تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وبما قرّرناه جميعا علم إنّ الاظهر ـ بل المقطوع به ـ هو القول بالأعمّ ، والمعتمد من دليله مضافا إلى ما تبيّن من فساد أدلّة القول بالصحيحة ، وجوه :

الأوّل : التبادر القطعي المستند إلى حاقّ اللفظ ، فإنّه إذا سمعنا قائلا يقول : فلان صلّى أو صام أو حجّ أو نحو ذلك ، يتبادر إلى أذهاننا من الصورة النوعيّة ما يتردّد بين وظائف جميع المكلّفين أو غير واحد منهم ، حتّى أنّه لو أردنا استفصال ذلك المتبادر بالتأمّل كان محتملا للكلّ ، ولم يحصل الجزم بأحدها ، ولولا أنّ اللفظ صالح بحسب وضعه لجميع هذه المحتملات لما كان المتبادر منه متردّدا بين الجميع ، وهذا معلوم بالوجدان ، ومن ينكره فقد كابر وجدانه.

الثاني : إنّا لا نعقل فرقا بين الماهيّات الجعليّة الشرعيّة في وقوع ألفاظها على كلّ زائد وناقص ، وبين الماهيّات الجعليّة العرفيّة في وقوع ألفاظها على كلّ زائد وناقص منها ، كلفظ « الدار » مثلا فإنّ العلم الضروري حاصل لكلّ ذي مسكة إنّه يطلق عند العرف على ناقص الأجزاء نحو إطلاقها على زائدها بجميع مراتبها من دون شائبة تجوّز ولا تأويل فيه ، وكذلك لفظ « الصلاة » وغيرها ، لا بمعنى أنّ هنا فرقا ولا يعقل ، بل بمعنى أنّه لا فرق ليعقل ، وهذا آية كونها للقدر المشترك بين الزائد والناقص بالبيان المتقدّم ، كما هو الوجه في لفظ « الدار » وغيره.

الثالث : إنّها لو كانت للصحيحة لزم من المحاذير ما يقضي ضرورة عرف المتشرّعة بفساده.

فأوّلا : يلزم بالقياس إلى ما عدا المركّب التامّ أن يلتزم إمّا بالاشتراك أو بالتجوّز لعلاقة المشاكلة في الصورة ، أو بالتأويل بنحو التنزيل حسبما تقدّم ، أو بالوضع الجديد من المتشرّعة.

وثانيا : يلزم في نحو قول القائل : « صلاة زيد صحيحة ، وصلاة عمرو فاسدة » فهم التكرار في الأوّل وفهم التناقض في الثاني ، أو ابتناء القول على ارتكاب تجريد في موضوع القضيّة.

وثالثا : يلزم عدم صحّة الإخبار عن العبادات بشيء ، ولا الإخبار عن شيء

٣٨١

بها ، التفاتا إلى أنّ الإخبار يستدعي تصوّر الطرفين المتوقّف على معرفتهما ، الّتي تأباها جهالة المسمّى ، إلاّ أن يراد بلفظ العبادة مجرّد الصورة ، وهو كما ترى.

ورابعا : يلزم عدم جريان الأصل الضروري عند المتشرّعة ، المجمع عليه لدى العامّة والخاصّة ، المعمول في حمل فعل المسلم على الصحّة في العبادات ، الّتي هي أظهر مجاريه.

أمّا الملازمة ـ فلما قرّرناه سابقا ـ : من أنّ ما شكّ في صحّته وفساده فالشكّ فيه راجع إلى تحقّق العنوان المعلّق عليه حكم الصحّة على هذا القول.

وقد عرفت عدم جريان الأصل المقتضي للحمل معه ، فيختلّ به نظم امور المتشرّعة بالقياس إلى موارد ذلك الأصل ، من النذور والأيمان والقدوة والإجارات وغيرها ممّا يتعلّق بالعبادات ، واللوازم كلّها كما ترى ، وهذا كلّه آية أنّ المركوز في أذهان المتشرّعة كون ألفاظها بإزاء الأعمّ.

وربّما استدل عليه بوجوه اخر غير ناهضة عليه ، ومن يطلبها يراجع مظانّها.

« تذنيب »

قد يشكل الحال في تشخيص ما يتقوّم به الصورة النوعيّة من الأجزاء الملحوظة حين الوضع ،المأخوذ معها هيئتها الاجتماعيّة الخاصّة في لحاظ الوضع باعتبار طرف النقيصة ، المقتضي لانتفاء المسمّى بنقص بعضها ، فمنهم من حدّدها بالتكبيرة والقيام والركوع والسجود في الصلاة ، كما عرفته سابقا عن بعض الأعلام (١).

ومنهم من حدّدها بالأركان بقول مطلق مع إضافة الطهارة إليها ، كما حكاه بعض الفضلاء عن بعض (٢) وعلى هذا فالتسمية دائرة وجودا وعدما معها ، فكلّما يتحقّق فيه الأركان فالمسمّى موجود فيه والماهيّة متحقّقة معه وإن لم يتحقّق معها شيء من غيرها ، وكلّما نقص عنه بعض الأركان فالمسمّى غير موجود فيه والماهيّة غير متحقّقة معه وإن تحقّق جميع غيرها.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٥٦.

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٧.

٣٨٢

ومنهم من عدل عن هذا المسلك فجعل المدار على الصدق العرفي ، ولازمه الالتزام بأنّ كلّما صدق معه الاسم عرفا فهو المسمّى وإن لم يتحقّق فيه الأركان ، وكلّما لم يصدق معه الاسم عرفا فليس من المسمّى وإن تحقّق معه جميع الأركان.

ومستند الأوّل ـ على ما تقدّم إليه الإشارة ـ قول الفقهاء في الفرق بين الأركان وغيرها بكون الأوّل ما يوجب الإخلال به عمدا أو سهوا بطلان العبادة بخلاف الثاني الّذي لا يوجب سهوه البطلان ، فلو لا الأوّل مقوّما للماهيّة لم يكن سهوه مبطلا ، كما أنّه لو كان الثاني مقوّما كان سهوه أيضا مبطلا.

