تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وأمّا الثاني : فلأنّ أخذ قيام الحدث بفاعل مّا ـ وهو الذات المبهمة ـ في وضع الفعل لا يستقيم على ما ذهب إليه جمهور المحقّقين من إثبات الوضع للمركّبات التي منها المركّب من الفعل وفاعله في نحو « ضرب زيد » و « يضرب عمرو » مثلا ، لأنّهم إنّما أثبتوه فيه بإزاء الإسناد الّذي لا معنى له إلاّ قيام الحدث بفاعل مّا ، والمفروض أنّه في كلّ من المركّب والفعل من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، فالإسناد الجزئي بين « زيد » و « ضرب » أو « يضرب » في المثال هو نفس ما وضع له ، فيلزم الالتزام بثبوت وضعين لمعنى واحد أحدهما باعتبار المركّب والآخر باعتبار أحد جزئيه ، وهو مع أنّه لا يلائم حكمة الواضع ، عديم النظير فيما بين الألفاظ الموضوعة ، كما أنّه لا يستقيم على القول بنفي الوضع في المركّبات ، لقضائه بكون ذكر الفاعل المعيّن في جميع مواقعه مع الفعل لمجرّد رفع الإبهام ، وتعيين الذات المنسوب إليها الحدث بمقتضى وضع الفعل ، لا لدخله في إسناد الكلام فيكون على حدّ سائر القرائن المفهمة ، وهو خلاف ما يرشد إليه ضرورة العرف واللغة ، لوضوح الفرق بينه وبينها من حيث إنّ له دخلا في الإسناد ، إذ لولاه لم ينعقد إسناد ، ولو انعقد فهو ناقص ، ولذا لا يكون الفعل بدونه مفيدا ، بخلاف القرائن المفهمة ونحوها لعدم دخل لها في إسناد الكلام أصلا.

وتحقيق المقام أنّه لا إشكال في دخول الحدث المخصوص في مدلول الفعل ، وإنّ الدلالة عليه إنّما هو بمقتضى وضعه المادّي ، كما أنّه لا إشكال في دخول نسبته إلى الزمان باعتبار وقوعه فيه في مدلوله لكن باعتبار وضعه الهيئي ، لنصّ أئمّة اللغة بل إطباقهم عليه ، كما يعلم من حدودهم للفعل بأنّه ما دلّ على اقتران حدث بزمان ونحوه ممّا يرادفه ، مع كون النسبة الزمانيّة ممّا يتبادر منه بملاحظة هيئته مع شهادة الاستقراء به ، فإنّ المعلوم من ملاحظة الأفعال استفادة الزمان منها ، واختلافه باختلاف هيئآتها وإن اتّحدت موادّها ، واتّحاده باتّحاد هيئاتها وإن اختلفت الموادّ.

وقضيّة ذلك مدخليّة الهيئة في الدلالة على الزمان ، ولا يعقل له وجه سوى

٤٢١

الوضع ، وأمّا نسبته إلى الذات مبهمة أو معيّنة من حيث وقوعه منها ، فالّذي يساعد عليه النظر عدم دخولها في مدلول الفعل باعتبار الوضع ، لا من حيث مادّته ولا من حيث هيئته ، كما يرشد إليه ظاهر عبائر أئمّة اللغة في حدوده ، فإنّه كالصريح في كون الهيئة باعتبار الوضع مقصورة على النسبة الزمانيّة ولم يؤخذ معها شيء ، مضافا إلى قضاء ضرورة الوجدان بأنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن من ملاحظة الهيئة إنّما هو نسبة الحدث إلى الزمان من حيث وقوعه فيه.

نعم لمّا كان وقوعه في الزمان لا بدّ له بحسب الخارج من ذات يستند إليها بوقوعه منها ، فيحصل الانتقال إلى النسبة الفاعليّة في النظر الثاني بعد الملاحظة المذكورة الراجعة إلى ملاحظة الطرفين والنسبة ، فيكون الدلالة عليها من باب الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ.

لا يقال : قيام العمل به باقتضاء الفاعليّة بل المفعوليّة أيضا يكشف عن كون هذه النسبة مأخوذة في مدلوله ، لأنّ هذا حكم يتبع هذه النسبة بحسب لزومها الواقعي.

ولا يتوقّف على كونها معتبرة بالوضع ، كما مرّ نظيره في المصدر.

ولقد عثرت على كلام للأزهري في التصريح مصرّح بجميع ما قرّرناه ، حيث إنّه عرّف اسم الفاعل بالدلالة على الحدث وحدوثه وفاعله ، وجعل قيد الفاعل احترازا عن الفعل.

وعلّله بقوله : والفعل إنّما يدلّ على الحدث والزمان بالوضع لا على الفاعل وإن دلّ عليه بالالتزام. انتهى.

نعم إنّما يحصل الدلالة الصريحة عليها بواسطة التركيب الحاصل بينه وبين فاعله ، إمّا من جهة وضع المركّب بإزائها ، أو لدلالته عليه بوضع مفرداته.

وبذلك يندفع الإشكال المتقدّم ، إذ لا يلزم حينئذ اعتبار وضعين لمعنى واحد ، ولا عدم مدخليّة الفاعل في إسناد الكلام ، فما عليه الجماعة من وضع الفعل للدلالة على قيام حدث بفاعل مّا في زمان معيّن ، إن أرادوا به كون هذا المفهوم

٤٢٢

بجملة ما تضمّنه من النسبتين وغيرهما ما وضع له اللفظ ـ كما هو ظاهر هذا التعبير ـ فقد اتّضح منعه ، وإن أرادوا به كونه في الجملة ولو باعتبار بعض ما تضمّنه ـ وهو النسبة الزمانيّة مع الحدث ـ فأصل المطلب حسن ، غير أنّ العبارة توهم خلافه.

بل الوجه فيها حينئذ أن يقال : إنّه موضوع للدلالة على الحدث وانتسابه إلى الزمان المعيّن من حيث وقوعه فيه ، فما يتراءى من عبائر غير واحد ـ كعبارة بعض الأعلام في غير موضع من كتابه ـ من أخذ النسبة الفاعليّة في وضع الفعل هيئة ليس على ما ينبغي ، وكأنّه وهم منشأه ملاحظة الدلالة الإلزاميّة ـ حسبما بيّنّاه ـ بحسبان كونها باعتبار الوضع ، أو ملاحظة الدلالة الصريحة المستندة إلى التركيب بحسبان كونها من مقتضيات جزء هذا المركّب ، وبعد ما تبيّن خروج هذه النسبة عن مدلول الفعل وضعا فالذات المبهمة المنسوب إليها الحدث أولى بالخروج.

