تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

مؤثّرة كانت في استحقاق المثوبات الاخرويّة أو لا ، فدخل فيه عتق الكافر بناء على اشتراط القربة فيه وإمكان حصولها من الكافر ، ويقابله المعاملات ، والظاهر إنّه أيضا ليس بمراد ، لظهور كلام مخصّص الحقيقة الشرعيّة بالعبادات ومعمّمها بالقياس إلى المعاملات أيضا في عدّ مثل العتق من جملة المعاملات.

وقد تطلق على ما هو أخصّ من ذلك أيضا ، وهو كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة المؤثّرة ، فخرج عنه نحو العتق ويقابله المعاملات.

وهذا هو المراد جزما ، فمحلّ الاشتباه هو المعاملات بهذا المعنى ، والّذي يساعد عليه النظر فيه عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة أيضا في المعاملات بهذا المعنى ، لأنّها أوّلا على قسمين :

أحدهما : الألفاظ الواقعة على التوصّليّات من الواجبات والمندوبات ، وعدم ثبوت شيء من الحقيقتين فيها واضح.

ولعلّه إلى ذلك يرجع فرقهم في موضوعات الأحكام بين العبادات والمعاملات ، بكون الاولى كنفس الأحكام توقيفيّة فلا بدّ وأن تتلقّى من الشارع بخلاف الثانية ، الّتي ترجع لمعرفتها إلى العرف أو اللغة ، بناء على أن يكون المراد بهما ما ينقسم إليهما واجبات الشرع.

وثانيهما : الألفاظ الواقعة على العقود والإيقاعات وهذا أيضا على قسمين :

الأوّل : ألفاظ عقود أو إيقاعات تسميتها بتلك الألفاظ معروفة عند عامّة المتشرّعة ، وإطلاقها عليها متداول لدى قاطبتهم ، وذلك كالبيع والصلح والهبة والإجارة والوكالة وما أشبه ذلك.

والظاهر أنّ هذه الألفاظ بالقياس إلى معانيها المعهودة ليست بحقائق شرعيّة ولا حقائق المتشرّعيّة ، بل هي مندرجة في الحقائق العرفيّة العامّة أو اللغويّة ، ولم يتصرّف فيها الشارع إلاّ بطريق التقييد ، وإمضاء طريقة العرف في إعمال هذه العقود وتقريرهم عليها ، وإن تضمّن نحوا من التخصيص بإثبات قيود زائدة على ما يتداوله العرف ، ولذا لا يختصّ تداولها وإطلاق ألفاظها عليها بأهل هذا الشرع ، بل يعمّهم وسائر الشرائع والديانات ، بل منكري الشرائع والأديان كما هو واضح.

٢٨١

فالقول بحصول اصطلاح فيها للشارع أو المتشرّعة في غاية السخافة ، ولذا نرى الفقهاء لا يزالون يراجعون العرف أو اللغة فيها لشبهة مفهوم أو مصداق.

ويمكن اندراج ذلك أيضا في قضيّة قولهم : « المعاملات يرجع فيها إلى العرف أو اللغة ».

الثاني : ألفاظ تسمية معانيها من العقود والإيقاعات بها معروفة عند الفقهاء ، وإطلاقها عليها متداول في لسانهم خاصّة دون عامّة المتشرّعة حتّى عوامهم ، وذلك كالخلع والمباراة واللعان ونظائرها ، فإنّ المعلوم منها في قاطبة المتشرّعة إنّما هو وجود معاني هذه الألفاظ حيث قد يقع فيما بينهم طلاق خلع أو مباراة أو نحو ذلك.

وأمّا تسمية هذه المعاني بالألفاظ المذكورة فليست متداولة إلاّ في لسان الفقهاء ، بحيث لو أورد على غيرهم هذه الألفاظ لكانت في نظرهم الألفاظ من الغريبة ، وفي هذا النحو من الألفاظ يحتمل وجوه :

منها : أن يقال : إنّ الشارع تعالى قد وضعها من أوّل بناء الشرع لتلك المعاني فوصلت إلى الأئمّة عليهم‌السلام كذلك ، ومنهم إلى الفقهاء ولم يتعدّهم إلى غيرهم من عوام المتشرّعة لقلّة ابتلائهم بمعانيها ، فتكون حقائق شرعيّة دون المتشرّعة العامّة.

ومنها : أن يقال : إنّ الشارع لم يتصرّف فيها إلاّ بطريق التجوّز ، غير أنّها إذا وصلت إلى الأئمّة عليهم‌السلام صارت حقائق في لسانهم ، ثمّ وصلت منهم كذلك إلى الفقهاء ، ولم تتعدّهم إلى غيرهم ، فتكون حقائق متشرّعة خاصّة.

ومنها : أن يقال بتلك الصورة غير أنّها في لسان الأئمّة لم تبلغ حدّ الحقيقة ، وإنّما بلغت بهذا الحدّ في لسان الفقهاء خاصّة ، وخفيت على غيرهم فتكون حقائق فقهائيّة.

ومنها : أن يقال : بعدم تطرّق تجوّز ولا وضع شرعي ولا متشرّعي ولا فقهائي إليها ، بل هي حيثما اطلقت على هذه المعاني فإنّما اطلقت باعتبار مفاهيمها العرفيّة أو اللغويّة لتكون من جملة الحقائق العرفيّة ، أو اللغويّة الأصليّة.

٢٨٢

وهذه الوجوه كما ترى كلّها قائمة في نحو المقام ، ولم ينهض على ترجيح شيء منها حجّة واضحة يصحّ التعويل عليها ، حتّى إنّ أهل القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة في ألفاظ المعاملات مطلقة لم يأتوا بشيء ينبغي الركون إليه ، فلا بدّ فيها حينئذ من مراجعة الاصول ، فيبنى على الوجه الأخير حيثما دار الأمر بينه وبين إحدى الثلاث الاولى ، لأصالة عدم النقل وأولويّة التقييد بالقياس إلى النقل والمجاز ، وعلى ثاني الوجوه لو دار بينه وبين الأوّل ، وعلى ثالثها لو دار بينه وبين الثاني ، للأصل فيهما وهو أصالة التأخّر لو قلنا بها في نظائر المقام.

