تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

غاية ما هنالك أنّ اللغوي لم يذكر له إلاّ معنى واحدا كما هو المفروض ، وهو لا يقضى بانحصار معناه فيه بحسب الخارج ، لجواز أن يكون له معنى حقيقيّا لم يتعرّض له اللغوي اعتمادا على اشتهاره ومعروفيّته ، وإنّما تعرّض لذكر المجاز لخفائه باعتبار ندرة الاستعمال فيه ، وكم من هذا القبيل في كلامهم ، فتراهم كثيرا مّا يذكرون اللفظ بعنوان أنّه معروف من غير تصريح بذكر معناه المعروف ، بل ربّما يقتصرون عند ذكر اللفظ بإيراد مستعملاته ، أو موارد استعماله في الكتاب والسنّة أو غيرهما ، من دون ذكر معناه الأصلي ، لا بعنوان التصريح ولا بعنوان وصف المعروفيّة ، مع إمكان عدم اطّلاعه بالحقيقة ، كما إذا لم يكن من أهل لسان العرب ، ولم يحصل له من التتبّع ما يؤدّيه إلى تعيين الحقيقة.

وما يقال : في دفعه بعدم إمكانه ، حيث إنّ معرفة المجاز فرع معرفة الحقيقة.

يدفعه : أنّ المستحيل إنّما هو تحقّق المجاز في الخارج من دون وضع ، وأمّا تحقّقه في الذهن من دون معرفة الموضوع له بعينه فليس بمستحيل ، كما هو واضح ، وبما ذكر يندفع الاستبعاد المذكور ، فإنّ ذكر المجاز مع ترك الحقيقة ليس بعزيز الوجود في كتب اللغة ، بل المتتبّع يشهد بشيوعه ، فطريق الاستظهار مقصور على ما نبهنا عليه ، فإنّ دعوى الانصراف ـ حسبما قرّرناه ـ ليس خروجا عن الإنصاف ، كما يجده المجانب عن الاعتساف.

وأمّا القسم الثاني : فيندرج فيه أيضا صور :

إحداها : أن يوجد في عبارته الصادرة عند بيان المعاني المتعدّدة ما يكشف بصراحته أو ظهوره عن اعتقاده بالحقيقيّة في البعض والمجازيّة في الآخر ، كأن يقول : الأسد حقيقة في المفترس ومجاز في الشجاع ، أو إنّه اسم للمفترس ويستعار أو يكنّى للشجاع ، أو إنّه يدلّ على المفترس بنفسه ويستعمل في الشجاع لعلاقة أو للمناسبة ، أو يقول : إنّه المفترس أو إنّه للمفترس وقد يستعمل في الشجاع ، أو قد يطلق عليه أو قد يأتي أو قد يجيء له ، وهذا ممّا لا إشكال فيه من حيث الحجّية ولا من حيث حصول الثمرة ، إلاّ في بعض الفروض ـ على حسبما ما تقدّم ذكره ـ فإنّ الفروض السبعة المشار إليها آتية هنا.

٤١

وثانيتها : أن يوجد في العبارة ما يكشف عن اعتقاده بالحقيقيّة في الكلّ ، ولازمه ثبوت الاشتراك فيعامل معه معاملة المشتركات ، ففي أخذ الثمرة يتحرّى في طلب القرينة المعيّنة للمراد ، ومع تعذّرها يتوقّف.

وثالثتها : أن لا يوجد في العبارة ما يقضي بإحدى الصورتين المتقدّميتن فالوجه فيه أنّه يرجع إلى مسألة تعارض الاشتراك مع الحقيقة والمجاز ، ولتحقيق الكلام فيها وتفصيل القول فيما هو أولى منهما محلّ آخر ، يأتي إن شاء الله تعالى.

وعلى تقدير الحكم بأولويّة المجاز ، فالمحكوم بالحقيقيّة فيه إنّما هو أحد المعاني المفروضة وإن كثرت كما هو واضح ، وأمّا تعيين ذلك الواحد فلا بدّ له من معيّن خارجي.

وفي كلام غير واحد من أجلّة الاصوليّين ، الحكم في التعيين بكون المقدّم ذكره من المعاني هو الواحد المحكوم بكونه حقيقة ، وهذا ممّا لم يعلم له مدرك يعتمد عليه ، عدا ما في كلام بعضهم من الاستناد إلى الاستبعاد ، فإنّ تقديم المجاز على الحقيقة بعيد عن ذوي البصائر ، سيّما بعد ملاحظة ما قيل من شدّة اهتمامهم بضبط الحقائق ، وكثرة ما يترتّب عليها من الفوائد ، الّتي منها الوصول إلى التجوّز بأنحائه المختلفة.

والإنصاف : إنّ هذا الاستبعاد لا يصلح للتعويل عليه ولا الاستناد إليه ، فلو قيل بكون الأمر موكولا إلى نظر الفقيه في مظانّ الابتلاء كان أوجه.

الثالث : في تعارض النقل من نقلة اللغة ، وإنّما يحصل التعارض في مواضع الاختلاف ، الّذي يقع تارة : في وصف المعنى من حيث الحقيقيّة والمجازيّة ، بأن يذكره بعضهم باعتقاد الحقيقة ، والبعض الآخر باعتقاد المجاز.

واخرى : في ذات المعنى من حيث التبائن ، بالمعنى المتناول للتساوي أو العموم من وجه أو مطلقا ، بأن يقول بعضهم : « القرء الطهر » و « الغناء ترجيع الصوت » و « الصعيد وجه الأرض » والبعض الآخر : « القرء الحيض » و « الغناء الصوت المطرب » و « الصعيد التراب » فيقع الكلام في مقامين :

٤٢

أمّا المقام الأوّل : فيختلف الحال فيه على حسب اختلاف المذاهب في حجّية قول اللغوي ، أمّا على المذهب المختار من اعتبار العلم في العمل به ، فلا محيص من التحرّي في طلب العلم بالمطابقة ، ثمّ الأخذ بموجبه سواء صادف نقل الحقيقة أو نقل المجاز ، ومع تعذّره لا محيص من الوقف.

وأمّا على مذهب من يعتبره في موضع الظنّ فالأمر منوط بحصوله ، فلا بدّ من التحرّي في طلبه ، ومع تعذّره في كلا الجانبين يتوقّف أيضا.

وأمّا على القول به تعبّدا فلا بدّ من التحرّي في الجمع بينهما ، فإن أمكن يتعيّن عملا بدليل الحجّية ، كالخبرين المتعارضين ـ على القول بأولويّة الجمع حيثما أمكن ـ وإن كان يفارقه في طريق الجمع ، من حيث إنّه في الخبرين إنّما يحصل بالإخراج عن الظاهر وتطرّق التصرّف إلى أحدهما بعينه ، أو إليه لا بعينه أو إلى كليهما.

