تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

لها أنواع متعدّدة لكلّ نوع هيئة مخصوصة تعرض لموادّ كثيرة موضوعة ويكون وضعه بتلك الهيئة كافيا عن وضع ما اندرج تحته من الجزئيّات.

ومن الفضلاء من فصّل فجعل الوضع فيما عدا فعل الماضي والمستقبل المجرّدين إذا بنيا للفاعل وكانا مفردين مذكّرين غائبين نوعيّا ، وفيهما بالقيود المذكورة شخصيّا ، مستدلاّ باختلاف صيغهما وفقد ما يكون جامعا بين جزئيّاتهما.

وفيه : مع أنّ نحو هذا الاختلاف موجود في صيغ الأمر ، وضوح أنّ لكلّ واحد منهما أنواعا ثلاث يضبطها كسر العين وفتحها وضمّها ، بحيث يندرج تحت كلّ نوع أشخاص كثيرة غير محصورة يكفي من وضع كلّ شخص بانفراده وضع النوع الشامل له ، هذا إذا اريد بفقده ما يرجع إلى جانب اللفظ ، وإلاّ فإن اريد به ما يرجع إلى جانب المعنى فوجوده أوضح ، فإنّ القدر الجامع حينئذ قيام المبدء بفاعل مّا في أحد الأزمنة.

وإذا ثبت كون الوضع في المشتقّات مطلقا نوعيّا ، ففيه باعتبار جواز تعلّقه في نظر العقل بالأمر الكلّي وهو نوع الهيئة العارضة للمادّة ، أو نوع المجموع منها ومن مادّة مبهمة ، أو بمصاديقه على إنّه بأحد الوجهين إنّما لوحظ مرآتا وآلة لملاحظة تلك المصاديق وجوه أربع ، ترتفع من احتمالي وضع الهيئة أو ما كان على هذه الهيئة في احتمالي الوضع النوعي بمعنى ما تعلّق بنفس النوع ، أو ما تعلّق بالألفاظ الملحوظة بنوعها ، والنظر في تحقيق المقام بالنظر إلى هذه الوجوه يستدعي التكلّم في مسألتين :

المسألة الاولى : أنّ المعروف من مذهب الاصوليّين كون الوضع في المشتقّات باعتبار الهيئة من حيث إنّها عارضة للمادّة لا باعتبار المجموع منها ومن المادّة ، كما ينادي به ما اشتهر بينهم من أنّ المشتقّ له وضعان : شخصي باعتبار المادّة ونوعي باعتبار الهيئة ، وهو الّذي يساعد عليه ظاهر النظر للتبادر ، فإنّ المتبادر من كلّ مشتقّ من المعنى ما ينحلّ إلى ما يستند انفهامه ـ على ما

٤٠١

يدرك بالوجدان ـ إلى جزء من اللفظ وما يستند انفهامه إلى جزئه الآخر ، فالحدث الخاصّ في مثل « عالم » لا ينفهم إلاّ من ملاحظة المادّة الموجودة فيه ، كما أنّ الذات وانتسابها إلى الحدث المذكور لا ينفهم إلاّ من ملاحظة الهيئة العارضة لها ، ولذا نجد من أنفسنا أنفسنا أنّه لو تبدّل أحد الجزئين من اللفظ بما يغايره لتبدّل من المعنى ما كان يستند انفهامه إليه ، ولو تطرّق تجوّز إليه فإنّما يتطرّق تارة : باعتبار جزئه الهيئي ، واخرى : باعتبار جزئه المادّي ، وثالثة : باعتبارهما معا ، وهذا كلّه آية كون كلّ منهما مستقلاّ بوضع على حدّه.

وما قيل ـ في منعه ـ : بأنّا لا نسلّم إنّ فهم بعض المعنى يستند إلى جزء اللفظ ، بل إلى كلّه ، لكن لا خفاء في أنّا إذا علمنا أنّ صيغة معيّنة موضوعة بإزاء ما دلّ عليه مصدرها مع أمر آخر يشاركها فيه صيغة اخرى ، لا جرم ننتقل بالعلم بأحد الأمرين إلى بعض المعنى ، وليس ذلك انتقالا من بعض اللفظ إلى بعض المعنى ، بل من كلّ اللفظ إلى بعض المعنى.

يدفعه : كونه مكابرة للوجدان ، وخروجه عن قانون الحقيقة والمجاز ، من حيث عدم معهوديّة لحوقهما اللفظ باعتبار كلّ من جزئيه مع عدم انفراد الجزء بوضع مستقلّ فإنّهما يتبعان الوضع ، وابتنائه على أصل قد أفسدناه.

وبه يندفع ما اعترض على المختار ، من أنّهم إن أرادوا أنّ الموادّ موضوعة بوضع المصادر فمتّضح الفساد ، لأنّ هيئآت المصادر معتبرة في وضعها لمعانيها قطعا ، وإن أرادوا أنّها موضوعة للمعاني الحدثيّة بوضع آخر مشروط باقترانها بإحدى الهيئآت المعتبرة لئلاّ يلزم جواز استعمالها بدونها ، فبعد بعده جدّا ممّا لم نقف لهم فيه على دليل ، فإنّ الدليل على وضع مبادئ المشتقّات الّتي موادّها من جهتها ـ حسبما قرّرناه ـ قد تقدّم من وجوه عديدة.

نعم هذا البيان ينهض حجّة اخرى على ما اشتهر من كون المبادئ هي المصادر ، كما لا يخفى.

٤٠٢

فالمصادر أيضا موضوعة بوضع مبادئها الّتي تتساوى نسبتها إليها وإلى سائر المشتقّات ، فكلّ من الهيئة والمادّة في وضعها مشروطة بالاقتران المذكور لئلاّ يلزم جواز استعمال الهيئة في ضمن غير المادّة الموضوعة ، واستعمال المادّة في ضمن غير الهيئة الموضوعة.

غاية ما في الباب ، توجّه مناقشة إلى تسمية هذا الوضع بالقياس إلى المادّة شخصيّا ، من حيث إنّها إذا اخذت مع تجريد النظر عن خصوصيّات الهيئة كانت نوعا ، كما إنّ الهيئة نوع إذا اخذت مع تجريد النظر عن خصوصيّات المادّة ، لكن الخطب في نحوها سهل ، مع إمكان الذبّ عنها بابتناء التسمية على توهّم كون وضع الموادّ باعتبار وضع المصادر الّتي لا إشكال لأحد في كونه فيها على تقدير كونها مبادئ المشتقّات شخصيّا.

