تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

من غير مخالف ولا نكير ، وإن كان المراد بالأوّل خصوص الطهر على ما اتّفق عليه الفقهاء وبالثاني خصوص الإدبار كما عن الفرّاء حكاية إجماع المفسّرين على التفسير به.

وإنّما اقتصرنا في إثبات الوقوع المقيّد على هذين اللفظين وفاقا لغير واحد مع أنّ « العين » أيضا كما في الآيتين المتقدّمتين من هذا القبيل سدّا لباب احتمال التواطي والحقيقة والمجاز والنقل ، لكون المعنيين في كلّ منهما من الأضداد فلا يعقل بينهما جامع حتّى يحتمل التواطي ، ولا علاقة مصحّحة حتّى يحتمل المجاز ، ولا مناسبة معتبرة حتّى يحتمل النقل ، فلم يبق إلاّ الاشتراك ، وإنكار تعدّد المعنى فيهما ليكونا من المتّحد المعنى تكذيب لأئمّة اللغة ، بل مصادمة لما هو في المعلوميّة بالسامع والتظافر كالبديهة.

وقد يستدلّ على الاشتراك فيهما أيضا كما في المنية ، بأنّ السامع إذا سمعه لم يبادر ذهنه إلى أحد المعنيين بعينه ، ولا إلى أمر مشترك بينهما ، بل يبقى متردّدا بينهما إلى أن يحصل قرينة تدلّ على تعيين أحدهما ، وذلك آية الاشتراك إذ لو كان متواطيا لبادر الذهن إلى فهم المشترك بينهما ، ولو كان حقيقة ومجازا لبادر إلى فهم المعنى الحقيقي منهما دون المجازي عند التجرّد عن القرينة ، ولو كان منقولا عن أحدهما إلى الآخر لبادر إلى فهم المنقول إليه دون المنقول منه ، فلم يبق إلاّ أن يكون مشتركا بينهما ، فإذا ثبت الاشتراك فيهما ثبت وقوع المشترك في القرآن المجيد لوقوعهما فيه. انتهى (١).

وهذا إن لم ينهض حجّة مستقلّة يصلح مؤيّدا لا محالة.

احتجّ المانع من وقوعه فيه ـ على ما في النهاية (٢) ـ بأنّ المقصود منه إمّا أن يكون هو الإفهام أو لا ، والثاني باطل لكونه عبثا ممتنعا على الحكيم.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يوجد معه القرينة الدالّة على معانيه أو لا ، والأوّل

__________________

(١) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : ( مخطوط ).

٤٨١

تطويل بلا فائدة ، والثاني لكونه طلبا لفهم معنى من لفظ يدلّ عليه وعلى غيره بالسويّة تكليفا بالمحال.

وقد يقرّر بوجه أخصر : وهو أنّه لو كان مبيّنا لزم التطويل بلا فائدة لإمكان الأداء بدونه ، وإلاّ لزم عدم الإفادة ، وكلّ منهما لا يليق بكلامه تعالى.

والجواب عن كلا التقريرين ، أوّلا : بأنّه في مقابلة ما بيّنّاه يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ ، لأنّ مبناه إمّا على إنكار ورودهما في القرآن أو على انكار تعدّد معنييهما ، أو على إنكار كونه على الاشتراك لجواز التواطي أو المجاز أو النقل ، ولا سبيل له إلى شيء من ذلك كما هو واضح.

وثانيا : بمنع الملازمة في كلّ من مقدّمتي الدليل ، أعني منع لزوم التطويل على تقدير وجود القرينة والبيان ، ومنع كونه بلا فائدة ، ومنع اختلال الفهم وعدم الإفادة مطلقا ـ ولو إجمالا ـ على تقدير ترك القرينة وعدم البيان ، وسند المنع في الكلّ قد تقدّم بيانه ولا حاجة إلى الإعادة ، مع أنّه لو تمّ لقضى بعدم وقوع المجاز فيه أيضا لعين التقريب المذكور ، ولا أظنّ المستدلّ ينكره.

وبما قرّرناه يثبت وقوعه مطلقا ، أي في العرف ، لعين ما ذكر لإثبات الاشتراك في اللفظين وغيرهما ، كالعين وغيرها بنصّ أهل اللغة وإطباق أهل النظر عليه في الجملة ، وكذلك في اللغة لأصالة عدم النقل ، ولا يعارضها أصالة عدم تعدّد النقل ، إمّا لعدم جريانه.

بتقريب : إنّ تعدّد الوضع بحسب المعنيين معلوم الثبوت ، والشكّ إنّما هو في كونه بحسب صدر اللغة أو بحسب العرف من جهة النقل عن معنى ثالث لغوي إليهما في العرف ، فأصالة عدم تعدّد الوضع غير جارية ، وأصالة عدم النقل نافية لاحتمال النقل المذكور.

أو لكونها على فرض تسليم الجريان معارضة بأصالة عدم هذا الوضع المحتمل في صدر اللغة لمعنى ثالث غير المعنيين ، لأنّه على حصوله وضع ثالث عارض للّفظ زائدا على الوضعين المفروض عروضهما له بإزاء المعنيين ، والأصل عدم هذا الوضع الزائد ، فيبقى أصالة عدم النقل سليمة.

٤٨٢

أو لورود أصالة عدم النقل عليها باعتبار كونه أصلا سببيّا كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

واحتجاج المانع عنه بما تقدّم في احتجاج القائل بالامتناع من استلزامه التطويل بلا طائل ، أو اختلال الفهم ، يندفع بما تقدّم مشروحا.

وقوله أيضا ـ في منع الاشتراك في مثل « العين » للجارية والباكية وغيرها ، والجون للأسود والأبيض ، الثابت بتنصيص أهل اللغة وتصريح محقّقي العلماء وغيرهما ـ : بأنّ ما يدّعى اشتراكه فهو إمّا متواطئ أو حقيقة في أحدهما ومجاز في الآخر « كالعين » الّتي هي موضوعة للجارحة المخصوصة ثمّ نقل إلى الدينار والفضّة لوجود الصفاء فيهما ، وإلى الشمس لاشتراكها في الصفاء والضياء ، وإلى الماء لما ذكر ، ساقط بعد ما عرفت. ولا يلتفت إليه في مقابلة ما ذكر ، لكون احتمال النقل ـ بمعنى التجوّز ـ كالتشكيك في مقابلة البديهة ، مضافا إلى أصالة عدم ملاحظة العلاقة والمناسبة المذكورة في استعمالات اللفظ في المعاني المذكورة غير الجارحة المخصوصة. فتأمّل.

