تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

يعني المعنى العامّ المشترك بين الحال والماضي ، أو ما هو أعمّ منه ليشمل الاستقبال أيضا ، يعني حال التلبّس بالمعنى المظروف للأزمنة الثلاث.

ويدفعه : حينئذ إنّ اندراج الماضي في المفهوم العامّ حينئذ على الاحتمال الثاني ليس من اندراج المنقضي عنه المبدأ بالمعنى المبحوث عنه في الوضع ، كما لا يخفى.

وأنّ الوضع على الاحتمال الأوّل إذا ثبت في شيء فلا يختلف حاله باختلاف حالات الموضوع بالضرورة.

ولا ريب أنّ وقوع اللفظ محكوما عليه أو به من الحالات العارضة له التابعة للاستعمال ، فلا يعقل له مدخليّة في الوضع ، وعليه فنقول : إنّ الحكم إذا علّق على الارتباط الواقعي الناشئ عن وقوع المبدأ وإن انقضى بعد وقوعه ، كان لازم الترتّب على ما يصدق عليه المشتقّ من الذات ، وإن اخذ في الخطاب بعنوان المحكوم به.

وهذا هو السرّ في إجراء الحدّين على المنقضي عنه الزنا والسرقة ، لا ما قيل إنّه من موجب أدلّة الاشتراك في التكليف ، أو من مقتضى استصحاب الحالة السابقة ، هذا مع أنّ الاستدلال بالآيتين ونظائرهما لا يتمّ إلاّ بأخذهما كبرى الدليل لصغرى منضمّة إليهما محمولها موضوعهما ، فالاعتراف بعدم اشتراط البقاء في المحكوم عليه يستلزم الاعتراف به في المحكوم به وإلاّ لم يتكرّر حدّ الوسط ، وظهور إرادتهم الحقيقة قائم بالنسبة إلى المقدّمتين معا.

وحجّة الخامس منها : إنّهم يطلقون المشتقّ على ما كان اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ، بحيث يكون عدم الاتّصاف مضمحلاّ في جنب الاتّصاف من دون قرينة « كالكاتب » و « الخياط » و « القارئ » و « المتعلّم » و « المعلّم » ونحوها ولو كان المحلّ متّصفا بالقيد الوجودي كالنوم ونحوه والقول بأنّ الألفاظ المذكورة ونحوها كلّها موضوعة لملكات هذه الأفعال ، ممّا يأبى عنه الطبع السليم في أكثر الأمثلة وغير موافق لمبادئها على ما في كتب اللغة.

٤٦١

وفيه : أنّ إطلاق هذه الألفاظ ونظائرها على مواردها ـ على ما سنقرّره ـ ليس على حدّ ما اخذ في عنوان المسألة ، فهي عند التحقيق بالبيان الآتي خارجة عن محلّ النزاع ، وليس النظر في إطلاقها إلى مبادئها حسبما اخذت في كتب اللغة وجودا ولا بقاء ، فلا يقاس عليها غيرها ممّا ليس بداخل في ضابطها ، وسنورد ما يدفع توهّم إباء الطبع السليم عن وضع هذه الألفاظ لملكات هذه الأفعال بالخصوص ، وما ينهض وجها لعدم منافاة ذلك لما في كتب اللغة.

وحجّة السادس منها : الاستقراء فإنّ « الضارب » و « القاتل » و « السالب » و « الهازم » و « القاطع » وكذا ما اخذ من باب الإفعال والتفعيل والاستفعال « كمكرم » و « مصرف » و « مستخرج » ونحوها إذا اطلقت تبادر منها ما اتّصف بالمبدأ حال الاتّصاف وما بعدها ، وإنّ نحو « عالم » و « جاهل » و « حسن » و « قبيح » و « طاهر » و « نجس » و « طيّب » و « خائف » و « طامث » و « حائل » و « حي » و « ميّت » و « قائم » و « راكع » و « ساجد » و « يقظان » و « نائم » و « مقبل » و « منكر » و « صحيح » و « محبّ » و « معادي » و « مبغض » و « صاحب » و « مالك » إلى غير ذلك يتبادر منها المتّصف بالمبدأ حال الاتّصاف فقط ، وقد ثبت أنّ التبادر من آيات الحقيقيّة.

وفيه : إنّ عدم الصدق فيما هو من قبيل القسم الثاني كالأمثلة المذكورة وغيرها إنّما هو لما بيّنّاه من ارتفاع مناط الصدق بطروّ رافعه ، بلا مدخل لبقاء المبدأ وارتفاعه فيه.

وجه المتوقّف ، أحد الأمرين : من إمكان الجميع مع عدم نهوض ما يقضي بتعيّن البعض ، أو تزاحم الأدلّة من الطرفين مع عدم المرجّح للبعض.

وجوابه : يظهر بالتدبّر فيما مضى.

تذنيبان :

أحدهما : مبادئ المشتقّات ـ على ما زعمه غير واحد من الأواخر ـ على أنواع يختلف حال التلبّس وحال الانقضاء باختلافها ، فإنّ المبدأ قد يكون من

٤٦٢

مقولة الجوهر كما في المشتقّات الجعليّة من الحدّاد والتمّار واللبّان ، وقد يكون من مقولة عرض الفعل وغيره ، وهو قد يكون فعلا مباشريّا كالضرب والأكل والكتابة وقد يكون فعلا توليديّا كالقتل والذبح والطبخ والإحراق وعلى التقادير الثلاث فقد يكون من قبيل الحالات ، وقد يكون من قبيل الملكات ، وقد يكون من قبيل الحرف والصناعات ، وقد يرد حالا وملكة وحرفة بحسب اختلاف الاعتبارات كالكتابة والقراءة والخياطة والصياغة ونحوها ، وليس المراد بالحال والملكة هاهنا ما هو المعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول أعني الكيفيّة النفسانيّة ـ أي المختصّة بذوات الأنفس الغير الراسخة في المحلّ وهو الحال ، أو الراسخة فيه وهو الملكة ـ بل معناهما العرفي المعبّر عنه بالفعل ، على معنى التلبّس بالعمل فعلا والقوّة القريبة من الفعل.