وربّما أمكن الاستناد له أيضا إلى لزوم الدور ، لو كان المدار على الصدق العرفي ، فإنّه متوقّف على الوضع فلو توقّف الوضع عليه ـ كما هو لازم القول بالوضع لما يصدق عليه الاسم عرفا ـ لزم ما ذكر.

ومستند الثاني انتقاض الطريق الأوّل في طرده وعكسه ، على معنى كذب الكلّيتين المشار إليهما على هذا الطريق ، بالبيان المتقدّم ذكره سابقا.

والإنصاف : عدم استقامة شيء من الطريقين.

أمّا الأوّل : فللانتقاض المشار إليه ، مع عدم اطّراد الأركان في جميع العبادات وعدم كونها على حقيقة واحدة فيما هي ثابتة فيه ، كالصلاة والحجّ على ما يكشف عنه اختلاف الحكم ، فإنّ ركن الحجّ ليس على حدّ أركان الصلاة ، لعدم كون سهوه مبطلا ، وإنّما هو على حدّ غير الأركان فيها ، فلا يتمّ التقريب المذكور ، مع تطرّق المنع إلى كون الركنيّة ملزومة للمقوّميّة ، بل الركن كغيره ـ على ما بيّنّاه سابقا ـ اصطلاح نشأ عن الفرق في الأجزاء بين ما اعتبر في حالتي الاختيار والاضطرار معا ، وما اعتبر في حالة الاختيار خاصّة.

وتوهّم الدور ـ حسبما ذكر ـ يندفع : بتغاير محلّ التوقّف في المقدّمتين ، فإنّ المتوقّف على الوضع هو الصدق العرفي على أنّه واسطة في ثبوته ، والمتوقّف على الصدق العرفي هو الوضع على أنّه واسطة في الإثبات ، على معنى أنّ العلم بالوضع متوقّف على الصدق لا نفسه ، كما هو واضح.

٣٨٣

وأمّا الثاني : فلأنّ الصدق العرفي وعدمه لا يحرزان إلاّ بصحّتي الحمل والسلب ، وهما في نحو المقام لا تنهضان على المطلوب بتمامه ، لكثرة ما يقع فيهما من المسامحة العرفيّة ، فقد يصحّ السلب عمّا لا يترتّب عليه الفائدة تنزيلا له منزلة ما يغاير المسمّى ، وقد يصحّ الحمل على المغاير تنزيلا له منزلة المسمّى في تماميّة الأجزاء من باب تنزيل المعدوم أو الفاقد منزلة الموجود أو الواجد ، فإنّ ذلك ممّا يوجب قوّة في الشبهة ، ولا مخلص عنها إلاّ مراجعة الوجدان ، وهي هاهنا غير مجدية.

فالإنصاف : أنّ المقام في غاية الإشكال ، لكنّه لا يخلّ بالمختار ، فإنّ مقتضى ما قدّمناه وقرّرناه من الأدلّة وقوع الوضع على الوجه المتقدّم ، بكون الشارع قد لا حظ عدّة من الأجزاء الواقعيّة واعتبرها في لحاظ الوضع ، على حسبما بيّنّاه.

وهذا كما ترى كاف في ثبوت الوضع للأعمّ ، وإن اشتبهت أعيان هذه الأجزاء ، ويمكن الذبّ عنه أيضا في خصوص الصلاة بالتزام تحديدها بما ورد في صحيحة زرارة من قول أبي جعفر عليه‌السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة ، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود » (١) لظهورها في كونه عليه‌السلام بصدد بيان حال الأوامر الأصليّة المتعلّقة بالصلاة.

فقضيّة نفي الإعادة عمّا عدا الامور الخمس المذكورة أن لا يكون لغيرها دخل في قوام الماهيّة ليلزم من نقصه انتفائها المقتضي للإعادة.

وقضيّة الاستثناء من هذا الحكم مدخليّة الخمس فيها ، ولذا حكم على ما نقص بوجوب الإعادة.

نعم يشكل الحال بملاحظة دخول الثلاث الاولى الّتي هي من سلسلة الشروط في هذا الحكم ، المقتضي لدخلها في الماهيّة ولعلّه خلاف ما يزعمه الأعمّي. بل قد عرفت بما بيّنّاه سابقا خروج الشروط بالمرّة عن لحاظ التسمية.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٥ ح ٩٩١ ، التهذيب ٢ : ١٥٢ ح ٥٩٧.

٣٨٤

لكن يمكن الذبّ عنه أيضا : بموثّقة منصور بن حازم « قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام إنّي صلّيت المكتوبة فنسيت أن أقرأ في صلاتي كلّها ، فقال : أليس قد أتممت الركوع والسجود ، فقلت : بلى ، قال : تمّت صلاتك » (١) فإنّ الحكم على الصلاة بالتمام بمجرّد إتمام الركوع والسجود يقضي بأنّهما المناط في استكمال الماهيّة ، وعليهما مدار الصدق ويؤيّدها صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : إنّ الله عزّ وجلّ فرض الركوع والسجود وجعل القراءة سنّة ، فمن ترك القراءة عمدا أعاد الصلاة ، ومن نسي القراءة فقد تمّت صلاته » لقضائها بأنّ النقص في غير الركوع والسجود نسيانا غير قادح في انعقاد الماهيّة الصلاتيّة ، وإسناد فرضهما إلى الله سبحانه ظاهر في أنّهما الّذي أخذه مقوّما للماهيّة وإلاّ لم يكن الصلاة بمجرّدهما تماما.

__________________

(١) الوسائل ٦ : ٩٠ ب ٢٩ أبواب القراءة ح ٢ ، الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٥ ، التهذيب ٢ : ١٤٦ / ٥٧٠.

٣٨٥

ـ تعليقة ـ

فيما يتعلّق بمباحث المشتقّ

واعلم : أنّ العدل والإعلال والاشتقاق من جملة الألفاظ المتداولة في عرف علماء الأدب الجارية على لسانهم ، وهي متشاركة عندهم في جهة ومتفارقة في اخرى.

أمّا الأوّل : فلكون كلّ. واحد عبارة عن إخراج الكلمة عن حالتها الأوّلية إلى حالة اخرى.

وأمّا الثاني : فلأنّ العدل عبارة عن إخراجها إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل ـ بمعنى قانون اللغة ـ كونها على الحالة الاولى ، كما في « عمر » المخرج عن « عامر » و « الجمع » المخرجة عن « جمع » أو « جماعي » أو « جمعاوات ».