فإنّ هذا الأصل مدفوع بورود أصالة عدم تعدّد الوضع عليه.

وإذا اتّضح الحقّ في المقامات المذكورة ، فلنشرع فيما هو الغرض الأصلي من عقد الباب ، وهو البحث في جواز استعمال المشترك في معنيين فما زاد وعدم جوازه ، وتفصيل القول فيه يستدعي رسم مقدّمات وتمهيدها من باب المبادئ.

المقدّمة الاولى : في شرح أجزاء العنوان من « الجواز » و « الاستعمال » و « المشترك » و « المعنيين » وبيان حقيقة المراد منها.

فأوّل أجزائه الجواز وعدمه ، ولا يصحّ أن يراد به الجواز الشرعي التكليفي وعدمه ، أعني الحرمة والإباحة كما هو محلّ بحث الفقيه في الفروع ، ليكون معنى قول المانع من الجواز حرمة استعمال المشترك في أكثر من معنى وكونه اثما ، ولا الجواز الشرعي الوضعي أعني الصحّة والفساد ، بمعنى ترتّب الأثر الشرعي وعدمه ليكون معنى القول بالمنع فساد الاستعمال المذكور وبطلانه ، كما هو محلّ البحث

٤٨٣

في الفقه أيضا ، لإطباقهم على كون المسألة لغويّة فلا يطلب فيها الحكم الشرعي ، والجواز بكلّ من المعنيين حكم شرعي.

مضافا إلى عدم مساعدة احتجاجات المجوّزين والمانعين وسائر كلماتهم على إرادتهما ، بل مساعدة الجميع على خلافها كما يظهر بالتأمّل.

وقضيّة كونها لغويّة كون المراد بهما الجواز اللغوي وعدمه ، أعني رخصة الواضع في نحو هذا الاستعمال وكونه مرخّصا فيه وعدمه فيكون غلطا ، ويساعد عليه احتجاج جماعة من المانعين بقاعدة توقيفيّة اللغات ، أو وحدانيّة وضع الألفاظ ، ولكن يأباه احتجاج جملة منهم على المنع بلزوم التناقض في الإرادة كما ستعرفه ، فإنّه يقتضي المنع العقلي ، ويلزم منه كون المراد بهما الجواز العقلي وعدمه أعني الإمكان والامتناع.

والإنصاف : إنّ مراد المجوّزين من الجواز ما يتضمّن الجواز العقلي واللغوي معا ، أعني عدم امتناع نحو هذا الاستعمال وثبوت الرخصة فيه من أهل اللغة.

وأمّا المانعون فمنهم من يدّعي المنع العقلي ، ومنهم من يدّعي المنع اللغوي بعد إنكارهم المنع العقلي.

وثاني أجزائه « الاستعمال » وقد ذكرنا في غير موضع أنّ الاستعمال استفعال من العمل ، ويتضمّن الطلب وهو فعل المتكلّم ، ومعناه : أن يطلب المتكلّم من اللفظ العمل في المعنى ، وعمل اللفظ فيه أن يفيده ، فالاستعمال في محصّل المعنى طلب المتكلّم من اللفظ إفادة المعنى للسامع ، وهو بهذا المعنى قد يتحقّق بالنسبة إلى معنى واحد بعينه ، بأن يطلب من المشترك مثلا إفادة واحد معيّن من معانيه ، فينعقد به تكليف واحد مثلا إن كان ذلك المعنى من قبيل الحكم ، كما في صيغة « إفعل » على القول باشتراكها بين الوجوب والندب ، إذا اريد بها الوجوب فقط أو الندب كذلك ، أو ينعقد به مكلّف به واحد إذا كان المعنى من قبيل الموضوع ، كما في قوله : « إئتني بعين » إذا اريد به الإتيان بالفضّة فقط.

وقد يفرض بالنسبة إلى معنيين من معانيه بعينهما ، بأن يطلب منه إفادة هذا

٤٨٤

وهذا بعينهما ، فينعقد به تكليفان مثلا إن كانا من قبيل الحكم كما في الصيغة أيضا على القول المذكور إذا اريد بها الوجوب والندب ، كقوله : « إغتسل للجنابة والجمعة » أو ينعقد به كلّ منهما مكلّفا به على حدّة فيتعدّد المكلّف به إن كانا من قبيل الموضوع ، كما في « إئتني بعين » إذا اريد به الإتيان بالفضّة وبالذهب.

وهذا هو المراد باستعمال المشترك في معنيين أو أكثر من معنى في معقد البحث ، على ما يرشد إليه قرينة المقابلة بينه وبين استعماله في معنى واحد ، حسبما فرضناه ، فإنّ المراد بالاستعمال فيهما نحو استعماله في المعنى الواحد بلا فرق بينهما إلاّ في اتّحاد المستعمل فيه المعيّن وتعدّده.

وعليه ينطبق ما في كلام المصنّف وغير واحد عند تحرير المبحث من : أنّ محلّ النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين ، بأن يراد به في إطلاق واحد هذا وذاك على أن يكون كلّ منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ، لا في المجموع المركّب الّذي أحد المعنيين جزء منه (١).

وهذا هو المراد ممّا حرّره بعض أصحاب الحواشي (٢) وتبعه بعض الأعلام من أنّ المراد : استعماله في كلّ واحد على البدل (٣) ، بناء على كون المراد بالبدليّة اعتوار المعنيين المستعمل فيهما على اللفظ الواحد ، وهو أن يتناوبا في أخذه ، بأن يأخذه أحدهما ويستوفي حقّه من حيث إنّه مطلوب إفادته للسامع ، ثمّ يأخذه الآخر ويستوفي حقّه أيضا من الحيثيّة المذكورة ، على معنى انحلال الاستعمال فيهما عند العقل إلى التناوب بالمعنى المذكور.

وعليه فلا حاجة ولا داعي إلى تكلّف تصوير استعمال المشترك بصور كثيرة وإبداء احتمالات كثيرة فيه لتشخيص موضع النزاع ، كما صنعه جماعة من الأواخر مع إطناب بعضهم كبعض الأفاضل (٤) في التكلّم في كلّ صورة بما لا يرجع إلى

__________________

(١) المعالم : ٣٣.

(٢) حاشية المدقّق الشيرواني المعروفة بحاشية ملا ميرزا ، المطبوعة بهامش المعالم : ٣٣.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٦٧.

(٤) هداية المسترشدين : ١١٨ ( الطبعة الحجرية ).

