لمصطلح المتكلّم ، لجواز وقوع المخاطبة في أوّل ورود الروايين بالمدينة ، وعرف الإمام عليه‌السلام من حالهما أنّهما لا يعرفان عرف المدينة فتكلّم بمقتضى عرفيهما ، وقد عرفت سابقا أنّ المعتبر في نحو هذه الصورة مراعاة عرف المخاطب لا غير.

وثالثا : بمنع التفات المخاطب فيهما حين المخاطبة إلى ما عرفه من عرف المتكلّم ، وعرف من حاله الإمام عليه‌السلام عدم التفاته فجرى على حسب مصطلحه ، مراعاة لما هو الحاضر في ذهنه.

ورابعا : بجواز كونه عليه‌السلام إنّما جرى بمصطلح المخاطب لينفعه بعد عوده إلى بلده في نقل الرواية إلى غيره ، بأن ينقلها بعين عبارة تحديد الإمام عليه‌السلام ، ويحتمل ضعيفا كون النقل من كلّ من الراويين من باب النقل بالمعنى ، على معنى كون الإمام عليه‌السلام إنّما حدّد له الكرّ بالأرطال المدنيّة ، وهو في مقام نقل الرواية للغير جرى على مصطلحه نقلا لها بالمعنى.

٢٣٦

ثمّ إنّ هاهنا دقيقة ينبغي التنبيه عليها ، وهي إنّ من عادة الناس إذا دخلوا بلدا يغاير عرفه في بعض الألفاظ عرفهم ، إنّهم يتعلّمون عرف ذلك البلد ويصطلحونه ويتّخذونه عرفا لهم تبعا ما داموا مقيمين فيه ، فيصير ذلك عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا ، ويكون مدار الإفادة والاستفادة ما دامت الإقامة فيه على ذلك العرف لا غير ، وأظهر موارد هذه العادة وأكثر مواقعها ألفاظ الأوزان والمقادير.

وقضيّة ذلك عدم وقوع التعارض بين عرف البلد وعرف من غايره عرفه الأصلي ـ متكلّما كان أو مخاطبا ـ في نحوه هذه الألفاظ ، إذ لا يعقل التعارض مع اتّحاد العرف ، وبذلك بطل ما صنعه بعضهم من استثناء ألفاظ الأوزان والمقادير من موضوع مسألة تعارض عرف المتكلّم والمخاطب ، أو من قاعدة تقديم عرف المتكلّم ، تعليلا بتعيّن تقديم عرف بلد الخطاب في هذه الألفاظ ، سواء وافق عرف المتكلّم أو عرف المخاطب أو خالفهما جميعا ، لصيرورة عرفه عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا حينئذ للمخاطب أو للمتكلّم أو لهما ، ولا تعارض مع الاتّحاد.

كما بطل أيضا أكثر التفاصيل المتقدّمة عند بيان وجوه المسألة ومحتملاتها ، الّتي اخذ فيها عرف البلد طرفا للترجيح ، بجعل الموافقة له شرطا فيه ، أو مخالفته لعرف المتكلّم أو المخاطب مانعا ، كما بطل القول بتقديم عرف البلد مطلقا ، إذ لا تغاير بعد صيرورة عرف البلد عرفا طارويّا واصطلاحا ثانويّا.

ومن هنا ربّما يتطرّق الإشكال إلى أصل المسألة ، إذ المخاطبة إن وقعت في بلد المتكلّم أو بلد آخر يوافق عرفه عرف المتكلّم فقد صار عرفه عرف المخاطب أيضا وإن وقعت في بلد المخاطب أو بلد آخر يوافق عرفه عرف المخاطب فقد صار عرفه عرف المتكلّم أيضا ، وإن وقعت في بلد آخر يخالف عرفه عرفيهما فقد صار ذلك العرف عرفا لهما ، وأيّا ما كان فالتعارض مع اتّحاد العرف الحاصل بالفرض غير معقول.

وبالجملة : موضوع المسألة إمّا العرف الأصلي للمتكلّم والمخاطب فقط ، فيرد عليه : عدم كون مدار الإفادة والاستفادة في مجاري عادات المتكلّمين على العرف الأصلي فقط بل على ما يعمّه والعرف الطاروي.

أو ما يعمّ الأصلي والطاروي فيخدشه : عدم وقوع التعارض ، لأنّ قضيّة

٢٣٧

طريان العرف الثانوي اتّحاد عرفي المتكلّم والمخاطب حين المخاطبة ، فيبقى البحث في المسألة بلا موضوع في الخارج ، إلاّ أن تخصّص بصورة الغفلة عن عرف البلد على معنى عدم معرفة عرفه المغاير بالفرض ، أو عدم الالتفات إليه حال المخاطبة بعد معرفته في المتكلّم أو المخاطب أو فيهما جميعا ، فيكون الترجيح كما تقدّم في صورة جهل المتكلّم أو المخاطب أو جهلهما معا.

وفيه : مع بعده ما عرفت من عدم التعارض في الحقيقة مع الجهل.

نعم إن خصّصت بصورة اشتباه بلد التخاطب ، ليشتبه من جهته العرف الطاري لأحدهما أو كليهما الّذي عليه مدار الإفادة والاستفادة في محلّ التعارض ، لم يكن بذلك البعيد وإن كان لا يخلو عن بعد أيضا.

وحينئذ فالمتّجه هو الوقف مطلقا ، لصيرورة اللفظ مجملا ، لاشتباه المعنى المراد منه الّذي عليه مبنى المخاطبة به في لحاظ المتكلّم والمخاطب ، وليس في مجاري العادات ما يصلح مناطا للترجيح ، فلا بدّ من مراجعة القرائن الخارجيّة الجزئيّة أو الأخذ بالاصول العمليّة.