والإعلال عبارة عن إخراجها بالقلب أو النقل أو الحذف أو الإدغام أو الإبدال إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل كونها على تلك الحالة دون الحالة الاولى ، كما في « قال » عن قول و « يقول » عن يقول ، و « يعد » عن يوعد ، و « يمدّ » عن يمدد ، و « عدة » عن وعد ، و « إقامة » عن إقوام.

والاشتقاق عبارة عن إخراجها إلى حالة اخرى ، على أنّ الأصل كونها على كلتا الحالتين ، على معنى كونها في كلّ منهما من حيث كونها كذلك على طبق قانون اللغة ، كما في « الضارب » المخرج عن الضرب مصدرا ، بناء على أنّه الأصل في

٣٨٦

المشتقّات فإنّها في كلّ من حالتي المصدريّة واسم الفاعليّة على طبق قانون المصادر وأسماء الفاعلين ، فهو يفارق العدل في كون الحالة الثانية المخرج إليها على طبق الأصل فيه دون العدل ، كما أنّه يفارق الإعلال في كون الحالة الاولى المخرج عنها على طبق الأصل فيه دون الإعلال.

وهو لغة افتعال ، إمّا من شقّ الشيء بمعنى فرّقه وقطعه ، أي جعله قطعتين أو قطعات ، أو من الشقاق بمعنى المخالفة ، فهو على الأوّل عبارة عن أخذ شقّ الشيء أي نصفه أو قطعة من قطعاته.

وعلى الثاني عبارة عن أخذ الشيء في الطرف المخالف من الشيء الآخر ، وقد غلّب في عرف العلماء على نسبة مخصوصة حاصلة بين لفظين منبئة عن تناسب بينهما من جهة وتغاير من اخرى ، نظرا إلى اشتمال كلّ مشتقّ باعتبار المادّة والهيئة على جزءين.

أوّلهما : جهة التناسب بينه وبين مبدئه.

وثانيهما : جهة التغاير بينهما ، فإن كان النظر في اصطلاح الاشتقاق إلى الجهة الاولى اعتبر النقل من المعنى الأوّل ، فكأنّ المبدأ بوجوده مع كلّ مشتقّ بتمامه جعل قطعات فأعطى كلّ قطعة ، نظير حصص الكلّي الموجودة في ضمن أفراده ، وإن كان إلى الجهة الثانية اعتبر النقل من المعنى الثاني.

وعلى أيّ تقدير فيعتبر في صدق هذه النسبة الّتي عليها مدار الاشتقاق وإطلاق اسم المشتقّ عندهم امور :

منها : أن يتناسب اللفظان في اصول حروفهما وترتيبها تقديما وتأخيرا ، فلا اشتقاق في نحو « القعود » و « الجالس » و « الجلوس » و « القاعد » واحترزنا بالاصول عن الحروف الزائدة الّتي لا يجب فيها مراعاة التناسب ، وهي العشرة المعروفة الّتي يجمعها « هم يتساءلون » أو « سئلتمونيها » فلا يقدح المخالفة فيها.

والمراد بحصول التناسب في اصول الحروف والترتيب حصوله بحسب أصل اللغة ، فلا يقدح طروّ المخالفة لعارض ، لئلاّ ينتقض بالاشتقاق الكبير والأكبر.

٣٨٧

وتوضيحه : إنّ المشتقّ إن وافق المبدأ في الحروف الأصليّة وترتيبها فهو الاشتقاق الصغير وقد يسمّى بالأصغر ، وإلاّ فإن كانت المخالفة في الترتيب فقط فهو الاشتقاق الكبير « كجبذ » من « الجذب » وإن كانت في الحروف الأصليّة فقط فهو الاشتقاق الأكبر « كنعق » من « النهق » وما يرى من مخالفة الترتيب في الأوّل ومخالفة الحروف الأصلي في الثاني ليست من أصل اللغة ، بل طارئة لعارض النقل والقلب ولو لغير قياس.

ومنها : أن يتغايرا بحسب الهيئة ، وهي الصورة المتولّدة من توالي الحركات والسكنات وتلاحق الزوائد على الحروف الأصليّة ، سواء كان لكلّ منهما هيئة مخالفة لهيئة صاحبه بناء على كون المبدأ هو المصدر ، أو لم يعتبر لأحدهما هيئة مخصوصة لتوافق هيئة صاحبه بناء على كونه الحروف المرتّبة بالبيان الآتي.

ومنها : أن يكون أحدهما أصلا والآخر فرعا ، فلا اشتقاق بينهما لو كانا أصلين « كدحرجة » و « دحراجا » و « كتب » و « كتاب » و « كتابة » أو كانا فرعين « كعالم » و « عليم » و « ضارب » و « مضروب ».

ومنها : أن يكون الفرعيّة ناشئة عن أخذ الفرع من الأصل ، لا عن نحو زيادة حرف ، بناء على أنّ المزيد فرع للمزيد عليه ، فلا اشتقاق بين « قائم » و « قائمة ».

والمراد من الأخذ هنا أن يلاحظ هيئة منضبطة موضوعة بحسب أصل اللغة ، ثمّ أخذ من اصول حروف الأصل ما هو بوزان تلك الهيئة.

فخرج به باب العدل والإعلال ، لعدم كون المعدول إليه ممّا أخذ بوزان هيئة موضوعه لغة ، وعدم كون ما حصل بالإعلال بوزان الهيئة الموضوعة ، ضرورة أنّ الهيئة الموازنة « لقال » مثلا بعد الإعلال لم يتعلّق بها وضع لغة على أنّها هذه الهيئة ، بل الوضع اللغوي إنّما تعلّق بهيئة « فعل » وأخذ من القول ما هو بوزانها وهو « قول » بالفتح ، وحيث إنّ قانون اللغة أن لا يستعمل هذا الوزن إذا كان بعض اصوله من حروف العلّة إلاّ بقلب هذا الحرف ألفا فأخرج إلى هيئة « قال » من دون أن يتطرّق إليها برأسها وضع.