وأمّا الزمان المعيّن فربّما يستأنس من ظواهر حدود الفعل في كلام النحاة عدم كونه جزءا للموضوع له ، فإنّ ما وضع للدلالة على اقتران الحدث بزمان ونحوه لا يقتضي أزيد من دخول الاقتران في الوضع ، وهو المعنى المراد من النسبة ، ولا يبعد الالتزام به أيضا ، بدعوى : إنّ المأخوذ في الوضع هو الحدث المنسوب إلى الزمان على وجه يكون الداخل في الوضع هو المنسوب والنسبة دون المنسوب إليه ، فيكون الدلالة عليه التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، لكن كلماتهم في غير مقام التعريف بين صريحة وظاهرة في كون الدلالة عليه تضمّنية.

وعلى التقديرين يكون الدلالة عليه وضعيّة ، ولا يترتّب على تحقيق أنّها من أيّ القسمين فائدة مهمّة.

وبما بيّنّاه اتّضح الفرق بين المصدر والفعل ، فإنّ النسبة المأخوذة في مدلول المصدر إجماليّة صرفة ، حيث لم يؤخذ معها باعتبار الوضع ذات ولا زمان بخلاف الفعل فإنّ لنسبته نحو تفصيل.

٤٢٣

ومنها : فعل الأمر ، ولا إشكال في دلالته بالوضع على الحدث المخصوص من جهة المادّة ، كما أنّه لا إشكال في دلالته كذلك من جهة الهيئة على نسبة الحدث إلى المتكلّم من حيث كونه مطلوبا له على وجه الحتم خاصّة ـ كما هو الراجح في النظر على ما سيأتي تحقيقه ـ أو لا على هذا الوجه على الأقوال الاخر ، وإنّما الإشكال في شيئين :

أحدهما : إنّه هل يدلّ بالوضع على النسبة الزمانيّة ، على معنى كون زمان معيّن من الثلث كالحال أو الاستقبال مأخوذا في وضعه على وجه الجزئيّة أو القيديّة أو لا؟ فإنّ فيه اختلافا في كلمات العلماء من العربيّة والاصوليّة ، والمتحصّل من أقوالهم على ما ساعد عليه الممارسة أربعة :

الأوّل : ما جزم به جماعة من الاصوليّين ، تبعا لجمهور النحويّين من دلالته على الحال بالخصوص ، وعليه مبنى قولهم : بدلالته على الفور.

الثاني : ما يستفاد من غير واحد من أهل العربيّة من دلالته على الاستقبال بالخصوص ، كما يظهر الجزم به من نجم الأئمّة في شرحه للكافية (١) حيث إنّه بعد ما صرّح بكون فعل المضارع للحال فقط ، استدلّ عليه بما تقدّم في باب الاستعمال ، وبأنّ من المناسب أنّ له صيغة خاصّة كما أنّ لأخويه ، فإنّ المراد بأخويه الماضي والاستقبال ولا يعقل للثاني صيغة خاصّة به إلاّ فعل الأمر.

الثالث : ما يستشمّ من بعضهم من اشتراكه بين الحال والاستقبال ، تعليلا بكونه مأخوذا من المضارع الّذي هو للحال والاستقبال.

الرابع : ما صار إليه محقّقوا متأخّري الاصوليّين من منع دلالته على زمان حالا واستقبالا ، كما صرّحوا به في منع دلالته على الفور والتراخي.

وثانيهما : دلالته على النسبة الفاعليّة بالوضع وعدمها ، فإنّ المستفاد من بعض الأعلام في غير موضع من كتابه دلالته عليها أيضا بالوضع ، كدلالته على النسبة

__________________

(١) شرح الكافية : ٢.

٤٢٤

الطلبيّة كذلك ، مع تصريحه في ذيل مسألة متعلّق الأوامر بكون وضع الهيئة للأوّل من باب وضع الحروف ، بخلاف وضعها للثاني فإنّه من باب وضع المادّة ، فتكون كلّ من الوضع والموضوع له عامّا.

وهذا كما ترى التزام بالاشتراك في الهيئة لعدم إمكان الجمع بين هاتين القضيّتين بإنشاء واحد ، ويلزمه كون استعمالها دائما من باب استعمال المشترك في معنييه ، ولا نظنّ أحدا يلتزم بشيء من ذلك.

ولعلّه لذا عدل في ذيل مسألة المفرد المعرّف باللام عن هذا المسلك ، فجعل وضعها لكلّ من الأمرين من باب وضع الحروف ، لكفاية إنشاء واحد حينئذ في وجه ، غير أنّ دوام الاستعمال في معنيين لازم له كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال فالإنصاف ومجانبة الاعتساف ، يقضي بعدم دلالته بالوضع على نسبة زمانيّة ، بحيث يكون الزمان حالا أو استقبالا جزءا أو قيدا للموضوع له ، وإن كان الطلب المأخوذ في وضعه لزمه الحال على أنّه ظرف لحدوثه ، كما أنّ متعلّقه وهو الحدث المدلول عليه بالمادّة لزمه المستقبل ، بمعنى ما بعد حال النطق مطلقا على أنّه ظرف لوقوعه فيه ، فلو حصل فيه الدلالة على أحدهما فإنّما يحصل لمجرّد هذه الملازمة الواقعيّة ، لا لأنّها مأخوذ في وضعه بعنوان الجزئيّة أو القيديّة.

والوجه في ذلك أوّلا : هو التبادر ، فإنّ قول القائل : « إضرب » مثلا لا يتبادر منه إلاّ مطلوبيّة حدث « الضرب » من دون انفهام زمان معها أصلا.

وثانيا : ما ندركه بالوجدان من الفرق الواضح بينه وبين أخويه الماضي والمضارع في لحاظ استعماله للإفادة ، حيث لا نقصد منهما إلاّ إفادة وقوع الحدث في زمان معيّن ملحوظ بالخصوص من ماض أو حال ، ومنه إلاّ إفادة مطلوبيّة الحدث من دون نظر إلى شيء من الأزمنة.

ومن ينكر ذلك مع كونه معلوما بالوجدان فقد كابر وجدانه.

وأمّا الأقوال الاخر فلا مستند لها سوى ما عليه أهل العربيّة محافظة على قاعدتهم المقرّرة في الفرق بين الاسم والفعل مطلقا ، أو توهّم اشتقاق الأمر من

٤٢٥

المضارع ، والثاني ممنوع كما يعلم وجهه في بحث مبدأ الاشتقاق ، والأوّل إنّما يتّبع حيث ساعد عليه دليل ، ولو سلّم فلا أقلّ من عدم مساعدة الدليل على خلافه ، لا مطلقا.

