تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

وأدوات التثنية والجمع المعبّر عنها بأسماء الأجناس موضوعة للطبائع الكلّية المعرّاة عن ملاحظة الأفراد ، ولكنّ الطبيعة قد تعتبر من حيث الوجود في ضمن فرد واحد أو فردين أو أفراد ، فتقيّد بالوحدة أو الاثنينيّة أو ما فوق الاثنينيّة ، وكلّ من هذه القيود كمّيّة تحتاج في الكلام إلى معبّر ولفظ موضوع يعبّر به عنها ، وقد وضع لها التنوين وأدوات التثنية والجمع ، فالوحدة وضع لها التنوين ، والاثنينيّة وضع لها الألف والياء المفتوح ما قبلها ، وما فوق الاثنينيّة وضع لها الواو والياء المكسور ما قبلها.

الثانية : ما قرّرناه في مسألة وضع المركّبات من أنّ المركّب من لفظين لكلّ منهما وضع إفرادي لا حاجة له إلى وضع آخر نوعي متعلّق به من حيث كونه مركّبا ، ما لم يتولّد من التركيب معنى ثالث مفتقر إلى معبّر لا يكفي عنه الجزءان ، وظاهر أنّ المركّب من اللواحق المذكورة والمادّة « كرجل » و « رجلان » و « رجلون » مثلا ـ على فرض ثبوت هذا الجمع فيه ـ إنّما يراد به الطبيعة من حيث وجودها في ضمن فرد أو فردين أو أفراد منها ، وهذا المعنى يكفي في إفادته المركّب باعتبار الوضع الإفرادي الثابت لجزئيه بلا حاجة له إلى وضع آخر ، إذ الجزء الأوّل منه يدلّ على الجزء الأوّل من المعنى ، والثاني منه على الثاني من المعنى وهذا هو معنى كون الوضع في التثنية والجمع شخصيّا متعلّقا بالأدوات.

ولكن يشكل الأمر في أنّ الكمّية المذكورة بأنواعها الثلاث وإن كانت قيودا للطبيعة ، إلاّ أنّها قائمة بالفرد والفردين والأفراد ، وهي بأنواعها الثلاث معاني حرفيّة والأدوات المفيدة لها من قبيل الحروف ، وأمّا نفس الفرد والفردين والأفراد فهي معان اسميّة وتفتقر إلى معبّر لا يكفي فيه الجزءان ، إذ لو اريدت من الأدوات لا نقلب المعنى إلى المعنى الاسمي ، أو دخل المعنى الاسمي في مدلول الحرف ، وهذا غير سائغ عند أهل العربيّة ، ولو اريدت من المدخول الموضوع للطبيعة من حيث هي لزم التجوّز فيما أطبقوا على أنّه لا مجاز فيه ، لدخول ما ليس من الموضوع له في المستعمل فيه.

٥٠١

وأخصّ من يتوجّه إليه هذا الإشكال من صرّح من الأعلام كجماعة بأنّ هذه الأدوات موضوعة للفرد والفردين والأفراد ، فإنّ الأدوات إذا كانت حروفا فكيف يقال بوضعها للمعاني الاسميّة ، فلا بدّ في الذبّ عن الإشكال المذكور من التزام وضع آخر نوعي متعلّق بالمركّب لنفس الفرد والفردين والأفراد فمدلول كلّ من المفرد والتثنية والجمع ينحلّ إلى امور ثلاث ، ذات الفرد والفردين والأفراد وهي مدلول الأدوات والماهيّة وهي مدلول المادّة ، وهذا هو معنى ما يقال : من أنّ النكرة موضوعة بالنوع لفرد مّا من الماهيّة ، والتثنية لفردين منها ، والجمع لأفراد منها ، فالمتّجه حينئذ هو القول الأوّل.

وتوهّم أنّ الذبّ عن الإشكال يتأتّى بجعل ذات الفرد وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا مثلا مدلولا التزاميّا لمجموع مدلولي المادّة والأدوات بلا حاجة له إلى معبّر آخر ، فإنّ الماهيّة وقيدها الّذي هو الكمّيّة بأنواعها الثلاث تستلزم اعتبار فرد يقوم به هذه الكمّيّة ، فتكون الدلالة عليه التزاميّة.

يدفعه : أنّ المدلول الالتزامي ما يحصل الانتقال إليه بواسطة الانتقال إلى المدلول المطابقي فيكون ثانويّا ، ويأباه هنا كون المتبادر أوّلا وبالذات من النكرة هو فرد مّا ، ومن التثنية فردان ومن الجمع أفراد من الماهيّة ، وهذا يكشف عن كونه مدلولا مطابقيّا للهيئة التركيبيّة ، مضافا إلى أنّ المقصود بالأصالة في الكلام فيما علّق فيه الحكم على النكرة أو التثنية أو الجمع ، والموضوع الأصلي للحكم في خطابات الشرع والعرف إنّما هو الفرد والفردين والأفراد ، فمن البعيد كونه مدلولا التزاميّا.

هذا كلّه في « رجل » و « رجلين » ونظائرهما ، و « مسلمين » و « مسلمين » وأشباههما ، من مثنّيات أسماء الأجناس وجموعها ، وأمّا نحو « زيدان » و « زيدون » وغيرهما من مثنّيات الأعلام وجموعها فلا يجري فيه الإشكال المذكور أوّلا وبالذات ، لأنّ الكمّيّة المذكورة من الاثنينيّة وما فوقها قائمة بنفس

٥٠٢

معنى المدخول المأخوذ في وضع المفرد ، لا بأمر مغاير له أعني الفرد ، ولكن إرادة المعنيين أو المعاني في التثنية والجمع من المدخول من غير تجوّز فيهما مبنيّ على جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، مع القول بكون الأدوات موضوعة لمطلق الاثنينيّة وما فوقها ، ومن لم يجوّز الاستعمال ويجعل الأدوات للاثنينيّة الخاصّة وما فوقها ، أعني اثنينيّة الفرد وما فوقها يلتزم بتأويل المفرد إلى المسمّى ليكون نفس المعنيين أو المعاني فردين أو أفرادا من جنس المسمّى.

وحينئذ لا بدّ هنا أيضا من التزام وضع نوعي متعلّق بالمركّب بإزاء المعنيين أو المعاني بعنوان أنّهما فردان أو أفراد ، لأنّهما من المعاني الاسميّة الغير الصالحة لأن تراد من الأدوات ، ولو اريدت من المدخول مع فرض تأويله بالمسمّى لزم استعمال اللفظ في معنييه الحقيقي والمجازي ، أو تداخل المعنى الحقيقي في المجازي ، وهو ليس بسائغ عند هذا القائل.