٣٨٨

ودخل فيه المشتقّات بجميع أنواعها فعليّة واسميّة وصفيّة وغيرها ، حتّى الجموع المكسّرة بأسرها ، حتّى نحو « فلك » جمعا منه مفردا ، فإنّ وجه وروده جمعا ليس وجه وروده مفردا وإن اتّحدا صورة ، إذ الثاني إنّما هو بمقتضى الوضع الشخصي المتعلّق بمجموع المركّب من هذه الحروف المعروضة لتلك الهيئة المخصوصة بخلاف الأوّل ، فإنّه من مقتضى الوضع النوعي المتعلّق بهيئة « فعل » وضمّه بهذا الاعتبار هو الضمّ المأخوذ في هذه الهيئة المغاير لما هو في المفرد ، فالتغاير بينهما بهذا الاعتبار حقيقي ، وإنّما دخل بالاعتبار الأوّل في هذه الهيئة بطريق الاشتقاق على الوجه المتقدّم.

وربّما يشكل الحال في شيئين :

أحدهما : جريان هذا الاعتبار في المثنّى والجمع المصحّح ، ففي اندراجهما تحت ضابط الاشتقاق وعدمه ، وجهان : مبنيّان على كون الوضع فيهما باعتبار معنييهما نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة المتولّدة من انضمام أدواتهما إلى المفرد ، أو كونه شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

وثانيهما : جريانه بالقياس إلى نحو « لبّان » و « حدّاد » و « نجّار » و « بنّاء » وغيره ممّا يدلّ على الذات باعتبار انتسابها إلى مبدأ جامد ويعبّر عنها بألفاظ النسبة ، وقد تسمّى بالمنسوب ، وفيها أيضا وجهان : مبنيّان على كون الهيئات الموازنة لها باعتبار أنّها هيئة مخصوصة موضوعة بحسب اللغة للمعنى المستفاد منها وعدمه ، والأوّل وإن كان يساعد عليه كلام أهل الصرف ، حيث أدرجوها في عداد الأوزان الموضوعة إلاّ أنّ الثاني هو الأظهر ، وحينئذ فالأرجح فيها عدم اندراجها في الضابط ، فيكون إطلاق المشتقّ عليه توسّعا.

ولذا يعبّر عنها بالمشتقّات الجعليّة ، لكون أخذها من مبادئها من جعليّات العرف ومخترعاتهم ، لا من باب الاشتقاق الواصل من أصل اللغة.

ثمّ إنّ لهم في الاشتقاق والمشتقّ تعريفات كثيرة ، لا يسلم شيء منها عن شيء ، مع ابتناء كثير منها على تكلّفات واضحة ، مثل ما في التهذيب من تعريف

٣٨٩

الاشتقاق : « باقتطاع فرع عن أصل يدور في تصاريفه حروف ذلك الأصل » (١).

وما عن أرباب الصناعة من تعريفه : « بأن يكون بين اللفظين تناسب في أحد المدلولات الثلاث مع اتّحاد الحروف الأصليّة ، أو وجود أكثرها مع المناسبة في الباقي ».

وما حكاه الفاضل في شرح الزبدة ، من تعريفه : « بأن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب فتردّ أحدهما إلى الآخر ».

وما حكاه أيضا عن بعضهم من تعريفه : بأن تأخذ من اللفظ ما يناسبه في التركيب فتجعله دالاّ على معنى ما يناسب معناه ، قائلا : بأنّ الأوّل حدّ له باعتبار العلم ، والثاني حدّ باعتبار العمل.

وما في الزبدة من تعريف المشتقّ : بأنّه فرع وافق الأصل بأصول حروفه.

وما في شرحها للفاضل : بأنّه فرع وافق الأصل بالحروف الاصول. وما في كلام بعض الأعاظم ، بأنّه : الفرع الموافق لأصله في حروف اصوله.

وما في كلام بعض الفضلاء من : أنّه لفظ وافق أصلا باصول حروفه ولو حكما مع مناسبة المعنى وموافقة الترتيب ، مع تصريحه بكون القيد الثاني وهو اعتبار كون الموافقة باصول الحروف احترازا عن المشتقّ بالأكبر ، والقيد الأخير احترازا عن المشتقّ بالكبير ، وهو غير واضح الوجه.

ودعوى : خروجهما عن المحدود ، يأباها إطلاق الاسم وانقسام المسمّى ، ولا يقدح فيهما عدم الموافقة في الترتيب وبعض حروف الأصل إذا كانت من باب الطوارئ كما عرفت.

وكيف كان : فلا جدوى في التعرّض لجرح هذه التعاريف وتعديلها ، والتنبيه على ما فيها وما يصلحها ، بعد ما بيّنّاه من الضابط الكلّي.

وإن شئت تعريف الاشتقاق بما يسلم عن جميع الحزازات ، فقل ـ بملاحظة

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٩ ( مخطوط ).

٣٩٠

الضابط المذكور ـ : إنّ الاشتقاق أن يؤخذ من اللفظ الموضوع ما يوازن هيئة موضوعة في اللغة ، وبحسبه تعريف المشتقّ وهو : إنّه اللفظ المأخوذ من لفظ موضوع بوزان هيئة موضوعة في اللغة.

ثمّ إنّ الكلام في هذا البيان يتمّ برسم مباحث :

المبحث الأوّل : في تحقيق الحال في مبدأ الاشتقاق المعتبر في الأفعال وغيرها ممّا يكون مبادئها من المعاني الحدثيّة.

وهذا البحث وإن كان من جزئيّات فنّ الصرف ، إلاّ أنّه من مبادئ اصول الفقه وليس مقرّرا في محلّه على ما ينبغي ، ليؤخذ به ها هنا كغيره من مسائل الصرف ومسائل النحو من باب أخذ المسلّمات.

فنقول : في كون الأصل هو المصدر والفعل فرع عليه أو العكس خلاف معروف وقع بين البصريّين والكوفيّين من أهل العربيّة ، ولكلّ من الفريقين أدلّة واهية غير ناهضة على مطلوبهم.

حيث إنّ الفريق الأوّل استدلّوا أوّلا : بأنّ مفهوم المصدر واحد لأنّه يدلّ على الحدث لا غير ، ومدلول الفعل متعدّد لدلالة على الحدث والزمان ، والواحد قبل المتعدّد وأصل له.