ومن الأفاضل من زعمه فيها واحدا بالنوع متعلّقا بالمجموع ، حيث قال : والظاهر عدم تعدّد الوضع المتعلّق بكلّ من الألفاظ ، فالهيئة والمادّة المعروضة لها موضوعة بوضع واحد نوعي ، ثمّ تكلّف بتأويل القضيّة المتقدّمة المشهورة المصرّحة بالوضع الشخصي الثابت فيها لموادّها ، فتارة : بأنّه إنّما يعنى به الأوضاع المتعلّقة بمصادرها لا الموادّ الحاصلة في ضمنها.

واخرى : بأنّه لمّا كان المنظور في الوضع المذكور هو دلالة المادّة على الحدث ودلالة الهيئة على اعتبار ذلك الحدث جاريا على الذات ، نزّل ذلك منزلة وضعين ، وكان وضعه بالنسبة إلى الأوّل شخصيّا ، وبالنسبة إلى الثاني نوعيّا كلّيا. انتهى (١).

ولا يخفى ما فيه من التكلّف ، مع ما في ثاني الوجهين من الالتزام بمقتضى القضيّة ، فإنّ قصد دلالة المادّة على الحدث إن اريد به الحدث الخاصّ لا يقصر عن وضع الشخص ، بل هو عينه.

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٢٨ ( الطبعة الحجرية ).

٤٠٣

غاية الأمر إنّه حصل بحكم الفرض للأشخاص بملاحظة إجماليّة ، مع أنّه لم يأت لإثبات مرامه بما ينهض حجّة عليه ما عدا بعد تعلّق الوضع فيها بغير اللفظ ، ولزوم التعسّف البيّن في التزام تعلّق الوضعين بلفظ واحد ، وفيه ما لا يخفى ، مع ما يتوجّه إليه من لزوم أوله بالأخرة إلى الالتزام بالوضع الشخصي التفصيلي ، لقضاء الضرورة باختصاص كلّ لفظ بما اختصّ به من المعنى الحدثي الخاصّ ، ولولا الموادّ لها وضع بانفرادها لم يكن الوضع النوعي باعتبار الهيئة كافيا في حصول هذا الاختصاص ، سواء فرض متعلّقا بالنوع للنوع أو للجزئيّات ، أو بالجزئيّات للنوع أو للجزئيّات ، واحتمال كونه إنّما حصل من حيث الاتّفاق ممّا لا يصغى إليه. فتكون الحاجة ماسّة إلى اعتبار أمر زائد على هذا الوضع ليفيد الغرض ، وهو إمّا توزيع الواضع بعد الفراغ عن الوضع ، بأن يقول : « هذا لذاك » وهكذا ، إلى أن يتعيّن كلّ خاصّ من اللفظ بإزاء ما اختصّ به من المعنى ، أو استعماله على هذا الوجه بقصد التعيين.

وأيّا مّا كان فالالتزام به التزام بالوضع الشخصي التفصيلي ، إذ لا يعني منه ما يقع بلفظ « وضعت » كما لا يخفى.

هذا مع ما عرفت من عدم حجّة واضحة على ما زعمه ، فإنّ غاية ما أمكنه الاستناد إليه ـ بعد الاستبعاد المتقدّم ـ هو : أنّ اختصاص الوضع النوعي في المشتقّات بهيئآتها فقط مبنيّ على كون موادّها موضوعة بأوضاع شخصيّة باعتبار أوضاع مبادئها ، وهي على تقدير كون المبادئ هي المصادر غير مجدية في وضع الموادّ ، لفرض كونها موضوعة بما اعتبر فيها من الهيئآت المخصوصة ، وهي بتلك الهيئآت غير موجودة في المشتقّات ، فلا أثر لأوضاعها في الموادّ.

وعلى تقدير كون المبادئ غيرها ، كالحروف الأصليّة المعرّاة عن الهيئآت المخصوصة ـ على ما يراه جماعة تبعا للمحقّق الشريف ـ غير مسلّمة ، لتوجّه المنع إلى هذه الدعوى ، فيبقى الموادّ خارجة عن مورد الوضع لولا تعلّقه بها معروضة للهيئات.

٤٠٤

وأيضا : فإنّ التزام الوضعين في المشتقّات ممّا يؤدّي إلى التكثير في مخالفة الأصل ، ضرورة كون الموادّ في الكثرة فوق حدّ الإحصاء ، فلو فرضت مثلا مائة مع الالتزام بالوضع الشخصي في كلّ مع الوضع النوعي في كلّ من الهيئآت المعارضة لها الّتي نفرضها عشرة أنواع ، لزم الالتزام بعشرة أوضاع نوعيّة ومائة شخصيّة ، بخلاف ما لو قيل بوحدة الوضع في مجموع الهيئة والمادّة ، فإنّ الملتزم به حينئذ الأوضاع النوعيّة خاصّة ، وظاهر إنّ التقليل في الحادث أولى من تكثيره.

وأيضا : فإنّ الوضع فيها لولا واحدا متعلّقا بالمجموع لزم عدم كونها في استعمالاتها حقائق ولا مجازات ، واللازم ـ بحكم انحصار الاستعمال الصحيح في الحقيقة والمجاز ـ باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ الحقيقة يعتبر فيها الوضع والاستعمال وتواردهما على اللفظ ، ومفروضهم تعلّق الوضعين بأمر غير اللفظ.

ويندفع الأوّل : بأنّ مرجعه إلى النزاع في مسألة المبادئ وقد فرغنا عنها بإثبات كونها الحروف الأصليّة دون المصادر.

والثاني : بعدم اختصاص الالتزام بحدوث المائة الشخصيّة بمقالة من يثبت الأوضاع الشخصيّة للموادّ ، إذ ليس المراد منها ما هو زائد على أوضاع المبادئ المتّفق على كونها شخصيّة ، بل ما يدخل في الموادّ بواسطة المبادئ ، وحدوثها بالقياس إليها متّفق عليه سواء فرضتها المصادر أو غيرها ، غاية ما هنالك بقاء مناقشة على من يزعمها المصادر من حيث عدم معقوليّة سراية أوضاع المصادر إليها بدون اعتبار وجود الهيئآت المصدريّة المعتبرة في أوضاعها.

وهذه مناقشة اخرى لا مدخل لها في تتميم الدليل ، ولعلّها تنهض حجّة للمختار في المبادئ.

نعم عليه يلزم الالتزام بأوضاع نوعيّة متعلّقة بهيئآت المصادر أيضا ـ حسبما قرّرناه ـ بناء على ما تقدّم من استلزام ذلك دخول المصادر في قانون المشتقّات ، ولا ضير فيه بعد مساعدة الدليل عليه.