فظهر بما قرّرناه تحقيق القول في النزاع الثاني الواقع في وضع التثنية والجمع من حيث اللفظ.

وملخّصه : إنّ لكلّ منهما مع قطع [ النظر ] عن جزئيه وضع نوعي متعلّق بالهيئة التركيبيّة مغاير لوضعي جزئيه.

وأمّا تحقيق القول في النزاع الأوّل الواقع في وضعهما باعتبار المعنى ، وهو : أنّ المأخوذ في وضعهما أو وضع أدواتهما هل هو التعدّد الخاصّ من اثنينيّة الفرد من الجنس وما فوقها ، أو مطلق التعدّد أعني مطلق الاثنينيّة وما فوقها ولو في نفس معنى المفرد ، وهو المراد من كفاية اتّفاق اللفظ فيهما من دون حاجة إلى اتّفاق المعنى ، ومرجعه : إلى أنّه هل يجوز بحسب الوضع بناء التثنية والجمع من المعنيين أو المعاني للدلالة على التعدّد في نفس المعنى ، أو يجب بناؤهما من معنى واحد للدلالة على التعدّد في فرده.

والأقوى : هو اعتبار اتّفاق اللفظ والمعنى معا فيهما ، فالمأخوذ في وضعهما التعدّد الخاصّ الّذي هو كمّيّة في الفرد ، لا مطلق التعدّد ، وذلك لأنّ أدواتهما وإن

٥٠٣

كانت في الطرف المقابل للتنوين باعتبار دلالته على الوحدة ودلالتهما على الاثنينيّة وما فوقها ، إلاّ أنّها بحكم التبادر العرفي وظاهر كلام أئمّة اللغة وعلماء الأدب والاصوليّين تشاركه في نكارة المعنى ، فالتنوين وأدوات التثنية وأدوات الجمع بحسب الوضع ألفاظ من قسم الحروف متشاركة في الدلالة على النكارة ، ومتمايزة في الدلالة على الوحدة والاثنينيّة وما فوق الاثنينيّة.

وقضيّة ذلك : أن يكون التعدّد المأخوذ في وضع الأدوات معتبرا في الفرد كما أنّ الوحدة المأخوذة في وضع التنوين تعتبر في الفرد ، نظرا إلى أنّ النكارة إنّما تلحق الفرد لا غير ، فكما أنّ النكرة باعتبار وضع التنوين تدلّ على فرد مّا من الجنس لا بعينه ، فالتثنية أيضا باعتبار وضع الألف أو الياء المفتوح ما قبلها تدلّ على فردين من الجنس لا بعينهما ، والجمع أيضا باعتبار وضع « الواو » أو « الياء » المكسور ما قبلها يدلّ على أفراد من الجنس لا بعينها.

وبالجملة : فكلّ من الوحدة والاثنينيّة وما فوقها ملزومة للنكارة.

ويدلّ عليه أيضا ما في كلام النحاة في ذكر شروط بناء التثنية من اشتراطه بتنكير ، ولأجل ذلك ترى أنّ بعضا منهم أشكل عليه الأمر في تثنية الأعلام وجمعها « كزيدان » و « زيدين » و « زيدون » ونحوها ، فالتزم بكونهما من ملحقات التثنية والجمع لما اعتبر في بنائهما من النكارة في المفرد والعلم معرفة.

ومنهم من التزم بتأويل الفرد إلى المسمّى اعتبارا للتنكير في معناه ، وهم الأكثرون منهم ، بل في كلام بعض الأفاضل : لا شكّ في كون تثنية الأعلام وجمعها نكرة حسبما اتّفقت عليه النحاة (١).

وفي تضاعيف عبارات الشارح الرضي في مباحث المعرفة والنكرة ، ومباحث المثنّى والمجموع وغيرها : أنّ تثنية العلم وجمعه يغيّرانه من التعريف إلى التنكير.

ويظهر من مطاوي كلماته كونه اتّفاقا من النحاة ، ومن ثمّ يغلب فيهما دخول « لام » التعريف اعتبارا للتعريف في معناهما بواسطة « اللام » لزوال التعريف العلمي

__________________

(١) هداية المسترشدين : ١٢١ ( الطبعة الحجرية ).

٥٠٤

المأخوذ في مفردهما بسبب بنائه تثنية أو جمعا ، ولا يوصفان بالمعرفة إلاّ بعد اعتبار التعريف فيهما « باللام » وينصرف المفرد بطروّهما له لو كان ممّا لا ينصرف ، كما ينصرف بطروّ الإضافة في نحو : « مررت بأحمدكم » وبلحوق التنوين في نحو : « مررت بأحمد غيره » ويدخل فيهما كلمة « ربّ » الملزومة لنكارة المدخول ، فيقال : « ربّ زيدين لقيتهما » كما يقال : « ربّ زينب وفاطمة لقيتهما » ويضاف إليهما « الكلّ » للتعميم فيقال : « أكرم كلّ زيدين » كما يقال : « أكرم كلّ رجلين » إلى غير ذلك من الشواهد على لزوم التثنية والجمع بحسب وضع أدواتهما لنكارة المفرد ، حتّى أنّه لو كان علما ينكر ، ولا ريب أنّ النكارة من عوارض المفرد.

ولا ينتقض ما ذكرناه ـ من لزومهما النكارة المستلزم لتأويل المفرد بالمسمّى وإخراجه عن المعرفة لو كان علما ـ بالألف والواو في « ضربا » و « ضربوا » و « يضربان » و « يضربون » وغيرهما من مثنّيات الأفعال وجموعها ، بتقريب : أنّهما يدلاّن على الاثنينيّة وما فوق الاثنينيّة في الفاعل ، فيلزم أن يراد من الضمير المستتر في مفردات هذه الأفعال مفهوم المتقدّم ذكره ، ليكون العلامة إشارة إلى فردين أو أفراد منه ، مع استحالة النكارة فيهما ، مع إشكال آخر فيه من حيث استلزامه لوقوع استعمال الضمير في المفهوم الكلّي ، وهو باطل لمخالفته إطباق القدماء والمتأخّرين من أهل العربيّة على أنّ الضمائر ونحوها من المبهمات لم يقع استعمالها قطّ في المفاهيم الكلّية ، وإن قلنا بكونها وضعا لها كما هو رأي قدمائهم ، لعدم كون « الألف » و « الواو » اللاحقين بمثنّيات الأفعال وجموعها من قبيل أدوات التثنية والجمع ليعتبر جريان حكمها فيهما ، بل هما بأنفسهما من الضمائر وقد وضع كلّ منهما بهذه الصيغة الخاصّة بالوضع العامّ لكلّ فردين معيّنين من المذكّر الغائب ، حصل تعيينهما بواسطة تقدّم ذكر المرجع ، فهما من قبيل الملحقات بالتثنية والجمع ، ولا يعتبر في نحوهما مفرد ولا لحوق بالمفرد حتّى ينشأ منه إشكال عدم النكارة أو إشكال آخر.