٤٨٥

كثير طائل ، فإنّ كلّ ما ذكروه من الصور على ما يرشد إليه التأمّل الصادق خارجة عن معقد البحث في استعمال المشترك في أكثر من معنى ، لما أخذ فيه من حيثيّة ـ حسبما ذكرناه ـ تأبى كونها من معقد البحث.

نعم لا نضائق كون كلّ ما فرض ممّا عدا ذلك مسألة اخرى خارجة عن عنوان مسألة استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولعلّنا بعد الفراغ عن المسألة واختيار المذهب فيها نتكلّم في بعض هذه الصور أو كلّها ، استعلاما لحكمها من الجواز وعدمه.

ثمّ إنّه لا فرق في المعنى المذكور من الاستعمال في معنيين بين مفرد المشترك وتثنيته وجمعه عند القائل بالجواز في الكلّ أو في الأخيرين خاصّة ، إذ كما يطلب من « العين » في قوله : « رأيت عينا » أو « ائتني بعين » إفادة الذهب والفضّة على أن يكون كلّ منهما موردا للحكم أو مكلّفا به على حدة ، فكذلك من « العين » في قوله : « رأيت عينين » أو « إئتني بعينين » ويقصد بالعلامة الإشارة إلى اثنينيّة المراد والمستعمل فيه بلا فرق بينهما في أصل كيفيّة الاستعمال.

نعم ربّما يحصل الفرق بينهما في جهة اخرى عن الاستعمال في معنيين بالمعنى المبحوث عنه ، وهو أنّه يعتبر في التثنية جريان الحكم على المعنيين بطريق الانضمام والاجتماع ، لا بمعنى كون كلّ منهما جزءا من المجموع لينافي الفرض ، بل بمعنى جريان الحكم عليهما بطريق المعيّة ، مع كون كلّ موردا له بالاستقلال ، ولا يعتبر ذلك في المفرد ، فقولك : « رأيت عينا » عند إرادة الذهب والفضّة مثلا يصدق مع وقوع الرؤية على كلّ منهما بطريق المعيّة أو على الانفراد مع تقدّم رؤية الذهب أو بالعكس ، وقولك : « رأيت عينين » يقتضي وقوعها على كلّ منهما حال كونهما معا.

وعلى هذا فقولك : « ائتني بعينين » يقتضي اعتبار الإتيان بهما في حصول الامتثال ، وإن كان الإتيان بكلّ مكلّفا به على حدّة.

وهذا كما ترى حكم آخر واعتبار زائد على ما فرض من استعمال المشترك

٤٨٦

الّذي هو مدخل العلامة ، وهو من خواصّ التثنية من حيث إنّها تثنية ، ولا مدخل له في استعمال المشترك من حيث هو مشترك في معنيين بالمعنى المذكور ، فإنّه طلب منه إفادة المعنيين على أن يكون كلّ منهما مكلّفا به على حدّة ، واعتبار المعيّة في الامتثال حكم آخر لحقه من جهة التثنية مستندا إلى ظهورها الانصرافي لا الوضعي ، وليس هذا الاعتبار إلاّ نظير إذا ثبت في المفرد بدلالة خارجيّة ، وكما أنّه فيه لا ينافي كون استعمال اللفظ في المعنيين على الوجه المذكور فكذلك في التثنية فاستعمال المشترك مفردا ومثنّى في معنيين بالمعنى المبحوث عنه على نمط واحد لا غير.

ومن ذلك يندفع ما قد يسبق إلى الوهم من حصول الفرق بينهما في الاعتبار المذكور ، فيورد على من حرّر محلّ النزاع على الوجه المتقدّم ـ من كون كلّ من المعنيين مناطا للحكم متعلّقا للإثبات والنفي ـ : بأنّ هذا لا يتمّ في التثنية والجمع لما دخل في مفهوميهما من اعتبار الانضمام والاجتماع ، ووجه الاندفاع : ما ذكرناه من عدم المنافاة.

وأمّا التكلّم في خصوص التثنية من أنّ المراد من استعماله في معنيين هل هو إرادة نفس المعنيين كالذهب والفضّة مثلا ، أو فرد من معنى وفرد آخر من معنى آخر ، أو فردان من معنى وآخران من معنى آخر كما صنعه غير واحد من الأواخر ، فليس على ما ينبغي ، بل ينبغي القطع بكون المراد إرادة نفس المعنيين ، ضرورة : أنّ معنى المشترك كالعين مثلا نفس الذهب والفضّة لا فرد أو فردان من الذهب ، وفرد أو فردان من الفضّة.

مضافا إلى أنّ مقتضى الحجّة الّتي احتجّ بها القائل بالجواز في التثنية والجمع من أنّهما في قوّة تكرير المفرد إلى آخر ما سيأتي من تقريره أيضا ، كون المراد إرادة نفس المعنيين لا غير.

وثالث أجزائه « المشترك » وهذا بالنظر إلى ظاهر اصطلاحهم وإن كان لا يتناول المنقول الّذي لم يهجر معناه الأصلي ، ولا المرتجل إن جعلناه قسيما له ، ولا

٤٨٧

الألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ لمعنى خاصّ ، لبناء الاصطلاح على مقابلته للجميع ، إلاّ أنّ أدلّتهم على الجواز والمنع تعمّ الجميع ، ومناط الجواز والمنع جار في الجميع ، فلا يبعد القول حينئذ بدخول المذكورات في محلّ النزاع حكما وإن لم تدخل فيه اسما ، ولا ينافيه إفراد الحقيقة والمجاز بعنوان آخر ، مع أنّ قضيّة ما ذكر دخولهما في هذا العنوان حكما ، لما في الحقيقة والمجاز من حيثيّة اخرى غير موجودة في غيرهما ، من كون المجاز ملزوما لقرينة معاندة للحقيقة ، وكان النزاع في الجواز وعدمه فيهما بعد البناء على الجواز في غيرهما ولو من باب الفرض والتنزّل.

ورابع أجزائه « المعنيين أو أكثر من معنى » وقد ظهر المعنى المراد بذلك الجزء وهو نفس الأمرين الكلّيين أو الشخصيّين المأخوذ كلّ واحد منهما بانفراده في وضع اللفظ من غير نظر إلى كون الاستعمال المفروض فيهما على وجه الحقيقة مطلقا أو المجاز كذلك أو على التفصيل بين المفرد والتثنية والجمع ، ولذا بنى الخلاف الآتي في الحقيقة والمجاز على القول بالجواز.