وفي المقام يحصل بتصديق الناقلين معا فيما اعتقدا به ، ولذا لا يتوجّه هنا المناقشة الواردة ثمّة باعتبار قضاء الجمع على الوجه المذكور بطرح الخبر في الحقيقة ، لو التزم به مطلقا ولو مع فقد الشاهد الخارجي ، فيما يحتاج إليه من الصور المشار إليها.

والوجه في المغايرة أنّ التعارض ثمّة إنّما يحصل لشبهة في الدلالة ، مع مطابقة المدلول للواقع على تقدير إحراز الدلالة ، وهاهنا إنّما يحصل لشبهة في المطابقة للواقع مع الفراغ عن إحراز الدلالة كالسند.

وليس الجمع هنا أيضا نظير الجمع الّذي يلتزم به في مسألة تعارض الجرح والتعديل ، بتقديم الجرح نظرا إلى أنّه لا يستلزم تكذيب المعدّل ، من حيث إنّه يخبر عن « لا أدري » والجارح عن « أدري » والأوّل لا يعارض الثاني ، لكون كلّ من الناقلين مخبرا عن الدراية ، ولا من باب ما يأتي من طريقه في المقام الثاني من الأخذ بإثبات كلّ وإلغاء نفيه ، لأنّ ذلك إنّما يعقل إذا لم يكن الخلاف في قضيّة شخصيّة كما في المقام ، لكون المعنى واحدا وحصل الخلاف في وصفه ، فلا يمكن

٤٣

الحكم بالاشتراك كما هو قضيّة الجمع بالمعنى المشار إليه ، بل هو إرجاع للنقلين إلى ما يرفع المعارضة عمّا بينهما ، وإن كان يستلزم الالتزام بضرب من النقل ، وإنّما يمكن ذلك فيما لو كان تاريخ أحدهما مع كونهما معلومي التاريخ ـ متقدّما على تاريخ الآخر ، وكذا مع الجهل بتاريخ أحدهما لو اعتبرنا أصالة التأخّر في نظائر المقام ، وفيما تقدّم تاريخ نقل المجازيّة يصدق الناقلان بالتزام النقل التعيّني ، إذ لا يبعد كون اللفظ في زمان ناقل المجازيّة مجازا في المعنى الّذي حكم بمجازيّته ، ثمّ كثر استعمالاته المجازيّة إلى ما يقرب من زمان ناقل الحقيقيّة فبلغ حدّ الحقيقة ، بحيث وجده في زمانه حقيقة فيه ، ولمّا كان المجاز لا بدّ له من حقيقة أو معنى موضوع له ، فينهض ذلك منقولا منه سواء نقله ناقل المجازيّة أيضا ، أو لم ينقله بملاحظة ما ذكرناه من جوازه.

وفيما تقدّم نقل الحقيقيّة يصدقان أيضا ، بالتزام النقل الّذي قد يطرء المشترك بين المعنيين ، فيما لو غلب في أحدهما على وجه زال أثر الوضع عن الآخر ، لكنّه يختصّ بما لو نقل كلّ منهما معنيين ، أحدهما باعتقاد الحقيقيّة فيهما ، والآخر باعتقاد المجازيّة في أحدهما ، إذ لا يبعد أن يكون اللفظ في زمان ناقل الحقيقيّة مشتركا بين المعنيين فغلب استعماله في أحدهما حتّى تعيّن له خاصّة ، فإذا جاء ناقل المجازيّة وجد حقيقة فيه ومجازا في الآخر من دون اطّلاع بحالته السابقة ، وأمّا إذا علم تاريخهما مع العلم بالمقارنة ، كما لو جهل تاريخهما فلا يمكن الجمع بوجه ، وحينئذ لا بدّ من الترجيح بمراجعة المرجّحات الراجعة إلى أصل النقل ، من الصراحة أو الأظهريّة في الدلالة على اعتقاد الحقيقيّة أو المجازيّة تقديما للنصّ أو الأظهر على الظاهر ، فيما لو اختلف النقلان من حيث الصراحة والظهور ، أو الأظهريّة والظهور ، أو إلى الناقل فيما لو تساويا من الحيثيّة المذكورة التفاتا إلى أنّ لهما من حيث الصراحة والظهور أربع صور ، حاصلة من ضربهما بالنسبة إلى نقل الحقيقة فيهما بالنسبة إلى نقل المجاز.

ومن المرجّحات الراجعة إلى الناقل العدالة وكثرة العدد ، وكثرة التتبّع في كلام

٤٤

العرب ، وكثرة المهارة في فنون الأدب ، وغلبة الضبط وقلّة الخلط بين الحقيقة والمجاز ، وكون الناقل مشتهرا بين العلماء ومعتمدا على نقله عند الأجلاّء ، وكونه عربيّا إلى غير ذلك ممّا يوجب الظنّ الغالب بأحد النقلين ، ومع فقد المرجّحات ، أو وجودها في كلا الجانبين على جهة التعارض مع اتّحاد النوع أو اختلافه ، تعيّن الوقف كما هو واضح.

وأمّا المقام الثاني : فيختلف فيه الحال أيضا على حسب اختلاف الأقوال ، فعلى المختار وكذا على مختار من يعتبره لوصفه فالأمر واضح ، بملاحظة ما سبق ، بل فرض التعارض على هذين المذهبين مسامحة ، حيث لا يعقل التعارض بين علميّين ولا بين ظنّيّين.

وعلى مذهب من يعتبره لذاته فطريق العلاج فيه إنّما هو مراعاة الجمع ، بمعنى تصديق الناقلين معا ، على معنى العمل بكلّ من النقلين ، على وجه لا يلزم منه ترك العمل بالآخر حيثما أمكن.

ولا يذهب عليك أنّ دائرة الجمع هنا أوسع منها في المقام المتقدّم ، وإنّما يتأتّى ذلك بجعل اللفظ في صور التساوي والتباين والعموم من وجه مشتركا بين معنيين « فالقرء » حينئذ إمّا الطهر وإمّا الحيض ، و « الغناء » إمّا الصوت المطرب أو ترجيع الصوت ، والوجه في ذلك إنّ عدم تعرّض اللغوي لذكر المعنى المتنازع فيه ، إمّا من جهة عدم الوجدان وهو الغالب ، أو من جهة وجدان العدم ، ومورد الشكّ ملحق بالغالب ، فإذا علم بملاحظة القرائن الخارجيّة كون عدم التعرّض لذكر ما لم يذكر في محلّ الاختلاف من الصور المذكورة من جهة عدم الوجدان ، فالحكم بالاشتراك على الوجه المذكور أخذ بكلا القولين ، غير مستتبع لشيء من الطرح ، وعليه فطريق الجمع في صورة العموم مطلقا إنّما هو الأخذ بالأعمّ ، لأنّ العمل به عمل بنقل الأخصّ.