وأمّا النسبة الفاعليّة ، فالإنصاف إنّه كأخويه أيضا في عدم دلالته عليها بالوضع.

وبيانه : إنّ الطلب المأخوذ في وضع الهيئة من حيث إنّه معنى ذهني ووصف نفساني يتضمّن جهتين باعتبار حدوثه وتعلّقه ، ومحلّه من الجهة الاولى ذهن المتكلّم ، ومن الجهة الثانية الحدث المدلول عليه بالمادّة من حيث إنّه مطلوب مع ذمّة السامع من حيث إنّه مطلوب منه ، ولأجل هذا يستدعي نسبتين ، أحدهما : نسبة الحدث إلى المتكلّم من حيث إنّه مطلوب له ، والاخرى : نسبته إلى السامع من حيث إنّه مطلوب منه ، والدلالة على الاولى بحكم التبادر والوجدان الضروري مستندة إلى الفعل بنفس هيئته ، وعلى الثانية بحكمهما أيضا إلى الهيئة الكلاميّة الحاصلة بينه وبين الفاعل المنويّ فيه ، إمّا باعتبار الوضع والاستعمال معا ، أو باعتبار الاستعمال فقط ـ على القول بعدم الوضع في المركّبات ـ فكلّ من النسبتين نسبة طلبيّة ، غير أنّ أوليهما مدلول للمفرد بالوضع ، وثانيتهما مدلول للمركّب بالوضع أيضا ، أو بالاستعمال فقط ، فلا دلالة لشيء منهما بالوضع على النسبة الفاعليّة.

نعم النسبة الطلبيّة بالمعنى الثاني مستلزمة لفاعليّة السامع للحدث باللزوم العقلي التبعي ، الغير مقصود إفادته أصالة لا بالمفرد ولا بالمركّب ، وهذه هي النسبة الفاعليّة لكونها عبارة عن نسبته الحدث إلى السامع من حيث إنّه يقع منه.

فمن يتوهّم دخول النسبة الفاعليّة في وضع فعل الأمر ، إن أراد بها النسبة الطلبيّة الملزومة لها فهي مدلولة للهيئة الكلاميّة لا لفعل الأمر ، وإن أراد بها النسبة اللازمة لها فهي ليست من مدلول اللفظ أصالة ، سواء فرضناه الهيئة الفعليّة أو الهيئة الكلاميّة ، بل الدلالة عليها تحصل باللزوم العقلي بواسطة التركيب الكلامي.

٤٢٦

وبجميع ما حقّقناه هنا مضافا إلى ما مرّ في تحقيق معنيي الماضي والمضارع اتّضح أمران

أحدهما : كون فعل الأمر كأخويه في عدم الدلالة بالوضع على النسبة الفاعليّة ، بل هو يدلّ بالوضع على الطلب من حيث إنّه نسبة بين الحدث والمتكلّم ، كما إنّهما بالوضع لا يدلاّن على النسبة الزمانيّة.

وثانيهما : حصول الفرق بينه وبينهما في صورة التركيب الكلامي ، حيث إنّ الهيئة الكلاميّة فيهما تدلّ على النسبة الفاعليّة دلالة مقصودة بالوضع أو الاستعمال ، بخلاف الهيئة الكلاميّة فيه فإنّها لا تدلّ كذلك إلاّ على الطلب من حيث إنّه نسبة بين الحدث وفاعله ، ولأجل ذا كان المركّب معهما من الكلام الخبري ومعه من الكلام الإنشائي.

وضابط الفرق بينهما : إنّ الخبر كلام لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، والإنشاء كلام ليس لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه ، والمراد بنسبة الكلام هي النسبة الّتي يقصد إفادتها باللفظ ، والمراد بالخارج النسبة الواقعيّة الّتي تكون ثابتة بين طرفي النسبة المقصود إفادتها باللفظ ، فالنسبة المقصودة من قول القائل : « ضرب زيد » مثلا هي نسبة « الضرب » إلى « زيد » من حيث حصوله منه ، ولها مع قطع النظر عنها وعن هذا اللفظ وصدوره عن قائله خارج ، وهو النسبة الواقعيّة بين « الضرب » و « زيد » الثابتة في نفس الأمر ، من دون أن يكون ثبوتها وجودا أو عدما دائرا مدار اللفظ وجودا أو عدما ، وهي أنّ الضرب في الواقع إمّا حاصل من « زيد » أو ليس بحاصل فحصوله منه أو عدم حصوله نسبة بينهما قد يطابقها نسبة الكلام فيكون صدقا ، وقد لا يطابقها فيكون كذبا ، كما أنّ النسبة المقصودة من قول القائل : « إضرب » مثلا هي مطلوبيّة « الضرب » من « زيد » ولا خارج لها مع قطع النظر عنها وعن اللفظ وصدوره ، بل هي في وجودها بينهما وعدم وجودها دائرة مدار اللفظ المفيد لها وجودا وعدما ، فإذا وجد اللفظ وجدت وإلاّ لم توجد.

ثمّ إنّ ها هنا إشكالين يندفعان بملاحظة ما بيّنّاه :

٤٢٧

أحدهما : ما توهّم في نقض ضابط الخبر ، من أنّ فيه أيضا نسبة لا خارج لها وهي إيقاع نسبة الحدث على فاعله ، فإنّ المتكلّم بقوله : « ضرب زيدا » إنّما يوقع نسبة حدث « الضرب » على « زيد » وهو نسبة في الخبر حاصلة بين المتكلّم ومضمون خبره ولا خارج لها ، لأنّها تتولّد بنفس اللفظ ولا توجد عند عدم وجوده.

ووجه الاندفاع : إنّه فرق واضح بين النسبة الّتي هي من مقاصد اللفظ ، والنسبة الّتي هي من لوازم التلفّظ ، وإيقاع النسبة أمر مشترك بين جميع أنواع الكلام خبريّا أو إنشائيّا طلبيّا أو غيره ، وقد تعبّر عنها بالنسبة المتكلّميّة ، ولا إشكال في كونها إنشائيّة حتّى في الخبر ، غير أنّها لا تصلح نقضا لضابطه ، لأنّها من لوازم التلفّظ لا من مقاصد اللفظ ، لأنّ المتكلّم لا يقصد بكلامه إفادة أنّه أوقع النسبة ، بل إنّما يقصد بإيقاعه النسبة بإيجاد اللفظ إفادة أصل النسبة باللفظ ، والمراد بالنسبة في ضابط الخبر والإنشاء هي النسبة المقصودة باللفظ لا مطلقا.