المقدمة الثانية : في كلام أكثر الاصوليّين من المجوّزين والمانعين تقييد العنوان بما إذا أمكن الجمع بين المعنيين وما زاد حسبما يراد من اللفظ ، وظاهرهم كون القيد احترازيّا يقصد به الاحتراز عمّا لا يمكن الجمع ، كما فهمه المحقّق السلطان في عبارته الآتية ، وكلامهم في بيان المعنى المراد من هذا القيد غير محرّر.

فيحتمل كون مرادهم به إمكان الجمع بينهما في الإرادة احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما لأوله إلى اجتماع المتناقضين أو المتضادّين في نفس المتكلّم ، كما في الأمر إن قلنا باشتراكه بين الوجوب والتهديد الّذي مرجعه إلى التحريم ، كما حمله عليه المحقّق المذكور في شرح عبارة المصنّف ، حيث قال : « إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا »

فقال المحقّق في الحاشية : أي يمكن جمعهما في الإرادة عند إطلاق واحد ،

٤٨٨

وإن كان متضادّين « كالقرء » للطهر والحيض و « الجون » للبياض والسواد ، في قولنا : القرء من صفات النساء ، والجون من عوارض الجسم ، بخلاف صيغة « إفعل » للوجوب والتهديد فإنّه لا يمكن إرادتهما معا منه في إطلاق واحد.

ويحتمل كون مرادهم به إمكان الجمع بينهما في الامتثال ، احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال ، لأوله إلى التكليف بما لا يطاق ، كقوله ـ لشخص واحد في زمان واحد ـ « عسعس » في الأمر من العسعاس ، مريدا به معنى أقبل وأدبر فإنّ الإقبال والإدبار متضادّان لا يمكن الجمع بينهما في الامتثال.

ويحتمل كون مرادهم إمكان الجمع بينهما بحسب قابليّة المقام ، بأن يكون المقام قابلا لاجتماعهما فيه ، احترازا عمّا لا يكون قابلا له ، كما لو كان لفظ مشتركا بين المعنى الفعلي والمعنى الحرفي مثلا ، مثل : « على » و « في » فإنّ كلاّ منهما يرد فعلا كما في قوله تعالى : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ )(١) وقولنا : « في بعهدك » وحرفا كقوله : « كن على السطح » و « زيد في الدار » فإنّهما حيث يراد منهما المعنى الفعلي كالمثالين الأوّلين فالمقام لا يناسب معه المعنى الحرفي ولا يصلح له ، وحيث يراد منهما المعنى الحرفي كالمثالين الأخيرين فالمقام لا يناسب معه المعنى الفعلي ولا يصلح له ، فهذان المعنيان ممّا لا يمكن الجمع بينهما بحسب قابليّة المقام.

وهذا أبعد الاحتمالات ، لمنع كون الكلمتين في معنييهما الفعلي والحرفي من باب الاشتراك ، بل كلّ منهما فعلا وحرفا كلمتان مستقلّتان ، كما يرشد إليه التأمّل في لحوق الإعلال بهما فعلا ، فبسببه اتّحدتا معهما حرفا في الصورة فكلّ منهما في معنييهما الفعلي والحرفي من الألفاظ المتبائنة لتعدّد اللفظ والمعنى معا ، فعدم قابليّة المقام لاجتماع معنييهما الفعلي والحرفي إنّما هو باعتبار عدم قابليّته للفعل والحرف معا ، إذ لا ريب في أنّ كلمة « على » في مقام واحد لا يمكن أن ترد فعلا وحرفا معا ، وكذلك كلمة « في ».

__________________

(١) القصص : ٤.

٤٨٩

ويقرب منه في البعد ثاني الاحتمالات ، فإنّ غاية ما يلزم من عدم إمكان الجمع بين المعنيين في الامتثال على تقدير وقوع الاستعمال فيهما مع وروده في حيّز التكليف ، إنّما هو لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهو قبيح على الحكيم عقلا.

وظاهر أنّ القبيح العقلي لا ينافي جواز الاستعمال لغة أعني صحّته ، ولا يوجب كونه غلطا.

ألا ترى أنّ قول الحكيم : « طر إلى السماء » مثلا لا غلط في تركيبه ولا في شيء من مفرداته ، مع أنّ مضمونه تكليف بما لا يطاق ، فتعيّن كون مرادهم أوّل المحتملات كما فهمه المحقّق المتقدّم ، ومثّل له بالأمر في الوجوب والتهديد.

والوجه في عدم إمكان الجمع بينهما في الإرادة ـ للزوم اجتماع المتناقضين أو المتضادّين ـ : إنّ الإيجاب والتحريم متضادّان فلا يجتمعان في ضمير متكلّم واحد ، لوضوح إنّ المأخوذ في وضع صيغة الأمر ليس مفهوم الإيجاب ومفهوم التحريم بل مصداقهما ، وهو الطلب الحتمي الشخصي المنقدح في نفس المتكلّم بفعل الشيء ، والطلب الحتمي الشخصي المنقدح في نفسه أيضا المتعلّق بترك الشيء.

ولا ريب أنّه إذا انقدح في نفسه الطلب الحتمي المتعلّق بفعل شيء لا ينقدح معه الطلب الحتمي المتعلّق بترك ذلك الشيء ، وإلاّ لزم اجتماع المتضادّين في نفس المتكلّم وهو محال ، مضافا إلى أنّ الإيجاب يتضمّن إرادة الفعل والتحريم يتضمّن كراهته وهما أيضا متضادّتان ، وإلى أنّ الأوّل يستلزم المحبوبيّة والثاني يستلزم المبغوضيّة وهما أيضا متضادّتان ، وهذا بكلّ من التقارير الثلاث معنى عدم إمكان الجمع بينهما في الإرادة ، ومرجعه إلى عدم إمكان إرادتهما معا ، لعدم إمكان اجتماعهما في نفس المتكلّم ، وهو راجع إلى عدم استعمال اللفظ فيهما معا.

وبالتأمّل في ذلك يظهر السرّ في التقييد والاحتراز ، فإنّ غرضهم بذلك إحراز ما هو موضوع المسألة ، وتحقيق ما هو عنوان البحث الّذي هو مورد الأقوال الآتية ، أعني الاستعمال في معنيين وما زاد ، فإنّه لا يتحقّق إلاّ فيما أمكن الجمع

٤٩٠

بينهما في الإرادة ، ضرورة أنّ ما لا يمكن الجمع بينهما فلا يتحقّق فيه الاستعمال في المعنيين حتّى يبحث في جوازه وعدم جوازه ، بل لا يتحقّق فيه دائما إلاّ الاستعمال في أحد المعنيين ، فلا معنى للنزاع في جوازه وعدم جوازه.