والأولى إسقاط قيد « القرب » لتشمل نحو الملكة الاستعداديّة الفطريّة ، كما في الشجرة المثمرة على ما ينساق منها عرفا من صلاحيّة الإثمار وإن لم يثمر فعلا بل ولم يبلغ أوان الإثمار ، فإنّهم يطلقونها على ما يقابل ما ليس مثمرا في نوعه ويعبّر عنه في الفارسيّة « بدرخت ميوه » وإن كان يطلق على ما أثمر ويعبّر عنه في الفارسيّة « بميوه ده » وعلى ما عليه ثمرته فعلا ويعبّر عنه في الفارسيّة « بميوه دار » أيضا.

ونحو الملكة الاستعداديّة الجعليّة كما في المجلس والمسجد وغيرهما من كثير من أسماء المكان ، والمفتاح والمقراض وغيرهما من أسماء الآلة ، فإنّ إطلاقهما في العرف على ما أعدّ لأن يجلس أو يسجد فيه ، وما أعدّ لأن يفتح أو يقرض به كثير بل شائع بالشيوع الّذي ربّما توهّم كونه من باب المجاز المشهور ، أو لغلبة الاسميّة على الوصفيّة من دون مراعاة تحقّق المبدأ فيهما ، بل الإطلاق في نحوهما متداول وإن لم يتحقّق فيهما المبدأ قطّ ، لكون النظر في الإطلاق مقصورا على مجرّد كونه معدّا لذلك.

وكيف كان : فهذا الإطلاق إنّما يقع على خلاف مقتضى الوضع اللغوي النوعي

٤٦٣

الاشتقاقي ـ حسبما بيّنّاه آنفا ـ نحو الملكة العمليّة وهي القوّة المتأكّدة على العمل الناشئة عن الممارسة وتكرّر العمل.

وبهذا ظهر الفرق بينها وبين القوّة الاستعداديّة الّتي هي منشأ للفعل غير متوقّفة على ممارسة ولا عمل فضلا عن تكرّره ، كالكتابة بالقوّة للإنسان ، ولذا يكون جميع آحاد الأشخاص فيها على شرع سواء ، بخلاف العمليّة فإنّها ناشئة عن الفعل متولّدة عن الممارسة وتكرّر العمل ولذا يختصّ بواحد دون واحد ، على حسب اختلافهم في الممارسة وتكرّر العمل وعدمهما ، فالحال مع الملكة بمعنى القوّة العمليّة حيثيّتان في المبدأ تلحقان الذات في مرتبتين مترتّبتين لتأخّر مرتبة الملكة عن مرتبة الحال ، وأمّا الحرفة والصنعة فهي حيثيّة ثالثة متأخّرة في المرتبة عن حيثيّة الملكة لأنّها عبارة عن أن يتّخذ الذات ما فيها من القوّة المتأكّدة على العمل وسيلة لكسب المال وتحصيله ، على معنى الغرم المتأكّد على الاكتساب بسببه وتوجّه النفس إليه ، وأمّا الحرفة مع الصنعة فقد يقال بعدم الفرق بينهما بحسب المعنى ، وهو المستفاد أيضا من بعض أهل اللغة حيث يأخذ كلاّ منهما في تفسير صاحبه ، وقد يفرّق بينهما بأنّ الحرفة ما لا يقتصر إلى آلة ولا إلى صرف مال بخلاف الصنعة.

وربّما قيل : بأنّ الصنعة قوّة على عمل لا تحصل إلاّ بالممارسة وتكرّر العمل ، بخلاف الحرفة كالاحتطاب والاحتشاش ونحوهما ، ولم نقف من العرف على ما يقضي بأحد هذه الوجوه.

وكيف كان : فالتلبّس في الحاليّات إنّما يتحقّق بالمباشرة على الفعل إن كان مباشريّا ، أو على مقدّماته إن كان توليديّا ، وفي الملكيّات يتحقّق بوجود الملكة ، وفي الصناعات يتحقّق ما دام العزم وتوجّه النفس إلى اكتساب المال بواسطة الملكة الموجودة باقيا.

والانقضاء في الحاليّات يتحقّق بانقطاع المباشرة ، وفي الملكيّات يتحقّق بزوال الملكة ، بنسيان أو متاركة أو شيبة أو مرض أو نحو ذلك ، وفي الصناعات

٤٦٤

يتحقّق بصرف النفس عن اكتساب المال وإن كانت الملكة باقية ، هذا على حسبما يستفاد من كلام الأواخر لكنّه عندنا محلّ تأمّل ، يظهر وجهه بملاحظة ما سنقرّره في دفع إشكال قائم في المقام ، وهو : إنّ النظر في إطلاق الألفاظ المذكورة ـ وهي « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » و « المتعلّم » ونحوها ـ على ذوي الملكات أو أرباب الحرف والصناعات هل هو إلى حيثيّة الحال أو إلى حيثيّة الملكة أو الحرفة والصنعة ، لتصرّف في اللفظ مادّة بعنوان التجوّز أو الوضع الجديد من العرف ، أو هيئة بأحد الوجهين المذكورين أيضا ، أو لا ـ لتصرّف في اللفظ ـ بل هي إنّما تعتبر من باب الخارج اللازم على حدّ ما يعتبر وجود المبدأ محقّقا لما اخذ في وضع اللفظ من الارتباط الواقعي بين الذات والمبدأ ، بدعوى : أنّه قد يتحقّق بوجود المبدأ كما في موارد الحال ، وقد يتحقّق بحصول الملكة على فعل المبدأ كما في موارد الملكة ، وقد يتحقّق بحيثيّة الحرفة والصنعة كما في موارد الإطلاق على أرباب الحرف والصناعات ، وجوه كلماتهم بالنسبة إليها مضطربة ، فإنّ منهم من يظهر منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار حيثيّة الحال ، كالفاضل التوني (١) فيما تقدّم عنه من التفصيل بين كون اتّصاف الذات بالمبدأ أكثريّا ولم يكن معرضا عنه ، وغيره القائل بكونه حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ بالقيدين.