وقد يتوهّم : أنّ ذلك ينافي قاعدتهم المقرّرة في بحث المطلق والمقيّد من وجوب حمل الأوّل على الثاني ، فإنّ مقتضى هذه القاعدة تقديم القول بالأخصّ

٤٥

لأنّه مقيّد فيحمل عليه القول بالأعّم لأنّه مطلق ، بل في موائد العوائد جعل احتمال الأخذ بالأخصّ وجها من وجوه المسألة استنادا إلى تلك القاعدة ، وليس في محلّه ، فإنّ قضيّة حمل المطلق على المقيّد إنّما يلتزم بها لرفع الشبهة في الدلالة ، والمقام ليس من مظانّ تلك الشبهة كما عرفت في المقام الأوّل ، مع أنّه ممّا لا يتصوّر له معنى ، فإنّ الحمل عبارة عن الحكم بكون المراد من المطلق هو المقيّد ، بجعل المقيّد قرينة عليه ، وإنّما يصحّ ذلك إذا كانا من كلام متكلّم واحد حقيقي أو حكمي ، كما في أخبار الأئمّة الأطهار سلام الله عليهم ، ولا يصلح مقيّد متكلّم قرينة على مطلق متكلّم آخر ، على معنى كونه كاشفا عن إرادته المقيّد من المطلق ، وتوهّم أنّ الناقلين هنا إنّما يخبران عن الواضع الّذي هو واحد.

يدفعه أوّلا : إنّه إخبار مبناه على الاجتهاد ، فالواقع الصادر من الواضع بحسب نفس الأمر واحد ، وهو إمّا الوضع للمطلق أو الوضع للمقيّد ، وحصل الاختلاف في فهمه ، فلا محالة أحد النقلين خطأ عن الاجتهاد ، لا انّهما معا صادران من الواضع ، فيحمل أحدهما على الآخر دفعا للتناقض.

وبما قرّرناه من وجه الجمع يظهر فساد إطلاق ما قيل من أنّ الواجب في صورة التعارض ، الأخذ بما اتّفق فيه القولان ، وترك ما اختلفا فيه ، لأنّ اللغة توقيفيّة والتعارض يوجب التساقط ، فلم يحصل التوقيف إلاّ في المتّفق عليه.

وقضيّة ذلك جعل اللفظ في العامّين من وجه لمادّة اجتماعهما ، وفي العامّ والخاصّ المطلقين للأخصّ ، فإنّ الوجه في عدم التعرّض لذكر المعنى إذا كان هو عدم الوجدان ، فلا تعارض بين القولين في الحقيقة ليوجب التساقط.

نعم لو علم من الخارج كون الوجه في عدم التعرّض هو وجدان العدم ، فحينئذ يمكن الجمع أيضا بالتزام الاشتراك في الصور الثلاث المذكورة ، وبأخذ القول بالأعمّ في الصورة الأخيرة ، لكون القول من كلّ قائل حينئذ منحلاّ إلى قضيّتين ، إيجابيّة بالنسبة إلى ما أثبته ، وسلبيّة بالنسبة إلى ما نفاه ، والجمع المذكور طرح للقضيّة السلبيّة عن كلّ قول.

٤٦

وإن شئت قلت : إنّه جمع في الجملة وطرح في الجملة ، وإنّه تبعيض في العمل بالقول وترك للعمل به ، وهذا المعنى من الجمع هو الّذي يعبّر عنه بالأخذ بإثبات كلّ وإلغاء نفيه.

وهل يتعيّن الجمع بهذا المعنى أيضا ، أو لا بدّ في نحو المفروض من إعمال الترجيح بمراجعة المرجّحات إن وجدت وإلاّ فالوقف ، أو يؤخذ بما اتّفق عليه القولان ويطرح ما اختلفا فيه إن كان هناك محلّ وفاق وإلاّ فالوقف ، أو يتوقّف مطلقا ، وجوه يظهر من غير واحد اختيار أوّلها استنادا إلى قاعدة تقديم الإثبات على النفي.

وهذه القاعدة لو ثبت لها أصل يعوّل عليه ومدرك يعتمد عليه ، كان المصير إلى موجبها متّجها ، فيمكن الاستناد لها إلى وجوه :

أحدها : أنّ مرجع الإثبات والنفي إلى دعوى الاطّلاع ودعوى عدم الاطّلاع ، فلا يلزم من تقديم الإثبات تكذيب القول بالنفي.

ويزيّفه : أنّه خلاف المفروض في هذه الصورة.

وثانيها : أنّ الغالب على مدّعي النفي إنّما هو الاستناد إلى الأصل بخلاف مدّعي الإثبات ، فإنّه لا يستند إلاّ إلى الدليل ، فمرجع تعارضهما إلى تعارض الأصل والدليل ، وكما أنّ الدليل يقدّم على الأصل في محلّ المعارضة ، فلذا ترى تعيّن العمل بالتبادر الكاشف عن الوضع مع قضاء الأصل بخلافه ، فكذلك الإثبات يقدّم على النفي.

وفيه : أنّ النفي إنّما يستند إلى الأصل في موضع عدم الوجدان ، وأمّا في موضع وجدان العدم ـ كما هو المفروض ـ فالتعارض واقع حينئذ بين الدليلين ، ولا معنى لإطلاق تقديم أحدهما على الآخر.

وثالثها : أنّ القول بالنفي في نحو محلّ البحث إنّما يطرح لعدم تناول دليل الحجّية له ، ويتأكّد ذلك بملاحظة أنّ ما قام على حجّية قول أهل اللغة من الوجوه المتقدّمة أدلّة لبّيّة ، يؤخذ فيها في محلّ الإجمال بالقدر المتيقّن الّذي ليس في المقام إلاّ القول بالإثبات.

٤٧

وفيه : منع القصور في الأدلّة المذكورة بالنسبة إلى النفي ، بشهادة أنّه لو ادّعى أهل اللغة قضيّة سلبيّة سليمة عن المعارض يؤخذ بها بلا تأمّل.

ورابعها : أنّ تقديم الإثبات في خصوص المقام إنّما هو بمقتضى دليل الحجّية ، لأنّ فيه تصديقا لكلّ من القائلين ، وحكما بصدق كلا القولين ، فلا مخالفة فيه لدليل الحجّية الدالّ على وجوب تصديق أهل اللغة مهما أمكن ، بخلاف ما لو قلنا بالترجيح المستلزم لطرح أحد القولين بالمرّة لفقده المرجّح ، وهو خروج عن مقتضى قوله : « إذا أخبرك أهل اللغة بشيء من اللغة فصدّقهم » على ما هو مفاد أدلّة الحجّية مع إمكان العمل به في الجملة ، حسبما عرفت.