وربّما يشكل الحال بالنظر إلى أكثر المانعين في احتجاجهم لعدم الجواز بلزوم التناقض في الإرادة وهو غير ممكن ، فيكون الجمع غير ممكن ، فيلزمهم على هذا أن لا يكون للعنوان المتنازع فيه مصداق في الخارج أصلا ، لزعمهم لزوم التناقض دائما في إرادة جميع المعاني ، لوضوح أنّ كلّ مشترك يفرض استعماله في الجميع فهو داخل فيما أخرجوه عن عنوان المسألة بالقيد المذكور ، فهو دائما ممّا لا يتحقّق في الخارج حتّى يبحث في جوازه وعدم جوازه.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ غرضهم من الاحتجاج بالحجّة المذكورة إلزام المجوّزين على بطلان مقالتهم بما يسلّمونه من خروج ما لا يمكن الجمع فيه بين المعنيين في الإرادة عن عنوان المسألة ، باعتبار عدم إمكان تحقّق الاستعمال في المعنيين.

وملخّصه : إنّ كلّ مشترك تفرضون استعماله في معنييه أو جميع معانيه فهو راجع إلى ما لا يمكن فيه الجمع بينهما في الإرادة للزوم التناقض ، وقد أخرجتموه بواسطة التقييد بالقيد المذكور عن عنوان البحث ، فكيف تجوّزونه مع أنّه دائما غير ممكن. فليتدبّر فإنّه دقيق.

وطريق دفع هذا الإلزام ـ حسبما يستفاد من كلمات المجوّزين في مقام الجواب عن هذه الحجّة ـ أنّ المراد من إمكان الجمع بين المعنيين إمكان الجمع بينهما لذاتهما ، احترازا عمّا لا يمكن الجمع بينهما لذاتهما ، بأن يكون ذات المعنيين مقتضية لامتناع اجتماعهما في إرادة المتكلّم ، كما في الوجوب والتهديد حسبما بيّناه ، بل للوجوب والندب أيضا بالنسبة إلى الأمر على القول باشتراكه بينهما ، نظرا إلى تنافي الحتميّة واللاحتميّة ، وتنافي المنع من الترك وعدم المنع منه ، فلا يجتمعان من جهة واحدة بالنسبة إلى شيء واحد في ذهن المتكلّم ، وما زعمتم

٤٩١

كونه كذلك في كلّ مشترك يفرض استعماله في معنييه أو جميع معانيه فإنّما ينشأ من توهّم جزئيّة قيد الوحدة للمعنى الموضوع له ، لا من اقتضاء ذاتي المعنيين ، ويمنع الملازمة حينئذ بمنع جزئيّة قيد الوحدة.

ولو سلّم فيرتفع المحذور بإسقاط قيد الوحدة ، ومع إسقاطها مطلقا يتحقّق الاستعمال في المعنيين أو في الجميع.

غاية ما هنالك أن لا يسمّى ذلك استعمالا في المعنى الحقيقي ، وهذه مناقشة لفظيّة لا يعبأ بها في المسائل النظريّة.

المقدّمة الثالثة : في أنّ قيد الوحدة ليس جزء المعنى المفرد مشتركا كان أو غيره ، ونعني بالمفرد هنا ما يقابل المثنّى والمجموع. وبعبارة اخرى : ما ليس بتثنية ولا جمع.

والوحدة قد تطلق على الوصف الاعتباري الّذي يلحق الشيء في نفسه باعتبار انتفاء الكثرة عنه في نفسه ، سواء كان ذلك الشيء أمرا كلّيّا أو شخصيّا ، فإنّ كلّ مفهوم كلّي كالإنسان أو شخصي كزيد فهو واحد بهذا الاعتبار.

غاية الأمر إنّ الوحدة في الأوّل نوعيّة وفي الثاني شخصيّة ، ووصف الوحدة بهذا المعنى بالنسبة إلى موصوفه من قبيل العرض اللازم ، فلا ينفكّ عنه في شيء من حالاته حتّى حال انضمامه إلى غيره ، كانضمام الإنسان إلى الفرس والبقر والغنم وغيرها من الأنواع ، وانضمام زيد إلى عمرو وبكر وخالد وغيرها من الأشخاص. ولا ينافيه حصول وصف الكثرة بسبب الانضمام ، لأنّه ليس كثرة في مفهوم « الإنسان » و « زيد » ولا غيرهما من الأنواع والأشخاص ، بل هو أيضا وصف اعتباري يحصل في المجموع باعتبار انضمام بعض إلى بعض ، كآحاد العشرة مثلا مع بقاء كلّ واحد على وحدته الذاتيّة.

وقد تطلق على وصف اعتباري آخر يلحق المعنى كلّيا كان أو جزئيّا باعتبار عدم انضمام الغير إليه ، ويعبّر عنه « بالانفراد » وفي الفارسية بـ « تنهايى » وهو بهذا المعنى بالنسبة إلى موصوفه من قبيل العرض المفارق ، لأنّه في لحوقه وعدم

٤٩٢

لحوقه يتبع الانضمام وعدم الانضمام ، فيقال له الواحد حال عدم انضمام الغير إليه ولا يقال مع الانضمام.

وقيد الوحدة وإن لم يكن بشيء من المعنيين جزءا لمعنى المفرد ولا مأخوذا في وضعه ، إلاّ أنّ المقصود بنفي جزئيّته هنا هو المعنى الثاني ، لأنّه مراد من زعمه جزءا له كما يرشد إليه كلماتهم المصرّحة بسقوط قيد الوحدة عند استعمال المشترك في أكثر من معنى ، لوضوح أنّ المعنى الأوّل على ما بيّنّاه من كونه وصفا لازما لا يقبل السقوط والإسقاط.

وقد فسّره الفاضل المحشّي بكون المعنى منفردا في الإرادة ، وهذا سهو لأنّ كونه منفردا في الإرادة من عوارض الاستعمال ، وعلى تقدير ثبوت اعتباره من الواضع فلا يصلح جزءا للمعنى ولا قيدا للموضوع له ، بل يشبه بكونه شرطا في ضمن الوضع ، على معنى أنّ الواضع عند وضعه اللفظ لنفس المعنى شرط أن لا يراد من اللفظ إلاّ منفردا ، فلا محمل لقيد « الوحدة » في محلّ البحث إلاّ الوصف الاعتباري بالمعنى الثاني.