ومنهم من يظهر منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار حيثيّة الملكة أو الحرفة والصنعة مرادة من المشتقّ باعتبار المادّة مع عدم تعرّضه لكونه تجوّزا فيها أو على وجه الحقيقة باعتبار الوضع الجديد ، كبعض الأعلام حيث جعل الإطلاق في هذه الألفاظ من باب الإطلاق على المتلبّس بالمبدأ بالنظر إلى حيثيّتي الملكة أو الحرفة ، ولم يبيّن وجه هذا التصرّف الواقع على موادّها ، وقد تبعه في هذا التوهّم جماعة ممّن تأخّر عنه ، ومنهم بعض مشايخنا إلاّ أنّه التزم بكونه تجوّزا في المواد.

ومنهم من يستفاد منه كون مبنى الإطلاق على اعتبار إحدى الحيثيّتين مرادة

__________________

(١) الوافية : ٦٣.

٤٦٥

من المشتقّ باعتبار الهيئة لما طرئها من الوضع الجديد العرفي ، كالفاضل النراقي في المناهج (١) حيث صرّح به في دفع كلام الفاضل التوني في التفصيل المتقدّم ، فقال :

« إنّ من المشتقّات ما يطلق على الذات باعتبار الملكة والصناعة ، لا بمعنى أنّ مبادئها موضوعة لها ، بل المشتقّ منها صار بالوضع الطاري موضوعا لذواتها من غير ملاحظة قيام المبادئ ، كما قد يصير المشتقّ علما ، وما ذكره من هذا القبيل » صرّح بذلك أيضا بعيد هذا الموضع.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّ كون مبنى الإطلاق على اعتبار الحال ممّا ينبغي القطع ببطلانه ، لتبادر ذوي الملكات أو الصناعات في إطلاقاتها ، ولو مع غضّ البصر وإغماض النظر عن جميع ما هو خارج عن اللفظ ، وصحّة سلبها عن فاقد الملكة وغير ذي الصنعة ، وعدم صحّة سلبها عن ذيهما ، ولا استقراء المفيد للقطع بكون الملحوظ في نظر أهل العرف في موارد إطلاقاتها إنّما هو حيثية الملكة أو الصنعة من دون نظر إلى حيثيّة الحال.

وكذلك احتمال كون مبناه على تقدير اعتبار الملكة أو الصنعة على التجوّز في اللفظ مادّة أو هيئة ، أو على طروّ الوضع الجديد للمادّة.

أمّا الأوّلان : فلعدم صحّة السلب ، فإنّ كلّ مشتقّ إذا تطرّق إليه التجوّز هيئة أو مادة يصحّ سلبه عرفا عن المورد ، كما في إطلاق « الضارب » على المضروب و « القاتل » على من ضرب ضربا شديدا.

وأمّا الثالث : فلعدم الاطّراد ، فإنّ « الخياطة » و « الكتابة » و « القراءة » و « التعليم » لا يصحّ إطلاقها على الملكة في ضمن سائر الهيئآت ، وتوهّم حصول الوضع للشخص من حيث تقوّمه بهيئآت هذه الألفاظ ليس بأولى من الإذعان بحصوله لشخص هذه الهيئآت من حيث تقوّمه بهذه الموادّ ، بل هو المتعيّن بدليل استناد انفهام حيثيّتي الملكة والصنعة على ما يدرك بالوجدان الواضح إلى ملاحظة

__________________

(١) مناهج الأحكام والاصول : ٣٥.

٤٦٦

الهيئآت المتقوّمة بتلك الموادّ ، مضافا إلى ما يعلم ضرورة من طريقة العرف من عدم فرقهم بين هذه الألفاظ الواقعة عندهم على ذوي الملكات أو أرباب الحرف والصناعات وبين ألفاظ النسبة المعبّر عنها بالمشتقّات الجعليّة ، الّتي منها « الخيّاط » « كالحدّاد » و « الصبّاغ » و « البقّال » فإنّ التحقيق إنّ كلّ واحد منها في نظر العرف موضوع بالوضع الشخصي للذات من حيث اتّخاذها لما فيها من الملكة والقوّة المتأكّدة على عمل الخياطة والحديد والصبغ والبقل وسيلة لكسب المال ، ونجدهم يعاملون مع نحو الكاتب والقارئ والمعلّم والمدرّس معاملة هذه الألفاظ.

وقضيّة ذلك كون كلّ في نظرهم موضوعا بالوضع الشخصي للذات من حيث اشتمالها على ملكة هذه الأفعال ، لحقها حيثيّة الصنعة أيضا أو لا ، فإنّها ليست مأخوذة في وضعها.

نعم إنّما اخذت في وضع « الخيّاط » وغيرها من المشتقّات الجعليّة ، ولذا صحّ سلبها عند زوال هذه الحيثيّة وإن كانت الملكة باقية ، ولو أطلق اللفظ حينئذ كان مجازا باعتبار علاقة ما كان ، كما يشهد به الوجدان.

فعلم بما قرّرناه إنّ نحو « الكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » طرئه وضعان أحدهما : النوعي الاشتقاقي باعتبار اللغة ، بإزاء الذات من حيث ارتباطها بالمبدأ.