٤٠٥

والثالث : بمنع الملازمة ، إمّا بدعوى كون اللفظ في مصطلحهم لما يعمّ الهيئة المنفردة والمادّة المجرّدة ، وإن كان كلّ في وجوده الخارجي يتوقّف على تقوّمه بالآخر.

وإنّما يستكشف ذلك عن ملاحظة تصريحهم بثبوت الوضعين باعتباري الهيئة والمادّة ، مع تعريفهم الوضع بتعيين اللفظ للدلالة على المعنى ، وعدم تعرّض أحد لنقضه عكسا بوضعي المشتقّات مع تعرّضهم لنقضه بوضع المشتركات والحروف وغيرها ممّا تقدّم بيانه في محلّه.

أو بدعوى : كون اللفظ في تعريف الحقيقة يراد به المعنى الأعمّ ولو مجازا ، ليشمل نحو المشتقّات ، كما يكشف عنه إثباتهم الوضعين لها.

أو بدعوى : إنّ ثبوت الوضع لكلّ من الجزئين يوجب صدق كون المجموع موضوعا ، فيصدق بقصد الإفادة من كلّ جزء كون المجموع مستعملا ، ويكفي ذلك في توارد الوصفين على اللفظ.

المسألة الثانية : في أنّ الوضع المبحوث عنه هاهنا هل هو متعلّق بنفس النوع المتصوّر المعبّر عنه بالكلّي المنطقي ، أو بجزئيّاته المندرجة تحته الملحوظة إجمالا بملاحظة النوع ، وفيه خلاف آخر.

قيل : بإمكان الجميع ، حيث لا دليل على تعيين أحدهما بحسب الوقوع ، ولعلّه المعروف.

وقيل : بتعين الثاني ، كما جزم به بعض الأفاضل ، وقبله بعض أجلّة السادة (١) وعلّله في شرحه للوافية : بأنّ الظاهر من كلامهم إنّ المستعمل في الوضع النوعي ليس إلاّ أفراد النوع وجزئيّاته المشخّصة ، فلو كان الموضوع هو النوع لكان المستعمل أفراد الموضوع وجزئيّاته دون الموضوع نفسه. وهذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجازا.

__________________

(١) وهو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله.

٤٠٦

أمّا الأوّل : فظاهر ، وأمّا الثاني : فلأنّ المجاز هو استعمال اللفظ الموضوع في غير ما وضع له ، للمناسبة بينه وبين الموضوع له.

وهذا الاستعمال إنّما هو استعمال اللفظ الغير الموضوع فيما وضع له لفظ آخر للمناسبة بين المستعمل والموضوع وهو عكس المجاز ، فإنّ الخروج عن الظاهر في المجاز من جهة المعنى ، وفي هذا الاستعمال من جهة اللفظ ، والعلاقة المعتبرة في المجاز بين المعنيين الموضوع له والمستعمل فيه ، وفي هذا الاستعمال بين اللفظين المستعمل والموضوع ، والواسطة بين الحقيقة والمجاز في الاستعمال الصحيح ليست معهودة في استعمالات العرب ولا منصوصة في كلام أئمّة الأدب ، كيف وقد صرّحوا بأنّ الاستعمال الصحيح منحصر في الحقيقة والمجاز (١) انتهى.

وتحقيق المقام : إنّ النظر إن كان إلى الوقوع الخارجي فلم ينهض ما يقضي بأحد الوجهين ، وإن كان إلى الإمكان وتجويز العقل فكلّ منهما جائز ، ولا مانع عنه عدا ما عرفت من التعليل وهو غير صالح للمنع ، لتطرّق المنع إلى الملازمة المذكورة بناء على وجود الكلّي الطبيعي ـ كما حقّقناه ـ ومعناه : وجود الماهيّة بتمامها في ضمن كلّ فرد ، على معنى تشخّصها بلوازم الفرد ، ومن حكم وجودها أن يوجد معها جميع لوازمها لئلاّ يلزم الانفكاك بينهما ، فالنوع على تقدير تعلّق الوضع به في الواقع حيثما يوجد في ضمن شخص منه فإنّما يوجد موضوعا ، لدخوله بالقياس إليه في عداد اللوازم ولو من جهة جعل الجاعل واعتبار المعتبر.

والأصل في ذلك : أنّ الوضع هنا يراد به ما هو صفة اللفظ أعني اختصاص اللفظ بالمعنى ، وهو وإن كان وصفا اعتباريّا إلاّ أنّه بالقياس إلى الموضوع ـ وهو نوع الهيئة ـ من قبيل لازم الماهيّة في الوجود الخارجي ، ومعناه : إنّه يوجد حيثما وجدت الماهيّة في الخارج.

وبعبارة اخرى : أنّ الاختصاص يوجد مع كلّ حصّة من حصص الماهيّة

__________________

(١) شرح الوافية ـ للسيّد بحر العلوم ـ مخطوط.

٤٠٧

الموجودة في الخارج ، ويرشد إليه إنّه كما يصدق أنّ نوع هيئة « فاعل » مثلا مختصّ بمن قام به المبدأ ، كذلك يصدق إنّ شخص الهيئة الموجودة في « ضارب » مثلا مختصّ بمن قام به الضرب.

المبحث الثالث : فيما يتعلّق بالمشتقّات باعتبار مفاهيمها ومعانيها الموضوع لها ، وينبغي التكلّم فيه من جهات :

الجهة الاولى : قضيّة ما حقّقناه من ثبوت وضعين لكلّ مشتقّ تركّب مفهومه ، ضرورة اقتضاء تعدّد الوضع المقصود منه الدلالة تعدّد الدلالة ، وهو فرع على تعدّد المدلول ، كما أنّه فرع على تعدّد الدالّ من غير فرق في ذلك بين المشتقّات الفعليّة والاسميّة حتّى نحو اسمي الفاعل والمفعول ، وهو المعروف المشهور بين كافّة أهل العلم ، كما يشهد به عباراتهم المشحونة من تفسير اسم الفاعل بذات أو شيء له المبدأ ، أو الذات المتّصفة أو المتلبّسة بالمبدأ ونحو ذلك ، ممّا يؤدي مؤدّى هذه العبارات الظاهرة في التركّب ، خلافا لبعض الأعاظم القائل : بأنّ مفهوم المشتقّ ليس إلاّ أمرا بسيطا إجماليّا هو وجه من وجوه الذات الموصوفة الّتي وجد فيها المبدأ ، وصرّح به في موضع آخر أيضا مع التصريح بأنّ : غاية الأمر إنّه في تحليل العقل ينحلّ إلى ذات ووصف ، من دون دخول شيء من ذلك في المدلول ، بل الجميع انتزاعيّات عقليّة ، مستشهدا بأنّهم لا يفرّقون في العرف بين قولنا : « الوجود موجود » و « الله موجود » و « زيد موجود » و « الله عالم » و « زيد عالم » وتعبيرهم عن « العالم » في الفارسي بـ « دانا » وعن الأسود بـ « سياه » وعن الأبيض بـ « سفيد » وعن الحسن بـ « نيك » وهكذا (١).