وثانيهما : ما سبق إلى بعض الأوهام في نقض ضابط الإنشاء ، من أنّ فيه أيضا نسبة لها خارج تطابقه أو لا تطابقه وهي النسبة الفاعليّة ، فإنّ قول القائل : « إضرب » تتضمّن نسبة حدث « الضرب » إلى « زيد » من حيث إنّه يقع منه.

ولا ريب أنّ له خارجا لأنّ زيدا في الخارج إمّا أن يقع منه « الضرب » فهو نسبة يطابقه ما تضمّنه اللفظ المذكور ، أو لا يقع فهو نسبة لا يطابقها ما تضمّنه اللفظ.

ووجه الاندفاع : ما بيّنّاه من أنّ المراد بالنسبة في ضابط الخبر والإنشاء ما قصد إفادته باللفظ ، وقد علم إنّ النسبة الفاعليّة في الإنشاء ليست من هذا الباب ، بل المقصود بالإفادة هي النسبة الطلبيّة ولا خارج لها.

وبجميع ما تقدّم تعلم حقيقة الحال في فعل النهي ، فإنّه كالأمر في جميع ما مرّ حرفا بحرف ، فلا حاجة له إلى أخذه عنوانا على حدّة والبحث عنه بانفراده ، فصار المتحصّل : أنّ فعل الأمر ما وضع للدلالة على طلب إيجاد الحدث من حيث إنّه نسبة بينه وبين المتكلّم ، وفعل النهي ما وضع للدلالة على طلب عدم إيجاد الحدث من حيث إنّه نسبة بينه وبين المتكلّم أيضا.

٤٢٨

ومنها : اسم الفاعل ، وقد تقدّم في المباحث السابقة جملة ممّا يتعلّق به ، وتبيّن أنّه يدلّ بالوضع على ذات متّصفة بالمبدأ ، وبقي ممّا يتعلّق به مسائل ثلاث :

الاولى : دخول الزمان في مدلوله وضعا بعنوان الجزئيّة أو بعنوان القيديّة وعدمه ، والّذي ينبغي أن يقطع به ـ وفاقا لأهل العربيّة المطبقين على الفرق بين الفعل والاسم بقول مطلق في عدم دلالة الثاني على معنى مقترن بأحد الأزمنة ـ هو العدم ، لتبادر معنى معرّى عن الزمان مطلقا منه عند الإطلاق ، وهو الذات المتّصفة بالمبدأ ، فعدم تبادر الزمان معه يدلّ على كون استعماله فيما اخذ فيه الزمان مجازا.

مضافا إلى صحّة تقييده بكلّ واحد من الأزمنة ، كما في « قائم أمس أو الآن أو غدا » من دون فهم تكرار ولا تناقض ، كما في « قام أمس أو غدا » و « يضرب الآن أو أمس » وعدم معقوليّة تحقّق الحدث بدون الزمان لا يلازم كونه معتبرا في الوضع ، إذ ليس هذا إلاّ كعدم معقوليّة تحقّقه بدون المكان ، فإنّ كلاّ منهما من لوازم الوجود الخارجي ، ولا يلزم منه كونهما من لوازم الوجود الذهني باعتبار الوضع.

ولا ينافيه الاتّفاق المدّعى على كونه حقيقة في الحال خاصّة ، إذ لم يرد به الحال الزماني الّذي هو أحد الثلاث المعهودة ، بل المراد به حال التلبّس ، على معنى فعليّة وجود المبدأ حين ما يعتبر النسبة بينه وبين الذات ، ومحصّله : كونه حقيقة في الذات المتّصفة بالمبدأ اتّصافا حاصلا حال وجود المبدأ ، والحال بهذا المعنى عرض من مقولة الكيف يصلح بطبعه مظروفا لكلّ واحد من الأزمنة.

وهذا معنى ما يقال : من أنّ حال التلبّس قدر مشترك بينها ، فتأمّل كي تعرف أنّ إطلاق المشترك بينها عليه مسامحة ، لعدم كونه أمرا زمانيّا ، بل هو قدر مشترك بين ما هو مظروف للماضي وما هو مظروف للحال وما هو مظروف للاستقبال ، وإنّما اطلق الحال بهذا المعنى على ما يقابل حال انقضاء المبدأ وعدم بقائه ، أعني الذات المتّصفة بالمبدأ اتّصافا حاصلا حال انقضاء ذلك المبدأ عنها وعدم بقائه فيها.

ولو اريد به الحال الزماني المعهود أيضا ، فليس المراد بكونه حقيقة فيه كونه

٤٢٩

حقيقة فيما دخل فيه الحال الزماني بنحو الجزئيّة ، بل المراد به كونه حقيقة في الاتّصاف بالمبدأ باعتبار التلبّس الحاصل في الحال الزماني على وجه الظرفيّة.

ويظهر ثمرة الفرق بين الاعتبارين في نحو « كان قائما أمس » و « يصير قائما غدا » فإنّه حقيقة في المثالين على الاعتبار الأوّل ومجاز على الاعتبار الثاني.

كما لا ينافيه أيضا ما ذكره أهل العربيّة : من إنّ اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، ولا يعمل مع وجوب إضافته إذا كان بمعنى الماضي ، إذ لا يراد من كونه بمعنى الحال أو الاستقبال أو الماضي كونه لمعنى يدخل فيه أحد هذه الأزمنة باعتبار الوضع ، بل المراد به كونه لمعنى هو بحسب الوجود الخارجي مظروف لأحد هذه الأزمنة ، من دون أن يدخل ذلك في المستعمل فيه ، وهو حال التلبّس الّذي يصلح مظروفا لكلّ منها ، كما يرشد إليه تمثيلهم للأوّلين بـ « زيد ضارب غلامه عمروا الآن ، أو غدا » وللآخر بـ « زيد ضارب عمرو أمس » فإنّه ظاهر في كون الزمان مرادا من خارج اللفظ.

وأمّا ما توهّم من كون إطلاق النحاة اسم الفاعل مثلا على مثل « الضارب » في قولنا : « زيد ضارب غدا » يدلّ على كونه حقيقة عندهم في المستقبل.

ففيه أوّلا : منع ورود إطلاقه في نحو المثال على ما دخل فيه هذا الزمان ، بقرينة ذكر الغد.