وثانيا : بأنّ المصدر اسم ، والاسم مستغن عن الفعل وهو غير مستغن عنه ، وما هو مستغن أصل.

وثالثا : بأنّ المصدر إنّما يسمّى مصدرا لصدور الفعل عنه ، وهو في اللغة موضع يخرج منه الإبل فيكون الفعل فرعا عليه.

ورابعا : بأنّ المصدر لو اشتقّ من الفعل لوجب أن يدلّ على أكثر ممّا يدلّ عليه الفعل ، لوجوب زيادة المشتقّ على المشتقّ منه ، وهو أنقص منه لعدم دلالته على الزمان.

والفريق الثاني استدلّوا أوّلا : بأنّ إعلال المصدر يدور مدار إعلال الفعل وجودا وعدما ، فإنّه يعلّ حيث علّ فعله ، ولم يعلّ إذا لم يعلّ فعله.

٣٩١

وحاصل الدليل : أنّه لو كان أصلا لم يكن تابعا للفعل في إعلاله ، وحيث إنّه تابع علمنا أنّه ليس بأصل.

وثانيا : إنّ الفعل يؤكّد بالمصدر فيكون أصلا ، لأنّ المؤكّد تابع والتابع فرع.

وثالثا : إنّ المصدر يسمّى مصدرا لكونه مصدورا عن الفعل ، كما قالوا في « مشرب عذب » و « مركب » بمعنى مشروب ومركوب ، فيكون فرعا.

ولا يخفى ما فيها من الوهن ، ولا جدوى في التعرّض لبيان ما فيها ، وإنّما العمدة هو النظر فيما أحدثه غير واحد ممّن تأخّر من علماء الاصول من تخطئة الفريقين والإعراض عن كلا المذهبين باختيار مذهب ثالث ، وهو أنّ الأصل في المشتقّات إنّما هو المؤلّف من الحروف المرتّبة تقديما وتأخيرا ، المعرّاة عن الحركات والسكنات ، الموضوعة للحدث المطلق بشرط تحقّقها في ضمن هيئة موضوعة ، لئلاّ يرد لزوم كونها مفيدة لمعانيها في ضمن أيّ هيئة ولو غير موضوعة.

وعلّلوه باتّفاقهم على وجوب سراية الأصل في الفرع ، الّتي لا تتأتّى إلاّ بسريان لفظه مادّة وهيئة وسريان معناه ، لوضوح عدم كونه في المصدر والفعل عبارة عن اللفظ فقط ، ولا عن المعنى وحده ، ولا لفظه عبارة عن المادّة فقط ولا عن الهيئة وحدها ، فالواجب حينئذ سريانه بجميع هذه الاعتبارات.

ولا ريب أنّه بهذا المعنى غير متحقّق في شيء منهما ، لعدم وجود الهيئة المصدريّة في الفعل ولا سائر المشتقّات ، كعدم وجود معناه فيهما ، لكونه الحدث المخصوص المقيّد بالنسبة الإجماليّة المعبّر عنها « بالإصدار » و « الصدور » وعدم وجود الهيئة الفعليّة ولا معناه في المصدر وسائر المشتقّات ، فلا بدّ وأن يكون الأصل أمرا ثالثا يتساوى نسبته إليهما وإلى غيرهما وليس إلاّ ما ذكر ، لكونه باعتبار اللفظ لا بشرط شيء من الهيئات ، وباعتبار المعنى لا بشرط شيء من الخصوصيّات المضافة إلى المعنى الحدثي حتّى النسبة تفصيليّة وإجماليّة المستفادة من المشتقّات المختلفة باختلاف أنواعها ، فيصحّ سريانه بكلا الاعتبارين إليها وإلى المصادر أيضا ، بملاحظة أنّ اللابشرط لا ينافيه ألف شرط بل يجتمع مع ألف شرط.

٣٩٢

وقيل : أصل هذا المذهب من المحقّق الشريف في بعض تحقيقاته ، وهذا هو الأقوى بل المقطوع به ، لكن لا لمجرّد ما عرفته من التعليل ، بل ـ مضافا إلى ضعف أدلّة القولين ووضوح فسادها ـ لوجوه اخر :

منها : الاستقراء التامّ القاضي بدوران الاشتقاق في جميع موارده وجودا وعدما مع حروف مرتّبة ليست بأنفسها هي المصادر ولا هي بمجرّدها الأفعال ، لاشتمالهما مطلقا على حركات وسكنات ، وغالبا على حروف لا يدور عليها الاشتقاق وجودا وعدما ، ولا يضرّ المخالفة فيها بانعقاده فينهض ذلك حجّة واضحة على أنّ نظر الواضع في أصل المشتقّات إلى ما ليس بمصدر ولا بفعل ممّا يكون نسبته إلى الجميع على حدّ سواء ، وليس إلاّ الحروف المذكورة الصالحة لأن يطرئها كافّة الهيئآت المتولّدة عن توالي الحركات والسكنات وتلاحق الحروف والزيادات.

ومنها : ما حصل بمراجعة كلمات العرب ومزاولة كلام أئمّة اللغة والأدب من العلم الضروري لكلّ متدرّب بانقسام حروف المصادر والأفعال في غالب أفرادهما إلى الاصول ، الّتي هي عبارة عمّا يدخل في المشتقّ باعتبار مبدأ اشتقاقه ، والزوائد الّتي تدخل فيه باعتبار الهيئات المختلفة الموضوعة بأنواعها للمعاني المستفادة من أنواعه المختلفة.

وقضيّة ذلك أن لا يكون لمصدريّة المصدر وفعليّة الفعل مدخليّة في الاشتقاق ، لكون مبناهما على اعتبار انضمام الزوائد إلى الاصول ، ولا يعقل لذلك وجه إلاّ كونه جعلا من الواضع ، على معنى أنّه جعل الأصل في المشتقّات ما لا يدخل فيه الحروف الزوائد ، التي على انضمامها مبنى بناء المصدر والفعل ، وإلاّ لم يعقل الفرق بين حروفهما بكون جملة منها أصليّة واخرى زائدة.

وممّا يوضح ذلك أيضا عدم انقسام الحركات والسكنات الطارئة للمشتقّات إلى الأصليّة وغيرها ، وهذا كما ترى ليس إلاّ لأنّ الأصل شيء لم يؤخذ معه بحسب وضعه حركة وسكون.