هذا كلّه فيما اتّحد المخاطب أو تعدّد مع اتّحاد عرف الجميع ، وغاير عرفه عرف المتكلّم.

فأمّا إذا تعدّد المخاطبون وتعدّد عرفهم أيضا على حسب تعدّدهم ، بأن يكون لكلّ اصطلاح في اللفظ مغاير لعرف الآخرين مع عرف المتكلّم ، ففي حمله حينئذ على الجميع ـ بأن يحمله كلّ مخاطب على مصطلحه خاصّة ـ أو على مصطلح المتكلّم خاصّة ، أو تعيّن الوقف وجوه ، صار إلى أوّلهما العلاّمة في التهذيب (١) وتبعه السيّد في المنية (٢) استنادا إلى أنّه لولاه لزم الخطاب بما له ظاهر من غير إرادة ظاهره مع تجرّده عن القرينة ، وهو باطل.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١٩ ( مخطوط ) حيث قال : « ... فإن تعدّدت العرفيّة حملت كلّ طائفة الخطاب على المتعارف عندها ... ».

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ) حيث قال : « فإن تعدّدت العرفيّة بأن كان اللفظ مستعملا عند طائفة في معنى وعند غيرهم في غيره حملت كلّ واحدة من الطائفتين ذلك اللفظ على ما هو متعارف عندها ... ».

٢٣٨

وحكى الاستدلال عليه أيضا : بأنّه لولا إرادة الجميع فإمّا أن يراد المجموع من حيث المجموع ، أو البعض المبهم ، أو المعيّن ، أو معنى آخر خارج عنها ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه الإغراء بالجهل ، إذ كلّ مخاطب لا يعهد إلاّ مصطلحه ، أو أنّه ظاهر اللفظ في نظره فإرادة غيره إرادة لخلاف الظاهر ، وهو قبيح.

وأمّا الثاني : فلقبح الخطاب بالمبهم.

وأمّا الثالث : فللزوم الإغراء بالجهل إن اختصّ التعيين بالمتكلّم ، وامتناع إرادة ما لا يعرفه المتكلّم إن اختصّ التعيين بالمخاطب ، وقبح الترجيح بلا مرجّح إن عمّهما معا ، وتوهّم كون المرجّح إرادة المتكلّم وقصده ، يدفعه : لزوم الترجّح بلا مرجّح.

وأمّا الرابع : فلاستلزامه الإغراء بالجهل أيضا ، لعدم معرفة المخاطبين غير مصطلحهم ، هذا مع كونه ترجيحا للمرجوح ، إذ الخارج المغاير لمعاني اللفظ مرجوح بالإضافة إليها ، فتعيّن إرادة كلّ واحد على البدل.

وفيه : مع خروجه عن طريقة العرف والعادة ، وابتنائه على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، واستلزامه تعدّد أحكامه تعالى في واقعة واحدة ، ومنافاته للاشتراك في التكليف ، إنّ الالتزام بإرادة الجميع ليكون كلّ مكلّفا بما فهمه بحسب الواقع ليس بأولى من الإلتزام بإرادة ما وافق مصطلح المتكلّم فقط مثلا ، مع تقرير كلّ مخاطب على ما فهمه من باب الحكم الظاهري ، فلا يضاف إناطة الأمر بنظر العقل أو العرف أو القرائن الخاصّة إن وجد شيء من ذلك ، وإلاّ فالوقف.

ولك أن تقول : بإجراء الصور المتقدّمة ليتعيّن في بعضها تقديم عرف المتكلّم وفي الآخر مراعاة حال المخاطبين ، وبالجملة ، المسألة محلّ إشكال.

٢٣٩

ـ تعليقة ـ

الظاهر إنّ ما يتسامح فيه عرفا من المقادير وزنا وكيلا وعددا وزمانا ومسافة ، كالمنّ والرطل والألف واليوم والفرسخ ، فالألفاظ الدالّة عليها حقيقة لغة وعرفا في حدودها المعيّنة المعهودة المضبوطة لدى أهلها ، لا في الزائد والناقص بالقياس إلى هذه الحدود بيسير كمثقال أو مثقالين ، وواحد أو اثنين ، وساعة أو ساعتين ، وقصبة أو قصبتين أو نحو ذلك ، إذا اخذا بوصف الزيادة والنقصان ، ولا في القدر المشترك بينهما وبين الحدود المعيّنة ، خلافا لمن زعم كون إطلاقها على الزائد والناقص من باب الحقيقة العرفيّة ، وكأنّه أراد به الحقيقيّة باعتبار الوضع العرفي.

لنا : إنّ المنقول من أهل اللغة ليس إلاّ حدودا معيّنة ، وظاهرهم يعطى الاختصاص ، وتبادر هذه عند الإطلاق وصحّة السلب عن الزائد والناقص المأخوذين بوصف الزيادة والنقصان ، وصحّة استثناء مقدار النقصان في الناقص مع صحّة عطف مقدار الزيادة في الزائد ، وعدم صحّة الاستفهام عن الزائد والناقص كما يصحّ في المشتركات لفظا أو معنى بالقياس إلى ما يحتملانه من المعاني أو الألفاظ ، وعدم وقوع المسامحة في الامور الخطيرة ولا سيّما الذهب والفضّة وغيرهما من الجواهر النفيسة ، لكون مجاري العادات فيها المداقّة وعدم التجاوز عن الحدود المعيّنة لا بزيادة ولا نقيصة ، ولو قيراطا أو أقلّ.

٢٤٠