وقد تبع في ذلك بعض أهل المعقول ، القائل بأنّ مفهوم المشتقّ معنى بسيط منتزع من الذات باعتبار قيام المبدأ بها ، ومتّحد معها في الوجود الخارجي.

فما اشتهر في العبائر والألسنة من أنّ معنى المشتقّ ذات أو شيء له المبدأ ،

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣١.

٤٠٨

فإمّا مسامحة منهم في التعبير وتفسير للشيء بلوازمه ، أو وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ المراد بالذات والشيء إن كان مفهومهما لزم دخول العرض العامّ في مفهوم الفصل فيكون الفصل عرضيّا للنوع ، لأنّ مفهوم الذات والشيء عرضي لأفراده ، والمركّب من الذاتي والعرضي لا يكون ذاتيّا بالضرورة ، وإن اريد ما صدق عليه الذات أو الشيء ـ فمع أنّه لا يناسب وقوعه محمولا ـ يلزم أن ينقلب مادّة الإمكان الخاصّ ضروريّة ، لأنّ ذاتا أو شيئا له الكتابة أو الضحك هو الإنسان لا غير ، فيصدق كلّ إنسان كاتب أو ضاحك بالضرورة ، لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري. انتهى.

وقد وجدنا هذا البيان في كلام المحقّق الشريف في حواشيه على شرح المطالع.

وتوضيح ـ ما قرّره من الدليل ـ : أنّ المشتقّ طائفة من أفراده ما اخذت فصولا في الحدود ، وطائفة اخرى ما اخذت محمولات في القضايا الممكنة الخاصّة كما في « كلّ إنسان كاتب أو ضاحك » فيلزم على مقالتهم من دخول الذات أو الشيء في مفهومه اختلال قانون الفصل ، من لزوم كونه كالجنس ذاتيّا للنوع على تقدير كون المراد بالذات أو الشيء مفهومه ، لكون مفهوم أحد الأمرين ـ بدليل الضرورة وعدم صحّة وقوعه جوابا للسؤال عن الشيء بما هو ، ولا بأيّ شيء هو في ذاته ، كما هو ملاك معرفة الذاتي عن العرضي ـ عرضيّا لأفراده الّتي منها النوع ، فيكون الفصل ـ الّذي هو ذاتي ـ من جهة دخول الأمر العرضي في مفهومه عرضيّا للنوع ، ضرورة عدم كون المركّب من الذاتي والعرضي ذاتيّا ، أو اختلال قانون القضيّة الممكنة الخاصّة من كونها ما حكم فيها بسلب ضرورة وجود المحمول وعدمه للموضوع ، على تقدير كون المراد بهما مصداق أحد الأمرين ، إذ « الكاتب » و « الضاحك » لا مصداق لهما إلاّ الإنسان ، وثبوت الإنسان لنفسه ضروري ، فيكون القضيّة المتقدّمة ما حكم فيها بضرورة ثبوت الكاتب والضاحك للإنسان فانقلبت الممكنة الخاصّة ضروريّة مطلقة ، وحينئذ إن اعتبر

٤٠٩

صدق القضيّة على كلتا الجهتين يلزم اجتماع النقيضين ، وإن اعتبر صدقها على جهة الضرورة يلزم سقوط الممكنة الخاصّة عمّا بين القضايا ، ويبطله ـ على ما قرّر في محلّه ـ دليل الخلف ، هذا مضافا إلى كون هذا التقدير على خلاف القانون المقرّر في الحمل من لزوم أخذ محمول القضيّة باعتبار المفهوم قبالا لموضوعها المأخوذ باعتبار المصداق.

وقد يفصّل في المقام بين ما لو كان المشتقّ للثبوت « كالأبيض » و « الأسود » و « الحسن » و « القبيح » و « العطشان » و « الجوعان » و « الشريف » و « الظريف » و « الطاهر » و « النجس » وما أشبه ذلك ، فإنّ المنساق منها ـ حسبما يجده الذوق السليم والوجدان المستقيم ـ ليس إلاّ امورا بسيطة ، ولذا يعبّر عنها في الترجمة الفارسية بـ « سفيد » و « سياه » و « خوب » و « بد » و « تشنه » و « گرسنه » و « أصل مند » و « شوخ » و « پاك » و « پليد » وهذه كلّها كما ترى مفاهيم بسيطة لا يعتبر فيها في العرف تركيب ، وبين ما لو كان للحدوث « كالضارب » و « القاتل » و « الناصر » و « البايع » وما أشبه ذلك ، فإنّ معانيها مفاهيم مركّبة تتضمّن نسبا إجماليّة ، ولذا يقال في ترجمتها الفارسية « زننده » و « كشنده » و « يارى كننده » و « فروشنده » وهذا التفصيل قد استفدناه من بعض مشايخنا مدّ ظلّه (١) فالأقوال ثلاث.

والتحقيق على ما يساعد عليه النظر هو الأوّل ، ووجهه ـ مضافا إلى ما مرّ من قضيّة ثبوت الوضعين ـ التبادر في مثل « أكرم العالم » و « رأيت عالما » على ما يدرك بالوجدان من انفهام الذات والوصف القائم بها ، ولذا يتردّد الذهن في الثاني لمكان الإبهام في الذات المدلول عليها ويصحّ السؤال عن تعيينه بعبارة « ومن العالم » مع ما في القول بالأمر البسيط المنتزع من فساده بعدم معقوليّة معنى هذه العبارة ، فإنّ معنى اللفظ الموضوع الدائر في الاستعمالات الجاري على لسان كافّة أهل اللسان لا بدّ وأن يكون أمرا معقولا مدركا بحسب الذهن يعرفه كلّ أحد ،

__________________

(١) ومن المظنون قويّا هو الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره.

٤١٠

ويمتنع كونه وضعا لما لا يعقله أحد أو لا يعقله إلاّ الأوحدي ، ونحن لا نتعقّل من الأمر البسيط المنتزع سوى اللفظ الخالي عن المعنى ، ولا يدخل في أذهاننا منه عدا عنوان بدون معنون ، بخلاف الذات والوصف القائم بها ، فإنّه أمر معقول مدرك يعرفه كلّ أحد.