وفيه ، المعارضة بالمثل.

وتوضيحه : إنّ الناقلين المختلفين إمّا أن يصدّق كلاهما في تمام الدعوى ، أو لا يصدّق كلاهما في شيء من الدعوى ، أو يصدّق أحدهما في تمام الدعوى ويطرح قول الآخر بتمام دعواه ، أو يصدّق كلاهما في النفي الّذي هو جزء الدعوى أو في الإثبات الّذي هو الجزء الآخر من الدعوى ، ولا سبيل إلى الأوّل في مورد التعارض لعدم إمكانه وإلاّ لزم التناقض ، ولا إلى الثاني لكونه مخالفة للحجّة بلا عذر فينفيه دليل الحجّية ، ولا إلى الرابع لقضائه بإخلاء اللفظ عن المعنى وهو خلاف ما علم بالضرورة واتّفق عليه القولان من أنّ له معنى ، فانحصر الأمر في الوجه الثالث والخامس ، وليس أحدهما أولى من الآخر باعتبار مراعاة العمل بدليل الحجّية أو الخروج عنها ، إذ كما أنّ تمام الدعوى من أحدهما يصدق عليه قضيّة قول اللغوي فكذلك دعوى النفي من كليهما يصدق عليه تلك القضيّة ، وكما أنّ ترك العمل بتمام الدعوى لأحدهما خروج عن مقتضى قوله : « إعمل بقول اللغوي » ومخالفة له فيكون حراما ، فكذلك ترك العمل بنفي كليهما خروج عنه ومخالفة له فيكون حراما.

وتوهّم أنّ دليل الحجّية مقيّد بالإمكان لا محالة ، ولا ريب أنّ العمل بالنفيين بعد فرض العمل بالإثباتين غير ممكن جزما ، فترك العمل به ليس مخالفة للدليل ليكون حراما.

٤٨

يدفعه : المعارضة بالمثل ، فإنّ عدم الإمكان المفروض إنّما ينشأ من اتّفاق المزاحمة بين فردي هذا العنوان في مقام العمل ، وكما أنّ المزاحمة متحقّقة بين الإثباتين والنفيين على تقدير بناء العمل على الإثباتين فكذلك متحقّقة بين تمام الدعوى من أحدهما وتمامها من الآخر ، على تقدير بناء العمل على تمام إحدى الدعويين.

فحينئذ نقول : إنّ العمل بتمام دعوى أحدهما بعد فرض العمل بتمام دعوى الآخر غير ممكن جزما ، فترك العمل به ليس مخالفة للدليل المذكور ، فالمتّجه حينئذ هو الرجوع إلى الترجيح والأخذ بتمام أحد القولين إن ساعد عليه وجود المرجّح من الامور المتقدّم ذكرها تعويلا على الأقربيّة بالنظر إلى الواقع ، فإنّ قول أهل اللغة على القول المفروض من التعبّد به لذاته وإن كان لا يعتبر فيه مراعاة الأقربيّة ، غير أنّ ذلك إنّما هو إذا لوحظ بطبعه ونوعه مع قطع النظر عمّا يطرئه من موجبات التحيّر في مقام العمل ، وأمّا مع طرو شيء من ذلك كالتعارض على ما هو مفروض المسألة فلا محيص من مراعاة الأقربيّة حينئذ ، والأخذ بما هو أقرب إلى الواقع كما يرشد إليه التدبّر في بناء العقلاء في الامور الّتي يؤخذ بها من باب السببيّة المحضة ، كقول أهل الخبرة في جميع الصناعات وغيره. فليتدبّر.

ثمّ إنّه لو نقل بعضهم للفظ معنى كلّيا وخالفه الآخر فذكر له ما يكون فردا له ، وثالث فذكر له ما يكون فردا آخر له ، أو ذكرهما واحد بتخيّل أنّ كلاّ منهما موضوع له بالاستقلال ، فهل يلتزم حينئذ بتعدّد وضع اللفظ حتّى يكون له ثلاثة أوضاع ، أحدها للكلّي والآخرين لفرديه فيكون مشتركا بين الكلّي والفرد ، أو لا يلتزم إلاّ بوضع واحد للكلّي الجامع بين الفردين ، أو يؤخذ بذي المرجّح إن وجد ، أو يتوقّف ، أوجه ، أوجهها الثاني على فرض عدم الوجدان ، أو الثالث في صورة وجدان العدم والوجه ما تقدّم.

وقد يطلق في اختيار الوجه الثاني قبالا للوجه الأوّل استنادا إلى الأصل ، وندرة الاشتراك بين الكلّي وأفراده ، وغلبة الاشتراك المعنوي فيلحق المشكوك

٤٩

فيه بمورد الغالب ، مع عدم تضمّنه تكذيب أحد من الناقلين ، فإنّ كلاّ منهم يدّعي كون اللفظ حقيقة فيما نقله ، ولا ريب في حقيقيّة اللفظ بالنسبة إلى الكلّي وأفراده إذا كان استعماله فيها من باب الإطلاق ، وضعف الكلّ بالنسبة إلى محلّ البحث واضح ، ولا سيّما الأخير ، فإنّ كلاّ من الناقلين على تقدير وجدان العدم إنّما يدّعي الحقيقيّة الخاصّة ، فلم يحصل تصديقهما بالتزام الحقيقيّة من باب الإطلاق.

خاتمة : إذا ورد عن أهل العصمة من النبيّ والأئمّة : نصّ في بيان أمر لغوي ، كما ورد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصة ابن الزبعري (١) في كون لفظة « ما » لما لا يعقل.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام في وجه كون المسح ببعض الرأس ، تعليلا بكون « الباء » للتبعيض (٢) فجواز التعويل عليه مبنيّ على العلم بالسند ، أو ثبوت حجّية خبر الواحد بالخصوص ، أو الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الأحكام ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، بل في مفاتيح السيّد رحمه‌الله (٣) : دعوى بناء الأصحاب على العمل بمثل ذلك ، المؤذنة بدعوى الإجماع.

نعم ربّما يناقش فيه التفاتا إلى عدم كون بيان اللغة من وظيفتهم ، وقد تقدّم منّا ما يدفعه : فإنّ هذه القضيّة ليس معناها أن ليس لهم البيان بل ليس عليهم البيان ، وإذا ثبت بيانهم فلا يمكن التأمّل في اعتباره ومطابقته للواقع لمكان عصمتهم.