٣٩٣

ومنها : إنّه لو كان الأصل في المشتقّات هو المصدر أو الفعل دون ما ذكر لزم عدم دلالتها على معانيها الحدثيّة ، وعدم اتّصافها بالحقيقة والمجاز ، وبطلان اللازم بكلا قسميه أبين من أن يبيّن.

أمّا الملازمة : فلأنّ كلاّ من الدلالة والاتّصاف بالوصفين يتبع الاستعمال ، وهو يتبع الوضع ، على معنى اعتبار وقوعه على مورد الوضع في الموضوع له ليدلّ عليه بوصف الحقيقة أو في خلافه ليدلّ عليه بوصف المجاز.

والمفروض إنّ مورد الوضع فيهما هو المجموع المركّب من الهيئة والمادّة ، وهو على هذا الوجه غير موجود في المشتقّ لما عرفت من انتفاء الهيئتين.

وبالجملة : مورد الوضع منهما ليس بموجود في المشتقّات ، والموجود ليس بمورد له ، فالاستعمال غير واقع على مورد الوضع ، وينتفي معه الدلالة والاتّصاف ، وهو المراد من اللازم ، وبطلانه يكشف عن كون مورده هو الحروف المرتّبة المعرّاة عن الهيئة المخصوصة ، وأنّ الدلالة على المعنى الحدثي والاتّصاف باعتبارها لا غير.

وممّا يؤيّد الجميع ، أو يدلّ على المطلب أيضا : أنّ المصادر كالأفعال لها بحسب اللغة على ما ضبطه أئمّة الصرف هيئآت خاصّة وأوزان مخصوصة ، ترتقي إلى اثنين وثلاثين أو أزيد ، وهذا يقتضي كون بناء المصدر مصدرا بأحد هذه الأوزان من باب الاشتقاق بالمعنى المتقدّم ، بأن يلاحظ من هذه الهيئآت الموضوعة على ما هو الظاهر للمعاني المصدريّة هيئة مخصوصة ـ على حسب ما قصد البناء عليه ـ فيؤخذ حروف الأصل بوزانها.

ثمّ إنّه لا ريب في أنّ قضيّة الوجوه المذكورة كون أصل المشتقّات متساوي النسبة إليها جمع ، حتّى المصادر المجرّدة باعتبار المعنى ، كما أنّه كذلك باعتبار اللفظ ، ليكون موجودا مع الجميع بكلّ من اعتباري اللفظ والمعنى ، وإنّما يتأتّى ذلك ـ على ما عرفت ـ بفرض كون الحروف الأصليّة بما فيها من الترتيب موضوعة للمعنى الحدثي ، من حيث إنّه ماهيّة مقرّرة في نفس الأمر ملحوظة

٣٩٤

لا بشرط جميع الخصوصيّات الزائدة عليها ، المستفادة من المشتقّات المختلفة بحسب اختلاف هيئآتها الموضوعة بالنوع لهذه الخصوصيّات ، فحروف « الضرب » مثلا من حيث إنّها مجرّد هذه الحروف المرتّبة موضوعة للمعنى الحدثي ، وهو مباشرة جسم لجسم على وجه يستتبع الإيلام من حيث إنّه هذه الماهيّة لا بشرط شيء من الخصوصيّات المضافة إليها ، حتّى الصدور أو الوقوع والذات المنسوب إليها الحدث ـ صدورا منها أو وقوعا عليها ـ والزمان معيّنا أو غير معيّن والمكان والآلة وغيرها ممّا له مدخليّة فيه صدورا ووقوعا.

فإذا تحقّق هذه الحروف بهذا المعنى في ضمن المصدر بأحد أوزانه المعهودة ، كان مفاد الجميع ما ينحلّ إلى ماهيّة الحدث من حيث صدورها أو وقوعها بشرط لا بالنسبة إلى الذات المنسوب إليها تلك الماهيّة ، أي بشرط أن لا يكون معها الذات الموصوفة بها ليصحّ كونها بالنسبة إليها عرضا قائما بها مغايرا لها في الوجود ، فإنّها لا يصلح لذلك إلاّ على تقدير عدم دخولها معها في مدلول لفظ المصدر ولذا يمتنع حمله عليها.

وإذا تحقّقت في ضمن اسمي الفاعل أو المفعول كان مفاد الجميع ما ينحلّ إلى الذات واتّصافها بماهيّة الحدث من حيث صدورها عنها أو وقوعها عليها ، ولذا يعبّر عن الجميع عند تفسير المشتقّ بذات أو شيء له المبدأ ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا اخذ الحدث في مدلول المشتقّ بلا شرط بالنسبة إلى ذات الموضوع ، أي لا بشرط القيد العدمي المأخوذ في وضع المصدر وإن لحقه التقييد بانضمام الذات إليه ، وإلاّ امتنع الجمع بينهما في مدلول لفظ واحد.

وهذا هو الوجه في صحّة حمل المشتقّ على الذات المأخوذة في لحاظ هذا الحمل أيضا ، بلا شرط في كلّ من جانبي الموضوع والمحمول.

فالفرق بين المصدر واسم الفاعل مثلا ، إنّ الحدث في الأوّل مأخوذ بشرط لا وفي الثاني بلا شرط ، مع استناد الدلالة فيهما عليه إلى ذات الحروف الأصليّة المتحقّقة في ضمنها المعبّر عنها بالمادّة.

٣٩٥

نعم الدلالة على ما زاد عليه من الشروط والقيود اللاحقة به يستند إليهما باعتبار الهيئة حتّى الصدور أو الوقوع في الأوّل ، بناء على ما يساعد عليه النظر من وضع هيئات المصدر للدلالة على أحد هذين الأمرين المأخوذ قيدا لماهيّة الحدث ، وهو المراد بالنسبة الإجماليّة المتقدّم ذكرها ، كما وقع التفسير به في كلام بعضهم من حيث إنّه لم يؤخذ معه في لحاظ الوضع ما يوجب حصول معرفته على التفصيل بل اعتبر عدمه ، ولذا كان استعماله فيما دخل فيه الذات كمعنى اسمي الفاعل والمفعول في مثل « زيد عدل » و « خلق الله » مجازا.