فنقول : إنّه ليس جزء المعنى المفرد ولا مأخوذا في وضعه ، فتكون دلالته على نفس المعنى كلّيّا أم جزئيّا بالمطابقة لا بالتضمّن ، خلافا لمن زعمه جزءا كالمصنّف ومن وافقه ، ولمن زعمه قيدا كما في الضوابط ، فيكون الدلالة على نفس المعنى حينئذ بالتضمّن.

لنا : على ذلك بعد الأصل ـ بمعنى أصالة عدم تعرّض الواضع لتصوّر ما زاد على تصوّر نفس المعنى وملاحظته وأخذه في الوضع ، لكونه مشكوكا بعد تيقّن الجميع بالنسبة إلى نفس المعنى ـ قضاء الوجدان الصريح والطبع الصحيح بأنّ الواضع حين الوضع إنّما يلاحظ نفس المعنى ويأخذه في الوضع ويضع اللفظ بإزائه ، ولا يلتفت إلى وصفه الاعتباري المعبّر عنه بالوحدة ، ولا يأخذه في الوضع ولا يجعله جزءا للموضوع له ولا قيدا فيه ، بل هو لمن خلّى نفسه عن الشبهة من الفطريّات ، ويكفي شاهدا بذلك مراجعة الوجدان عند وضع العلم ، فيجد كلّ أحد

٤٩٣

أنّه لا يلتفت إلى الوصف المذكور ولا يأخذه في الوضع أصلا ، ومن أنكره فقد كابر وجدانه.

ويشهد بذلك أيضا ظاهر كلام أئمّة اللغة في كتبهم عند ضبط معاني الألفاظ ، حيث لا يتعرّضون إلاّ لبيان نفس المعنى من دون إشعار بوصفه ولا إشارة إليه ، وإنّما أردنا من عدم التفات الواضع حين الوضع إلى ما زاد على نفس المعنى ما يعمّ عدم الاعتناء لا ما يرادف الغفلة ، فلا ينافي إسناده إلى الواضع توقيفيّة اللغات نظرا إلى استحالة الغفلة منه تعالى.

لا يقال : كيف تنكر جزئيّة قيد « الوحدة » مع أنّ المعنى حال الوضع واحد ، فالوضع حاصل بإزاء المعنى حال وجود الوحدة والانفراد ، إذ لا ملازمة بين وجود وصف مع المعنى حين الوضع ودخوله في الوضع وأخذه جزءا للموضوع له.

ألا ترى أنّ وضع العلم حاصل حال صغر المسمّى مع عدم دخول الوصف في الوضع ، ولذا كان استعماله في جميع حالات المسمّى من الصغر والكبر والشيخوخة والهرم حقيقة.

فإن قلت : إنّ تبادر الوحدة من المشترك ممّا يرشد إلى كونها جزءا كما اعتمد عليه المصنّف وغيره ، فإنّ المتبادر منه عند الإطلاق واحد من معانيه بعينه عند المتكلّم ، وإن لم يكن معيّنا للسامع.

وبعبارة اخرى : تبادر المعنى الواحد وهو علامة دخول الوحدة أيضا في الوضع.

قلت : هذا التبادر إطلاقي على معنى كونه من لوازم الاستعمال ، ومنشؤه جريان العادة في المحاورات بأن لا يراد من المشترك إلاّ أحد معانيه بعينه عند المتكلّم ، أو غلبة استعماله في الواحد ، وليس وضعيّا كاشفا عن الوضع باعتبار كون المتبادر ممّا وضع له اللفظ ، فلا يعبأ به.

وكما اندفع بما ذكرناه القول بجزئيّة قيد « الوحدة » فكذلك اندفع القول بقيديّته ، ثمّ إنّ ها هنا توهّمين :

٤٩٤

أحدهما : أنّ عدم دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له يقتضي عموم الوضع لحالتي الوحدة والكثرة ، فيكون استعمال اللفظ في الكثير على وجه الحقيقة ، كما أنّ استعماله في الواحد كذلك ، وإنّما توهّمه المحقّق السلطان حيث ردّ على المصنّف في دعوى كون اللفظ حقيقة في كلّ من المعنيين مع قيد « الوحدة » قائلا : لا يخفى أنّ دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ممنوع ، بل الظاهر خلافه ، وإنّ الوحدة وعدمها من عوارض الاستعمال لا جزء للمستعمل فيه ، فإنّ الظاهر إنّ الواضع إنّما وضعه لكلّ من المعاني لا بشرط الوحدة ولا عدمها.

نعم قد يستعمل تارة في واحد منها ، وقد يستعمل في أكثر ، والموضوع له المستعمل فيه هو ذات المعنى في الصورتين على ما حقّقه شارح المختصر (١).

ثانيهما : إنّ قيد « الوحدة » وإن لم يدخل في الوضع ولكن وجود الوصف حال الوضع ممّا يقتضي اختصاص الوضع بحال الوحدة ، فالتخطّي منها إلى غيرها باستعمال اللفظ في أكثر من معنى استعمال له في غير ما وضع [ له ](٢) والمتوهّم لذلك بعض الأعلام في هذا المقام (٣) بل في غير موضع من كتابه.

ولا بأس بالتكلّم في تحقيق ما هو الصواب من هذين التوهّمين.

فنقول : يمكن توجيه الأوّل بما يكون دليلا عليه ، من : أنّ المشترك « كالعين » مثلا بالنسبة إلى الذهب والفضّة موضوع لذات كلّ من المعنيين بوضع على حدّة ، وكما أنّه إذا اريد منه الذهب وحده تعويلا على الوضع المختصّ به كان استعمالا له فيما وضع له ، وإذا اريد منه الفضّة وحدها تعويلا على الوضع الآخر المختصّ بها كان استعمالا له فيما وضع له ، فكذلك إذا اريد منه الذهب والفضّة معا تعويلا بالنسبة إلى كلّ منهما على الوضع المختصّ به كان استعمالا له فيما وضع له ، والانضمام المفروض إنّما حصل قهرا من جهة الاستعمال من باب المقارنة الاتّفاقية من دون أن يوثّر في خروج شيء منهما عن كونه موضوعا له ، ولا في

__________________

(١) حاشية سلطان العلماء على المعالم : ٣٣.

(٢) أثبتناه بضرورة السياق.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٦٣.