وثانيا : إنّ غاية ما يقضي به هذا الإطلاق كون لفظ اسم الفاعل في مصطلحهم حقيقة في نحو « الضارب » المذكور في المثال ، ولا يلزم منه كون « الضارب » عندهم أيضا حقيقة. (١)

__________________

(١) ولقد أوضح هذا الكلام في تعليقته الشريفة على القوانين ، فيما يتعلّق بالمقام بقوله : « طريق دفعه حينئذ أن يقال : إنّ كون لفظ اسم الفاعل من حيث إنّه من مصطلحات النحاة حقيقة في « ضارب » في نحو هذا الاستعمال ، لا ينافي كون « ضارب » مجازا في المعنى المذكور باعتبار اللغة ، وبالجملة : حقيقيّة لفظ اصطلاحا في لفظ مجازى لغة لا ينافي مجازيّة ذلك اللفظ ، كما في إطلاق فعل الماضي مثلا في « بعت » الإنشائي وفي « ضربت » حيث يلي إن ». انتهى كلامه. [ راجع التعليقة على القوانين : ٤٣ ].

٤٣٠

نعم ربّما يرد ذلك نقضا على دعوى اتّفاقهم على كونه حقيقة في الحال بالمعنى المتقدّم على اعتباره الثاني ، وهو إرادة حال التلبّس الحاصل في حال النطق ، على أن يكون الزمان ظرفا للمستعمل فيه لا جزءا.

لكن يمكن دفعه بثاني الوجهين : حيث إنّ الإطلاق المذكور هو إطلاق لفظ اسم الفاعل الّذي هو اصطلاح عندهم في لفظ نحو « ضارب » وكون هذا الإطلاق حقيقة لا يستلزم كون إطلاق « الضارب » على التلبّس الحاصل في الزمان المستقبل على الوجه المذكور حقيقة ، كما هو واضح.

وفي حكم اسم الفاعل من حيث عدم دخول الزمان في مدلوله الوضعي ، اسم المفعول وغيره من سائر المشتقّات الاسميّة ، فلم يؤخذ شيء من الأزمنة الثلاثة في مفاهيمها باعتبار الوضع حتّى أسماء الزمان ، فتأمّل فيه حتّى تعرف إنّه لا ينافي ما اخذ في وضعه من الزمان المطلق ، لأنّه ليس بأحد هذه الأزمنة.

الثانية : اختلفوا في اشتراط قيام المبدأ بما صدق عليه اسم الفاعل أو مطلق المشتقّ في صدقه وعدمه ، فالأشاعرة إلى الأوّل ، وجماعة منهم العلاّمة في التهذيب (١) والنهاية (٢) وشارح التهذيب في المنية إلى الثاني ، بل في المنية : إنّه مذهب المعتزلة أصحابنا وعن البهائي الوقف.

ومن الفضلاء (٣) من قيّد العنوان بكون المبدأ صفة وكون قيامه بلا واسطة في العروض ، واحترز بالأوّل عمّا لو كان ذاتا كما في المشتقّات الجعليّة ، « كالخمّار » و « التمّار » و « اللبّان » وكأنّه نبّه بذلك على خروجها عن محلّ النزاع باتّفاق الفريقين فيها على عدم الاشتراط ، كما صرّح به بعض

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١٠ ، حيث قال : ولا يشترط قيام المعنى بما صدق عليه الاشتقاق ... الخ.

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ) قال : البحث الخامس : في أنّه هل يجب الاشتقاق مع القيام بالمحل ... إلى أن قال : فأوجبه الأشاعرة خلافا للمعتزلة ...

(٣) الفصول : ٦٢.

٤٣١

الأعاظم (١) نظرا إلى أنّ مبادئها امور قائمة بذواتها فلا يعقل قيامها بالغير.

ويشكل بما في نهاية العلاّمة (٢) من أخذه امتناع قيام مبادئ هذه الألفاظ ونحوه بما هي صادقة عليه حجّة على الأشاعرة ، وهذا لا يلائم قضيّة الخروج.

وبالثاني (٣) عن القائم بواسطة ، كالشدّة والسرعة القائمتين بالجسم بواسطة اللون والحركة ، فإنّه يقال : « اللون شديد والحركة سريعة » ولا يقال : « الجسم شديد أو سريع » إلاّ مجازا ، وكأنّه لتوهّم الملازمة بين القول : بأنّ كلّما صدق عليه المشتقّ يجب قيام مبدئه به ، والقول : بأنّ كلّما قام به المبدأ يجب صدق المشتقّ من هذا المبدأ عليه ، وإلاّ فمحلّ البحث من قبيل المسألة الاولى ، وفائدة القيد تترتّب على المسألة الثانية ولا تعلّق له بمحلّ البحث كما لا يخفى.

ومن الأعاظم من صرّح بعدم الفرق بين اسم الفاعل والمفعول وصفة المشبّهة وغيرها ، لكن عن الحاجبي والبيضاوي تخصيص النزاع بالأوّل ، وهو الأوفق بتمثيلاتهم.

والمنقول من حجّة الأشاعرة الاستقراء ، بمعنى تتبّع الكلمات المشتقّة وعدم الظفر على كلمة تصدق على ما ليس مبدأ الاشتقاق قائما به.

واحتجّ الآخرون بصدق « الضارب » و « المؤلم » و « المتكلّم » على ذوات ليس مبادئها قائمة بها ، لقيام الضرب والألم بالمضروب والمولم ، و « الكلام » الّذي هو المؤلّف عن الأصوات والحروف بالهواء.

وربّما استدلّ بالعالم والقادر والخالق والمتكلّم.

أمّا الأوّلان : فلعدم تغاير العلم والقدرة فيهما لذاته تعالى ، وأمّا الثالث : فلأنّ الخلق عبارة عن المخلوق وهو غير قائم بذاته تعالى ، إذ لو غايره لكان إمّا قديما أو حادثا ، فيلزم إمّا قدم العالم أو التسلسل.

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣١ ، حيث قال : ثمّ على المختار لا فرق بين اسم الفاعل والمفعول وصفة المشبهة وغيرها ...

(٢) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ).

(٣) أي واحترز بالثاني.

٤٣٢

وأمّا الرابع : فلقيام كلامه تعالى وهو المؤلّف من الأصوات والحروف بالأجسام الخارجيّة الجماديّة ، لا بذاته تعالى.

أقول : قيام المبدأ بما يصدق عليه المشتقّ وعدمه ، إن اريد به حالة وجوده ـ على ما هو من لوازم العرض المحكوم عليه بأنّه إذا وجد في الخارج وجد في الموضوع ـ ليكون مرجع البحث إلى تعيين محلّ هذا الموجود ، نظرا إلى أنّه بعد وجوده عرض ولا بدّ له من موضوع فاختلف في وجوب كونه الذات الّتي يصدق عليها المشتقّ صدقا حمليّا أو صدقا إطلاقيّا وعدمه ، كما هو ظاهر كلمات أهل القول بعدم الإشتراط.