نعم ربّما يشكل الحال فيما ذكرناه ـ من وضع أدوات التثنية والجمع للدلالة

٥٠٥

على فردين أو أفراد من الجنس الّذي يراد من المدخول ـ بالقياس إلى « هذان » و « هذين » و « اللذان » و « اللذين » و « اللتان » و « اللتين » بتقريب : إنّه لو قدّر الجنس المشترك بين الفردين اللذين يشار إليهما بالعلامة مفهوم المشار إليه الكلّي ، أو كلّي ما يتعيّن بالصلة مع فرض كونه مرادا من المدخول ، لزم خرق اتّفاق الفريقين من القدماء والمتأخّرين من أهل العربيّة على عدم وقوع استعمال هذه الألفاظ قطّ في المفاهيم الكلّية كما عرفت.

ودعوى : أنّ المذكورات ليست من قبيل التثنية ، بل كلّ واحدة منها صيغة مستأنفة وضعت للدلالة على فردين معيّنين من المشار إليه ، وما يتعيّن بالصلة اللذين يحصل تعيينهما بواسطة الإشارة الحسّية أو معهوديّة مضمون الصلة ، من دون أن يعتبر فيها لحوق ولا لاحق ولا ملحوق به لينشأ منه الإشكال المذكور ، بعيدة عن الاعتبار خالية عن الشاهد ، بل مخالفة لظاهر كلمات أئمّة اللغة وعلماء الأدب ، بل صريح كثير منهم في كون المذكورات من قبيل المثنّيات وإطلاق التثنية عليها ، وعدم ذكرهم في باب عدّ الملحقات بالتثنية نحو « كلا وكلتا » و « اثنان واثنتان » في عدادها ، فظاهرهم كونها من التثنية حقيقة ، ولذا تراهم اختلفوا في « هذان » في أنّ الألف المحذوفة بواسطة التقاء الساكنين هل هي الألف الأصليّة أو ألف التثنية. وهذا كما ترى بناء منهم على كونها تثنية.

هذا ويمكن التفصّي عن الإشكال ـ على تقدير كونها من التثنية على وجه الحقيقة ـ : بمنع منافاة تقدير إرادة الجنس المشترك من المدخول ، لاتّفاق الفريقين من أهل العربيّة المتقدّم ذكره ، بملاحظة أنّ مرادهم ممّا ذكروه عدم وقوع استعمال « هذا » و « الّذي » في المفهوم الكلّي من حيث هو كلّي ، وهذا لا ينافي فرض وقوع استعماله فيه من حيث الوجود.

وبيانه : إنّ المأخوذ آلة للملاحظة في وضع اسم والموصول الملحوظ قبل الوضع ـ على ما يساعد عليه النظر الصادق ـ إنّما هو مفهوم الذات المتّخذة في الذهن مع نسبة عارضة لها باعتبار الإشارة إليها أو تقييدها بالصلة ، وجزئيّاتها هي

٥٠٦

الذوات الخارجيّة المتعيّنة الّتي يحصل تعيينها بواسطة الإشارة الحسّية ، أو معهوديّة مضمون الصلة فيما بين طرفي الخطاب من المتكلّم والسامع.

وقد ذهب قدماء أهل العربيّة إلى أنّ « هذا » و « الّذي » موضوعة لنفس مفهوم الذات المذكورة على الوجه المذكور من حيث إنّه مفهوم كلّي ، وأكثر متأخّريهم إلى الوضع للجزئيّات الخارجيّة المتعيّنة بواسطة الإشارة الحسّيّة أو مضمون الصلة ، وهذا هو المراد من المشار إليه كلّيا أو جزئيّا ، لا أنّ صفة الإشارة مأخوذة في الوضع مع الذات المذكورة كلّية أو جزئيّة ، بل المأخوذ معها على القولين إنّما هو النسبة العارضة لها باعتبار الإشارة ، والإشارة وجه من وجوهها ، كما أنّ التعقّب بالصلة في الموصول والتكلّم والخطاب والغيبة في أنواع الضمائر من وجوهها ، وبنائها ـ على ما حقّقه النحاة ـ إنّما هو لتضمّن معانيها النسبة المذكورة الّتي هي معنى حرفي فاشبهت المبنى الأصل شباهة معنويّة.

ومعنى عدم استعمالها في المفهوم الكلّي عند الفريقين عدم استعمالها في مفهوم الذات المتّخذة في الذهن بالنسبة المأخوذة معها باعتبار الإشارة من حيث إنّه كلّي ، وهذا لا ينافي استعمالها في جنس هذه الذات من حيث الوجود في ضمن الشخص الخارجي المعيّن ، المستفاد تعيينه من الإشارة الحسّيّة.

وحينئذ فلو اريد من « هذان » جنس الذات المذكورة من حيث الوجود في ضمن فرديها الخارجيّين المعيّنين ، المستفاد تعدّدهما من العلامة وتعيينهما من الإشارة كما يراد من « رجلان » مثلا جنس ذات ثبت لها الرجوليّة من حيث وجودها في ضمن فرديها المستفاد تعدّدهما من العلامة ، لم يلزم خرق الاتّفاق.

ولكن يزيّفه : ما علم ضرورة من استعمالات العرف من وقوع استعمالها دائما في نفس الشخص الخارجي ، من غير نظر إلى جنس الذات المتّخذة في الذهن أصلا ورأسا ، كما يتّضح ذلك بملاحظة هذا مفردا في الاستعمال.

ومع الغضّ عن ذلك ، الضرورة قاضية بانتفاء النكارة اللازمة للتثنية بحسب الوضع عن « هذان » و « اللذان » لوضوح كونهما معرفتين بعين ما يكون مفردهما معرفة من الإشارة الحسّيّة ومعهوديّة مضمون الصلة.

٥٠٧

فالوجه في الألفاظ المذكورة هو الالتزام بخروجها عن حقيقة التثنية ، وكونها صيغا مخصوصة وضعت بخصوصها للدلالة على الفردين الخارجيّين المعيّنين ، من دون اعتبار لحوق ولا حق وملحوق به ، على حدّ الملحقات بالتثنية ، وإطلاق التثنية عليها في كلام بعض أهل العربيّة مسامحة في التعبير. وفي كلام بعضهم وارد على خلاف التحقيق.