ومن هنا يعلم أنّ قيد بشرط لا في مدلول المصدر من مقتضيات وضعه الهيئي لا المادّي ، لينافي ما تقدّم من القاعدة المقتضية لكون المبدأ لا بدّ وأن يعتبر بلا شرط لفظا ومعنى.

فإذا تبيّن هذا كلّه ، فاعلم : أنّه عن جماعة من أهل المعقول إنّهم زعموا أنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه ، هو الفرق بين الشيء لا بشرط وبينه بشرط لا ، فحدث الضرب إن اعتبر بشرط لا كان مدلولا للفظ « الضرب » وامتنع حمله على الذات الموصوفة به وإن اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ « الضارب » وصحّ حمله عليها.

وعلى هذا القياس فجعلوا الفرق بين العرض والعرضي ، كالفرق بين الهيولي والجنس ، وبين الصورة والفصل ، وهذا الكلام وإن كان مبناه على أخذ المصدر مبدأ ـ تبعا لما اشتهر عن أهل العربيّة ، وهو على ما قرّرناه خلاف التحقيق ـ لكن مفاده من حيث تضمّنه لإبداء الفرق بين المصدر والمشتقّ باعتبار المعنى بعدم صحّة الحمل في الأوّل وصحّته في الثاني حقّ لا سترة عليه ، فإنّ محصّله : أخذ المصدر باعتبار مدلوله من باب العرض والمشتقّ باعتبار مدلوله من باب الأمر العرضي ، تنظيرا لهما في الحكم من حيث صحّة الحمل وعدمها بالهيولي والجنس ، والصورة والفصل ، من حيث عدم صحّة الحمل في الهيولي والصورة ، المأخوذ كلّ منهما جزءا للماهيّة المركّبة من حيث إنّها جسم منهما باعتبار لحاظ الخارج على ما هو ضابط المركّبات الخارجيّة بأجمعها ، من عدم صحّة الحمل في أجزائها

٣٩٦

بعضها على بعض ولا كلّ واحد على المجموع ، ولا المجموع على كلّ واحد ، لما لزمها من التغاير بالوجود ، واعتبار كلّ بشرط لا في لحاظه ، وصحّته في الجنس والفصل المأخوذ كلّ منهما جزءا لها من حيث إنّها نوع مركّب باعتبار لحاظ العقل من الأجناس والفصول ، على ما هو ضابط المركّبات العقليّة بأجمعها من صحّة الحمل في أجزائها بعضها على بعض ، وكلّ واحد على الكلّ ، والكلّ على كلّ واحد ، لما لزمها من الاتّحاد الوجودي ، المقتضي لأخذ كلّ في لحاظ التركيب الّذي هو لحاظ التعريف لا بشرط.

ومن هنا يصحّ التعريف المنوط صحّته على صحّة حمل كلّ جزء من المعرّف على المعرّف ، وإنّما ذكر الهيولي في قرن الجنس والصورة في قرن الفصل ، مراعاة لمشابهة الأولى للجنس في الاشتراك بين جميع الماهيّات ، والثانية للفصل في جهة الاختصاص بماهيّة واحدة وامتيازها بهما عن مشاركاتها في الهيولي والجنس خارجا وعقلا ، ولا خفاء إنّ العرض والعرضي وإن كانا يمتازان عن هذه المذكورات في خروجهما عن الماهيّة غير أنّ الأوّل منهما يشارك الهيولي والصورة في عدم صحّة الحمل ، والثاني يشارك الجنس والفصل في صحّته.

ومن الفضلاء من اعترض على ما ذكروه بما يرجع ملخّصه ، إلى أنّ العرض ممّا لا يصحّ حمله على موضوعه وإن أخذ لا بشرط ، ما لم يعتبر المجموع منهما من حيث المجموع شيئا واحدا ، بأن اعتبر ذات الموضوع المأخوذة لا بشرط باعتبار قيام العرض بها ليحمل المجموع عليها ، فلا يكفي فيه مجرّد أخذ العرض لا بشرط (١).

وظنّي إنّه في غير محلّه ، حيث لا نجد في كلامهم المذكور ما ينافي ذلك ولعلّ مبناه على توهّم إنّهم زعموا كون العرض إذا اخذ على الوجه المذكور تمام مدلول المشتقّ ، فهو حيثما يؤخذ في قضيّة الحمل فإنّما هو يؤخذ بتمام مدلوله ، وليس إلاّ العرض المأخوذ لا بشرط.

__________________

(١) الفصول الغرويّة : ٦٢.

٣٩٧

وكأنّه نشأ من ملاحظة ما تقدّم في كلامهم من أنّ حدث الضرب إذا اعتبر لا بشرط كان مدلولا للفظ « الضارب » وصحّ حمله عليها.

ويدفعه : ظهور أنّهم جعلوه مدلولا له باعتبار مادّته لا مطلقا ، وهو لا ينافي أن يكون له مدلول آخر باعتبار هيئته ، وهو الذات مع اتّصافها بمدلول المادّة.

وممّا يفصح عن ذلك تعبيرهم عنه بالعرضي الّذي لا يكون إلاّ بدخول الذات أيضا في مدلوله ، قبالا للعرض المعرّى عن الذات المعبّر به عن المصدر ، مضافا إلى ذكره مع المصدر المعبّر عنه بالمبدأ الّذي دخله فيه باعتبار المادّة لا غير ، فوجب أن يكون النظر في مدلوله فيما دخل في مفهومه من جهتها لا غير.

تنبيه : ينبغي أن يعلم أنّ ما في كلام جماعة من الاصوليّين من تنويع التغيير الّذي هو من لوازم الاشتقاق على خمسة عشر نوعا ، حاصلا من ملاحظة الزيادة أو النقصان أو هما معا في الحروف أو الحركات أو فيهما معا ، وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ورباعيّا ، باعتبار استلزام كلّ من الأوّل والثالث حصول أربعة أنواع ، والثاني حصول ستّة أنواع ، والرابع حصول نوع واحد ، إنّما يستقيم على اعتبار كون الأصل هو المصدر أو الفعل.