وأمّا لو ورد بيان اللغة في كلام فقيه أو غيره من العلماء غير أئمة اللغة ففي حجّيته الكلام المتقدّم ، فعلى المختار يعتبر العلم ، أو الاضطرار إلى العمل بالظنّ الحاصل منه على تقدير حصوله ، من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام.

نعم اتّفاق حصول الظنّ منه لعلّه نادر بالإضافة إلى ما حصل منه من قول أئمّة اللغة ، نظرا إلى عدم خبرتهم مع ملاحظة ما يقال : من أنّ الفقيه متّهم في حدسه.

__________________

(١) تفسير القمّي ٢ : ٥٧.

(٢) حيث قال عليه‌السلام : « إنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء » راجع الكافي ٣ : ٣٠ ح ٤ ، الفقيه ١ : ٥٦ ح ٢١٢ ، التهذيب ١ : ٦١ ح ١٦٨.

(٣) مفاتيح الاصول : ٦٢.

٥٠

خامسها : التبادر وعدمه ، فإنّ الأوّل علامة للحقيقة كما أنّ الثاني علامة للمجاز ، من التبادر تفاعل من البدور بمعنى السبق والسرعة ، إلاّ أنّ الظاهر إنّه في الإطلاقات يرد على حدّ ما هو الحال في التقاعد ، وقد غلّب في اصطلاح الاصوليّين على معنى خاصّ اختلفت كلماتهم في تعريفه ، إلاّ أنّ أصحّها اعتبارا وأسلمها جمعا ومنعا ما أفاده العلاّمة الطباطبائي في شرحه للوافية من : « إنّه فهم المعنى من اللفظ مع التجرّد عن القرينة ، أو قطع النظر عنها ».

والعطف تنويع لتعميم التعريف بالقياس إلى ما حصل من لفظ لم يقارنه قرينة أصلا ، وما حصل من لفظ قارنه ما لا دخل له في فهم المعنى ، فإنّ كلاّ منهما من المعرّف عندهم.

وممّن وافقه على هذا التعريف ، الفاضل النراقي في مناهجه (١) غير أنّه أسقط القيد الأخير ، وكأنّه بناء منه على أخذ التجرّد عن القرينة على وجه يعمّ التجرّد الحقيقي والتجرّد الحكمي ، كما في صورة الاقتران بما لا مدخل له في الفهم ، فإنّ وجود مثل ذلك بمنزلة عدمه ، فمؤدّى التعريف مع القيد المذكور ولا معه واحد ، وإنّما يختلف الحال بالاعتبار.

وفي كلام غير واحد تعريفه : « بسبق المعنى إلى الذهن » أو « سبق الذهن إلى المعنى » وكأنّه لتوهّم كون النقل هنا من باب النقل من العامّ إلى الخاصّ.

ويشكل : بظهور عدم كون التبادر بمعناه المصطلح عليه من أفراده بمعناه اللغوي ، فإنّ السبق على ما يساعد عليه الاعتبار من الأفعال المسندة إلى ذي الإرادة والشعور ، المتوقّف في تحقّقها على سابق ومسبوق ، فخرج بالاعتبار الأوّل تعريفه بالعبارة الاولى ، وبالاعتبار الثاني تعريفه بالعبارة الثانية.

فإذا اضيف إلى المعنى أو الذهن لا بدّ وأن يكون لضرب من المسامحة والمجاز ، وقضيّة ذلك أن يعتبر النقل من المبائن إلى مثله لمناسبة الشباهة ، فإنّ المعنى في انفهامه عمّا بين المعاني يشبه الشيء السابق في انسباقه عمّا بين الأشياء.

__________________

(١) مناهج الاصول : ١٥.

٥١

هذا مع ما في التعريف بإحدى العبارتين من تناوله المجازات ، فإنّ سبق المعنى إلى الذهن كسبق الذهن إلى المعنى ممّا يصدق على فهم المعنى المجازي أيضا.

غاية الأمر ، إنّه ما يحصل بمعونة القرينة ، فالتعريف حينئذ مسامحة في التعبير أو وارد على خلاف التحقيق.

وأضعف منه ما في موائد العوائد من تعريفه : « بانسباق المعنى إلى الذهن بعد التلفّظ باللفظ ونحوه » مع تصريحه بانقسامه إلى الغيري ، وهو ما يستند إلى القرينة الخارجة من اللفظ ، والنفسي وهو ما يستند إلى كثرة الاستعمال وشيوع الإطلاق ، الّذي يعلم كونه كذلك بالاستقراء أو حمل عليه ترجيحا لمعارضه الأقوى ، كصحّة السلب ، والحقيقي وهو ما يستند إلى حاقّ اللفظ. وواضح أنّ علامة الحقيقة مقصور على القسم الأخير.

وجه الأضعفيّة : إنّه إن اريد أنّ علامة الحقيقة عبارة عن هذا المعنى العامّ المنقسم إلى هذه الأقسام ، فيردّه : أنّ الأعمّ لا يصلح علامة للأخصّ.

وإن اريد أنّ المعنى المصطلح عليه الاصولي هو هذا المعنى العامّ ، وإن اختصّت العلامة بأحد أقسامه ، فيردّه : أنّ المعلوم بالتتبّع في كلماتهم انعقاد اصطلاحهم على ما يكون علامة بالخصوص ، وإطلاقه في بعض الأحيان على غيره مبنيّ على التجوّز كما يرشد إليه التزام القيد.

ثمّ إنّ أكثر كلماتهم تعطي كونه من صفات المعنى ، بناء على أخذ « الفهم » في مفهومه بالمعنى المصدري من المبنيّ للمفعول وهو المفهوميّة بمعنى الانفهام ، كما أنّ بعض كلماتهم لا يأبى عن كونه من صفات الذهن ، بناء على أخذ « الفهم » من المبنيّ للفاعل أعني الفاهميّة.

وأمّا ترجيح أوّل الوجهين تعليلا : بانتفاء ما هو من لوازم السبق الّذي هو أمر نسبي لا يتحقّق إلاّ بتحقّق منتسبيه السابق والمسبوق ، وإذا كان الذهن هو السابق فلا مسبوق له ، ومعه يستحيل حقيقة السبق ، بخلافه على الوجه الأوّل إذ السابق

٥٢

حينئذ هو المعنى المتبادر ، ومسبوقه غيره من المعاني الغير المتبادرة ، فواضح الضعف ، كما يعلم وجهه بملاحظة ما سبق ، من أنّ التبادر بحسب الاصطلاح ليس من أفراده بحسب اللغة ، ولو عبّر عنه بالسبق ـ كما في بعض الأحيان ـ كان مسامحة في التعبير.