ولا ينافيه عدم ذكرهم لها في عداد الملحقات ، إذ ليس مبنى كلامهم في باب الملحقات على الحصر ، بل يستفاد من عبارة الشارح الرضى وغيره كون عدّها من الملحقات قولا محقّقا فيما بينهم ، بل صريح بعض كلماته كونه قول الأكثرين منهم ، فإنّه في تضاعيف كلامه في مبحث المثنّى. قال : ومذهب الزجاج إنّ المثنّى والمجموع مبنيّان ، لتضمّنهما « واو » العطف كخمسة عشر ، وليس الاختلاف فيهما إعرابا عنده بل كلّ واحد صيغة مستأنفة ، كما قيل : في « اللذان » و « هذان » عند غيره. انتهى (١).

وقال ـ في مطاوي مبحث أسماء الإشارة : ـ قال : الأكثرون أنّ المثنّى مبنيّ لقيام علّة البناء فيه كما في المفرد والجمع ، و « ذان » صيغة مرتجلة غير مبنيّة على واحدة وإلاّ لقيل « ذيان » « فذان » صيغة الرفع ، و « ذين » صيغة اخرى للنصب والجرّ. وقال بعضهم : إنّه معرب لاختلاف آخره باختلاف العوامل. ودعوى أنّ كلّ واحد منهما صيغة مستأنفة خلاف الظاهر. انتهى.

فكونها من الملحقات هو الموافق للاعتبار ، وضابطة التثنية والجمع ، والاختلاف المتقدّم في الألف المحذوفة في « هذان » مبنيّ على القول بكونها تثنية أو على فرض كونها منها ، فتدبّر في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

ثمّ الظاهر إنّ ما بيّنّاه في معنى الجمع من كونه بحسب الوضع للدلالة على أفراد من جنس معنى المفرد لا فرق فيه بين مصحّحه ومكسّره ، كما نصّ عليه

__________________

(١) شرح الكافية ٢ : ١٧٣.

٥٠٨

بعض الأفاضل : مدّعيا لعدم القائل بالفصل : إلاّ أنّ الدلالة في الأوّل بواسطة وضع الأداة والعلامة ، وفي الثاني بواسطة تكسير المفرد وتغييره بإحدى الوجوه المقرّرة في كتب التصريف ، ومرجعه : إلى أنّه بصيغته الحاصلة من تكسير مفرده موضوع للدلالة على حال معنى مفرده من حيث حصوله في ضمن أكثر من فرديه ، كما أنّ العلامة في الأوّل موضوعة للدلالة على حال معنى مدخولها من الحيثيّة المذكورة.

فظهر بجميع ما قرّرناه ضعف القول بكفاية اتّفاق اللفظ في بناء التثنية والجمع مصحّحا ومكسّرا ، وأنّه لا بدّ في الجميع من اتّفاق المعنى ، وإن كان معنى تأويليّا كما في الأعلام.

المقدّمة الخامسة : في أنّ عموم النفي المستفاد من ورود أداة النفي على المنكر أو النكرة لا يجوّز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولا إرادة جميع المعاني منه ، خلافا لمن توهّمه حيث فرّق في المشترك بين ما وقع في الإثبات وما وقع في النفي ، فجوّزه في الثاني استنادا إلى أنّ النفي يفيد العموم فيتعدّد مدلوله.

وفيه : إنّ التعدّد اللازم لعموم النفي إنّما يعتبر في أفراد الماهيّة أو مصاديق فرد مّا ، وأيّا مّا كان فالأفراد أو المصاديق المتعدّدة ليست معنى اللفظ ولا مرادة من مدخول النفي ، بل المستعمل فيه المراد منه إنّما هو الماهيّة أو فرد مّا ، فإرادة المعاني المتعدّدة أو جميع المعاني منه ليست من لوازم عموم النفي ولا من ملزوماته ليستدلّ به على جوازها.

وتوضيحه : إنّ « لا » النافية للجنس و « لا » المشبّهة بليس وما بمعناها من أدوات النفي الواردة على المنكر أو النكرة ، وإن كانت تفيد العموم وتدلّ على عموم النفي ، إلاّ أنّهم ذكروا إنّ الاولى تدلّ عليه بطريق النصوصيّة والبواقي بطريق الظهور ، ولذا لا يجوز أن يقال : « لا رجل في الدار بل رجلان » ويجوز أن يقال : « ليس في الدار رجل بل رجلان » و « ما في الدار رجل بل رجلان » و « ما رأيت رجلا بل رجلين ».

والسّر في الفرق إنّ « لا » النافية للجنس تقتضي أن يكون مدخولها من قبيل

٥٠٩

اسم الجنس ، وهو ما دلّ بالوضع على الماهيّة من حيث هي ، ونفي الماهيّة يستلزم نفي جميع أفرادها ، وظاهر أنّ إثبات البعض يناقض نفي الجميع ، ولذا لا يصحّ أن يقال : « بل رجلان » فيما إذا صدق قولنا : « لا رجل في الدار » للزوم التناقض.

بخلاف « ليس » و « لا » المشبّهة بها وغيرها ، فإنّ الغالب فيها كون مدخولها نكرة ، وهي ما يدلّ بالوضع على فرد مّا من الماهيّة ، أي مفهوم فرد مّا ، فإذا وردت عليها أداة النفي كانت ظاهرة في نفي مفهوم فرد مّا.

وظاهر إنّ نفي مفهوم فرد مّا يستلزم نفي جميع مصاديقه ، وحيث إنّ فردا مّا يتضمّن الوحدة المستفادة من التنوين فيحتمل كون النفي المستفاد من الأداة متوجّها إلى الوحدة فقط دون مفهوم الفرد ، وحينئذ يصحّ أن يقال : « بل رجلان » بعد قولنا : « ليس في الدار رجل » لأنّ نفي الوحدة لا ينافي إثبات الاثنين ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال مخالف للظاهر ، لظهور إرادة النفي في التوجّه إلى مفهوم الفرد ، ولأجل قيام الاحتمال المذكور كان دلالتها على عموم النفي على وجه الظهور ، وليس نحوه قائما في « لا » النافية حيث لم يؤخذ في معنى مدخولها وحدة حتّى يحتمل توجّه النفي إليها.

وعلى هذا فلو قيل : « لا عين في الدار » واريد من المدخول ماهيّة واحدة من معانيه ، أو قيل : « ليس في الدار عين » واريد فرد مّا من ماهيّة واحدة من معانيه فلا كلام في أنّهما يفيدان العموم ، وأنّ الأوّل يفيده في أفراد الماهيّة والثاني يفيده في مصاديق فرد مّا ، وأنّ عموم النفي يستلزم تعدّد المنفيّ من أفراد الماهيّة ومصاديق فرد مّا.