فالحقّ هو هذا القول ، بمعنى أنّ صدق المشتقّ على ذات لا يقتضي بالوضع ولا بالعقل وجوب كون محلّ وجود مبدئه الموجود في الخارج هو هذه الذات ، وذلك لما تبيّن في المباحث السابقة من أنّ الأسماء المشتقّة ألفاظ موضوعة للذوات الخارجيّة من حيث الأوصاف المضافة إليها ، قبالا للألفاظ الموضوعة لها من حيث هي هي.

والمراد من إضافة الأوصاف إليها انتسابها إليها وارتباطها بها ، ومعنى ارتباط الوصف بالذات في اسم الفاعل ، ونحوه كون المبدأ بحيث يصلح وقوع الذات فاعلا اصطلاحيّا له ، ويصحّ في نظر العرف أن يسند إليها إسنادا حقيقيّا ، وهذا لا يقتضي كونها محلاّ لوجوده ، موضوعا له حينما كان موجودا في الخارج.

وتوضيحه : إنّ فاعل الحدث قد يكون فاعلا له بالإيجاد « كالكاتب » و « الضاحك » و « الضارب » و « المتكلّم » وقد يكون فاعلا له بالإعداد « كالمحرق » و « المولد » و « الوالد » و « الوالدة » و « القاتل ».

وقد يكون فاعلا بالقبول « كالمريض » و « الميّت » و « المنكسر » و « المنقطع » وقد يكون فاعلا بالتقرّر والثبوت « كالحسن » و « الشريف » و « الأسود » و « الأبيض » وهذا كسابقه ممّا لا ينبغي التأمّل في قيام المبدأ فيه بفاعله ، على معنى كونه موضوعا لهذا العرض الموجود في الخارج.

٤٣٣

كما أنّ القسم الثاني ممّا لا ينبغي التأمّل في عدم قيام المبدأ فيه بفاعله ، ضرورة أنّ الفاعل في نحوه لا شغل له إلاّ إعداد المبدأ للوجود ، وإذا وجد بتأثير من موجده الحقيقي فإنّما يوجد في غير ذلك الفاعل.

وأمّا القسم الأوّل فمنه ما هو من قبيل الثالث والرابع كالضاحك والقاعد والجالس ، ومنه ما هو من قبيل الثاني كالكاتب والضارب والمتكلّم ، ضرورة قيام الكتابة الموجودة بالخطوط المنقوشة ، والضرب الحاصل في الخارج بالمضروب ، والمؤلّف من الصوت والحروف بالهواء ، ومنه الخالق سواء قلنا بعدم تغاير مبدئه للمخلوق بالذات ـ كما هو الأظهر ـ أو لا ، ولا يضاف في هذه الأمثلة ونحوها إلى الفاعل ما عدا الإيجاد الّذي هو عبارة عن إعطاء الوجود وليس له وجودا آخر ليكون من العرض الموجود الّذي محلّه الفاعل.

لا يقال : إنّ الضرب له اعتباران : فباعتبار المحلّ الصادر منه يسمّى المحلّ بالضارب ، وباعتبار المحلّ الواقع عليه يسمّى المحلّ بالمضروب ، فالمحلّ في الضارب يتّصف بالمبدأ باعتبار الصدور وإن كان أثره قائما بغيره ، والمبدأ ليس أثر الوصف بل نفس الوصف ، لأنّ صدور المبدأ من المحلّ المتّصف به لا معنى له إلاّ ارتباطه به من حيث إنّه أوقعه ، والعبرة إنّما هو بالواقع وانتسابه إليه إنّما هو من حيث كونه علّة موجدة له لا من حيث كونه موضوعا له ، باعتبار أنّه عرض موجود في الخارج حال وجوده.

هذا كلّه إن جعلنا « الضرب » عبارة عن مجرّد الإيلام ، وإن جعلناه عبارة عن مباشرة جسم لجسم على وجه يستتبع الألم ، فقد يكون قائما بالفاعل وقد يكون قائما بالآلة كما لا يخفى.

وبجميع ما ذكر تبيّن بطلان ما اعترضت به الأشاعرة على نحو الضارب والمتكلّم والخالق ، من أنّ المراد « بالضرب » ليس الأثر القائم بالمضروب بل تأثير القادر فيه ، وذلك التأثير قائم بالضارب لا بالمضروب ، وصدق المتكلّم على الله تعالى ليس باعتبار خلقه الأصوات والحروف ، بل باعتبار قيام المعنى القديم

٤٣٤

وهو الكلام النفساني الّذي يدلّ عليه الحروف والأصوات بذاته تعالى ، والخلق ليس هو المخلوق بل التعلّق الحاصل بينه وبين القدرة حالة الإيجاد ، وحيث إنّ هذا التعلّق ينسب إليه تعالى صدق عليه لفظ « الخالق » فإنّ هذه الدعاوى بأجمعها مردودة على مدّعيها.

نعم الاحتجاج بصدق « العالم » و « القادر » عليه تعالى على الوجه المتقدّم ليس على ما ينبغي ، لأنّ وجه إطلاق هذين اللفظين عليه تعالى ليس وجه إطلاق المشتقّ على الذات المتّصفة بمبدئه كما في « زيد العالم » إذ ليس ها هنا ذات وصفة زائدة عليها بل هو ذات بسيط يعبّر عنه « بالعالم » لأنّه في محلّ العلم يصدر منه شغل العالم ، وفي محلّ القدرة يصدر منه شغل القادر ، كما إنّه في محلّ البصر يصدر منه شغل ذي البصر فيطلق عليه البصير وفي محلّ السمع يصدر منه شغل السميع وهكذا ، فهذه الإطلاقات في الحقيقة ليست على حقائقها ، بل إنّما يؤتى لمجرّد التعبير عن الذات الملحوظة على الوجه المذكور في مقام الإفادة والاستفادة من جهة ضيق العبارة وعدم وجود لفظ لغوي وضع لنحو هذا التعبير ، وربّما التزم في نحو هذه الألفاظ بوقوع النقل فيها بالنسبة إليه تعالى ، ولهذا لا تصدق في حقّ غيره تعالى.