ثمّ التدبّر فيما قرّرناه في تعريف الوضع ، من كون الدلالة المأخوذة فيه لا بدّ وأن يكون عبارة عن الفهم التصديقي لئلاّ يخرج أصالة الحقيقة بلا مورد ، يرشد إلى كون التبادر أيضا عبارة عن الفهم التصديقي ، بعد ملاحظة ما عرفته من أنّ المعتبر فيه تجرّد اللفظ عن القرينة ولو حكما ، فإنّ اختلاف المعنى في انفهامه من الفظ تارة وعدمه اخرى ، من جهة اختلاف حال اللفظ باعتبار تجرّده عن القرينة واقترانه بها ، إنّما يتأتّى في الفهم التصديقي ، ضرورة أنّ وجود القرينة بالنسبة إلى المعنى المجازي ليس شرطا في فهمه التصوّري ، كما أنّه بالنسبة إلى المعنى الحقيقي ليس مانعا عن فهمه التصورّي ، فلا يظهر لاشتراط التجرّد فائدة في انعقاد التبادر حصل الشرط أو لم يحصل ، إذ حصوله لا ينافي تبادر المعنى المجازي ، كما أنّ عدم حصوله لا يلازم عدم تبادر المعنى الحقيقي ، إن اخذ فيهما بمعنى التصوّر.

ويمكن التفصيل بين لفظ علم له معنى مجازي فلا بدّ وأن يؤخذ التبادر بالقياس إليه بمعنى التصديق ، ولفظ لم يعلم له معنى مجازي فيجوز فيه الاكتفاء بالتبادر التصوّري ، غير أنّ هذا التفصيل كما ترى حسن بالنظر إلى نفس الأمر ، وأمّا بالنظر إلى الجاهل الناظر في التبادر استعلاما للوضع فغير مجد ، لتعذّر الاطّلاع على الامور الباطنيّة إلاّ بالحمل ، بمعنى ترتيب الآثار الّذي هو في المرتبة متأخّر عن التصديق بما هو المراد ، فالتصوّر فيما يكفي فيه التبادر التصوّري ما لم يكن آئلا إلى التصديق الّذي يكشف عنه الحمل الخارجي ممّا لا سبيل للجاهل إلى إحرازه ، فسقط حينئذ اعتبار التصوّر وتعيّن اعتبار التصديق في جميع الفروض.

٥٣

ثمّ إنّ معنى كون التبادر علامة للوضع ، إنّ بينه وبين الوضع ملازمة خارجيّة ، على معنى أنّه حيثما ثبت يكشف عن الوضع كشفا إنّيّا ولا يتخلّف عنه الوضع ، كما لا يتخلّف الملزوم عن لازمه.

لنا على الملازمة بالمعنى المذكور وجوه :

أوّلها : قضاء الوجدان المغني في الحقيقة عن إقامة البرهان ، فإنّ كلّ أحد يجد من نفسه أنّه متى علم بوضع لفظ لمعنى معيّن ، فهو بحيث متى سمعه أو أحسّه مجرّدا عن قرينة صارفة فهم منه ذلك المعنى ، ويحصل له التصديق بإرادته.

وقد عرفت سابقا أنّ كلّما هو من لوازم الوضع عند العالم به ، فهو علامة عليه للجاهل.

وثانيها : إجماع العلماء بجميع أصنافهم قديما وحديثا ، كما يرشد إليه اعتمادهم عليه في عامّة المطالب اللغويّة من غير نكير ، حتّى أنّ المنكر للمطلب إذا أراد القدح في الاستدلال بادر إلى منع الصغرى دون الكبرى ، الراجع منعها إلى إنكار الملازمة.

وثالثها : بناء العرف وأهل اللسان من كلّ لغة ، فإنّهم في كافّة اللغات وأوضاع الألفاظ لا يزالون يعتمدون على التبادرات ، كما يعتمدون فيها على الترديدات بالقرائن ونحوها.

ورابعها : البرهان الّذي اعتمد عليه غير واحد من الأجلّة ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ في محلّ التبادر لا بدّ له من موجب وعلّة محدثة ، وهو بحكم الاستقراء القطعي ، إمّا المناسبة الذاتيّة فيما بين اللفظ والمعنى ، أو القرينة الموجودة مع اللفظ الموجبة لفهم المعنى ، أو تعيّن اللفظ بإزاء ذلك المعنى ، ولا سبيل إلى الأوّل لبطلان القول بالمناسبات الذاتيّة ، ولا إلى الثاني لدليل الخلف ، فيعيّن الثالث وهو المطلوب.

ولا يفترق فيه الحال بين كون التعيّن أثرا للتعيين أو غلبة الاستعمال ، فإنّه علامة لكليهما.

٥٤

وربّما أورد على الملازمة بامور واهية وشبهات سخيفة :

فتارة : نقضها بالدلالات التضمّنيّة والالتزاميّة ، فإنّ الدلالة على جزء المعنى أو لازمه تبادر لهما مع انتفاء الوضع عنهما.

واخرى : نقضها بالمجاز المشهور ، الّذي يتبادر منه المعنى المجازي الّذي لا وضع بإزائه.

وثالثة : نقضها بالمطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشائعة ، فإنّ انصراف المطلق إلى الفرد الشائع معناه تبادر الفرد منه مع انتفاء الوضع عنه.

ورابعة : نقضها بالمشتركات اللفظيّة ، فإنّ من حكم المشترك أنّه إذا اطلق بلا قرينة عدم انفهام معناه ، فتخلّف الوضع عن التبادر في الثلاث الاولى ، كتخلّف التبادر عن الوضع في الأخير ، دليل على عدم الملازمة بينهما.

والجواب عن الأوّل : منع تحقّق التبادر بالمعنى المتقدّم في مورد دلالة التضمّن أو الالتزام ،فإنّه على ما تقدّم عبارة عن التصديق بكون المعنى بنفسه مرادا من اللفظ نفسه ، على معنى كون المعنى هو المناط للحكم مع كون إفادته مقصودة من نفس اللفظ ، بأن يقصد الانتقال إليه بواسطة اللفظ دون غيره ، وليست الدلالة في شيء من جزء المعنى ولازمه بتلك المثابة ، إذ الجزء ما يحصل التصديق بكونه مرادا باعتبار التصديق بكون الكلّ مرادا لا بنفسه ، واللازم ما يحصل التصديق بكونه مرادا بنفسه ، بواسطة التصديق بإرادة الملزوم لا بواسطة اللفظ نفسه.

وتوضيحه : إنّ الدلالة وفهم المعنى الّذي هو من فعل السامع العالم بالوضع لا بدّ وأن يكون على طبق الاستعمال الّذي هو من فعل المتكلّم.

ولا ريب أنّ حقيقة الاستعمال في خصوص المقام أن يقصد إفادة المعنى بنفسه باللفظ نفسه ، فخرج بالقيد الأوّل جزء المعنى وبالثاني لازمه ، ويتبعه التبادر بمعنى فهم المعنى من اللفظ المجرّد عن القرينة في تضمّنه القيدين.