وأمّا إذا اريد من المدخول فيهما معان متعدّدة أو جميع المعاني ويقصد من أداة النفي نفي الماهيّات المتعدّدة المرادة من المدخول ، فهذه الإرادة ليست من لوازم عموم النفي بالمعنى المذكور ولا من ملزوماته ، فجوازها مبنيّة على ثبوت جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى بدليل آخر ، فإن ثبت جوازه بالدليل فلا يفترق الحال فيه بين الإثبات والنفي ، وإن لم يثبت فلا يفترق الحال فيه أيضا

٥١٠

بينهما ، فالنفي المفيد للعموم في المنكر أو النكرة لا تأثير له في إثبات الجواز واختصاصه بالنفي.

وتوهّم : أنّ مدلول المشترك عند السكّاكي في المفتاح واحد من المعاني لا بعينه ، وعلى ما فهمه بعضهم من أنّ مراده لا بعينه مطلقا حتّى عند المتكلّم ، فلو دخلت عليه أداة النفي كان على مذهب صاحب المفتاح كالنكرة المنفيّة في إفادة العموم ، ولكن بالنسبة إلى جميع معانيه ، لوضوح أنّ نفي الواحد لا بعينه يقتضي نفي جميع مصاديقه الّتي هي المعاني هنا بالفرض.

يدفعه : أنّ حمل كلام صاحب المفتاح في مدلول المشترك على ما ذكر سهو ، بل الصواب أنّ مراده ـ موافقا للجمهور ـ لا بعينه في نظر السامع مع كون الواحد معيّنا في نظر المتكلّم.

ولو سلّم عدم التعيين مطلقا فالمراد مصداق الواحد لا بعينه ، وظاهر أنّ النفي الوارد عليه يقتضي نفيه على وجه البدليّة والترديد ، على معنى كون المنفيّ واحدا مردّدا بين الجميع ، كما أنّ الإثبات فيما لو وقع في الإثبات على الوجه المذكور يقتضي إثباته على وجه البدليّة والترديد ، ولا يقتضي نفيه نفي جميع المعاني لامتناع كونها مصاديق مصداق الواحد لا بعينه. فليتدبّر.

وإذا تمهّدت المقدّمات ، فنقول :

إنّ الاصوليّين بين قائل بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى مطلقا ، وقائل بعدم جوازه كذلك ، ومفصّل بين المفرد وغيره من المثنّى والمجموع. فجوّز في الثاني دون الأوّل ، ومفصّل بين المنفيّ والمثبت فجوّز في الأوّل دون الثاني.

والمجوّزون أيضا بين قائل بكون الاستعمال المفروض حقيقة مطلقا ، وقائل بكونه مجازا كذلك ، ومفصّل بين المفرد فالمجاز وغيره فالحقيقة.

ومن المجوّزين من زعم ظهوره عند التجرّد عن القرينة في إرادة جميع المعاني كالشافعي.

والمانعون أيضا بين مانع عقلا للزوم التناقض في الإرادة ، ومانع توقيفا.

٥١١

والسرّ في ذلك : أنّ القول بالجواز مبنيّ على وجود المقتضي للجواز ، وفقد مانعه.

وأمّا القول بعدم الجواز ، فإن كان مستنده دعوى وجود المانع وهو لزوم التناقض فهو المنع العقلي ، وإن كان مستنده منع وجود المقتضي فهو المنع التوقيفي ، نظرا إلى أنّ المقتضي لجواز استعمال اللفظ في المعنى المعبّر عنه بمصحّح الاستعمال منحصر في أحد الأمرين من الوضع والعلاقة المرخّص فيها.

وقد زعم هذا القائل انتفاءهما معا ، أمّا انتفاء الأوّل : فمبناه إمّا على توهّم مدخليّة قيد « الوحدة » في الوضع أو الموضوع له ، أو على توهّم اختصاص الوضع بحالة الوحدة والانفراد وعدم تناوله حالة الكثرة والانضمام ، وأيّا مّا كان فكلّ من المعنيين أو أكثر حال الانضمام والاجتماع خلاف ما وضع له اللفظ.

وأمّا انتفاء الثاني : فلأنّ العلاقة المتصوّرة في صورة الاستعمال في أكثر من معنى إمّا الجزئيّة : باستعمال اللفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، لكونه جزءا على القول بمدخليّة « الوحدة » في الموضوع له ، أو الكلّية : باستعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، لكونه كلاّ على القول بعدم تناول الوضع لغير حال الوحدة لحصوله في حال الوحدة.

وقد اعتبر في هذين النوعين من العلاقة كون تركيب الكلّ خارجيّا حقيقيّا وهو هنا ذهني اعتباري ، مع ما اعتبر في علاقة الكلّية من كون الجزء مقوّما وهذا أيضا منتف ، والاستعمال توقيفي فيكفي في الحكم بعدم جوازه انتفاء المقتضي للجواز.

وكيف كان : فالأظهر الأقوى ، بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بعدم الجواز مطلقا ، لا لوجود المانع ـ لما ستعرفه من ضعف القول به ـ بل توقيفا لفقد المقتضي للجواز.

ولكن لا لدخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ، ولا لعدم تناول الوضع لغير حال الوحدة لما حقّقناه في المقدّمة الرابعة ، ولا لدعوى أنّ الواضع حين الوضع

٥١٢

شرط انفراد المعنى في الإرادة والاستعمال ، أو أنّه منع من استعماله في المعنى مع الانضمام والاجتماع حتّى نطالب بدليله ثمّ ينفي احتمال الاشتراط أو المنع على تقدير عدم مساعدة دليل عليه بالأصل ، بل لأنّ الوضع إنّما يصحّح الاستعمال ويقتضي جوازه لما تضمّنه من إذن الواضع في الاستعمال ، كما يستكشف ذلك عن الغاية المأخوذة في مفهوم الوضع ، فإنّ كون دلالة اللفظ بنفسه على المعنى غرضا وغاية مطلوبة من تعيين اللفظ للمعنى يقتضي أنّ الواضع قد أذن بتعيينه في استعمال اللفظ الموضوع في معناه الموضوع له لا محالة.

فالمقتضي لجواز الاستعمال في الحقيقة هو هذا الإذن الضمني ، والقدر الثابت منه المعلوم ثبوته إنّما هو استعماله في المعنى الموضوع له مع الانفراد.

وأمّا استعماله فيه مع الانضمام والاجتماع فلم يثبت ، ولم يعلم شمول إذن الواضع له أيضا.