ودعوى : إنّه يدرك بما يظهر في الترجمة الفارسية من الامور البسيطة المتقدّم ذكرها ، من نحو « دانا » و « سفيد » و « سياه » في مفهوم « العالم » و « الأبيض » و « الأسود ».

يدفعها : إنّ بساطة اللفظ لا يلازم بساطة المعنى.

ولا ريب أنّ مفاهيم الألفاظ العربيّة ليست الألفاظ الفارسيّة ، وإرادة التعريف بمعاني هذه الألفاظ توجب نقل الكلام إليها فإنّ هذه الألفاظ مرادفات للألفاظ العربيّة ، بناء على ما تقدّم في محلّه من حصول المرادفة بين لفظين من لغتين ، فالكلام الجاري في محلّ الكلام يجري بعينه في مرادفاته ، هذا مضافا إلى عدم قيام دليل ينهض بإثباته ، وما عرفته عن بعض المحقّقين فاسد الوضع.

فإنّ أوّل ما يرد عليه : إنّه بحسب المفهوم أعمّ من المدّعى ، إذ غاية ما يلزم منه بعد تسليم مقدّماته إنّما هو نفي دخول الذات أو الشيء مفهوما ومصداقا في مفهوم المشتقّ ، وهو أعمّ من البساطة ، لجواز دخول ما لا يستتبع المحذورين فيه وإن لم نعرفه بعينه.

ولا ريب إنّ الاحتمال في نحوه مبطل للاستدلال.

وثاني ما يرد عليه : أنّه بحسب المورد أخصّ من المدّعى ، إذ لا يجري إلاّ في بعض نادر من أفراد المشتقّ ، وهو ما اخذ فصلا أو محمولا في مادّة الإمكان الخاصّ.

وثالث ما يرد عليه : إنّه إن اريد به إنّ اختلال قانون الفصل أو مادّة الإمكان الخاصّ بالقياس إلى بعض أفراد المشتقّ في نظر أهل المعقول ، اللازم من دخول الذات أو الشيء مفهوما أو مصداقا في مفهومه ، ينهض حكمة باعثة على عدم أخذ شيء منهما بشيء من التقديرين فيه ، ليكون الدليل راجعا إليه بطريق اللمّ.

٤١١

ففيه : إنّ اللغة لا تثبت بالعقل ، ولا باعتبارات أهل المعقول.

وإن اريد أنّ صحّة وقوع بعض أفراد المشتقّ فصلا والبعض الآخر محمولا في نظر أهل المعقول ، ممّا يكشف عن عدم دخولهما في مفهوم المشتقّ بحسب أصل الوضع وإلاّ لم يكن صحيحا ، ليكون الدليل راجعا إليه من باب الإنّ ، نظير التبادر وغيره من كواشف الوضع.

ففيه : منع الكشف ، لجواز ابتناء الصحّة في نظرهم على نحو من النقل في خصوص ما وقع فصلا أو محمولا ، أو على تجريد المفهوم عن الذات أو الشيء مفهوما ومصداقا ، أو على أخذ المشتقّ في خصوص المقام بمعنى الأمر البسيط المنتزع من الذات باعتبار الوصف مجازا ، أو على أخذ الذات أو الشيء المأخوذ في مفهومه لغة بمعنى المصداق في الأوّل والمفهوم في الثاني ، فيندفع به المحذوران معا كما لا يخفى.

ورابع ما يرد عليه : اختيار ثاني شقّي الترديد على ما يساعد عليه النظر ومنع الانقلاب.

أمّا الأوّل فبيانه : إنّ الامور الواقعيّة والأشياء النفس الأمريّة مطلقا قد تلاحظ بحقائقها المأخوذة من حيث هي هي ، فتوضع لها ألفاظ شخصيّة منقسمة إلى أسماء الأجناس وأعلامها والنكرات وأعلام الأشخاص ، لمكان احتياجها إلى التعبير في مقام الإفادة والاستفادة إذا اخذت بتلك الحيثيّة بهذه الألفاظ ، وقد تلاحظ بحقائقها المأخوذة من حيث الصفات اللاحقة بها والأوصاف المضافة إليها ، فتوضع لها ألفاظ نوعيّة مختلفة بحسب اختلاف جهات إضافة الأوصاف إليها ، من حيث ثبوتها فيها ، أو وقوعها منها أو عليها ، أو فيها مكانا وزمانا أو بها ، أو نحو ذلك ممّا سيمرّ بك.

ومقتضى الحكمة وضرورة الوجدان في نحو ذلك أن يؤخذ من هذه الحقائق ـ لعدم انضباطها وعدم انحصارها ـ مفهوما جامعا لجميع شتاتها الكلّية والجزئيّة ، ليلزم من ملاحظته ملاحظتها إجمالا ، وقد جرت عادتهم بالتعبير عن هذا المفهوم الجامع بالذات أو الشيء ، وقد يكنّى عنه بالوصول.

٤١٢

وقد اختلف المتأخّرون في وضع الألفاظ النوعيّة لنفس هذا المفهوم. وقد مال إليه بعض الأعلام ، أو للمصاديق الّتي اخذ المفهوم منها ، وهي نفس الحقائق الملحوظة بالحيثيّة المذكورة ، كلّية وجزئيّة ، فيكون المفهوم إنّما لو حظ لمجرّد المرآتية كما عليه جمع من الاصوليّين ، وهو الأظهر بل المقطوع به من جهة استقراء موارد الاستعمالات وملاحظة كيفيّة إطلاقات المشتقّ ، مثل « الكاتب » ونحوه حيث لا نجد إطلاقه إلاّ على نفس الحقيقة من غير نظر إلى المفهوم.

ولا نجد فيها بين ما لو كانت الحقيقة كلّية أو شخصيّة فرقا ، بل نجد الإطلاق في الحقيقة الشخصيّة مع قيد الخصوصيّة نحوه في الحقيقة الكلّية ، فيراد من « الكاتب » تارة الحقيقة الكلّية المأخوذة بوصف الكاتبيّة.

واخرى الحقيقة الشخصيّة المأخوذة بهذا الوصف ، وإنّما يتبع ذلك لكلّية الذات الموصوفة به وجزئيّتها ، ففي مثل « الإنسان كاتب » يراد به الحقيقة الكلّية المأخوذة بهذا الوصف ، وفي مثل « زيد كاتب » يراد به الحقيقة الشخصيّة المأخوذة بهذا الوصف ، وهو في الكلّ يقع بحكم الاستقراء والوجدان على نحو الحقيقة ، فليس المشتقّ الواقع على الشخص على حدّ اسم الجنس الواقع عليه ، ليكون حقيقة في وجه ومجازا في وجه آخر.