وعلى جميع التقادير فهذه الألفاظ ليست بحقائق شرعيّة ولا المتشرّعة بالمعنى المأخوذ في عنوان المسألة ، بل هي إمّا حقائق أصليّة أو المتشرّعة الخاصّة أو الحقائق الفقهائيّة ، فالقول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها لعلّه على خلاف التحقيق.

وقضيّة ذلك كلّه كون الحقّ في المسألة هو الأوّل من التفاصيل المتقدّمة ، بل أنت بملاحظة ما أشرنا إليه من ظهور عدم ورود ما يكون من قبيل ألفاظ المعاملات في تمثيلات كلّ من تعرّض لتحرير محلّ النزاع في عدم كونها من موضوع المسألة ، ويشعر به ما يأتي من أوّل حجّتي النفاة حيث أخذ فيه التكليف واشتراطه بالفهم ، تعرف أنّه ليس تفصيلا فيها.

ويلحق بالمعاملات في عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة بل المتشرّعة فيها طوائف من الألفاظ ، ممّا توهم أو يمكن أن يتوهّم ثبوتهما فيها.

الاولى : عدّة ألفاظ واقعة على جملة من العبادات الّتي ليست من الماهيّات المخترعة والمعاني المستحدثة الّتي أحدثها الشارع ، كالطواف والوقوف والذبح ونحوها من مناسك الحجّ ، ومنها الاعتكاف ، فإنّها بمفاهيمها الأصليّة مع ما أثبت لها الشارع من القيود والزوائد اخذت في حيّز الأمر ، واجريت عليها أحكام العبادة ، والظاهر إنّه من هذا الباب ركوع الصلاة الّذي هو عبارة عن انحناء خاصّ وسجودها ، بناء على مجيئه في أصل اللغة لوضع الجبهة على الأرض ، كما يظهر من كلام بعض أهل اللغة.

٢٨٣

الثانية : الألفاظ الواردة في خطاب الشرع كتابا أو سنّة لبيان ماهيّات العبادات ، ومنها الغسل والمسح الواردين في قولهم عليهم‌السلام : « الوضوء غسلتان ومسحتان ».

الثالثة : الألفاظ الواردة لبيان نفس الأحكام ، سواء كانت من قبيل الهيئآت كصيغ الأمر والنهي ، فإنّها بمعانيها العرفيّة أو اللغويّة تفيد الأحكام الشرعيّة ، والقول بالحقيقة الشرعيّة في بعضها ـ على ما تقدّم إليه الإشارة ـ شاذّ لا يلتفت إليه ، مع ورود الدليل بخلافه ، أو من قبيل الموادّ كالوجوب والتحريم ، والندب والكراهة ومرادفاتها ، فإنّ ورودها في معانيها المعهودة من الأحكام الخمس التكليفيّة اصطلاح من الفقهاء والاصوليّة ، فلا ينزّل ما يرد منها في خطاب الشرع عليها إلاّ لقرينة ، ولذا كثر إطلاق الواجب في النصوص على جملة من المستحبّات ، كما في موثّقة سماعة المتكفّلة لبيان الأغسال المفروضة والمسنونة ، من إطلاقه على كثير من الأغسال الّتي لا يشكّ في استحبابها ، كغسل المولود ، وأوّل ليلة من شهر رمضان ، ودخول البيت ونحوه ، فإنّه لا يلائم إلاّ بإرادة الثابت في الشريعة.

وقد شاع إطلاق الكراهة في أخبار الأئمّة عليهم‌السلام على الحرمة بل جزم بعض مشايخنا بكون الأصل في لفظ « الكراهة » حيثما ورد في الأخبار وكلام القدماء من فقهائنا الأخيار هو الحمل على الحرمة ، و « السنّة » على ما يستفاد من جملة من النصوص كان يطلق في عرف الأئمّة عليهم‌السلام على قسم من الواجب ، وهو ما ورد وجوبه في السنّة النبويّة ، في مقابلة « الفرض » المعهود إطلاقه على القسم الآخر وهو ما ثبت وجوبه بالكتاب ، ومنه ما ورد في بعض الأخبار في تعليل عدم إجزاء الأغسال الاخر غير غسل الجنابة عن الوضوء من قوله : « الوضوء فريضة والغسل سنّة ، ولا يسقط الفريضة بالسنّة ».

الرابعة : الألفاظ الواقعة على معان ليست من مقولة العبادات ولا من مقولة المعاملات من العقود والإيقاعات ، « كالعدالة » و « الفسق » و « المؤمن » و « الكافر »

٢٨٤

و « الطهارة » و « النجاسة » فإنّ العدالة لغة الاعتدال والاستقامة ، وإذا اضيفت الاستقامة إلى الإنسان في أمر الدين لا معنى له إلاّ الملكة الرادعة ، والأحكام المعلّقة عليها في الشرع واردة عليها باعتبار هذا المعنى وهي باعتبار هذا المعنى يرد إطلاقها في كلام الفقهاء على الملكة باتّفاق منهم ، والاختلاف المعروف فيها ليس اختلافا في معناها ، بل هو ـ على ما حقّق ـ اختلاف في الطرق المثبتة لها ، الكاشفة عن حصولها ، و « الفسق » هو الخروج عن طاعة الله ولم يظهر من الشارع إطلاقه في غير هذا المعنى ، والإيمان هو التصديق ، والكفر هو الستر ، والطهارة هو النظافة ، والنجاسة ضدّ لها على ما بيّنّاه سابقا.

غاية الأمر ، إنّ الشارع أضاف إلى هذه المفاهيم جملة من الزوائد والخصوصيّات ، وهو في نحو الفرض لا يستدعي نقلا ولا وضعا جديدا ، ولا تجوّزا كما هو واضح.

وأمّا ما قيل في الاستدلال على ثبوت الحقيقة الشرعيّة بقول مطلق ، من أنّا نجد هذه الألفاظ في الكتاب العزيز والسنّة النبويّة واستعمالات الصحابة والتابعين قد استعملت في المعاني الشرعيّة الحادثة غالبا ، ونرى استعمالها في المعاني اللغويّة السابقة في غاية الندرة ، حتّى كاد أن لا يوجد منها في الكتاب والسنّة عين ولا أثر ، وهذا يدلّ على أنّ الشارع بنى الأمر على هجر المعاني اللغويّة ، ونقل تلك الألفاظ إلى المعاني الحادثة من أوّل الأمر.