وممّا يؤيّد ذلك بل يكشف عن انتفاء الإذن أنّه إذا اريد منه معنيان أو أكثر فاللفظ لا يدلّ عليه بنفسه ، بل يفتقر في دلالته إلى قرينة خارجيّة ، فلا يتناوله الغاية المطلوبة من تعيين اللفظ لكلّ من المعنيين أو المعاني ، فلا يتناوله أيضا الإذن في الاستعمال الّذي يتضمّنه الوضع باعتبار هذه الغاية.

وبالجملة : المصحّح للاستعمال المقتضي لجوازه إنّما هو إذن الواضع فيه خصوصا وهو ما تضمّنه الوضع ، أو عموما وهو أن يقول الواضع : « أذنت في استعمال كلّ لفظ مشترك في أكثر من معنى ».

وأيّا مّا كان فهو بالنسبة إلى الاستعمال في الأكثر غير ثابت ، وظاهر أنّ الأمر التوقيفي يكفي في عدم جوازه عدم ثبوت إذن الواضع فيه ، وإن صدق على المعنى مع الانضمام أيضا كونه موضوعا له ، فيكون الاستعمال على فرض وقوعه غلطا.

ألا ترى : أنّ المبهمات وغيرها ممّا يشاركها في كيفيّة الوضع لا يصحّ استعمالها على رأي القدماء في المفهوم الكلّي مع كونه موضوعا له عندهم ، لأنّ إذن الواضع في الاستعمال الّذي يتضمّنه الوضع إنّما حصل فيها بالخصوص بالنسبة إلى الجزئيّات ، لا المفهوم الكلّي الّذي هو الموضوع له.

٥١٣

وممّا يؤيّده ما ذكرنا بل يكشف عن عدم الجواز عدم معهوديّة نحو هذا الاستعمال من العرب في نثر ولا نظم ، ولا من الشارع في كتاب ولا سنّة.

والمناقشة في ذلك : بأنّ عدم الوجدان لا يقضي بعدم الوجود ، تندفع : بأنّ عدم الوجدان بعد الاستقراء التامّ يدلّ على عدم الوجود كيف ولم ينقله أحد من أئمّة اللغة عن الفصحاء والبلغاء ولا غيرهم من اولي البصائر في كلام العرب وأشعارهم وقصائدهم ، حتّى أنّ المجوّزين له مطلقا لم يأتوا لذلك بشاهد ولا مثال محقّق كونه من هذا الباب.

نعم ربّما ادّعي ذلك في قوله عزّ من قائل : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(١) بتخيّل كون المراد بالنكاح العقد والوطء معا ، وفي قوله : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ )(٢) بتوهّم كون المراد الجماع واللمس باليد معا ، وقوله : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ )(٣) وقوله : ( أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )(٤) مع ما في الكلّ من مناقشات عديدة عمدتها منع الاشتراك ، ثمّ منع الاستعمال في أكثر من معنى ، فلو جاز نحو هذا الاستعمال لوقع لمسيس الحاجة إليه كثير ، ولو وقع لنقل لتوفّر الدواعي إليه.

واستدلّ أيضا بوجوه اخر غير تامّة :

منها : الحجّة المعروفة الّتي قرّرها في النهاية (٥) والمنية وغيرهما ، بأنّ اللفظ المشترك بين المعنيين أو المعاني إمّا أن يكون موضوعا للمجموع أيضا أو لا ، فإن كان الأوّل فإن اريد به المجموع فقط كان مستعملا في بعض معانيه دون الجميع ولا كلام فيه.

وإن اريد مع ذلك كلّ واحد أيضا لزم التناقض ، لأنّ إرادة كلّ واحد يقتضي

__________________

(١) النساء : ٢٢.

(٢) النساء : ٤٣.

(٣) الأحزاب : ٥٦.

(٤) الحج : ١٨.

(٥) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٠ ( مخطوط ).

٥١٤

الاكتفاء به وإرادة المجموع يقتضي عدم الاكتفاء به وذلك تناقض ، وإن كان الثاني كان استعماله فيه استعمالا في غير ما وضع له فيكون مجازا ، فلا يكون مستعملا في شيء من معانيه.

والجواب : منع لزوم التناقض على تقدير كون المجموع أيضا موضوعا له مع إرادته وإرادة كلّ واحد ، فإنّ الاكتفاء به إن اريد به الاكتفاء به في مقام الطلب والامتثال ، فالاكتفاء بكلّ واحد لا يقتضي الإكتفاء به عن الآخر ولا عن المجموع ، كما أنّ إرادة المجموع لا يقتضي عدم الاكتفاء بكلّ واحد ، لجواز تعدّد التكاليف على حسب تعدّد المعاني ، مع تعلّق بعضها بالمجموع وبعضها بهذا وحده وثالث بذاك وحده ، كما هو قضيّة ما تقدّم من تحرير المتنازع فيه بكون كلّ واحد مناطا للحكم ومتعلّقا للإثبات والنفي ، فيجب حينئذ الإتيان بالمجموع تارة وبهذا وحده اخرى وبذاك وحده ثالثة.

وإن اريد به الاكتفاء به في غير مقام الطلب كالإخبار ونحوه فكذلك ، لجواز تعلّق الحكم الّذي قصد إعطاؤه بالإخبار تارة بالمجموع واخرى بهذا وحده وثالثة بذاك وحده ، فيراد الجميع من اللفظ في إطلاق واحد حسبما هو المتنازع فيه ، ففي نحو قوله : « رأيت عينا » مع إرادة المجموع من الذهب والفضّة وإرادة كلّ واحد يجوز وقوع الرؤية تارة بالمجموع واخرى بالذهب وحده وثالثة بالفضّة كذلك ، فقصد بالخطاب الإخبار بالجميع ، مع أنّه لم يعتبر في موضع البحث مع كونه مشتركا بين كلّ واحد كونه موضوعا للمجموع أيضا ، بل لم نقف على مشترك في اللغة يكون من هذا القبيل ، فلا مقتضى لعدم الاكتفاء بكلّ واحد ، والمفروض على ما حقّقناه في المقدّمات عدم دخول قيد « الوحدة » في الموضوع له ، فيراد هذا وهذا ويتعلّق الحكم بكلّ واحد على هذا الوجه من دون تناقض ، وعلى تقدير عدم الوضع للمجموع لا يلزم من إرادة الجميع كون المجموع من حيث هو مستعملا فيه ، ليكون من الاستعمال في غير ما وضع له ، لما عرفت من أنّ المراد من الاستعمال في الجميع إرادة هذا وهذا على أن يكون كلّ موضوعا للحكم بالاستقلال.