٤٩٥

كون الاستعمال المفروض استعمالا في خلاف ما وضع له ، لأنّه إنّما يؤثّر في ذلك على تقدير كون وصف الوحدة والانفراد معتبرا في الوضع بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة والمفروض خلافه لفرض حصول الوضع لذات كلّ من المعنيين لا بشرط الوحدة ولا بشرط عدمها ، فكلّ من الوحدة وعدمها ملغى في نظر الواضع ، ولا نعني من عموم الوضع لكلتا حالتي الوحدة والانضمام إلاّ هذا.

ويمكن توجيه الثاني أيضا بوجهين ينهض كلّ منهما دليلا عليه :

أحدهما : أنّ محصّل معنى الوضع قصر اللفظ على المعنى ، سواء عرّفناه بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، أو بتخصيص اللفظ بالمعنى بحيث متى اطلق اللفظ فهم منه المعنى أو بغير ذلك ، وكما أنّ الوضع بمعنى قصر اللفظ على معنى معيّن يوجب انصراف اللفظ عن المعاني الاخر ، ولذا يكون استعماله فيها استعمالا في خلاف ما وضع له ، فكذلك قصره على معنى حال وجود وصف فيه يوجب انصرافه عن حالة انتفاء ذلك الوصف ، ولا نعني من اختصاص الوضع بحال الوحدة والانفراد وعدم تناوله لحال الكثرة والانضمام إلاّ هذا.

ولا ينتقض ذلك بوضع العلم حال وجود وصف الصغر في المسمّى ، لأنّ واضع العلم قصد بوضعه التعميم ليدعى المسمّى ويعرف بذلك الاسم في جميع حالاته حتّى بعد الموت ، بخلاف ما نحن فيه لعدم ثبوت القصد إلى التعميم من الواضع هنا بالنسبة إلى الحالتين.

ويزيّفه : أنّ الوضع بمعنى قصر اللفظ لا يوجب انصراف اللفظ عن حالة انتفاء الوصف الموجود في المعنى إلاّ إذا وضع اللفظ لنفس ذلك الوصف أو للوصف والموصوف معا ، والمفروض عدم التفات الواضع إلى الوصف وكونه ملغى في نظره.

وثانيهما : أنّ انتفاء ماهيّة عن شيء وعدم صدقها عليه قد يكون لانتفاء جنسها وقد يكون لانتفاء فصلها ، كانتفاء ماهيّة « الإنسان » عمّا هو فرد للشجر وما هو فرد للفرس ، فإنّه في الأوّل لانتفاء الحيوانيّة وفي الثاني لانتفاء الناطقيّة ، والوضع

٤٩٦

بمعنى تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ماهيّة مركّبة من جنس وهو : تعيين اللفظ للمعنى ، وفصل وهو : الدلالة على المعنى بنفسه ، وهو بهذا المعنى منتف عن الغلط والمجاز معا ، إلاّ أنّه في الأوّل لانتفاء جنسه وفي الثاني لانتفاء فصله ، لأنّ دلالته على المعنى المجازي بواسطة القرينة لا بنفس اللفظ ، مع اشتماله على نوع تعيين باعتبار ترخيص الواضع في استعمال نوع اللفظ الموضوع فيما يناسب معناه الموضوع له ، والمشترك عند إطلاقه إنّما يدلّ بنفسه على واحد من معنييه بعينه عند المتكلّم ، والافتقار إلى القرينة لأجل تعيين ذلك الواحد للسامع ، وإذا اريد منه المعنيان معا فهو لا يدلّ عليهما بنفسه جزما بل يفتقر في دلالته إلى القرينة.

وقضيّة ذلك انتفاء الوضع عن المعنيين لانتفاء فصله ، وإن شمل كلاّ منهما الجنس وهو التعيين ، وهذا هو معنى اختصاص الوضع بحالة الوحدة والانفراد.

ويزيّفه أيضا : أنّ قيد « الدلالة على المعنى بنفسه » في تعريف الوضع ليس من قبيل الفصل بل من قبيل الغاية ، فإنّ الفائدة المقصودة من تعيين اللفظ للمعنى إنّما هي دلالة اللفظ على المعنى بنفسه لا بالقرينة.

ومن المعلوم إنّ غاية الشيء خارجة عن حقيقة ذلك الشيء ، فحقيقة الوضع وماهيّته هو تعيين اللفظ للمعنى ، وهو حاصل لكلّ من المعنيين في حالتي الانفراد والانضمام وعدم الدلالة عليهما مع الانضمام لمانع التعدّد مثلا لا ينافي عموم الوضع الحاصل لكلّ منهما لهما حال الانضمام في الإرادة ، بل لنا أن نقول : إنّ الوضع ليس علّة تامّة للدلالة بل هو من باب المقتضي ، ومن ذلك يمكن أن يكون المراد من الدلالة المأخوذة في تعريفه الدلالة بالقوّة. أعني كون اللفظ من شأنه أن يدلّ على المعنى بنفسه ، لوجود مقتضى الدلالة وهو الوضع ، وعدم فعليّة الدلالة إنّما هو لمانع خارجي.

وتوهّم إنّه لقصور اللفظ عن الدلالة ، ولا يكون إلاّ لانتفاء المقتضي حال الانضمام.

٤٩٧

يدفعه : قضاء الوجدان بأنّه لقصور المعنيين عن الانفهام حال الانضمام لا لقصور اللفظ ، فإنّه لوجود المقتضي معه مستعدّ للدلالة عليهما مع الانضمام ، وإنّما لا يدلّ عليهما فعلا لجريان العادة بأن يراد من المشترك واحد من معانيه بعينه أو لغلبة ذلك فيه.

وهذا هو الباعث على قصور المعنيين عن الانفهام من اللفظ مع الانضمام ، فما ذكره المحقّق السلطان بحسب ظاهر النظر هو الصحيح والصواب ، فقيد « الوحدة » كما أنّه ليس من أجزاء الموضوع له ولا من مشخّصاته فكذلك ليس من مخصّصات الوضع.

المقدّمة الرابعة : في تحقيق حال المثنّى والمجموع وضعا واستعمالا.

فنقول : إنّ كلاّ منهما يرد في الاستعمال على وجوه :

أحدها : أن يراد به فردان أو أفراد من ماهيّة واحدة هي معنى المفرد ، كرجلان ومسلمون رفعا ، ورجلين ومسلمين نصبا وجرّا.

وثانيها : أن يراد بهما شيئان في الاسم أو أشياء متّفقات في الاسم وإن لم يتّفقا أو لم تتّفق في المعنى ، بعدم كونهما فردين أو أفرادا من ماهيّة واحدة ، كزيدان وزيدون رفعا ، وزيدين بالفتح والكسر نصبا وجرّا.