الثالثة : اختلفوا في اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ ، فيكون مجازا فيما انقضى عنه المبدأ وعدمه ، فيكون حقيقة فيما انقضى ، وتنقيح المطلب يتمّ برسم امور :

الأوّل : في ضبط مستعملات المشتقّ حسبما وقع أو يمكن أن يقع في الخارج وتشخيص حقائقها عن مجازاتها ، ليحرّر به ما هو محلّ النزاع منها.

فنقول : إنّ الحقيقة والمجاز قد يلحقانه باعتبار مادّته ، كما لو استعمل « القاتل » في الذات المتّصفة بالقتل أو بالضرب الشديد ، فإنّ الأوّل حقيقة والثاني مجاز ، ونحوه « العالم » إذا استعمل في ذي الملكة فإنّه مجاز باعتبار المادّة فقط ، إذا فرض وجود الملكة حال النسبة والاتّصاف وإن كان الإدراك في الماضي أو المستقبل ،

٤٣٥

ضرورة أنّ مضيّ زمان الإدراك أو استقباله مع حصول الملكة المرادة من المادّة حال النسبة لا يوجب كون الاستعمال على الأوّل من باب الاستعمال فيما انقضى ، وعلى الثاني من باب الاستعمال في المستقبل المتّفق على كونه مجازا.

وبالجملة : استعمال المشتقّ في ذوي الملكات وأرباب الحرف كما في « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » لا يخرجه عن الحقيقيّة باعتبار الهيئة إذا كان المبدأ بهذا المعنى موجودا حال الإطلاق ، وإن أوجب المجازيّة باعتبار المادّة.

هذا على ما زعمه جماعة منهم بعض مشايخنا ، وإلاّ فهو في الألفاظ المستعملة في ذوي الملكات وأرباب الحرف والصناعات محلّ منع أيضا عندنا ، على ما سنحقّقه في ذيل المسألة إن شاء الله.

وكيف كان : فهذا النحو من الاستعمال خارج عن محلّ البحث.

وقد يلحقانه باعتبار هيئة ، وهو يتصوّر من جهتين :

إحداهما : باعتبار الذات المأخوذة في وضع الهيئة ، فيكون استعماله فيما لم يؤخذ فيه الذات ، أو فيما اخذ فيه الذات المأخوذة فيه لا من الجهة المأخوذة في وضع الهيئة مجازا ، ومن الأوّل نحو « قمت قائما » و ( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ )(١) ممّا استعمل اسم الفاعل أو اسم المفعول في المعنى المصدري ، ومن الثاني قوله تعالى ( مِنْ ماءٍ دافِقٍ )(٢) و ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ )(٣) و ( عِيشَةٍ راضِيَةٍ )(٤) و ( حِجاباً مَسْتُوراً )(٥) و ( كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا )(٦) و ( جَزاءً مَوْفُوراً )(٧) إلى غير ذلك ممّا استعمل فيه الفاعل أو المفعول في معنى صاحبه ، وهذا أيضا ممّا لا تعلّق له بمحلّ البحث.

وثانيتهما : باعتبار التلبّس وعدمه ، ودخول الزمان في مفهومه وعدمه ، فقد

__________________

(١) القلم : ٦.

(٢) الطارق : ٦.

(٣) هود : ٤٣.

(٤) القارعة : ٧.

(٥) الإسراء : ٤٥.

(٦) مريم : ٦١.

(٧) الإسراء : ٦٣.

٤٣٦

يستعمل في القدر المشترك بين الأزمنة الثلاثة المعبّر عنه بحال التلبّس ، وهو أن يراد به اتّصاف الذات بالمبدأ الموجود حال الاتّصاف مطلقا ، وقد يستعمل في القدر المشترك بين الحال والماضي ، أعني الاتّصاف بالمبدأ الّذي وجد ، بقي حال الاتّصاف أو لم يبق.

وقد يستعمل في القدر المشترك بين الحال والمستقبل ، أعني الاتّصاف بالمبدأ الّذي يوجد ، وجد حال الاتّصاف أو لم يوجد بعد ، وقد يستعمل باعتبار الماضي فقط ، وهو يتصوّر من وجوه :

الأوّل : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في الزمان الماضي ، على وجه اعتبر كونه ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، وجزءا للمستعمل فيه.

الثاني : هذا الفرض مع اعتبار الزمان ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، لا جزءا للمستعمل فيه.

الثالث : هذا الوجه مع اعتبار الزمان ظرفا لوجود المبدأ فقط ، سواء كان الاتّصاف حال النطق أو ما قبله أو ما بعده.

الرابع : أن يراد به الذات حال عدم التلبّس ، باعتبار كونها متلبّسة حال الماضي ، على معنى إرادة الذات الغير المتلبّسة بعلاقة ما كان.

والفرق بينه وبين سابقه بعدم إرادة الاتّصاف بالمبدأ فيه.

وقد يستعمل فيه باعتبار الحال فقط ، وهو أيضا يتصوّر من وجوه :

منها : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في حال النطق ، على وجه اعتبر الزمان ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ ، وجزءا للمستعمل فيه.

ومنها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان جزءا للمستعمل فيه.

ومنها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان ظرفا للاتّصاف ، كما في قولك : « كان قائما » بإرادة اتّصاف الذات في الماضي بالمبدأ الموجود حال النطق ، والأظهر أنّه من صور الاستعمال في المستقبل.

وقد يستعمل في المستقبل فقط ، وهو أيضا يتصوّر من وجوه :

٤٣٧

أحدها : أن يراد منه الذات المتّصفة بالمبدأ في الزمان المستقبل ، على وجه اعتبر كونه ظرفا للاتّصاف ووجود المبدأ وجزءا للمستعمل فيه.

وثانيها : هذه الصورة مع عدم اعتبار الزمان جزءا.

وثالثها : هذه الصورة مع اعتباره ظرفا لوجود المبدأ فقط.

ورابعها : أن يراد به الذات الغير المتلبّسة بعلاقة ما يؤول ، وهذا هو أظهر فروض استعماله فيمن لم يتلبّس بعد بالمبدأ ، المحكوم عليه في كلامهم بكونه مجازا.

وربّما يفرض ذلك على وجه يكون من باب المجاز بالمشارفة.