٥١٥

ومنها : ما تمسّك به بعض الفضلاء من : أنّ الوضع على ما يساعد عليه التحقيق عبارة عن نوع تخصيص ينشئه الواضع ، ومرجعه إلى قصر اللفظ على المعنى ، ويدلّ عليه تعريف بعضهم له : « بأنّه تخصيص شيء بشيء » وهو الظاهر من تعريف آخرين له : « بأنّه تعيين شيء لشيء ».

وحينئذ فإذا وضع لفظ لمعنيين فقضيّة كلّ وضع أن لا يستعمل إلاّ في المعنى الّذي بإزائه ، فإذا اطلق واريد به أحدهما صحّ الاستعمال على ما هو قضيّة أحد الوضعين ، وإن اطلق واريد به كلا المعنيين لم يصحّ ، لأنّ قضيّة كلّ من الوضعين أن لا يراد منه المعنى الآخر ، ففي الجمع بينهما نقض لهما ، فلا يكون اللفظ مستعملا فيما وضع له بحسب شيء من الوضعين (١).

وفيه : من الضعف بالمصادرة وغيرها ما لا يخفى ، لأنّه إن أراد من كون قضيّة كلّ من الوضعين أن لا يراد منه المعنى الآخر انّ كلاّ من الوضعين يقتضي عدم إرادة المعنى الآخر بحسب ذلك الوضع فهو مسلّم ، وإلاّ لم يكن تخصيصا ولا قصرا للّفظ على المعنى ، ولكن ليس بناء القول بالجواز على إرادة المعنيين بحسب أحد الوضعين ، وإن أراد به أنّه يقتضي عدم إرادة المعنى الآخر مطلقا حتّى بحسب وضع نفسه ، بأن يراد كلّ من المعنيين بحسب الوضع المخصوص به فهو المصادرة ، وليس فيه نقض للوضعين ، ولا ينافي كون الوضع قصر اللفظ على المعنى ولا كونه تخصيصا ولا تعيينا ، فيكون اللفظ بالنسبة إلى كلّ من المعنيين مستعملا فيما وضع له.

ومنها : ما اعتمد عليه بعض الأعلام على ما يستفاد من تضاعيف عباراته (٢) وملخّصه : أنّ استعمال اللفظ في المعنى لا بدّ وأن يكون على طبق قانون الوضع ، ومقتضى قانون الوضع إنّما هو الاستعمال في حال الوحدة والانفراد ، للعلم بثبوت الوضع للمعنى في حال الانفراد لا بشرط ولا بشرط عدمه ، فالعدول عنه واستعماله في غير حال الانفراد ليس استعمالا فيما وضع له حقيقة ، واحتمال

__________________

(١) الفصول : ٥٤ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) قوانين الاصول ١ : ٦٧ ( الطبعة الحجرية ).

٥١٦

جوازه مجازا يندفع أيضا بعدم ثبوت الرخصة في هذا النوع من المجاز ، نظرا إلى أنّ المجازات كالحقائق وحدانيّة والّذي علم ترخيصهم فيه من التجوّز إنّما هو الاستعمال في مجازي واحد ، وأمّا الاستعمال في مجازين وما زاد فلم يعلم ترخيصهم فيه ، وعدم العلم بالرخصة كاف في عدم جواز الاستعمال ، فإنّ جواز الاستعمال مشروط بالعلم أو الظنّ بالرخصة.

وقد سبق منّا في المقدّمات ما يقضي بضعفه بما لا مزيد عليه ، من أنّ الوضع وإن حصل في حال انفراد المعنى إلاّ أنّه لا يوجب اختصاصه بتلك الحالة ، بحيث كان المعنى في غيرها خلاف ما وضع له بحسب ذلك الوضع ، مع فرض كون المعنى المنضمّ إليه مرادا باعتبار وضع نفسه لا بحسب ذلك الوضع.

نعم إنّما لا يجوز ذلك لما بيّنّاه من أنّ الوضع إنّما يقتضي جواز الاستعمال باعتبار ما تضمّنه من إذن الواضع فيه ، وهو بالنسبة إلى الاستعمال المفروض غير معلوم الثبوت ، وهو كاف في الحكم بعدم الجواز.

ومنها : ما قيل في المناقشة في القول بالجواز من أنّه يستلزم ذلك في التثنية والجمع بإرادة معنيين لا أقلّ من المفرد ، ففي التثنية يلزم جواز استعماله في أربعة وهكذا في الجمع ، واستنكاره غير خفيّ على ذي مسكة ، وبذلك يرفع التفرقة بين المفرد والتثنية والجمع ، بل يبطل الحصر بين الاسم والفعل والحرف ، لوجود رابع وخامس وهكذا ، وكأنّ المراد به أنّ تجويز إرادة معنيين من المفرد يستلزم تجويز إرادة أربع معان من تثنيته ، لكون التثنية ما يدلّ على ضعف مدلول مفرده ، وهكذا في الجمع على ما يقتضيه وضع الجمعيّة.

وقضيّة ذلك في التثنية على تقدير إرادة ثلاثة معان من المفرد أن يراد منها ستّ معان وهكذا ، وهذا ممّا يستنكره الطبع ويستهجنه العرف.

ويدفعه : منع الملازمة على كلا القولين في وضع التثنية والجمع من اعتبار اتّفاق اللفظ والمعنى معا فيهما ، أو كفاية اتّفاق اللفظ فقط ، أمّا على القول الأوّل : فلأنّ مبناه فيما إذا اريد من المفرد معنيان على تأويله بالمسمّى ، ليكون المعنيان فردين منه.

٥١٧

وأمّا على القول الآخر : فلأنّ مبناه على إرادة نفس المعنيين من المدخول مع العلامة ، إشارة إلى اثنينيّة المعنى المراد منه أو ما فوق الاثنينيّة فيه ، كما يشهد بذلك الاحتجاج الآتي بأنّهما في قوّة تكرير المفرد ، فالاعتبار المذكور في المناقشة ممّا لا يوافقه شيء من القولين.

نعم هنا اعتبار آخر غير ما ذكر وهو : أن يراد من المدخول نفس المعنيين ويشار بالأداة إلى فردين من أحدهما وفردين من الآخر في التثنية ، أو نفس المعاني ويشار بالأداة إلى أفراد من كلّ معنى.

وهذا مع ابتنائه على وضع الأدوات للفردين أو الأفراد اعتبارا لاتّفاق المعنى أيضا ، وعلى عدم الالتزام بالتأويل إلى المسمّى مبنيّ على فرض استعمال الأدوات أيضا كالمدخول في أكثر من معنى ، ولا ضير فيه على القول بجواز استعمال المشترك في أكثر من معنى ، ولا يصلح مناقشة فيه بل هو لازم له على ما قرّرناه في مقدّمات المسألة من عموم النزاع بحسب المعنى للألفاظ الموضوعة بالوضع العامّ للمعنى الخاصّ.