فعلم بما قرّرناه : أنّ المراد بالذات أو الشيء المأخوذين في مفهوم المشتقّ إنّما هو مصداقهما ، أعني الحقيقة المأخوذة من حيث الوصف المستفاد من المادّة لجهة ثبوته فيها ، كما في المشتقّات الثبوتيّة ، أو لجهة وقوعه منها أو عليها أو فيها أو بها كما في المشتقّات الحدوثيّة.

وأمّا الثاني فبيانه : أنّ الجهة من الضرورة واللاضرورة وغيرهما إنّما تتبع النسبة المأخوذة في القضيّة ، وهي تتبع الحيثيّة الّتي اخذ المحمول محمولا بالنظر إليها ، فإن كان النظر فيه إلى حيث هي هي كما في « كلّ إنسان حيوان » لا بدّ وأن يعتبر الجهة راجعة إلى حيث هي هي ، ولذا يكون هذه القضيّة ضروريّة.

وإن كان النظر فيه إلى حيث الوصف كما « في كلّ إنسان كاتب » لابدّ وأن

٤١٣

يعتبر الجهة راجعة إلى حيث الوصف ، ولذا يكون هذه القضيّة ضروريّة إن اخذ وصف الكتابة بمعنى الكتابة بالقوّة ، وممكنة خاصّة إن اخذ الوصف بمعنى الكتابة بالفعل ، فإنّه الّذي ليس وجوده كعدمه ضروريّا للإنسان ، وحينئذ اندفع المنافاة بين كون ثبوت شيء لنفسه ضروريّا وبين كون القضيّة المذكورة ممكنة خاصّة على تقدير كون المراد بالذات المأخوذة في « كاتب » مصداقها الّذي هو الإنسان ، لأنّ ضروري الثبوت لنفسه إنّما هو الإنسان إذا اخذ من حيث هو هو.

وأمّا إذا اخذ من حيث وصف الكتابة ـ كما هو المقصود من هذه القضيّة ـ فلا ، لوضوح أنّ الضرورة واللاضرورة حينئذ إنّما تعتبر بالقياس إلى الوصف ، وعدم كونه ضروريّا ضروري.

وأمّا ما يقال في دفعه : من أنّ الذات المأخوذة مقيّدة بالوصف قوّة أو فعلا إن كانت مقيّدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة ، وإلاّ صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق « زيد كاتب بالضرورة » لكن يصدق « زيد الكاتب بالفعل أو بالقوّة كاتب بالضرورة ».

ففيه : من المغالطة ما لا يخفى ، فإنّ ما اخذ في الواقع قيدا لذات الإنسان المأخوذ موضوعا إنّما هو الوصف بالقوّة ، والمأخوذ في طرف المحمول ليس إلاّ الوصف بالفعل ، فكون الأوّل ضروريّا لذات الإنسان لا يناقض عدم ضروريّة الثاني ، فيصدق قولنا : « كلّ إنسان كاتب بالضرورة » مع قولنا : « لا شيء من الإنسان بكاتب بالإمكان » إذا اعتبر الأوّل بمعنى الكتابة بالقوّة والثاني بمعناها بالفعل.

وأمّا العلاوة الّتي ذكرها المستدلّ ، من عدم مناسبة الفرض لوقوع المشتقّ محمولا.

فيدفعها : إنّ المعتبر في الحمل إنّما هو الحكم بثبوت المحمول بمفهومه لمصاديق الموضوع ، ولا ينافيه كون المأخوذ في مدلول المشتقّ مصداق الذات ، بعد ملاحظة أنّ المراد به ما يعمّ الحقيقة الكلّية ، ففي مثل هذه القضيّة المتقدّمة

٤١٤

يحمل الإنسان الموصوف بوصف الكتابة بمفهومه الكلّي على مصاديق الإنسان المأخوذ موضوعا لا بشرط هذا الوصف.

وأمّا ما استشهد به بعض الأعاظم من الوجهين ، فيندفع ثانيهما : بما تقدّم من أنّ مداليل مشتقّات لغة العرب ليست الألفاظ الفارسيّة الّتي هي الامور البسيطة ، ودعوى : كون مداليل هذه الألفاظ امورا بسيطة كنفس الألفاظ مع كونها مرادفات لمشتقّات لغة العرب أوّل المسألة ، فتكون الاستناد إلى التعبير بها مصادرة.

كما يندفع أوّلهما : بأنّ عدم فرقهم بين الأمثلة المذكورة مسلّم ، لكنّه باعتبار أنّ المراد بالمشتقّ في الجميع إنّما هو الذات الموصوفة بوصف مدلول المادّة ، وإن كان مبناه في بعضها على تصرّف عقلي من جهة ضيق العبارة ، بتنزيل الموضوع من حيث اخذ في المحمول منزلة الذات الموصوفة بما زاد عليها من وصف مدلول المادّة ، على معنى إثبات وصف الوجود والعلم للوجود والباري تعالى ، ادّعاء ، وسيمرّبك زيادة تحقيق يتعلّق بهذا المقام.

الجهة الثانية : في بيان معاني المشتقّات بالمعنى الأعمّ من المصادر على وجه التفصيل والتعرّض لتحقيق ما يدخل فيها وما لا يدخل ، فنقول : إنّها على أنواع :

منها : المصادر ، وقد علم بجميع ما قرّرناه في المباحث السابقة ، إنّ المعنى الحدثي من حيث إنّه من الأعراض الّتي لو وجدت في الخارج لوجدت في الموضوع ، إن اخذ من حيث إنّه ماهيّة مقرّرة في نفس الأمر وجرّد النظر فيها عن جميع الخصوصيّات الّتي تضاف إليها ، كان مدلولا لما هو مبدأ المشتقّات ، وهي الحروف الأصليّة الّتي يتساوي نسبتها إلى الجميع حتّى المصادر ، وإن اخذ من حيث الوقوع بالمعنى الشامل للتجدّد والحدوث ، كان مدلوللا للفظ المصدر ، بمعنى إنّه باعتبار هيئته المتنوّعة ـ بأنواعها المتقدّم إليها الإشارة ـ موضوع للدلالة على وقوع الحدث ، كما يكشف عنه ما يظهر في ترجمته الفارسيّة من لفظي « الدال والنون » أو « التاء والنون » وهو الّذي قد يعبّر عنه بالنسبة الإجماليّة ، ولا يدخل في مفهومه سوى ما ذكر ـ حتّى الذات والزمان والنسبة التفصيليّة ـ باعتبار الوضع.