وثانيهما : الشخصي الطارئ باعتبار العرف ، بإزاء الذات من حيث اشتمالها على ملكة هذا المبدأ.

ومن هذا الباب لفظ « المجتهد » و « الفقيه » في عرف الفقهاء ، بل من هذا الباب ظاهرا لفظ « المثمر » ونحو « المسجد » و « المجلس » و « المقراض » و « المفتاح ».

فاتّضح بجميع ما ذكر بطلان ما توهّمه الفاضل التوني ، كما اندفع به أيضا ما ادّعاه من كون وضع هذه الألفاظ لملكات هذه الأفعال ممّا يأبى عنه الطبع السليم ولا يوافقه مبادئها على ما في كتب اللغة ، فإنّ ذلك بملاحظة العرف والتدبّر فيما أشرنا إليه ممّا يقبله الطبع السليم ولا ينافيه ما في كتب اللغة ، لعدم كونه وضعا في المبادئ الموضوعة لغة لنفس الأفعال ، كما إنّه اتّضح بجميع ما ذكر أنّ الألفاظ

٤٦٧

المشتقّة المتداولة في العرف والعادة على أنواع :

منها : ما ورد وضعا وإطلاقا للحالات فقط ، وهو الغالب كما في « ضارب » و « قاتل » وغيرهما.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات الاستعداديّة الفطريّة « كالمثمر » ونحوه.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات الاستعداديّة الجعليّة « كالمسجد » و « المقراض » ونحوهما.

ومنها : ما ورد وضعا وإطلاقا للملكات العمليّة المستندة إلى الممارسة « كالكاتب » و « القارئ » و « المعلّم » ولا يبعد كون « العالم » أيضا من هذا الباب.

ومنها : ما ورد كذلك للصناعات ، وهي الملكات المتّخذة وسائل لكسب الأموال.

ولا ريب أنّ عنوان مسألة كون المشتقّ حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ وكونه مجازا فيما انقضى عنه المبدأ ، أو حقيقة فيه أيضا على الخلاف المتقدّم ، إنّما ينطبق على النوع الأوّل ، فإنّه الّذي يلاحظ فيه التلبّس والانقضاء بالنسبة إلى المبدأ.

وأمّا البواقي فلا تندرج في هذا العنوان ، إذ لا يلاحظ فيها جهة الحال الراجعة إلى اعتبار المبدأ تلبّسا وبقاء وانقضاء ، فهي عند التحقيق خارجة عن المتنازع فيه كما أنّ الجوامد كانت خارجة ، والمعتبر في إطلاقها بعنوان الحقيقة أو المجاز مراعاة تحقّق ما أخذ في أوضاعها الجديدة العرفيّة من حيثيّتي الملكة والصنعة ، فما تقدّم عن الأواخر من القول بأنّ حال المشتقّ من حيث استعماله في حال التلبّس أو فيما انقضى عنه المبدأ يختلف بحسب اختلاف المبادئ من حيث كونها من الحالات أو الملكات أو الصناعات ، ليس على ما ينبغي ، لما تبيّن من أنّ اعتبار الملكة والصنعة حيثما يعتبران ممّا لا تعلّق له بالمبدأ ليشمله النزاع في اشتراط بقاء المبدأ وعدمه.

وثانيهما : قالوا : يظهر الثمرة فيما ورد من النهي عن الجلوس تحت الشجرة المثمرة ،

٤٦٨

والطرق النافذة ، وعن سؤر آكل الجيف ، وعن التوضّي بالماء المسخّن بالشمس ونحوه ، فإنّ الإثمار يحتمل كونه من قبيل الحالات فزمان الكراهة حينئذ على القول باشتراط بقاء المبدأ إنّما هو زمان وجود الثمر فعلا ، وعلى غيره ما بعد حصولها باقية كانت أم ماضية ، كما يحتمل كونها من الملكات فزمان الكراهة حينئذ على القول بالاشتراط ما دامت الملكة بعد حصولها موجودة وجد الثمر فعلا أو لم يوجد ، وعلى غيره ما بعد حصولها بقيت فعلا أو زالت لعلّة ما دام الشجر قائما.

وهذا الوجهان جاريان في الطرق النافذة وآكل الجيف ، فيترتّب الثمرة على كلّ مذهب بحسبه ، وأمّا الماء المسخّن فلا يحتمل فيه إلاّ الحال ، وعليه فالكراهة على القول بالاشتراط يختصّ بما لو وجدت فيه السخونة فعلا ، وعلى غيره يعمّه وما لو انقضى عنه الوصف.

ويظهر الثمرة أيضا كثيرا في باب الوصايا والأقارير والنذور والأيمان ونحوها.

وفي كون « المثمرة » بناء على اعتبارها بمعنى ذي ملكة الإثمار ، إن اريد بها القوّة الاستعداديّة الفطريّة من موضع الثمرة منع ، ظهر وجهه بما تقدّم ، وكذلك لو اريد بها القوّة القريبة من الفعل ، فما في كلام غير واحد من الفقهاء في مسألة كراهة الجلوس تحت الأشجار المثمرة ، من تعليل الحكم بعدم اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ بعد حمل « المثمرة » على ما من شأنه الثمر ، ليس على ما ينبغي.

ثمّ إنّ في جعل أمثال ما ذكر ثمرة للمسألة مع كونها من المبادئ اللغويّة ، نظرا يظهر وجهه بملاحظة ما قرّرناه في مسألة الصحيح والأعمّ من ضابط الثمرات.

نعم إنّما يستقيم ذلك لو اندرجت المسألة في المسائل الاصوليّة وهو مشكل.

وبالجملة : المقام غير خال عن الإشكال ، ولم يظهر لي ما يدفعه الآن ، ولعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا.