وأمّا الاعتبار المذكور فمع عدم موافقته القولين كما عرفت ، يخالف وضع الأداة في التثنية أيضا حتّى على القول الثاني ، لأنّها موضوعة للدلالة على الاثنينيّة في فرد المعنى المراد من المدخول ، أو في نفس المعنى المراد منه ، وهذا لا يجامع إرادة الأربع.

ودعوى : دلالة التثنية على ضعف مدلول مفرده تقتضي دعوى دلالة الجمع على ضعفي مدلول مفرده ، وكلاهما ممنوعتان ، لوضوح عدم دخول الضعف والضعفين في مدلوليهما ، بل المأخوذ في وضعيهما إنّما هو الاثنينيّة وما فوقها خصوصا أو عموما ، بالقياس إلى فرد المعنى المراد من المدخول أو نفسه.

وتوهّم بناء الفرض على كون الوضع فيها نوعيّا متعلّقا بالهيئة التركيبيّة ، فيمكن القول حينئذ بإرادة معنيين من المفرد وإرادة آخرين من الهيئة التركيبيّة.

يدفعه : أنّ أهل هذا القول يجعلون الهيئة للفردين من المعنى المراد من المفرد.

وغاية ما يلزم من إرادة معنيين من المفرد إرادة فردين من معنى وفردين من

٥١٨

معنى آخر من الهيئة ، ويرجع ذلك إلى ما بيّنّاه من الاعتبار لا إلى ما ذكر في المناقشة ، فإرادة نفس معنيين آخرين من الهيئة التركيبيّة أو من العلامة لا يوافق شيئا من اعتبارات التثنية.

وأمّا ما ذكر أيضا في المناقشة من أنّ بذلك يرفع التفرقة بين المفرد والتثنية والجمع.

ففيه : أيضا منع الملازمة ، لأنّ المفرد إذا اريد منه معنيين أو معاني يفتقر في دلالته على الاثنينيّة وما فوقها إلى دلالة خارجيّة ، وهذه الدلالة في التثنية والجمع وضعيّة مستندة إلى العلامة أو الهيئة التركيبيّة وهذا القدر كاف في التفرقة بينه وبينهما ، ولو جعلنا العلامة أو الهيئة لفردين أو أفراد من كلّ من المعنيين ، بناء على فرض استعمالهما أيضا في أكثر من معنى كان التفرقة أوضح.

وأمّا قوله : « بل يبطل الحصر بين الاسم والفعل والحرف » فلم أتحقّق معناه إلاّ إذا رجع إلى إنكار الاشتراك رأسا في اللغة ، لأنّ الحصر المذكور مستفاد من الوضع.

وأمّا على تقدير تسليم الاشتراك ووقوعه في كلّ من الاسم والفعل والحرف فلا نرى له وجها ، فإنّ انقسام الكلمة إلى هذه الأقسام إنّما هو من جهة المعنى الموضوع له باعتبار استقلاله بالمفهوميّة مع الاقتران بأحد الأزمنة أو لا معه وعدمه ، اتّحد أو تعدّد ، فما كان معناه المراد منه باعتبار الوضع مستقلاّ بالمفهوميّة فهو اسم إن لم يقترن بأحدها وإلاّ ففعل ، اتّحد أو تعدّد ، وطروّ التعدّد له وضعا أو إستعمالا لا يقضي بخروجه عن الاستقلال ، وما كان معناه المراد غير مستقلّ فهو حرف اتّحد أو تعدّد ، ولا يوجب طروّ التعدّد له خروجه عن عدم الاستقلال ، كما إذا اريد من كلمة « من » الابتداء والبيان معا حيث ناسبهما المقام.

نعم لو وجد لفظ وضع لمعنى مستقلّ ومعنى غير مستقلّ ، أو معنى مستقلّ مقترن ومعنى مستقلّ غير مقترن كان لتوهّم نقض الحصر بذلك وجه.

ولكن يذبّ عنه أيضا : مع عدم تحقّق نحو ذلك في الخارج ، أنّه لو صلح منعا لرجع إلى منع جواز الاشتراك بين المعنى الاسمي والمعنى الفعلي أو الحرفي ، وبين

٥١٩

المعنى الفعلي والمعنى الحرفي ، لا إلى منع جواز استعمال المشترك على تقدير وقوعه في أكثر من معنى ، مع أنّه على تقدير وقوعه بين المعنى الاسمي وغيره ، وبين المعنى الفعلي والحرفي أمكن منع الملازمة باعتبار الحيثيّة فيما إذا استعمل في المعنيين ، بأن يقال : إنّه من حيث اريد منه معناه المستقلّ الغير المقترن اسم ، ومن حيث اريد منه معناه المستقلّ المقترن فعل ، ومن حيث اريد منه معناه الغير المستقلّ حرف فتأمّل.

ثمّ إنّ ما قرّرناه من دليل المنع عامّ ، ومفاده عموم المنع من استعمال المشترك في أكثر من معنى في المفرد والتثنية والجمع ، والمثبت والمنفيّ ، فبذلك انقدح ضعف سائر الأقوال ، كما أنّه ظهر به مضافا إلى ما قرّرناه في المقدّمات ضعف حججها والجواب عنها ، فلا طائل في الإطناب بالتعرّض لذكرها وبيان ما في كلّ واحد بالخصوص.

تنبيهات :

أحدها : قد عرفت سابقا أنّ من مجوّزي استعمال المشترك على وجه الحقيقة من زعم ظهوره عند التجرّد عن القرينة في إرادة الجميع ، ونسبه في النهاية (١) إلى الشافعي وأبي بكر وعبد الجبّار ، وحكى عنهم الاحتجاج عليه بوجهين :

أحدهما : إنّه حينئذ إمّا أن يحمل على أحد المعاني لا بعينه فيلزم الإجمال ، أو يتعيّن ولا مرجّح له ، فيتعيّن الحمل على الجميع.

وقد يقرّر : بأنّ حمله على جميع معانيه غير ممنوع فيجب حمله عليه حينئذ ، إذ لولا ذلك فإمّا أن لا يحمل على شيء من معانيه وذلك إهمال للّفظ بالكلّية ، وهو ظاهر البطلان ، أو يحمل على بعض دون بعض وذلك تحكّم وترجيح بلا مرجّح.

وثانيهما : قوله عزّ من قائل : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ )(٢).

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢١ ( مخطوط ).

(٢) الحج : ١٨.

٥٢٠