فلا يخفى ما فيه ، من عدم وفائه بتمام المدّعى ، مع توجّه المنع إلى الصغرى ، بل أصل الاستعمال إن اريد بها ما يعمّ المعاملات ونحو ما ذكر من الألفاظ الملحقة بها كما يعلم بملاحظة ما سبق.

وأضعف منه الاستدلال أيضا بأنّ أهل البيت والصحابة وعلماء الأمصار في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلّون بما اشتمل عليه الكتاب والسنّة ، ولم ينكر عليهم أحد ، فإنّ للخصم مجالا واسعا في دفعه : بإبداء كون اعتمادهم في ذلك على قرائن وجدوها مع الألفاظ ، قاضية بإرادة المعاني الحادثة كما هو الغالب الّذي تقدّم الإشارة إلى بعضه.

٢٨٥

ولذا ترى الاصوليّين بين ناف لثمرة الخلاف في المسألة ، تعليلا بفقد لفظ يكون مجرّدا عن القرائن الصارفة عن المعنى اللغوي.

وبين مصرّح بقلّتها التفاتا منه إلى قلّة ورود هذه الألفاظ في كلام الشارع مجرّدة عمّا يصرفها عن معانيها الأصليّة.

وربّما استدلّ أيضا بكون كثير من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ والوضوء والغسل ثابتا في الشرائع السابقة ، معروفا عند الامم السالفة.

بل ربّما ظهر من بعض الأخبار ثبوت بعضها في الجاهليّة عند مشركي العرب ، فلا يبعد حينئذ دعوى كونها حقيقة قبل بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكيف بها بعد البعثة وانتشار الشريعة.

وقد تقدّم المناقشة في ذلك أيضا ، فالوجه في الاستدلال ما قرّرناه من الاستقراء.

وقد عرفت أنّه لا يفيد إلاّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالخصوص ، ومفاده في مورده وضع التعيين ، وعليه فإطلاق الثمرة المتقدّمة على القول بالثبوت في محلّه ، إن لم يخدش فيها قلّة التجرّد ، حسبما أشرنا إلى نقله عن بعضهم.

[٥٢] قوله : حجّة النافين وجهان ... الخ

احتجّ نفاة الحقيقة الشرعيّة بعد الأصل بوجهين.

أحدهما : على ما قرّره المصنّف إنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللغويّة لفهّمها المخاطبين بها ، حيث إنّهم مكلّفون بما تضمّنته.

ولا ريب إنّ الفهم شرط التكليف ، ولو فهّمهم إيّاها لنقل ذلك إلينا ، لمشاركتنا لهم في التكليف ، ولو نقل فإمّا بالتواتر أو بالآحاد ، والأوّل لم يوجد قطعا وإلاّ لما وقع الخلاف فيه ، والثاني لا يفيد العلم ، على أنّ العادة يقضي في مثله بالتواتر.

ولا يذهب عليك أنّ الضميرين المنصوب والمجرور في القياس الأوّل يعودان إلى غير المعاني اللغويّة ، باعتبار موصوف مقدّر له وهو معان اخر ، فعبارة أصل الدليل : إنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى معان اخر غير المعاني

٢٨٦

اللغويّة ، فحذف الموصوف واقيم الوصف مقامه ، أو إلى نفس الموصوف المقدّر لدلالة الوصف عليه.

وأمّا ما سبق إلى بعض الأوهام من عود الأوّل إلى النقل ، فمع أنّه لا يلائمه قاعدة المطابقة بين الضمير ومرجعه في التأنيث والتذكير ، لا يساعد عليه لفظ « التفهيم » كما لا يخفى. مع ما فيه من استلزامه التفكيك بين الضميرين ، إذ عود الضمير الثاني أيضا إلى النقل كما ترى مفسد للمعنى.

فما قيل ـ في الاعتراض عليه ـ : بأنّ غاية ما يلزم من ذلك إنّما هو لزوم تفهيم المراد من تلك الألفاظ ، لكون التكليف مشروطا بفهمه ، وهو لا يتوقّف على تفهيم الوضع والنقل ، لحصوله بالبيانات النبويّة ، ليس بسديد ، لابتنائه على الوهم المذكور.

وأمّا ما يقال عليه أيضا : من أنّ هذا الدليل لو تمّ لدلّ على بقائها في المعاني اللغويّة ، إذ تفهيم النقل كما يلزم في المعاني الحقيقيّة يلزم في المعاني المجازيّة إذا كانت مرادة للشارع بلا فرق بينهما.

فمع أنّه فاسد بما نبّهنا عليه من عدم عود الضمير إلى النقل ، لا يتوجّه إليه على كلّ تقدير ، فإنّ تفهيم المراد مع وجود القرينة ـ وإن كان هو المعاني المجازيّة ـ قد حصل بنفس القرينة ، فلا ينكره المستدلّ على أحد تقديري دليله حتّى يعارض بمثله.

فإنّ هذه الألفاظ ـ على هذا التقدير ـ تحمل على المعاني الشرعيّة على تقدير مقارنة القرينة لها ، وإلاّ فعلى اللغويّة فيفوت فائدة النقل الّتي لا بدّ وأن تظهر حال عدم المقارنة ، وحيث لم يحصل تفهيم كون المراد في تلك الحال هو المعاني الشرعيّة الحادثة ، كشف ذلك عن عدم تحقّق النقل حذرا عن اللغويّة.

وتوضيح ذلك : إنّك قد عرفت بما بيّنّاه آنفا ، أنّ نفاة الحقيقة الشرعيّة فريقان :

أحدهما : من ينفي التسمية الحقيقيّة في لسان الشارع ، مع اعترافه بورود التسمية المجازيّة ، الملازم للاعتراف بثبوت المسمّى المحدث الشرعي المغاير للمسمّى العرفي أو اللغوي ، كغير القاضي منهم.

٢٨٧

وثانيهما : من ينفي أصل التسمية حقيقيّة ومجازيّة ، ولازمه نفي ثبوت المسمّى الشرعي ، وإنكار الاختراع رأسا كالقاضي.

ولا ريب أنّ الدليل المذكور قابل لأن يقرّر على وجه ينطبق على مذهب القاضي ، كما هو الأظهر ممّا ينساق من عبارته ، وأن يقرّر على وجه ينطبق على مذهب غيره.