٤١٥

نعم قد يرد إطلاقه على ما دخل فيه الذات مجازا ، كما في « زيد عدل » في غير مقام المبالغة ، وفي « خلق الله » ثمّ إنّه قد يعتبر الوقوع في مفهومه بحيث تصحّ إضافته إلى فاعل الحدث وموجده ، فيسمّى بهذا الاعتبار بالمصدر المبنيّ للفاعل ، وقد يعتبر بحيث تصحّ إضافته إلى المفعول به ، فيسمّى بهذا الاعتبار بالمصدر المبنيّ للمفعول ، وفي كونه حقيقة في الأوّل خاصّة أو في الثاني كذلك ، أو فيهما معا على طريقة الاشتراك لفظا أو معنى ، أوجه ، أوجهها الأوّل لأمارة التبادر ، فإنّ المتبادر من نحو « الضرب » و « القتل » إنّما هو الحدث الخاصّ من حيث الوقوع بمعنى الفاعليّة لا هو بمعنى المفعوليّة ، هذا مضافا إلى قاعدة غلبة الاستعمال وندرته ، مع أصالة المجاز في مقابلة الاشتراك لفظا.

ثمّ ينبغي أن يعلم : إنّ الوقوع المأخوذ على هذا الوجه وإن كان بحسب الواقع لازم الإضافة إلى الفاعل ، غير أنّ الإضافة إليه فعلا لم تعتبر في وضع المصدر ، بأن تكون جزءا لمدلوله الوضعي وإلاّ انقلبت النسبة الإجماليّة تفصيليّة ، وهو خلاف ما يساعد عليه ظاهر اللفظ بحسب العرف.

فما عن بعض المحقّقين في الفرق بينه وبين اسم المصدر من أنّ المصدر موضوع للحدث من حيث اعتبار تعلّقه بالمنسوب إليه على الإبهام ، ولذا يقتضي الفاعل والمفعول ويحتاج إلى تعيينهما في استعماله ، واسم المصدر موضوع لنفس الحدث من حيث هو بلا اعتبار تعلّقه بالمنسوب إليه ، وإن كان له تعلّق في الواقع ، ليس على ما ينبغي.

وقريب منه أو يرادفه ما عن بعضهم في الفرق أيضا ، من أنّ المعنى الّذي يعبّر عنه بالفعل الحقيقي ومبدأ الفعل الصناعي إن اعتبر فيه تلبّس الفاعل به وصدوره منه وتجدّده ، فاللفظ الموضوع بإزائه مقيّدا بهذا القيد يسمّى مصدرا ، وإن لم يعتبر فيه ذلك فاللفظ الموضوع بإزائه مطلقا عن هذا القيد المذكور هو اسم المصدر.

فإنّ هذا البيان بكلّ من التقريرين يعطي بظاهره كون المصدر ما اخذ في مدلوله النسبة التفصيليّة ، وإن لم يدخل معه المنسوب إليه بعنوان الجزئيّة ، وهو ممّا يكذبه ضرورة الوجدان والاستعمال.

٤١٦

ولمّا انجرّ الكلام إلى ذكر اسم المصدر فلا بأس بالنظر إلى الفرق بينه وبين المصدر ، على ما يساعد عليه النظر ، فنقول :

ينبغي أن يقطع أنّ الإضافة في اسم المصدر ليست بيانيّة ، وعلى تقدير كونها لاميّة ـ كما هو المتعيّن ـ فيحتمل كون معناها اسم مدلوله المصدر ، أو اسم مدلول المصدر وإن لم يكن هو بنفسه مصدرا ، أو اسم معلوله ما هو حاصل من المصدر.

ولعلّه لتوهّم الوجه الأوّل قيل في الفرق بينهما : إنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه ، واسم المصدر يدلّ على الحدث بواسطة المصدر ، فمدلول المصدر معنى ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر.

ولتوهّم الوجه الثاني قيل : إنّ اسم المصدر ما ليس على أوزان مصدر فعله ، ولكن بمعناه.

ولتوهّم الوجه الثالث قيل : إنّ المصدر يدلّ على الحدث ، واسمه على الهيئة الحاصلة بسببه ، كما يقال في الفارسيّة « رفتن ورفتار كردن ، وكردار » « خوردن وخوردار » وفي معناه ما استظهره جمال الملّة والدين في حاشية الروضة (١) من أنّ المصدر موضوع لفعل الأمر أو الانفعال به ، واسم المصدر موضوع لأصل ذلك الأمر ، فالاغتسال مثلا عبارة عن إيجاد امور مخصوصة هي أفعال تدريجيّة مخصوصة ، والغسل عبارة عن نفس تلك الامور ، وإن ذكره هو بتخيّل كونه مغايرا لسابقه.

وتحقيق المقام ـ على ما يرشد إليه التدبّر في كلام أئمّة اللغة ، وكلمات الأعلام ـ إنّ الفرق بينهما معنوي لا أنّه لمجرّد اللفظ ، وإنّ اسم المصدر بحسب المعنى ليس من مقولة اللفظ ليكون مدلوله لفظ المصدر ، بل الفرق بينهما بحسب الذهن كالفرق بين حصول الشيء ونفس الشيء الحاصل.

وبعبارة اخرى : وقوع الشيء ونفس الشيء الواقع ، وبحسب الخارج كالفرق بين الشيء المتضمّن للنسبة والشيء المعرّى عنها ، فإنّ المصدر باعتبار مدلوله

__________________

(١) حاشية الخوانساري على الروضة البهيّة : ٩ ( الطبعة الحجرية ).

٤١٧

يتضمّن نسبة إجماليّة يعبّر عنها بالحصول أو الوقوع المضاف إلى الحدث ، واسمه باعتبار مدلوله معرّى عنها ، لأنّه عبارة عن نفس ذلك الشيء الحاصل وهو الحدث ، ولذا يكون حاصلا بالمصدر على ما حقّقه المحقّقون.

ومن حكم ذلك الفرق بحسب اللغة ، أن يعمل المصدر باقتضاء الفاعليّة ـ بل المفعوليّة ـ حيثما كان صالحا لأخذ المفعول ، لتضمّنه النسبة المقتضية للمنسوب إليه فاعلا ومفعولا ، ولا يعمل اسمه لعدم تضمّنه النسبة المقتضية لهما ، وبحسب العقل والاعتبار : إنّ الخارج بالقياس إلى حصول الشيء ظرف لنفسه لا لحصوله ، لئلاّ يلزم التسلسل ، وبالقياس إلى الحاصل ظرف لحصوله لا لنفسه ، فإنّ الأوّل من قبيل الأمر الخارجي كوجود زيد وحصول القيام ، والثاني من قبيل الموجود الخارجي كنفس « زيد » وقيامه.