غاية ما في الباب ، إنّ الناظر في التبادر عند استعلام الوضع لا بدّ وأن يحرزه

٥٥

على هذا الوجه ، فإن تعذّر في مورد كان قدحا في الملزوم وانتفاء للصغرى ، لا انتفاء للملازمة وقدحا في الكبرى فلا وجه للمناقشة فيها بنحو ما ذكر.

وقد يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى الدلالتين معا ، بأنّ التبادر هو فهم المعنى من اللفظ الموضوع بلا واسطة غيره ، وفهم الجزء واللازم إنّما يحصل بتوسّط الكلّ والملزوم.

وقريب منه ما قيل بالنسبة إلى اللازم ، من أنّ مراد القوم بالتبادر هاهنا ما كان أوّليّا ، وتبادر اللازم ثانوي بدليل الترتّب في الانتقال ، لوضوح أنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن عند سماع اللفظ إنّما هو الملزوم ، ثمّ بتوسّطه ينتقل إلى اللازم ، وهذا الاعتبار بعينه كما ترى يجري في الجزء أيضا ، فإنّ الانتقال أوّلا يحصل بالنسبة إلى الكلّ الّذي هو عبارة عن مجموع الأجزاء من حيث المجموع.

وكيف كان ، فإن رجع هذان الكلامان إلى ما قرّرناه ففي غاية المتانة وإلاّ فلا يلتفت إليهما.

وعن الثاني : منع تحقّق التبادر في المجاز المشهور لو اريد به حصول فهم المعنى المجازي بملاحظة الشهرة ، وعدم صلوحه موردا للنقض لو اريد به ما يحصل مطلقا ولو مع قطع النظر عن الشهرة ، فإنّه على هذا التقدير تبادر في محلّ الوضع ، بناء على ما عرفت من أنّ الوضع الّذي يستكشف عنه بالتبادر أعمّ من التعيّني.

وعن الثالث : منع تحقّق التبادر بالمعنى المبحوث عنه في غير محلّ الوضع من المطلقات المنصرفة ، فإنّ انصراف المطلق معناه فهم الماهيّة الكلّية باعتبار وجودها في ضمن فردها الشائع وجودا أو إطلاقا ، وهذا ينحلّ إلى قضيّتين :

إحداهما : انفهام أصل الماهيّة.

والاخرى : انفهام اعتبار وجودها في ضمن هذا الفرد الخاصّ.

والأوّل يستند إلى نفس اللفظ فيكون من أفراد المبحوث عنه ، فلا يصلح نقضا.

٥٦

والثاني يحصل بمعاونة الخارج من شيوع وجود أو إطلاق فلا معنى للنقض به ، بل هو عند التحقيق ليس فهما للفرد من اللفظ ، بناء على أنّ قرينة الشيوع في نحو مفروض المقام لا تتعرّض للّفظ بصرفه عن معناه الحقيقي وهو الماهيّة إلى الفرد ، على حدّ سائر المجازات باعتبار قرائنها الصارفة ، بل إنّما يتعرّض المعنى وهو الماهيّة بعد انفهامها من اللفظ بحكم الوضع بصرفها عن مقتضى اللابشرطيّة إلى اعتبارها بشرط الوجود.

وهذا هو وجه الفرق بين الشهرة في المجاز المشهور الّذي صار فيه الجمهور إلى الوقف والشيوع في المطلقات المشكّكة الّذي صار الجمهور فيه إلى الاعتبار ، على معنى جعله مناطا لصرفها إلى الأفراد الشائعة ، بل لعلّه ممّا لا خلاف فيه ، فإنّ الشهرة في الأوّل لكونها قرينة صارفة متعرّضة للّفظ فيزاحمها الوضع وأصالة الحقيقة المقتضية للحمل على الموضوع له ، بخلاف الشيوع في الثاني فإنّه لعدم تعرّضه للّفظ سليم عمّا يزاحمه ممّا هو في جانب اللفظ ، لكون الصرف فيه اعتبارا يحصل بعد الفراغ عن العمل بمقتضى أصالة الحقيقة فيكون على اقتضائه من صرف الماهيّة عن الإطلاق إلى التقييد ، وبذلك يندفع ما دخل في بعض الأوهام من شبهة التدافع بين كلامي الجمهور ، من حيث فرقهم بين المقامين وأخذهم بمقتضى إحدى الغلبتين دون الاخرى.

وعن الرابع : بأنّ المراد بالملازمة المدّعاة امتناع تخلّف الوضع عن التبادر لا استحالة تخلّف التبادر عن الوضع ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ العلامة ليست كالمعرّف ليعتبر فيها الاطّراد والانعكاس معا ، بل غاية ما يعتبر فيها الاطّراد ، فإنّ من حكمها أن لا توجد مع غير ذيها ، ولا تعتبر فيها وجودها مع جميع أفراد ذيها ، ومرجعه إلى اشتراط مساواتها له أو كونها أخصّ منه.

وأمّا إذا كانت أعمّ فلا يعقل كونها علامة ، لعدم دلالة للأعمّ على الأخصّ.

وربّما يجاب عنه : بمنع العدم ، فإنّ التحقيق في المشترك أنّه مجرّدا عن القرينة يدلّ على جميع معانيه دلالة تامّة ، وإنّما المحتاج إلى القرينة تعيين ما هو المراد منه لا أصل الدلالة.

٥٧

ويرد عليه : أنّه لو اريد بدلالته على الجميع انفهامها التصوّري فهو مفسد للعلامة من جهة اخرى ، وهي أنّ الفهم التصوّري لمجرّد سماع اللفظ كما يحصل بالقياس إلى المعاني الحقيقيّة كذلك يحصل بالقياس إلى المعاني المجازيّة فيصير أعمّ ، وهو لا يصلح علامة.

ولو اريد به انفهامها التصديقي فهو فاسد ، لابتنائه على مقدّمتين فاسدتين :

إحداهما : جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى.

واخراهما : ظهوره مع التجرّد في إرادة الجميع.

ويمكن إصلاحه بإرادة الأعمّ من التصوّر والتصديق مع تقيّده بالقياس إلى التصوّر بالتفصيل ، وبالقياس إلى التصديق بالإجمال.

فحاصل المراد منه حينئذ إدراك المعاني المتحقّق في ضمن التصوّر الحاصل على جهة التفصيل ، والتصديق الحاصل على جهة الإجمال على معنى التصديق بإرادة ما هو مردّد بين الجميع.