وأمّا تقريره على مذهب القاضي ، فبأن يقال : إنّ انكار النقل الّذي يدّعيه أهل القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ـ المتضمّن قولهم هذا دعويين : ثبوت مسمّى آخر مغاير للمسمّى اللغوي ، وتحقّق النقل بالقياس إليه ـ يتأتّى تارة بإنكار ثبوت أصل المسمّى المغاير.

واخرى : بإنكار صدور النقل من الشارع إليه.

والقاضي إنّما ينكر الأوّل ، بدعوى : إنّه ليس هنا مسمّى آخر مغاير للمسمّى اللغوي حتّى نلتزم بحصول النقل إليه ، وهذا الإنكار كما ترى يؤول بالأخرة إلى إنكار أصل الاستعمال والتسمية في المعنى المغاير ولو مجازا ، فيكون نفي النقل في كلامه من باب السلب في منتفية الموضوع ، فيرجع تقدير المقدّمة الاولى من الدليل إلى أنّه : لو كان هناك مسمّيات اخر غير المعاني اللغويّة ، نقل الشارع هذه الألفاظ إليها ، لفهّمها المخاطبين بها ، وحيث إنّه لم يفهّمهم تلك المسمّيات وإلاّ لنقل إلينا ، كشف ذلك عن انتفائها بالمرّة ، لئلاّ يلزم التكليف بما لم يفهّمه ولم يعلمه المكلّف ، ولزم منه انتفاء النقل بالمرّة ، الملازم لبقاء الألفاظ في كلامه على معانيها اللغويّة.

وأمّا تقريره على مذهب غيره ، فظاهره انّ بين مقدّم المقدّمة الاولى وتاليها واسطة مطويّة ، وهي كون هذه المعاني مرادة من الألفاظ عند تجرّدها عن القرائن ، فيكون التقدير : إنّ هذه الألفاظ لو نقلها الشارع إلى غير معانيها اللغويّة لكانت مرادة منها عند تجرّدها عن القرينة.

أمّا الملازمة : فلأنّ ذلك هو فائدة النقل ـ على ما تقدّم ـ ولو كانت مرادة منها

٢٨٨

مع تجرّدها عن القرينة لفهّمها المخاطبين بها ، إذ لولا ذلك لم يتحقّق بينهما ملازمة ، كما لا يخفى.

وعلى هذا التقرير لا يتوجّه إليه السؤال المذكور ، بل هو على التقرير الأوّل أيضا في غير محلّه ، لأنّ ما ذكر عين مطلب المستدلّ ، فلا اعتراض على الدليل من جهته ، لانطباقه على تمام المطلب.

ولعلّ منه الاعتراض على توهّم اختصاصه بمذهب من ينكر النقل فقط ، دون ثبوت المسمّى الآخر.

وكيف كان : فكلماتهم لا تخلو عن الخلط بين التقريرين ، واشتباه المذهبين.

وربّما يقرّر الملازمة الاولى ـ بناء على توهّم اختصاصه بمذهب غير القاضي ـ : بأنّه لولا النقل إليهم لعرى الوضع عن الفائدة ، والحكيم منزّه عنه.

والملازمة الثانية : بقضاء العادة من جهة شدّة الحاجة وتوفّر الدواعي بنقله إلينا ، وفيه أيضا ما لا يخفى من الاشتباه في فهم حقيقة المراد من الدليل ، والغفلة عمّا قرّرناه من توجيه الضميرين.

[٥٣] قوله : واجيب عن الأوّل ... الخ

وتحقيق الجواب عنه على تقريره الأوّل : منع عدم نقل المسمّيات الاخر إلينا ، بتطرّق المنع إلى الملازمة في القياس الأخير ، وسنده ما أسلفناه في دفع مقالة القاضي ، بناء على احتمال كون مراده بما ينفيه من الاستعمال ما يعمّ الاستعمال في لسان المتشرّعة أيضا.

وتوجيهه هنا : إنّ علمنا الضروري من عرف المتشرّعة بأنّه لا يتبادر من تلك الألفاظ عندهم إلاّ ما يغاير المعاني اللغويّة ، بل لا يدرك في استعمالاتهم شائبة من المعاني اللغويّة ، كاف في انكشاف نقل المسمّيات الاخر المغايرة للمعاني اللغويّة إلينا ، وليس علينا بعد ذلك لأن ننظر في أنّ مستند هذا العلم هل هو النقل المتواتر ليقابل بوقوع الخلاف ، أو هو النقل الآحاد ليدفع بعدم إفادته العلم ، أو هو التسامع والتظافر فيما بين المتشرّعة ، أو هو الترديد بالقرائن أو غير ذلك من طرق العلم.

٢٨٩

على إنّه يمكن الالتزام بتحقّق النقل المتواتر والذبّ عمّا ذكر بأنّ التواتر في النقل ليس بالقياس إلى العلم المستند إليه من باب العلّة التامّة ، لئلاّ يجامعه الخلاف بل غايته ، كونه من باب المقتضى الّذي قد يصادفه فقد الشرط ، أو وجود المانع ، فلا يقتضي فعلا.

ولا ريب إنّ سبق الشبهة إلى الذهن من جملة الموانع ، كما يمكن الالتزام بحصول النقل الواحد ، ويذبّ عمّا أورد عليه بجواز الاحتفاف بقرائن الصدق.

وأمّا الجواب عنه على تقريره الثاني.

فأوّلا : بمنع الملازمة في المقدّمة المطويّة ، فإنّ تحقّق النقل يستدعي حكما بالقياس إلى المخاطبين ، وهو وجوب حمل هذه الألفاظ عند تجرّدها عن القرائن على ما ثبت عندهم نقلها إليه من المعاني الشرعيّة تعويلا على أصالة الحقيقة ، ولا يستدعي بالقياس إلى الشارع المتكلّم بها وجوب إرادة هذه عند التجرّد إلاّ مع انضمام مقدّمات اخر. فليتدبّر.

وثانيا : بمنع الملازمة الثانية تارة ، ومنع بطلان اللازم منها اخرى ، فإنّ تفهيم المعاني الشرعيّة المرادة منها مجرّدة عن القرائن إن اريد به تفهيمها بعد إعلام الوضع وإخبارهم به ، فيتوجّه إليه منع الملازمة حينئذ ، لجواز الاكتفاء من المتكلّم في إفادة مراده بعد تبيّن الوضع لسامعه بأصالة الحقيقة ، كجواز الاعتماد من السامع في استفادة هذا المراد عليها ، فالتصريح بإرادة المعنى الحقيقي بعد إعلام الوضع ليس بلازم.