وأمّا على المختار فلا يعقل التغيير في الحركات بزيادة ولا نقيصة ، حيث لا حركة للأصل حينئذ حتّى تتغيّر بانتقاله إلى فروعه ، ولا في الحروف من حيث النقص لوجوب وجود حروفه بأسرها في فروعه ، فالوجه في التنويع ـ على هذا الأصل ـ أن يقال : إنّ الاشتقاق يلزمه انتقال الأصل إلى فروعه بتحريك حروفه كلاّ أو بعضا مع إسكان الآخر مع زيادة حرف آخر عليها ، وحدانيّا أو ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا أو بدونها ، تلك عشرة كاملة حاصلة عن ضرب اثنين في الخمس ، وعليك باستخراج الأمثلة.

المبحث الثاني : فيما يتعلّق بالمشتقّات المخرجة عن المبدأ الحدثي ، بالنظر إلى جانب ألفاظها هيئة من حيث ورود الوضع عليها.

فاعلم : أنّ الوضع ينقسم عندهم باعتبار متعلّقه من حيث اللفظ إلى الشخصي

٣٩٨

لتعلّقه بشخص اللفظ ، والنوعي لتعلّقه بنوعه ، فالمقسم الأولي وهو المتعلّق لا غير ، وقد يطلق الوضع النوعي على ما يتعلّق بالألفاظ المتصوّرة إجمالا بتصوّر نوعها ، والمراد بشخص اللفظ هو اللفظ الخاصّ المعيّن ، وهو إمّا يتعيّن باعتبار الخارج نظرا إلى ما يطرئه من الاستعمال ، أو يتعيّن باعتبار الذهن نظرا إلى اشتماله على مادّة أو هيئة على طريقة منع الخلوّ ، لكن ينبغي أن يقطع أنّ متعلّق الوضع الشخصي في موارده ليس ما يتعيّن بالاستعمال ، على معنى فرض تعلّقه بالمتعيّنات الخارجيّة ومستعملات اللفظ المتعدّدة بحسب المستعملين والاستعمالات لا بملاحظة تفصيليّة ولا بملاحظة إجماليّة ، بناء على احتمال كون الملحوظ حين الوضع إنّما هو المتعيّن الذهني بحسب المادّة أو الهيئة على أن يكون آلة لملاحظة مصاديقه على الإجمال ، فإنّه مع عدم قائل به خلاف ما علم ضرورة من حال الواضعين ، مع منافاته الحكمة من حيث تضمّنه سفها ، سيّما الأوّل ، مع قضاء ضرورة الوجدان ببطلانه ، فإنّا إذا فرضنا أنفسنا واضعين لا نجد من أنفسنا إلاّ ملاحظة ما يتعيّن في الذهن ووضعه للمعنى ، وإن شئت فاختبر نفسك في تسمية ولدك.

وفي كون العبرة بما يتعيّن مادّة وهيئة فالوضع فيما عداه نوعي ، أو بما يتعيّن مادّة أو هيئة على سبيل منع الخلوّ فالوضع في الجميع شخصي ، وجهان يختلفان بالاعتبار.

وتوضيحه : أنّ الوضع باعتبار انقسامه إلى القسمين المذكورين يتصوّر تارة : بأن يلاحظ مادّة مخصوصة بهيئة مخصوصة عارضة لها.

واخرى : بأن يلاحظ هيئة مخصوصة مع قطع النظر عن المادّة مطلقا ، أو عن مادّة مخصوصة.

وثالثة : بأن يلاحظ مادّة مخصوصة مع قطع النظر عن الهيئة كما في مبادئ المشتقّات على المختار.

ورابعة : بأن يلاحظ اللفظ بعنوان كلّي غير ملحوظ معه مادّة ولا هيئة كما في

٣٩٩

المجازات ، بناء على الترخيص في النوع ، وإطلاق الوضع عليه مسامحة لعلاقة المشابهة في إفادة صحّة الاستعمال.

وحينئذ فإمّا أن يقال : إنّ الوضع النوعي ما لم يلاحظ فيه خصوصيّة أصلا ، أو يقال : إنّ الوضع الشخصي ما لم يلاحظ فيه جهة عموم أصلا ، فبالاعتبار الأوّل ينحصر الوضع النوعي في القسم الأخير وهو فيما عداه شخصي ، وبالاعتبار الثاني ينحصر الوضع الشخصي في القسم الأوّل وهو فيما عداه نوعي ، وهو الأظهر من طريقة القوم.

ولعلّه لذا اختلف عبارات بعض الأعلام ، فصرّح تارة : بما يقضي بالوجه الأوّل ، واخرى : بما يقضي بالوجه الثاني.

وعلم بما ذكر جميعا أنّ المراد بالشخص والنوع هاهنا ما يرادف النوع والجنس ، لا ما هو مصطلح أهل المعقول ، ولا خفاء أنّ الوضع في المشتقّات لا يجوز أن يكون شخصيّا لمنافاته الحكمة ، مع عدم ظهور قائل به بل ظهور الاتّفاق على خلافه ، من غير فرق في ذلك بين الاسميّة والفعليّة حتّى المصادر ـ على المختار ـ باعتبار هيأتها ، لكونها حينئذ على ما عرفت سابقا من قبيل المشتقّات.

وما يستفاد من صريح بعضهم ـ كظاهر غيره ـ من كون أوضاع المصادر شخصيّة لا يستقيم إلاّ على القول بكونها مبادئ المشتقّات ، وإلاّ فعلى القول الآخر لا وجه له سوى توهّم اختلاف صيغها وفقد ما يكون قدرا جامعا لجزئيّاتها.

ويزيّفه : إنّه إن اريد أنّه ليس لها نوع واحد يكون شاملا لجميع جزئيّاتها فليس وضعها واحدا متعلّقا بنوع واحد ، فالصغرى مسلّمة لكنّ الكبرى ممنوعة ، لعدم كون العبرة في الوضع النوعي بوحدة النوع.

وإن اريد أن ليس لها قدر جامع أصلا لا واحدا يجمع جميع الجزئيّات ، ولا متعدّدا يجمع كلّ واحد جملة كثيرة منها لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى ، فيكون أوضاعها كأوضاع أعلام الأشخاص وأسماء الأجناس ، فالكبرى مسلّمة لكنّ الصغرى ممنوعة ، لوضوح أنّ المصادر ـ على ما تقدّم عن أهل الصرف ـ

٤٠٠