٤٦٩
٤٧٠

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ الاشتراك واقع في لغة العرب. وقد أحاله شرذمة. وهو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه.

ثمّ إنّ القائلين بالوقوع اختلفوا في استعماله في أكثر من معنى إذا كان الجمع بين ما يستعمل فيه من المعاني ممكنا ؛ فجوّزه قوم مطلقا ، ومنعه آخرون مطلقا ، وفصّل ثالث : فمنعه في المفرد وجوّزه في التثنية والجمع ، ورابع : فنفاه في الاثبات وأثبته في النفي.

ثمّ اختلف المجوّزون ؛ فقال قوم منهم : إنّه بطريق الحقيقة. وزاد بعض هؤلاء : أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ؛ فيجب حمله عليه حينئذ. وقال الباقون : إنّه بطريق المجاز.

والأقوى عندي جوازه مطلقا ، لكنّه في المفرد مجاز ، وفي غيره حقيقة. لنا على الجواز : انتفاء المانع ، بما سنبيّنه : من بطلان ما تمسّك به المانعون ، وعلى كونه مجازا في المفرد : تبادر الوحدة منه عند إطلاق اللّفظ ، فيفتقر إرادة الجميع منه إلى إلغاء اعتبار قيد الوحدة. فيصير اللّفظ مستعملا في خلاف موضوعه. لكنّ وجود العلاقة المصحّحة للتجوّز أعنى : علاقة الكلّ والجزء يجوّزه ، فيكون مجازا.

فإن قلت : محلّ النزاع في المفرد هو استعمال اللفظ في كلّ من المعنيين بأن يراد به ـ في إطلاق واحد ـ هذا وذاك ، على أن يكون كلّ

٤٧١

منهما مناطا للحكم ومتعلّقا للاثبات والنّفي ، لا في المجموع المركّب الذي أحد المعنيين جزء منه. سلّمنا ، لكن ليس كلّ جزء يصحّ إطلاقه على الكلّ ، بل إذا كان للكلّ تركّب حقيقيّ وكان الجزء ممّا إذا انتفى انتفى الكلّ بحسب العرف أيضا ، كالرقبة للانسان ، بخلاف الإصبع والظّفر ونحو ذلك.

قلت : لم أرد بوجود علاقة الكلّ والجزء : أنّ اللّفظ موضوع لأحد المعنيين ومستعمل حينئذ في مجموعهما معا ، فيكون من باب إطلاق اللّفظ الموضوع للجزء وإرادة الكلّ كما توهّمه بعضهم ، ليرد ما ذكرت. بل المراد : أنّ اللّفظ لمّا كان حقيقة في كلّ من المعنيين ، لكن مع قيد الوحدة ، كان استعماله في الجميع مقتضيا لإلغاء اعتبار قيد الوحدة كما ذكرناه ، واختصاص اللّفظ ببعض الموضوع له أعني : ما سوى الوحدة. فيكون من باب إطلاق اللفظ الموضوع للكلّ وإرادة الجزء. وهو غير مشترط بشيء ممّا اشترط في عكسه ، فلا إشكال.

ولنا على كونه حقيقة في التثنية والجمع : أنّهما في قوّة تكرير المفرد بالعطف. والظاهر : اعتبار الاتفاق في اللّفظ دون المعنى في المفردات ؛ ألا ترى أنّه يقال : زيدان وزيدون ، وما أشبه هذا مع كون المعنى في الآحاد مختلفا. وتأويل بعضهم له بالمسمّى تعسّف بعيد. وحينئذ ، فكما أنّه يجوز إرادة المعاني المتعدّدة من الألفاظ المفردة المتّحدة المتعاطفة ، على أن يكون كلّ واحد منها مستعملا في معنى بطريق الحقيقة ، فكذا ما هو في قوّته.

احتجّ المانع مطلقا : بأنّه لو جاز استعماله فيهما معا ، لكان ذلك بطريق الحقيقة ، إذ المفروض : أنّه موضوع لكلّ من المعنيين ، وأنّ الاستعمال في كلّ منهما بطريق الحقيقة. وإذا كان بطريق الحقيقة ، يلزم كونه مريدا لأحدهما خاصّة ، غير مريد له خاصّة ، وهو محال.

بيان الملازمة : أنّ له حينئذ ثلاثة معان : هذا وحده ، وهذا وحده ،

٤٧٢

وهما معا ، وقد فرض استعماله في جميع معانيه ، فيكون مريدا لهذا وحده ، ولهذا وحده ، ولهما معا. وكونه مريدا لهما معا معناه : أن لا يريد هذا وحده ، وهذا وحده. فيلزم من إرادته لهما على سبيل البدليّة ، الاكتفاء بكلّ واحد منهما ، وكونهما مرادين على الانفراد ؛ ومن إرادة المجموع معا عدم الاكتفاء بأحدهما ، وكونهما مرادين على الاجتماع. وهو ما ذكرنا من اللازم.

والجواب : أنّه مناقشة لفظيّة ؛ إذ المراد نفس المدلولين معا ، لا بقاؤه لكلّ واحد منفردا. وغاية ما يمكن حينئذ أن يقال : إنّ مفهومي المشترك هما منفردين ، فاذا استعمل في المجموع ، لم يكن مستعملا في مفهوميه ، فيرجع البحث إلى تسمية ذلك استعمالا له في مفهوميه ، لا إلى إبطال أصل الاستعمال. وذلك قليل الجدوى.

واحتجّ من خصّ المنع بالمفرد : بأنّ التثنية والجمع متعدّدان في التقدير ، فجاز تعدّد مدلوليهما ، بخلاف المفرد.

وأجيب عنه : بأنّ التثنية والجمع إنّما يفيدان تعدّد المعنى المستفاد من المفرد. فان أفاد المفرد التعدّد ، أفاداه ، وإلاّ ، فلا.