وإن اريد به تفهيمها بإعلام الوضع ، بأن يكون طريق التفهيم المستتبع للفهم هو إعلام الوضع ، ليحرز به موضوع أصالة الحقيقة ، فيتوجّه إليه أيضا منع الملازمة إن اريد بالإعلام ما هو بنحو التصريح ، لجواز الاكتفاء فيه بنحو الترديد بالقرائن ، وهو طريق مألوف في تعلّم الأوضاع واللغات مفيد للقطع ، كما تقدّم بيانه وتحقيق معناه ، ومنع بطلان اللازم إن اريد به ما يعمّ الترديد بالقرائن ونحوه ، بدعوى : إنّ الإعلام لم يحصل بشيء من طرقه ، إذ لا دليل على هذا البطلان إلاّ لزوم نقل هذا

٢٩٠

الإعلام إلينا ، المدّعى انتفائه بفرض عدم تحقّق التواتر ، وعدم فائدة حصول العلم بنقل الواحد.

وفيه : إنّ مشاركتنا لهم في التكليف لا يقتضي نقل ذلك إلينا مسندا ، وإنّما يقتضي وجوب الفحص والتحرّي عمّا فهموه من هذه الألفاظ ، ولو بالنظر فيما يكشف عن حصول الوضع الشرعي ثمّة من الحجج الناهضة بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، وقد حصل بنهوض الحجّة بذلك ، هذا مع أنّ الدليل لو تمّ لقضى بنفي وضع التعيين ، وإذا كان الكلام فيما يعمّه ووضع التعيّن ـ كما تقدّم إليه الإشارة ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد ـ فلا ينهض بنفيه ، لعدم منافاته وضع التعيّن الناشئ عن كثرة الاستعمالات المجازيّة.

وأمّا ما عرفته أخيرا من تقرير الدليل ، فاجيب عنه : بأنّ التفهيم إن اريد به ما لا يتناول الترديد بتوهّم اختصاصه بالتصريح ، توجّه المنع إلى الملازمة الاولى ، لعدم عراء الوضع عن الفائدة مع حصول التفهيم بالترديد ، وإن اريد به ما يتناوله أيضا ، توجّه المنع إلى الملازمة الثانية ، لأنّ التفهيم بطريق الترديد ليس مظنّة التواتر كما في التصريح ، مع أنّ توفّر الدواعي في نحو ذلك غير مسلّم ، كيف ولم ينقل بالتواتر ما هو أعظم من ذلك ، كما لا يخفى.

[٥٤] قوله : (وعن الثاني : بالمنع من كونها غير عربيّة ... الخ)

هذا جواب عن الوجه الثاني من حجّتي النافين ، وتقريره ملخّصا : إنّ هذه الألفاظ لو ثبت كونها حقائق لم تكن عربيّة ، بملازمة : أنّ انتساب كلّ لفظ إلى لغة إنّما هو لاستناد دلالته على معناه إلى الوضع الثابت له في هذه اللغة ، والمفروض إنّ وضع هذه الحقائق ليس من واضع لغة العرب ، فلا تكون عربيّة ، واللازم باطل ، لأنّه يلزم على هذا التقدير أن لا يكون القرآن عربيّا ، لاشتماله عليها وعلى غيرها ، فيكون نظير المركّب من الداخل والخارج المحكوم عليه بكونه خارجا ، واللازم باطل لقوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا )(١).

__________________

(١) الزخرف : ٣.

٢٩١

[٥٥] قوله : (فإنّ المجازات الحادثة عربيّة وإن لم يصرّح العرب بآحادها ... الخ)

ويشكل بمنع كونها مجازات على تقدير كون وضعها من باب التعيين كما هو مقتضى الحجّة المتقدّمة ، لعدم اقتضائه سبق التجوّز في استعمالاتها ، الملازم لملاحظة العلاقة لمعانيها اللغويّة ، واحتمال استنادها إلى الوضع والعلاقة معا مع أنّه غير معقول لقضائه باتّصاف الاستعمال الواحد بالحقيقيّة والمجازيّة ، ممّا لا يساعد عليه الذوق السليم ، سيّما إذا استلزم عراء الوضع عن الفائدة ، ومقايسته على استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ـ على ما جوّزه جماعة من الاصوليّين ـ بمعزل عن التحقيق ، لكمال وضوح الفرق بينهما ، لعدم تعدّد المستعمل فيه فيما نحن فيه.

وما قيل ـ في إصلاحه ـ : من كفاية كونها بحيث لو استعملها اللغوي في هذه المعاني بملاحظة العلاقة كانت مجازات لغويّة في كونها عربيّة ، فقول المجيب : إنّها حقائق شرعيّة مجازات لغويّة ، معناه : إنّها مجازات لغويّة بحسب القوّة.

يدفعه : إنّ المعتبر في الحقيقة والمجاز إنّما هو الاستعمال بحسب الفعل ، ولا يكفي فيه صلاحيّة الاستعمال ، وإلاّ لكفى في الحقيقة لأنّها مع المجاز بالنسبة إلى الاستعمال المأخوذ فيهما على شرع سواء ، وهو خلاف ما صار إليه المحقّقون ، ولذا أطبقوا على عدم استلزام المجاز للحقيقة ، وقضيّة الاكتفاء بصلاحيّة الاستعمال كون كلّ مجاز مستلزما لها ، لتحقّق الاستعمال بهذا المعنى في كلّ لفظ موضوع ، وهذا كما ترى.

وقد يتكلّف في إلحاقها بالعربيّة : بأنّها لما كانت من موضوعات العرب بحكم الفرض ، وقد نقلها الشارع إلى المعاني الحادثة لمناسبتها المعاني الأصليّة اللغويّة ، فهي حال استعمالها في هذه المعاني عربيّة ، لأنّ لوضع العرب مدخلا في وضعها واستعمالها.

ويشكل ذلك أيضا : بأنّه إنّما يستقيم لو كان تصرّف الشارع فيها من باب النقل المصطلح.