وتوضيح الفرق بينهما : إنّ الشيء قد يطرئه حالتان وهو باعتبار إحداهما مسمّى للفظ دون الاخرى ، لكنّهما بحيث يلزم في الغالب من حضور إحداهما في الذهن حضور الاخرى لما بينهما من العلاقة ، باعتبار خروج ذلك الشيء عن إحداهما إلى الاخرى ، أو انقلاب إحداهما إلى الاخرى ، وظاهر انّ هاتين لا بدّ فيهما من زمانين قد يحصل بينهما أيضا مناسبة باعتبار مقاربة أحدهما لصاحبه ، فإن كان الاعتماد في الاستعمال على ملاحظة المناسبة بين الحالتين من دون نظر إلى الزمانين وما بينهما من المناسبة فهو المجاز بعلاقة الكون ، إن كان اللفظ موضوعا للشيء باعتبار الحالة الاولى واستعمل فيه باعتبار الحالة الثانية ، كما في قوله تعالى : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ )(١) أو بعلاقة الأول إن كان اللفظ موضوعا له باعتبار الحالة الثانية واستعمل فيه باعتبار الحالة الاولى ، كما في قوله تعالى: ( أَعْصِرُ خَمْراً )(٢) بالقياس إلى العصير العنبي ، ضرورة أنّ إطلاق الخمر على العصير ليس بملاحظة أنّه في المستقبل يصير خمرا بل بملاحظة انقلابه إليه ، الموجب لتصوّر الخمر عند تصوّر العنب وبالعكس ، وإن كان الاعتماد على المناسبة بين الزمانين فهو المجاز بالمشارفة.

ومن هذا الباب إطلاق « ينام » في صحيحة زرارة السائل بقوله : « الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء » بناء على أحد وجهيه.

__________________

(١) النساء : ٢.

(٢) يوسف : ٢٦.

٤٣٨

ومن الأعلام من زعم مجازيّة المشتقّ فيمن لم يتلبّس بعد من هذا الباب ، قائلا في حواشيه على كتابه : إطلاق « ضارب » في الحال على من يتلبّس به في الاستقبال لم يلاحظ فيه المناسبة بين المتلبّس والغير المتلبّس ، كما في الخمر والعنب ، بل لوحظ فيه المناسبة بين الزمان الحاصل فيه الضرب لمن قام به ، والزمان الّذي لم يحصل فيه ، فاستعمل اللفظ الدالّ على الذات باعتبار حصول الضرب في زمان التلبّس ـ وهو الاستقبال ـ في الذات الغير المتلبّس في الحال. انتهى (١).

ويمكن منعه : بأنّ الظاهر من كلام القوم وأمثلتهم في المجاز بالمشارفة اختصاصه بما أخذ في وضعه الزمان ، كالفعل المستقبل مثلا ، فلا يجري في نحو اسم الفاعل ، كيف لا والمعتبر في المجاز ملاحظة العلاقة بين الموضوع له والمستعمل فيه.

وكيف كان : فلا ينبغي التأمّل في أنّ استعمال المشتقّ في القدر المشترك بجميع وجوهه الثلاث المذكورة مجرّد فرض وتجويز عقلي ، لوضوح إنّ هذا النحو من الاستعمال ـ مع كون المستعمل فيه الأمر الملحوظ على الوجه العامّ كما هو المفروض ـ غير متحقّق بحسب الخارج في استعمالات المشتقّ ، بل المتحقّق إنّما هو وقوع الاستعمال في الخصوصيّات ، فلا وجه للنظر في الحقيقيّة والمجازيّة بالنسبة إلى استعمال غير واقع في الخارج.

ولا ينافيه كون القول بحقيقيّة المشتقّ فيما انقضى عنه المبدأ باعتبار كونه حقيقة في الأمر العامّ المشترك بين الماضي والحال ، بعد ملاحظة كون المشتقّات موضوعة بالوضع العامّ للموضوع له الخاصّ ، والمفروض أنّ الاستعمال يتبع الوضع ، فيكون الاستعمالات الواقعة بالنسبة إلى وجوه القدر المشترك لمكان وقوعها على الخصوصيّات غير خارجة عن صور استعمالات الماضي فقط

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٧٥ في ذيل قوله المشتق ... ومجاز فيما لم يتلبّس بعد سواء اريد بذلك إطلاقه على زمن يتلبّس بالمبدأ في المستقبل ... الخ.

٤٣٩

والحال والمستقبل كذلك ، كما لا ينبغي التأمّل في مجازيّة الصورة الرابعة من صور الماضي ومن المستقبل أيضا ، لوضوح عدم انطباق المستعمل فيه فيهما على ما أخذ في وضع المشتقّ ، وإلاّ لم يحتج إلى ملاحظة العلاقة ، مع دعوى الاتّفاق على المجازيّة تارة نفي الخلاف عنها اخرى في كلامهم بل ينبغي القطع بمجازيّة ما أخذ فيه الزمان جزءا للمستعمل فيه ولو حالا أو ماضيا ، على ما حقّقنا سابقا من عدم دخول الزمان مطلقا في وضع المشتقّات الاسميّة.

وقضيّة ذلك كون دخوله في المستعمل فيه موجبا للتجوّز باعتبار زيادة ما ليس بداخل في الموضوع له عليه.

نعم ربّما يتوهّم من إطلاق دعوى الاتّفاق في كلام بعضهم على كونه حقيقة في الحال ، ومن تخصيص الخلاف بالماضي دخول ما اخذ فيه زمان الحال في محلّ الوفاق ، ودخول ما اخذ فيه الزمان الماضي في محلّ الخلاف ، بل قد يتوهّم كون الخلاف المعروف فيما انقضى واقعا في خصوص هذه الصورة ، على معنى رجوعه إلى كون هذا الزمان مأخوذا في وضع المشتقّ وعدمه ، كما ربّما يظهر ذلك من بعض أدلّة أصحاب القول بالحقيقة في الماضي ، غير أنّه لا خفاء في كون جميع ذلك على خلاف التحقيق.

أمّا الاتّفاق : فلأنّه إنّما ادّعي على حال التلبّس كائنا ما كان كما هو الأظهر ، أو على حال النطق بالخصوص ، على أن يكون الزمان ظرفا لوجود المبدأ والاتّصاف معا ، لا جزء للموضوع له على ما هو أبعد الاحتمالين في قضيّة دعوى الاتّفاق.

وأمّا كون الخلاف في جزئيّة الزمان ، فهو خلاف ما يساعد عليه أكثر أدلّة المسألة بل ولم يظهر به قول صريح ولو كان هنالك قائل فهو شاذّ لا يلتفت إلى مقالته ، والاستدلال ببعض ما يقضي به من الأدّلة مع كونه فاسد الوضع غفلة عن حقيقة مراد القوم في محلّ النزاع ، أو وارد على خلاف التحقيق ، كما ينبغي القطع بسقوط الصورة الأخيرة من صور الحال وهي ما كان زمان الحال ظرفا لوجود المبدأ دون الاتّصاف ، لكونها على ما سنقرّره من صور الماضي في تقدير

٤٤٠