وفيه نظر يعلم ممّا قلناه في حجّة ما اخترناه.

والحقّ أن يقال : إنّ هذا الدليل إنّما يقتضي نفي كون الاستعمال المذكور بالنسبة إلى المفرد حقيقة ، وأمّا نفي صحّته مجازا حيث توجد العلاقة المجوّزة له ، فلا.

واحتجّ من خصّ الجواز بالنفي : بأنّ النفي يفيد العموم فيتعدّد ، بخلاف الاثبات.

وجوابه : أنّ النفي إنّما هو للمعنى المستفاد عند الاثبات ؛ فاذا لم يكن متعدّدا فمن أين يجىء التعدّد في النفي؟

حجّة مجوّزيه حقيقة : أنّ ما وضع له اللّفظ واستعمل فيه هو كلّ من المعنيين ، لا بشرط أن يكون وحده ، ولا بشرط كونه مع غيره ، على ما هو

٤٧٣

شأن الماهيّة لا بشرط شيء ، وهو متحقّق في حال الانفراد عن الآخر والاجتماع معه فيكون حقيقة في كلّ منهما.

والجواب : أنّ الوحدة تتبادر من المفرد عند إطلاقه ، وذلك آية الحقيقة. وحينئذ ، فالمعنى الموضوع له فيه ليس هو الماهيّة لا بشرط شيء ، بل هي بشرط شيء. وأمّا فيما عداه فالمدّعى حقّ ، كما أسفلناه.

وحجّة من زعم أنّه ظاهر في الجميع عند التجرّد عن القرائن ، قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. ) فانّ السجود من الناس وضع الجبهة على الأرض ، ومن غيرهم أمر مخالف لذلك قطعا. وقوله : « إنّ الله وملائكته يصلّون على النّبيّ ». فانّ الصلاة من الله : المغفرة ، ومن الملائكة : الاستغفار. وهما مختلفان.

والجواب من وجوه :

أحدها : أنّ معنى السجود في الكلّ واحد ، وهو : غاية الخضوع. وكذا في الصلاة وهو الاعتناء باظهار الشرف ولو مجازا.

وثانيها : أن الآية الأولى بتقدير فعل ، كأنّه قيل : « ويسجد له كثير من الناس » ، والثانية بتقدير خبر ، كأنّه قيل : إنّ الله يصلّى. وإنّما جاز هذا التقدير ، لأنّ قوله : « يسجد له من في السّموات » ، وقوله : « وملائكته يصلّون » مقارن له ، وهو مثل المحذوف ، فكان دالا عليه ، مثل قوله :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرأي مختلف

أي نحن بما عندنا راضون. وعلى هذا ، فيكون قد كرّر اللّفظ ، مرادا به في كلّ مرّة معنى ؛ لأنّ المقدّر في حكم المذكور. وذلك جائز بالاتّفاق.

وثالثها : أنّه وإن ثبت الاستعمال فلا يتعيّن كونه حقيقة ، بل نقول : هو مجاز ، لما قدّمناه من الدليل. وإن كان المجاز على خلاف الأصل. ولو سلّم كونه حقيقة ، فالقرينة على إرادة الجميع فيه ظاهرة ؛ فأين وجه الدلالة على ظهوره في ذلك مع فقد القرينة؟ كما هو المدّعى.

٤٧٤

ـ تعليقة ـ

في مباحث المشترك

والغرض الأصلي منها هو التكلّم فيما تعرّض له المصنّف من جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى وعدمه ، ونتعرّض ما عداه من تعريف المشترك وغيره من المطالب المتعلّقة به على وجه الإجمال استطرادا أو استتباعا.

أمّا تعريفه ، فنقول : إنّه قد ذكر جماعة من الاصوليّين له تعاريف عديدة ، لا يخلو شيء منها عن شيء من انتقاض عكس أو طرد ، أو انتقاضهما ، والأجود الأسلم من جميع ما ذكر أن يعرّف : « بأنّه اللفظ الواحد الموضوع بوضع متعدّد لأكثر من معنى ، لا لملاحظة جامع ولا مناسبة بينهما ».

فقيد « الوحدة » لإخراج الألفاظ المتبائنة بل المترادفة أيضا ـ وإن كان لها مخرج آخر ـ والتثنية والجمع السالم مذكّرا أو مؤنّثا ، بناء على اعتبار وضعيهما الإفراديّتين للمدخول والعلامات.

و « الوضع » لإخراج المهمل ، و « تعدّده » لإخراج المجاز والجمع المكسّر ، بل التثنية والجمع السالم ، بناء على اعتبار الوضع النوعي فيهما المتعلّق بالهيئة التركيبيّة ، أي المجموع من العلامة والملحق به.

وقيد « الكثرة » في المعنى لإخراج مثل التنّور والصابون وغيرهما من مشتركات اللغات ، والقيد الأخير لإخراج المنقولات ، وما قبله لإخراج المبهمات

٤٧٥

وأشباهها في الوضع ، بناء على عدم وفاء تعدّد الوضع لإخراجها ، بجعله أعمّ من التحقيقي والتحليلي كما هو الأظهر ، فإنّه لولاه لانتقض العكس بما لو قال ـ بإنشاء واحدة ـ : وضعت « العين » مثلا للذهب والفضّة أو البصر والينبوع على أن يكون كلّ منهما موضوعا له بالاستقلال ، فإنّ الوضع وإن حصل بإنشاء واحد فيكون واحدا إلاّ أنّه ينحلّ إلى المتعدّد ، ويتعدّد على حسب تعدّد متعلّقه في جانب المعنى ، وهذا الاعتبار يجري في المبهمات وأشباهها أيضا ، فتخرج بالقيد المذكور.