٢٩٢

وقد عرفت أنّ كونه من باب الارتجال أحد الاحتمالين الجاريين في المقام.

ويمكن الجواب بمنع كون المعتبر في انتساب اللفظ بالعربيّة ما قرّره المستدلّ من استناد دلالته على معناه إلى وضع العرب ، بل المعتبر كونه ممّا طرأه وضع من العرب ، وإن طرأه وضع آخر من غيرهم ، سيّما إذا كان أثر الوضع الأوّل باقيا.

والمفروض أنّ هذه الألفاظ بحسب الأصل من موضوعات العرب ، فتكون عربيّة بهذا الاعتبار ، وطروّ الوضع الجديد لها لا يرفع هذا الصدق ، ولا يضرّ بلحوق وصف العربيّة لها ، كما لا يخفى.

وفي كلام غير واحد من الأجلّة ، منع الملازمة أيضا : بأنّ ذلك على تقدير كون واضع اللغات هو الله تعالى ، يبطله منع اعتبار وضع العرب في لحوق وصف العربيّة ، بل المعتبر حينئذ كونه ممّا يستعمله العرب ويتداولوه في محاوراتهم.

ولا ريب أنّ هذه الألفاظ بعدما وضعها الشارع للمعاني الحادثة ممّا يتداولها العرب في محاوراتهم فتكون عربيّة ، سواء قلنا بكون الشارع الواضع لها لهذه المعاني هو الله تعالى ـ كسائر الألفاظ على الفرض ـ أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ مناط وصف العربيّة متحقّق على كلا التقديرين ، بل على تقدير كون واضع اللغات هو البشر وواضع هذه الألفاظ هو النبيّ لصحّ اتّصافها بالعربيّة أيضا ، إذ لا يشترط في ذلك صدور الوضع من الجميع أو من الصدر الأوّل ، وإلاّ لخرجت الحقائق العرفيّة والأعلام الشخصيّة المتداولة بين العرب عن كونها عربيّة وهو كما ترى.

والمفروض أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من العرب بل ورئيسهم ، ولعلّ مبنى الاستدلال على اشتباه العربيّة بالحقائق اللغويّة ، أو توهّم الترادف بين العربيّة واللغويّة ، مع أنّ كون الواضع من العرب غير معتبر في اللغويّة.

واجيب عن الاستدلال أيضا ، تارة : بالنقض بألفاظ معرّبة واقعة في القرآن ، من الهنديّة والروميّة والفارسيّة « كالمشكاة » و « القسطاس » و « السجيل » وأعلام لم يضعها واضع لغة العرب « كإبراهيم » و « إسماعيل » و « زيد ».

ودفع الاولى بتوهّم كونها من مشتركات اللغتين ، على حدّ ما هو الحال في

٢٩٣

الصابون والتنور بعيد جدّا ، لما هو الأصحّ من عدم كونها من العربيّة ، على ما نصّ به ابن عبّاس وغيره.

واخرى : بمنع الملازمة الثانية بدعوى : عدم قضاء اشتمال القرآن على لفظ غير عربي بكونه غير عربي ، فإنّ معنى كونه عربيّا إنّه عربي النظم والاسلوب ، ولا ملازمة بينه وبين عربيّة مفرداته ، إذ ربّما كانت المفردات غير عربيّة والكلام عربي ، كما أنّه ربّما تكون المفردات عربيّة والكلام غير عربي ، كما يشاهد في الكتب الفارسيّة وغيرها.

[٥٦] قوله : (ومع التنزّل بمنع كون القرآن كلّه عربيّا ... الخ)

وهذا في معرض منع بطلان التالي ، وحاصله : إنّ مبنى توهّم البطلان قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا )(١) على عود الضمير إلى القرآن بتمامه ، وهو في حيّز المنع ، لجواز عوده إلى السورة أو الآية بتأويل البعض أو المنزّل ، وظاهر أنّ عربيّة البعض لا تستلزم عربيّة الكلّ.

والاعتراض عليه : بأنّ السورة والآية ممّا يصدق عليه أنّه بعض القرآن ، وبعض الشيء لا يصدق عليه نفس ذلك الشيء.

يندفع : بأنّ القرآن ليس كالعشرة ليكون اسما للمجموع من حيث هو ، على معنى مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في وضعه حتّى يمتنع صدقه على الأبعاض ، بل هو مقول على المجموع وعلى كلّ بعض بالاشتراك معنى ، بدعوى : وضعه للقدر المشترك بين المجموع وكلّ بعض كالمنزّل على وجه الإعجاز ونحوه ، كلفظ « الماء » الموضوع للقدر المشترك بين مجموع المياه وكلّ من أبعاضه ، وهو الجسم البسيط الرطب البارد بالطبع ، فصدق البعضيّة على السورة أو الآية لا ينافي صدق اسم القرآن عليها ، لأنّها بعض باعتبار كونها في ضمن الكلّ ، وقرآن باعتبار اشتمالها على القدر الجامع الموضوع له ، كماء البحر الّذي هو بعض من مجموع المياه ، وماء باعتبار ما تحقّق في ضمنه من المفهوم الكلّي الموضوع له.

__________________

(١) الزخرف : ٣.

٢٩٤

أو لفظا بدعوى : وضعه تارة للقدر الجامع ، واخرى للمجموع مع الهيئة الاجتماعيّة ، فالسورة يصدق عليها القرآن بالاعتبار الأوّل ، والبعض بالإعتبار الثاني ، كما يظهر اختيار ذلك من بعض الفضلاء (١) وإن بعد بمخالفته الأصل ، وعدم مساعدة الأمارات عليه.

والأظهر هو الوجه الأوّل إن لم يكن هنا وجه ثالث يترجّح عليه ، على ما سنشير إليه في المسألة الآتية.

ومنعه : بدعوى تبادر المجموع فقط ، كما في سائر الكتب ، كما صنعه الفاضل المشار إليه في ظاهر كلامه.