ومن المقرّر في محلّه إنّ الأوّل ما كان الخارج ظرفا لنفسه لا لوجوده ، والثاني ما كان الخارج ظرفا لوجوده لا لنفسه.

وعلى هذا الفرق ينطبق ما عن بعض حواشي الكشّاف (١) في سورة الزلزال من الفرق بينهما : بأنّ المصدر له معنى معقول نسبي لا يكون الخارج ظرفا لوجوده ، واسم المصدر له معنى حاصل فيمن قام به المصدر ، ليس بأمر نسبي يكون الخارج ظرفا لوجوده ، يقال له : الحاصل بالمصدر.

فإنّ هذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه في الفرق بينهما.

والعجب عن جمال الملّة والدين حيث غفل عن حقيقة هذا الفرق ، فاعترض عليه ، بأنّ الظاهر إنّ المصدر عبارة عن الفعل أو الانفعال به ، وهما عندهم مقولتان من العرض ، وقد اعتبر فيه الوجود الخارجي.

وأيضا : لا ريب أنّ الحاصل بالمصدر قد لا يكون موجودا خارجيّا (٢).

ويندفع الأوّل : بأنّ العرض الّذي اعتبر فيه الوجود الخارجي قد يلاحظ من

__________________

(١) حكاه الخوانساري في حاشيته على الروضة البهية : ٩ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) نفس المصدر السابق.

٤١٨

حيث عروضه ، وقد يلاحظ من حيث إنّه عارض ، والوجود الخارجي إنّما اعتبر فيه من الجهة الثانية ، لكونه من هذه الجهة موجودا خارجيّا ، والخارج ظرف لوجوده.

وأمّا هو من الجهة الاولى فلا يمكن اعتبار الوجود الخارجي له ، لأنّ حيث العروض في الأعراض هو حيث الوجود ، ولا يعقل للوجود وجودا آخر.

كما يندفع الثاني : بأنّ اسم المصدر بالمعنى المذكور يتبع مصدره ، فالحاصل من دون الحصول غير معقول ، فالشيء إن كان لحصوله خارج فلنفسه أيضا خارج البتّة.

غاية الأمر أنّ الخارج إن اخذ مقيسا إلى حصوله كان ظرفا لنفس الحصول ، وإن اخذ مقيسا إليه نفسه كان ظرفا لحصوله لا لنفسه ، كما عرفت.

وإلى ما قرّرناه من الفرق يمكن إرجاع ما استظهره هو رحمه‌الله ، بل وسابقه أيضا بضرب من التوجيه في الحدث المأخوذ مدلولا للمصدر ، بحمله عليه من حيث الحدوث لا من حيث إنّه حادث ، كما هو ظاهر التعبير بلفظ « الحدث » والهيئة الحاصلة بسببه لا محصّل لها إلاّ الحالة القائمة بالذات ، اللازمة للحصول بحسب الخارج ، ولا تكون إلاّ نفس الحاصل المعرّى في مدلول اسم المصدر عن حيث الحصول ، كما لا يخفى.

وبجميع ما بيّنّاه يظهر لك ضعف الفرق بينهما بأحد الوجهين الأوّلين ، فإنّ قضيّة أوّلهما كون اسم المصدر بحسب المعنى من مقولة اللفظ ، وقد عرفت فساده.

كما أنّ قضيّة ثانيهما كون الفرق بينه وبين المصدر لفظيّا حاصلا لمجرّد اللفظ ، من حيث إنّ المصدر ما يندرج لفظه في أوزان مصدر فعله واسمه ما لا يندرج فيها ، وقد علمت بطلانه.

ومثله في الضعف والبطلان ما قيل أيضا أنّ الاسم الدالّ على مجرّد الحدث إن كان علما « كفجار » و « حماد » علمين « للفجرة » و « المحمدة » بفتح الميم الاولى وكسر الثانية ، أو كان مبدوّا بميم زائدة لغير المفاعلة « كمضرب » و « مقتل » أو كان

٤١٩

على أوزان المصدر المجرّد وهو لمعنى المصدر المزيد فيه كغسل ووضوء ، فهو اسم مصدر وإلاّ فهو مصدر ، فإنّ ذلك يعطي كون الفرق بينهما لمجرّد اللفظ ، فاسم المصدر لفظ كان على أحد الامور الثلاث من المعرفة أو البدئة بميم زائدة أو موازنة المصادر المجرّدة ، والمصدر لفظ تجرّد عن جميع هذه الامور مع اشتراكهما في المعنى من حيث الدلالة على الحدث.

وهو باطل جدّا ، مع عدم اطّراده في جميع أسماء المصادر ، فإنّ « الظهر » مع إنّه اسم مصدر بنصّ أئمّة اللغة لا يندرج في شيء من الأقسام الثلاثة ، وكذلك « الستر » بالكسر الّذي مصدره الستر بالفتح ، مع ما قيل : من أنّ المبدوّ بميم زائدة لغير المفاعلة مصدر يسمّى المصدر الميمي ، وإنّما سمّوه أحيانا اسم مصدر تجوّزا.

ومنها : فعلا الماضي والمضارع ، واعلم : أنّه ذكر جماعة من الاصوليّين إنّ فعل الماضي موضوع الدلالة على قيام حدث مخصوص بفاعل مّا في الزمان الماضي ، فاستعماله فيما تجرّد عن الزمان ـ كما في صيغ العقود ـ أو فيما اقترن بزمان غير ماض مجاز ، كما أنّ استعماله في حدث غير ما هو مبدئه مجاز ، وفعل المضارع موضوع للدلالة على قيام حدث مخصوص بفاعل مّا في زمان الحال ـ كما رجّحناه في مباحث الاستعمال ـ أو الاستقبال فقط في قول ، أو فيهما على الاشتراك لفظا أو معنى في قولين آخرين ، اختار ثانيهما بعض الفضلاء ، فاستعماله فيما اقترن بزمان ماض أو تجرّد عن الزمان مطلقا ـ كما في الإنشاء في وجه ـ مجاز ، وهذا لا يخلو عن اجمال وإشكال.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعنى المذكور للفعلين ينحلّ عند التحليل إلى امور خمس : الحدث ، والذات المبهمة ، والزمان المعيّن ، ونسبة الحدث إلى الذات المبهمة من حيث وقوعه منها ، ونسبته إلى الزمان المعيّن من حيث وقوعه فيه ، ولا يدرى أنّ المأخوذ في وضع الفعل هل هو جميع هذه الامور أو بعضها؟ وإنّه على الثاني أيّها داخل في الوضع ليكون الدلالة عليه مطابقة أو تضمّنا ، وأيّها خارج عنه ليكون الدلالة التزاما؟

٤٢٠