وهذا التعريف كما ترى أسلم ممّا ذكره في التهذيب (١) كما عن المحصول (٢) أيضا ، من أنّه : « اللفظ الموضوع لحقيقتين فما زاد وضعا أوّلا من حيث كذلك ».

وما ذكره في النهاية من أنّه : « اللفظ الواحد الموضوع لأزيد من معنى واحد وضعا أوّلا من حيث هي متعدّدة » (٣).

وما ذكره في النهاية أيضا من : « أنّه اللفظ الواحد المتناول لعدّة معان من حيث هي كذلك بطريق الحقيقة على السواء » (٤).

وقد اختاره العلاّمة بعد الإعراض عمّا قبله ، وما ذكره بعض الأواخر من : « أنّه لفظ وضع بوضعين فصاعدا لمعنيين فصاعدا على سبيل التعيين أو التعيّن ». والتطويل بذكر ما ذكروه في فوائد قيوداتها ، وبيان ما فيها وما يرد عليها من الإنتقاض في العكس أو الطرد أو فيهما معا ، ممّا لا يرجع إلى طائل.

[٥٧] قوله : الحقّ أنّ الاشتراك واقع في لغة العرب ، وأحاله شرذمة وهو شاذّ ضعيف لا يلتفت إليه ... الخ

أقول : اختلفوا في وجوب الاشتراك وامتناعه في اللغة وعدمهما ، فالجمهور على إمكانه.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ١٠ ( مخطوط ).

(٢) المحصول في علم اصول الفقه ـ للرازي ـ ١ : ٢٦١.

(٣ و ٤) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ).

(٣ و ٤) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ).

٤٧٦

وعن قوم كما في النهاية (١) والمنية (٢) وغيرهما ، وجوبه. وعن آخرين ، امتناعه.

والمراد بالوجوب أو الامتناع وإن كان لزوم الوقوع ولزوم عدم الوقوع ، أي ضرورة جانب الوجود وضرورة جانب العدم ، إلاّ أنّه لا يراد بهما عند قائليهما ما يكون ذاتيّا ، أي من مقتضى ذات الاشتراك كما في وجود الواجب تعالى ، وامتناع شريك الباري ، بل ما يكون عارضيّا عرضه أحدهما لجهة خارجيّة من اقتضاء حكمة الواضع ، أو المنافاة لحكمته أو نحو ذلك ، بحيث لولاها لثبت الإمكان على معنى تساوي الطرفين ، وعدم رجحان أحدهما على الآخر بالنظر إلى ذات الاشتراك.

ومن هنا ظهر أنّ إثبات الإمكان بعد نفي الوجوب والامتناع بإبطال أدلّتهما ممّا لا حاجة له إلى دليل ولا إقامة برهان ، بل يكفي فيه مجرّد عدم ثبوت الوجوب والامتناع على ما هو الأصل المتّفق عليه ، الموافق لبناء العقلاء وقضاء القوّة العاقلة.

وكيف كان : فاحتجّ أصحاب القولين بأدلّة مدخولة ، مثل ما عن القائلين بالوجوب.

تارة : بأنّ الألفاظ متناهية ، والمعاني غير متناهية ، ولا ريب أنّ المتناهي إذا وزّع على غير المتناهي يتولّد منه الاشتراك.

واخرى : بأنّ الألفاظ العامّة « كالموجود » و « الشيء » ضروريّة في اللغات ، وقد ثبت أنّ وجود كلّ شيء نفس ماهيّته ، فيكون وجود كلّ شيء مخالفا لغيره ، فيكون قول الموجود عليها بالاشتراك.

وما عن القائلين بالامتناع ، تارة : بأنّ الاشتراك موجب للإجمال ، وهو موجب لفوات الغرض من وضع الألفاظ وهو الإفهام ، فإنّه غير حاصل مع الإجمال.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٩ ( مخطوط ).

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : ( مخطوط ).

٤٧٧

واخرى : بأنّ اللفظ إن ذكر معه قرينة زائدة عليه فيفضي إلى التطويل بغير طائل ، وإلاّ فلا يفهم منه شيء أصلا ، فيكون إطلاقه عبثا ، فإنّ الغرض من الإطلاق إنّما هو فهم المعنى.

والجواب عن الأوّل : بأنّ عدم وقوع الاشتراك على الوجه الّذي يقتضيه التوزيع ـ حسبما رامه المستدلّ ـ كما هو معلوم بضرورة من اللغة ، وإلاّ كانت الألفاظ بأسرها مشتركة ، بل كلّ لفظ مشتركا بين معاني كثيرة ، وهذا ينافي ضرورة ندرته ، ووقوعه في بعض الألفاظ على ندرة دليل على بطلان القول بالوجوب وفساد وضع دليله ، مع أنّ المستدلّ ذكر : « إذا وزّع » وهو تقدير للتوزيع ، وظاهر أنّ تقدير الشيء لا يحقّقه ، والدليل لا يفيد وقوع التوزيع المذكور فضلا عن وجوبه.

نعم إنّما يسلّم وقوع الاشتراك على ندرة ، وهو لا يلازم وجوبه لوضوح الفرق بين وقوع الشيء ووجوب وقوعه والمسلّم هو الأوّل ، وقد يكون لمجرّد المقارنة الاتّفاقيّة كما لو حصل الاشتراك بالوضع اللاحق من واضع واحد إذا كان من البشر لعدم التفاته إلى وضعه السابق ، أو من واضع آخر لعدم اطّلاعه على وضع الأوّل ، أو لعدم التفاته إليه ، أو لغير ذلك من دواعي وقوعه ، من دون أن يكون واجبا.