وثالثها : أن يراد بهما شيئان مختلفان في الاسم والمعنى ، بعدم كونهما مسمّيين باسم المفرد ولا فردين من مسمّاه ، كـ « قمران » و « قمرين » لمسمّى القمر والشمس لبنائه على الاستعارة بالنسبة إلى مسمّى الشمس لمشابهتهما في الضوء والإنارة.

وقد نقل عن أهل العربيّة خلاف فيهما باعتبار المعنى ، فعن الأكثرين منهم القول بالحقيقيّة في الأوّل خاصّة ، ووافقهم جماعة من الأعلام من الاصوليّين.

وعن جماعة المصير إلى كونهما لما يعمّ الأوّل والثاني ، أعني كونهما بحسب الوضع لشيئين أو أشياء متّفقة في الاسم فقط ، سواء اتّفقت في المعنى أيضا بكونهما فردين أو أفرادا من ماهيّة واحدة أو لا ، وعبّروا عنه بكفاية الاتّفاق في اللفظ فيهما ولا حاجة معه إلى الاتّفاق في المعنى أيضا.

٤٩٨

والظاهر أنّ مرادهم من كفاية الاتّفاق في اللفظ صحّة وقوع لفظ المفرد على كلّ من الشيئين أو الأشياء بالاشتراك المعنوي ، كما لو كانا فردين أو أفرادا من معناه الحقيقي أو الادّعائي كفردين من الرجل الشجاع إذا اريدا من أسدين ، أو بالاشتراك اللفظي كما في « عينين » و « زيدين » أو بالحقيقة والمجاز كما في « قمرين » و « حسنين » و « عمرين » و « أبوين » أو بالمجاز فيهما معا كما في « خافقين » للمغرب والمشرق ، فإنّ « الخافق » من خفق النجم بمعنى غرب ، كنّى للمغرب من باب إطلاق اسم الفاعل على معنى اسم المفعول ، لأنّ المغرب على المعنى المذكور مخفوق فيه ، وكذلك إن أخذناه من خفقة بمعنى النعاس ، ثمّ غلّب بعد ذلك على المشرق فهذا مجاز في مجاز من باب سبك المجاز من مجاز.

فمرجع المعنى الثالث باعتبار وضع التثنية والجمع على القول الثاني إلى المعنى الثاني على معنى كون إطلاق « قمرين » مثلا باعتبار الوضع المذكور على الحقيقة وإن لزمه التجوّز في المفرد بالاستعارة أو غيرها لإحدى العلاقات المعتبرة بالنسبة إلى أحد المعنيين ، لوضوح أنّ مرجع القول المذكور إلى كون التثنية بحسب الوضع لشيئين متّفقين في اللفظ مطلقا ، سواء كانا فردين من معنى المفرد حقيقة أو مجازا أو معنيين مستقلّين ، مع كون كلّ منهما معنى حقيقيّا للمفرد أو أحدهما معنى حقيقيّا له والآخر معنى مجازيّا ، أو كلّ منهما معنى مجازيّا له كما في « خافقين ».

وقيل : بأنّه على القول الأوّل يلزم في مثل « زيدان » و « زيدين » مجاز واحد ، وهو تأويل الاسم أعني المفرد بالمسمّى اعتبار لكون المعنيين المتبائنين فردين من المسمّى ، وفي مثل « قمران » و « قمرين » مجازان ، لافتقاره أوّلا إلى استعارة اسم « القمر » لمسمّى الشمس ، ثمّ تأويله إلى المسمّى ليشمل كلاّ من المعنى الحقيقي والمجازي.

وفيه : أنّ التجوّز الأوّل في مثل « قمرين » لازم للقولين معا ، ولا اختصاص له بالقول الأوّل ، إذ لا مدخليّة فيه لوضع التثنية من حيث أنّها تثنية ولا لوضع الجمع من حيث إنّه جمع.

٤٩٩

وأمّا التجوّز الآخر باعتبار التأويل بالمسمّى الّذي مرجعه إلى التصرّف في المادّة لا في الهيئة ، فيه وفي مثل « زيدين » فكونه بالخصوص لازما للقول الأوّل مبنيّ على كون وضع التثنية والجمع شخصيّا متعلّقا بأدواتهما ، مع القول بعدم جواز استعمال المشترك في التثنية والجمع في أكثر من معنى ، إذ على الوضع النوعي المتعلّق بالهيئة يلزم التجوّز في الهيئة لا في المادّة ، باستعمال الهيئة الموضوعة للفردين أو الأفراد من ماهيّة واحدة في ماهيّتين ونحوهما ممّا ليسا فردين من معنى المفرد بإحدى المناسبات المعتبرة ، كما أنّه على القول بجواز الاستعمال في أكثر من معنى يراد نفس المعنيين أو المعاني من مدخول العلامات بلا افتقار إلى التأويل بالمسمّى ، وإن لزمه المجاز في العلامات على القول المذكور ، لفرض وقوع استعمالها في مطلق التعدّد مع كونها موضوعة لتعدّد خاصّ وهو قصد الفرد.

وكيف كان : ففيهما خلاف آخر باعتبار اللفظ ، وهو كون الوضع فيهما نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة الحاصلة من لحوق الأدوات بالمفرد ، أو شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

فاستظهر أوّلهما بعض الأعاظم مسندا له إلى ثلّة وقرّره بأن يقال ـ في التثنية مثلا ـ : كلّ ما كان آخر مفرده « ألف أو ياء » مفتوح ما قبلها ونون مكسورة فهو موضوع لفردين (١).

وصرّح بثانيهما بعض الأعلام (٢) وهو ظاهر بعض الفضلاء بل صريحه (٣) ويمكن ترجيح هذا القول بملاحظة مقدّمتين :

الاولى : ما تقرّر عندهم من أنّ الموادّ المجرّدة عن اللواحق من اللام والتنوين

__________________

(١) إشارات الاصول : ٢٩ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) قوانين الاصول ١ : ٦٨ ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : فإنّ الظاهر إنّ المجاز في التثنية والجمع إنّما يرجع إلى ما لحقه علامتهما لا إلى العلامة والملحق به معا ...

(٣) الفصول : ٥٥ ( الطبعة الحجرية ) حيث قال : « لنا : على عدم جوازه في التثنية والجمع حقيقة أنّ أداتهما إنّما تدلّ على فردين أو أفراد من معنى المفرد فمفادها التعدّد في أفراد مدلول المفرد ... الخ ».

٥٠٠