فيرجع بناء على هذا التوجيه إلى ما قد يجاب أيضا : من دعوى تحقّق التبادر الإجمالي فيه ، فإنّ التبادر على ما يساعد عليه النظر قد يكون تفصيليّا ، وهو أن يفهم المعنى على أنّه لا غير مراد ، وقد يكون إجماليّا وهو أن يفهم المعنى على أنّه أو أحد معادلاته ومشاركاته مراد.

وبعبارة اخرى : قد يحصل التصديق بإرادة المعنى بطريق العينيّة ، وقد يحصل بإرادته بطريق البدليّة ، وكلاهما من لوازم الوضع ، إلاّ أنّ الثاني في المشتركات والأوّل في غيرها.

وبهذا الاعتبار قد يقسّم التبادر إلى ما هو بالمعنى الأخصّ وهو أحد القسمين ، وما هو بالمعنى الأعمّ وهو الجامع بينهما ، أعني التصديق بإرادة المعنى من دون قيدي « العينيّة » و « البدليّة » وكلّ منهما ملازم للوضع.

ثمّ في علامة المجاز إن اعتبرت عدم التبادر فعدم التبادر بالمعنى الأعمّ ملازم للمجازيّة ، وإن اعتبرت تبادر الغير فتبادر الغير بالمعنى الأخصّ ملازم لها.

٥٨

ولكن يشكل ذلك أيضا : بأنّ التبادر بهذا المعنى وإن كان ينقدح في نفس العالم بالوضع في المشتركات اللفظيّة ولا يكاد ينكر ، غير أنّه في موضع الأمارة لا يترتّب عليه فائدة ، لأنّه ما لم ينكشف للجاهل بمبرز خارجي وهو مقام الحمل وترتيب الأثر لا ينهض أمارة ، ولا مبرز له في نحو المفروض ، حيث إنّ المشترك فيه ملزوم للوقف الّذي لا حمل معه ولا ترتيب الأثر.

فالجواب الحاسم لمادّة الإشكال هو ما ذكرناه واعتمد عليه غير واحد من الأجلّة ، ومعه لا حاجة إلى العدول عمّا عليه الفحول من جعل التبادر علامة للحقيقة ، إلى أخذ عدم تبادر الغير علامة لها تفصّيا عن الإشكال كما صنعه بعضهم.

هذا مع وضوح فساده بنفسه من حيث إفضائه في بعض الأحيان إلى جعل لفظ واحد حقيقة في جميع معاني العالم فليتدبّر. هذا كلّه في علامة الحقيقة الملزومة للوضع.

وأمّا علامة المجاز : فالمعروف بين الاصوليّين أنّها عدم التبادر ، وذهب جماعة إلى أنّها تبادر الغير ، لأنّه لولاه لزم انتقاض طردها بما في المشترك من عدم تبادر شيء من معانيه كما في كلام غير واحد ، أو لأنّ النقض بالمشترك وإن لم يكن واردا ، لكنّ الحقّ أنّ علامة المجاز تبادر الغير لا عدم التبادر ، لتحقّقه في اللفظ الموضوع قبل اشتهاره فيما وضع له ، فإنّه لا يتبادر منه المعنى في محلّ الحاجة إلى العلامة مع أنّه حقيقة بنصّ أهل اللغة ، كما في كلام السيّد الطباطبائي في شرحه للوافية أو لأنّ عدم التبادر أمر عدمي فلا يصلح علامة للمجاز الّذي هو أمر وجودي.

والمعتمد هو المذهب المشهور ، فإنّ المراد بعدم التبادر عدم التبادر الّذي هو علامة للحقيقة ، المتقدّم تعريفه بأنّه : « فهم المعنى من اللفظ مع التجرّد عن القرينة أو قطع النظر عنها » والعدم المضاف إلى هذا المفهوم المركّب نظير النفي الوارد على المقيّد ، المتوجّه تارة إلى نفسه واخرى إلى قيده.

وبعبارة اخرى : هذا المفهوم نظير الماهيّة المركّبة من جنس وفصل ، وإذا ورد

٥٩

عليها النفي فقد يتوجّه إلى جنسها وقد يتوجّه إلى فصلها ، فعدم تبادر معنى من المعاني ، إمّا لانتفاء جنس التبادر وهو أصل الفهم ، أو لانتفاء فصله وهو تجرّد اللفظ عن القرينة ، أو اقترانه بما لا دخل له في الفهم ، ومحصّله حصول الفهم بمعاونة القرينة الموجودة مع اللفظ ، وكلّ من هذين علامة للمجاز لكونه ملزوما لانتفاء الوضع ، غير أنّ الأوّل منهما مقصور على موارد تبادر الغير كما في « الأسد » مقيسا إلى الشجاع إذا استعمل مجرّدا عن قرينة « يرمى » كما أنّ الثاني منهما مقصور على مواضع وجود قرينة التجوّز كما في « أسد يرمى » مقيسا إلى الشجاع أيضا ، فإنّه لا يتبادر في كلّ من الاستعمالين غير أنّه في الأوّل لانتفاء جنس التبادر ، وفي الثاني لانتفاء فصله ، وهو في كلا القسمين ملزوم لانتفاء الوضع.

أمّا في الأوّل : فلأنّ اللفظ لو كان موضوعا لنحو المعنى المفروض لتبادر منه ذلك المعنى لوجود مقتضيه التامّ ، وهو المجموع من اللفظ والوضع والتجرّد عن القرينة ، والمفروض خلافه ولا جهة له سوى انتفاء الوضع.

وأمّا في الثاني : فلأنّ اللفظ لو كان موضوعا للمعنى المفروض لوجب عدم افتقار ذلك المعنى في انفهامه إلى قرينة والمفروض خلافه ، ولا جهة له أيضا سوى انتفاء الوضع.

وأمّا تبادر الغير فإن اريد به ما هو في مواضع وجود قرينة التجوّز ، فهو غير متحقّق في تلك المواضع لينهض علامة.

وإن اريد به ما هو في موارد عدم التبادر لانتفاء جنس التبادر فأخذه علامة ليس بأولى من أخذ عدم التبادر علامة ، مع أنّه ما لم ينضمّ إليه عدم التبادر لا ينهض منتجا لانتفاء الوضع ، لأنّه لو قيل لمدّعى المجازيّة في المعنى الغير المتبادر تعليلا بتبادر غيره بأنّه لم لا يجوز كونه موضوعا لهذا المعنى وحده ، أو كونه موضوعا له أيضا ، لا مدفع له إلاّ أن يقول : بأنّه لو كان كذلك لتبادر هذا المعنى ، أو كان هو أيضا من المتبادر ، والتالي باطل لعدم تبادره أصلا ، فنفي الاحتمالين استنادا إلى عدم التبادر دليل على أنّه الوسط الحقيقي للعلم بالمجازيّة

٦٠