يدفعه : أنّ التبادر المدّعى على فرض صحّته ليس إلاّ لمجرّد الانصراف إلى الفرد الكامل ، فلا ينهض حجّة للوضع ، وقياسه على أسماء سائر الكتب غير مجد ، بعد توجّه المنع إلى الحكم في المقيس عليه ، فإنّ تبادر المجموع فيها أيضا ـ إن صحّ ـ فليس إلاّ لما ذكرناه ، وإلاّ فلا ينبغي التأمّل في صدق الاسم فيها على البعض المعتدّ به في حصول الغرض المطلوب من تدوين الفنّ ، وهذا هو الفرق بينها وبين القرآن الصادق على أيّ بعض ولو سورة أو آية صدقا حقيقيّا ، لا يصحّ معه السلب ، كما يرشد إليه التدبّر.

وأقوى ما يشهد بذلك لحوق الأحكام اللاحقة بالمجموع من جهة الشرع ، من تحريم مسّه ونحوه ، بكلّ سورة وآية وكلمة لمجرّد صدق الاسم ، ومن هذا الباب لزوم الحنث بقراءة آية بل كلمة فيما لو حلف أن لا يقرأنّ القرآن.

ودعوى : كون ذلك مسامحة عرفيّة في التعليق ، على معنى تنزيل تعلّق الفعل بالبعض منزلة تعلّقه بالكلّ.

يدفعها : عدم مساعدة صحّة السلب عليها ، كما في إطلاق المنّ وغيره من الموازين على ما ينقص أو يزيد بيسير ، بالقياس إلى حدودهما المعيّنة الواقعيّة.

__________________

(١) الفصول : ٤٥.

٢٩٥

بل قد عرفت ما ينادي بخلاف ذلك ، فالحنث إنّما يلزم لتعلّق الفعل بما هو مصداق الاسم حقيقة ، نظيره لزومه بأكل لقمة في دار عمرو ، لو حلف أن لا يأكلنّ في داره.

وبالجملة : منع الجواب بمنع صدق « القرآن » على البعض خروج عن الإنصاف ، بل المنع إن كان ولا بدّ منه فإنّما هو بمنع عود الضمير إلى السورة أو الآية ، لكونه ممّا يأباه سائر سياق الآية ، للحوقه بذكر الكتاب المقتضي لعوده إليه ، مع كونه مرادا به الكلّ بقرينة إضافة الآيات إليه.

مضافا إلى شهادة قوله تعالى ـ في سورة اخرى ـ : ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )(١) بذلك ، لعدم احتماله إلاّ أن يراد منه الكتاب الّذي هو حال له من باب حال الموّطئة ، فوصفه بالعربيّة حينئذ وصف للمجموع به ، ويشهد له أيضا ما في سورة ثالثة من قوله تعالى : ( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )(٢) وإرجاع الضمير فيه أيضا إلى السورة أو الآية دون الكتاب المتقدّم ذكره بعيد عن السياق جدّا.

هذا مع أنّ هذا التأويل إن صحّحناه غير مجد في دفع المحذور في شيء من المواضع الثلاث المشار إليها ، لاشتمالها على ما هو من الألفاظ المتنازع فيها المدّعى ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها ، كالمؤمن والكافر في جميع السور الثلاث ، والزكاة والسجود في السورة الثانية ، والفسق في الثالثة ، ولو قدّرت الآية مرادة في جميع المواضع الثلاث لم يكن مجديا أيضا ، من حيث اشتمال هذه الآية أيضا على لفظ القرآن الصالح لكونه من المتنازع فيه ، كما يظهر الجزم به من بعض الفضلاء.

__________________

(١) فصّلت : ٢.

(٢) الزخرف : ٣.

٢٩٦

ـ تعليقة ـ

في الصحيح والأعمّ

اختلفوا في ألفاظ العبادات هل هي أسام للصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ، على قولين أو ثلاثة أقوال ، ثالثها التفصيل بين الأجزاء فالصحيحة والشرائط فالأعمّ ، أو أربعة أقوال رابعها الفرق بين الحجّ فالأعمّ وغيره فالصحيحة ، وتنقيح المطلب يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاولى : هذا الخلاف ليس من متفرّعات القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وخصائصه لئلاّ يجري على قول النافي مطلقا بل يجري على كلا القولين ، ويصحّ من كلا الفريقين ، وفاقا للمحقّقين من مشايخنا المعاصرين وغيرهم.

وقد سبق إلى بعض الأوهام ابتناؤه على القول بالثبوت ، القاضي بعدم جريانه على القول بالعدم ، وارتضى به بعض الفضلاء ، استنادا إلى ما في عناوين البحث من التعبير بالاسم الّذي فيه باعتبار مفهومه العرفي تصريح بالوضع الّذي ينكره النافي ، مضافا إلى احتجاج الفريقين هنا بجملة من أمارات الحقيقة وكواشف الوضع الّذي لا يلائم القول بالنفي.

وأيضا فإنّه على تقدير دخول النافي يلزم من قوله بالصحيحة إنكار ما لا سبيل له إلى إنكاره ، من ورود هذه الألفاظ في كلام الشارع مستعملة في غير الصحيحة من المعاني المحدثة الشرعيّة.

وبيان الملازمة : أنّ نفي الحقيقة الشرعيّة على مذهب غير القاضي لا معنى له

٢٩٧

إلاّ دعوى أنّ هذه الألفاظ حيثما استعملها الشارع في المعاني المحدثة الشرعيّة فقد استعملها مجازا ، فإذا فرض كون ذلك المعنى المجازي هو الصحيح ـ بناء على القول بالصحيحة ـ رجع إلى إنكار ورود استعمالها في غيره ، وهذا هو المراد باللازم ، وبطلان اللازم بعد ملاحظة إطباق الفريقين على ورود الاستعمال في كلام الشارع كتابا وسنّة في غير الصحيحة أيضا ـ بل كثرة وقوعه ـ ولو مجازا ، أوضح من أن يوضح.

والجواب : أنّ التعبير بالاسم في العنوان إنّما هو لانعقاد النزاع في عرف المتشرّعة ، إطباقا منهم على كونه ميزانا لعرف الشارع ، وطريقا إلى انكشاف مراداته من هذه الألفاظ الواردة في الكتاب أو السنّة مجرّدة عن القرائن المشخّصة للمراد.

ولا إشكال عند الفريقين في ثبوت الوضع في عرف المتشرّعة ، كما علم ذلك في المسألة المتقدّمة.

وقد يعتذر عن التعبير المذكور بأنّ الظاهر أنّ تحرير النزاع بهذا الوجه إنّما هو من المثبتين ، بناء على أصلهم في القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة.