وعن الثاني : بأنّ غاية ما يسلم في لفظ « الموجود » إنّما هو وقوع الاشتراك فيه ، وهو لا يلازم كونه على وجه الوجوب ، ولا ينافي كونه لضرب من الاتّفاق ، مع أنّ الموجودات غير متناهية ، وزمان الوضع متناه ، ولا يتصوّر وقوع الأوضاع الغير المتناهية في الزمان المتناهي ، مع تطرّق المنع إلى كون وجود كلّ شيء نفس ماهيّته ، فإنّه مبنيّ على القول بأصالة الوجود لا الماهيّة ، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو أنّ الأصل الماهيّة والوجود طار عليها عارض ، لها فيكون قول « الموجود » على الموجودات بالتواطي لا بالاشتراك.

والقول : بأنّ الوجود إن كان صفة زائدة على الماهيّة فهي في القديم واجب وفي الحادث ممكن فلا يكون أمرا واحدا ، وإلاّ لكان الواحد بالحقيقة واجبا لذات وممكنا لاخرى ، وهو محال.

٤٧٨

يندفع : بأنّ الوجود صفة في القديم والحادث والوجوب والإمكان صفتان في تلك الصفة باعتبار أنّ ذات القديم تقتضي وجوب وجوده ، وذات الحادث تقتضي إمكان وجوده ، ولا استحالة في شيء من ذلك كما لا استحالة في كون الصفة الموصوفة بهما واحدا بالنوع ، لأنّ الاختلاف بالوجوب والإمكان إنّما هو باعتبار وجوداته.

غاية الأمر ، كونه بهذا الاعتبار من الكلّي المشكّك لتفاوت أفراده بالأوّليّة والأولويّة والأشدّيّة وأضدادها ولا ضير فيه.

وعن الثالث : بمنع المقدّمة الاولى أوّلا : إذ لا إجمال في اللفظ إذا ذكر معه القرينة للمراد.

ومنع المقدّمة الثانية ثانيا : لمنع فوات الغرض مطلقا على تقدير الإجمال ، إذ الغرض قد يتعلّق بإفهام ما في الضمير على الإجمال ، ويترتّب عليه فوائده ومزاياه ممّا سنذكره.

ومع الغضّ عن ذلك فالدليل المذكور إنّما ينهض سندا للمنع ، ومقتضيا للامتناع على القول بكون واضع اللغات هو الله سبحانه ، أو غيره مع اتّحاده والتفاته إلى وضعه السابق ، أو تعدّده مع اطّلاعه بوضع الأوّل والتفاته إليه.

وأمّا إذا اتّحد ولم يلتفت ، أو تعدّد ولم يطّلع أو اطّلع ولم يلتفت ، فلا لحصول الاشتراك حينئذ بمجرّد الوضع الثاني وشيوعه قهرا مع عدم منافاته الحكمة.

وعن الرابع : أوّلا : بالنقض بمجازات اللغة إذا ذكر معها القرينة أو عدمه ، إذا الأوّل يوجب التطويل بلا طائل ، والثاني تفويت الغرض من الإطلاق بل بطريق آكد لعدم حصول فهم هنا حتّى إجمالا.

وثانيا : بالنقض بالمشتركات المعنويّة عند إطلاقها على أفراد معانيها بالتقريب المذكور.

وثالثا : بمنع إطلاق كون ذكر القرينة تطويلا ، لأنّها قد تكون عقليّة ونحوها ممّا لا يكون لفظا ، وهي في اللفظيّة أيضا قد لا تكون فضلة في الكلام ، بل يكون

٤٧٩

مضمون الكلام بنفسه قرينة معيّنة للمراد ، كما في قوله تعالى : ( وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً )(١)

ورابعا : بمنع كونه بلا طائل ، كيف وتعيين حقيقة المراد من أعظم الفوائد.

وقد يتضمّن غير ذلك من الخواصّ والفوائد ، كما في قوله تعالى : ( عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ )(٢) لقضائه بكون الشاربين هم المخصوصون.

وخامسا : بمنع عدم انفهام شيء عند ترك القرينة أصلا ، ليكون الإطلاق عبثا لوضوح حصول انفهام المراد على وجه الإجمال والترديد ، فيترتّب عليه فوائده وخواصّه الّتي كثيرا مّا يتعلّق غرض الحكيم بترتّبها ، كالتوصّل إلى حقيقة المراد بالنظر والاجتهاد ، أو التهيّؤ للامتثال وتوطين النفس للإطاعة إلى [ أن ] تأتي مقام الحاجة المستدعية لورود البيان على التفصيل ، ليترتّب على كلّ فوائده المطلوبة منه.

هذا كلّه مضافا إلى ما يرد على هذا الوجه وسابقه معا من أنّ في وقوع الاشتراك في اللغة ـ على ما سنذكره ـ حجّة واضحة على بطلان القول بالامتناع ، وفساد وضع حجّتيه ، ضرورة أنّه لو امتنع لم يقع ، واللازم باطل والملازمة بيّنة.

ثمّ القائلون بإمكان الاشتراك عقلا اختلفوا في وقوعه مطلقا في اللغة وعدمه ، وعلى القول بالوقوع اختلف أيضا في وقوعه في القرآن وعدمه.

والحقّ وقوعه مطلقا ومقيّدا ، ولمّا كان إثبات المقيّد كافيا في ثبوت فلنكتف بالاستدلال على الوقوع المقيّد ، فنقول :

لنا : على ذلك لفظ « القرء » في قوله تعالى : ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ )(٣) و « عسعس » في قوله تعالى : ( وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ )(٤) لاشتراك الأوّل بين الطهر والحيض ، والثاني بين أقبل وأدبر كما صرّح به أئمّة اللغة ، وأطبق عليه محقّقوا أهل النظر ، بل هو معلوم بالتسامع والتظافر بين أرباب الصناعات بجميع أصنافهم

__________________

(١) القمر : ١٢.

(٢) الإنسان : ٦.

(٣) البقرة : ٢٢٨.

(٤) التكوير : ١٧.

٤٨٠