ثمّ اشتهر ذلك بين الاصوليّين ، فتبعهم في ذلك من لا يوافقهم في ظاهر مفاد العنوان ، جمعا بين الجري على ما هو المعنون ، ومراعاة جريان النزاع على القول بالنفي أيضا باعتبار المعنى.

وما قرّرناه أوجه وأوفق بقواعدهم ، وبه يعلم الجواب عن ثاني الوجوه ، فإنّ المراد بالأمارات المحتجّ بها ما هو كذلك بحسب عرف المتشرّعة ، لا ما يتحقّق منها في عرف الشارع ، لئلاّ يجامع القول بالنفي.

وأمّا الشبهة الأخيرة فيدفعها : منع الملازمة المدّعاة ، لرجوع النزاع على القول بالنفي إلى تعيين أقرب مجازات الألفاظ من المعاني الشرعيّة ـ المنقسمة إلى الصحيحة والفاسدة والأعمّ منهما ـ إلى الحقيقة من معانيها اللغويّة ، ليثمر عند قيام القرينة الصارفة عن الحقيقة ، بضابطة قولهم : « إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب

٢٩٨

المجازات أولى » فاختيار القول بالصحيحة يرجع إلى دعوى : كونها الأقرب ، وهو لا ينافي ورود الاستعمال في غيرها أيضا على وجه المجاز ، كما أنّ مرجع القول بالأعمّ حينئذ إلى دعوى كونه الأقرب ، الملازم لمساواة جميع المجازات الثلاث بحسب المرتبة في القرب والبعد.

وإن شئت أخذ العنوان على وجه يفرض في عرف الشارع ، ويندرج فيه نفاة الحقيقة الشرعيّة ، ويندفع به شبهات متوهّم الاختصاص ، فعبّر عنه : بأنّه إذا وردت هذه الألفاظ في كلام الشارع كتابا أو سنّة ، مجرّدة عن القرائن المشخّصة للمراد ، فهل الأصل فيها الحمل على إرادة الصحيحة من المعاني الشرعيّة ، أو إرادة ما يعمّها والفاسدة؟

فالقائل بالصحيحة يدّعي كونها ممّا يقتضي الحمل على إرادته الأصل ، والقائل بالأعمّ يدّعي كون الحمل على إرادته ما يقتضيه الأصل ، من غير فرق بين القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة والقول بنفيها.

غاية الأمر اختلاف معنى الأصل بحسب اختلاف المذهبين ، فعلى القول بالثبوت يراد به أصالة الحقيقة ، وعلى القول بالنفي يراد به القاعدة المشار إليها ، فإنّها أيضا بعد إحراز الصغرى كأصالة الحقيقة من الاصول اللفظيّة المعمولة في تشخيص المرادات ، غير أنّ أصالة الحقيقة مختصّة بموارد الوضع ، والقاعدة المذكورة مختصّة بموارد التجوّز بعد تعذّر الحقيقة ، وإلى التعبير المذكور أشار بعض الأعلام في جملة كلام له في هذا المقام.

لا يقال : إنّ الأقربيّة إذا اريد بها العرفيّة ، لا بدّ وأن تستند إلى غلبة الاستعمال ، وهي أيضا كأصل الاستعمال ممّا لا سبيل إلى إنكاره على القول بالصحيحة ، ضرورة تحقّقها بالنسبة إلى الأعمّ على وجه لا يكاد ينكر ، فإنّها على فرض الصحّة والتسليم تنهض حجّة على القول بالأعمّ ، ولا تنافي جريان النزاع على القولين ، كما هو واضح.

وأمّا ما يتراءى من بعض عبارات بعض الفضلاء في المقام ، من لزوم سبك

٢٩٩

المجاز من مثله على تقدير جريان النزاع على القول بالنفي ، التفاتا إلى أنّ الاستعمال في الصحيحة على هذا القول إنّما هو لعلاقة بينها وبين المعنى اللغوي ، من علاقة الإطلاق والتقييد أو غيرها ممّا يتحمّله المقام ، فالاستعمال في الأعمّ أو خصوص الفاسدة لا بدّ وأن يكون لضرب من المشابهة والمشاكلة بينه وبين الصحيح في الصورة ، وهو كما ترى استعمال لعلاقة المجاز بين المستعمل فيه وبين المعنى المجازي ، ولا ريب في ندرته على تقدير صحّته ووقوعه ، فلا ينبغي تنزيل هذا النزاع المعروف الواقع بين أهل النظر على نحو هذا المفروض ، الّذي لا يكاد نجد له شاهدا في كلام العرب.

فلعلّ مبناه على ملاحظة أنّ الاستعمال في غير الصحيحة ـ على القول بها ـ من مثبتي الحقيقة الشرعية إنّما يرد لنحو العلاقة المذكورة بينه وبين الصحيحة الّتي هي المعنى الحقيقي حينئذ ، بتوهّم اطّراد هذا الاعتبار على القول بالنفي غفلة عن حقيقة الحال.

ويدفعه : أنّ علاقة المجاز لا بدّ وأن تكون ملحوظة بين المستعمل فيه المجازي والمعنى الحقيقي ، الّذي هو الصحيحة على القول بها مع القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة ، فغيرها حينئذ مجازي شرعي ، ولذا لا يلاحظ العلاقة حينئذ إلاّ بينه وبين المعنى الحقيقي الشرعي ، بخلافه على القول بنفي الحقيقة الشرعيّة ، فإنّ المعنى الشرعي حينئذ مجاز لغوي ، فيجب مراعاة العلاقة بينه وبين المعنى اللغوي لا غير ، وعليه فلم لا يفرض غير الصحيحة من المعاني الشرعيّة في عرض الصحيحة ليكون كلّ منهما مجازا لغويّا ، يعتبر نحو العلاقة المذكورة بينه وبين المعنى اللغوي ، فإنّ اعتبار علاقة الإطلاق والتقييد على تقدير صحّته هنا أو المشاكلة في الصورة ونحوها يمكن بالقياس إلى كلّ من الصحيحة وغيرها ، كما هو واضح.

وقد يذبّ عمّا ذكر : بأنّ الاستعمال في الفاسدة عند القائل بالنفي ليس مجازا آخر غير ما يلزم منه على تقدير الاستعمال في الصحيحة ، بل هو وجه من وجوه

٣٠٠