تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

إلى تحقّق الماهيّة وصدق الاسم ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا التزم بمدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في الجملة.

وحينئذ فيتردّد المسمّى على مقالته بين ما اخذ فيه الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة خاصّة ، وما اخذت فيه في طرف النقيصة كذلك.

وتصويره على التقدير الأوّل بأن يقال : إنّ الشارع تعالى قد لا حظ الأجزاء الواقعيّة الّتي اعتبرها في حقّ الحاضر المختار من جميع الجهات بتلك الهيئة الاجتماعيّة الطارئة لها بسبب انضمام هذه الأجزاء بعضها إلى بعض ، ثمّ وضع اللفظ بإزائها بشرط هذه الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة ، ولا بشرطها في طرف النقيصة.

وقضيّة ذلك بحكم الفرض أن يسري الوضع إلى الناقص بجميع مراتبه ، الّذي هو في كلّ مرتبة وظيفة نوع من المكلّفين ، المختلفين بحسب اختلاف أحوالهم المأخوذة من باب الموضوعيّة ، من غير فرق فيه بين صحيحه وفاسده في كلّ مرتبة ، فيكون الاستعمال في كلّ من هذه الوظائف ـ صحيحة أو فاسدة ـ على وجه الحقيقة ، لا على أنّه من باب استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد ليكون حقيقة في وجه دون وجه آخر ، بل على أنّه استعمال في نفس الموضوع له.

وبذلك يمتاز هذه المقالة عن مقالة الصحيحي ، فإنّه لالتزامه بأخذ الهيئة الاجتماعيّة مطلقا في المسمّى الموضوع له ، يتوجّه إليه أحد المحذورين من عدم كون وظائف سائر المكلّفين الّتي هي ناقصة بالقياس إلى وظيفة الحاضر المختار صلاة على وجه الحقيقة ، أو تعدّد الماهيّات المستدعي للاشتراك المستلزم للاستعمال في أكثر من معنى.

وعلى التقدير الثاني بأن يقال : إنّه لا حظ من الأجزاء ما يتقوّم به الصورة النوعيّة ، وهو أقلّ مصاديق اللفظ ، كالأركان الأربعة مثلا ـ على ما زعمه بعض الأعلام ـ بما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة بسبب الانضمام ، فوضع اللفظ بإزائها بشرط هذه الهيئة في طرف النقيصة ولا بشرطها في الطرف الآخر.

٣٤١

ولازمه أن يسري الوضع بحكم الفرض إلى الزائد بجميع مراتبه إلى أن يبلغ وظيفة الحاضر المختار ، من غير فرق في هذه المراتب بين صحيحه وفاسده ، فيكون الاستعمال في جميع هذه المراتب على وجه الحقيقة ولو بالقياس إلى الفاسدة في كلّ مرتبة ، لا على أنّه استعمال اللفظ الموضوع للكلّي في الفرد لئلاّ يكون حقيقة إلاّ في وجه ، بل على أنّه استعمال في نفس المسمّى الموضوع له.

وبه يمتاز أيضا هذه المقالة عن مقالة الصحيحي ، فإنّه لالتزامه بما عرفت لا مناص له عن أحد المحذورين ، مع التزامه بالمجاز في فاسدة كلّ مرتبة من الزائد والناقص على تقدير التزامه بتعدّد الماهيّات ، وهذا هو المراد من قولهم : كون اللفظ اسما للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، ومحصّله كونه بحكم إلغاء الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة في الجملة لكلّ من الزائد والناقص صحيحهما وفاسدهما ، بل هو المعنى المراد من كونه اسما للقدر المشترك بين الزائد والناقص أو الصحيح والفاسد ، بناء على أنّ القدر المشترك هنا عبارة عن عدّة امور خارجيّة اعتبرت لا بشرط ما طرئها من الهيئة الاجتماعيّة مطلقا أو في الجملة ، كما هو الضابط الكلّي في القدر المشترك بين الزائد والناقص ، فيكون اللفظ في جميع مراتب الزيادة والنقصان مقولا بالاشتراك المعنوي.

وبذلك يعلم الفرق بين المشترك المعنوي واللفظ الموضوع للكلّي ، فإنّ الأوّل أعمّ مطلقا من الثاني ، إذ القدر المشترك الّذي يوضع بإزائه اللفظ إمّا أن يكون مشتركا بين امور مختلفة بالزيادة والنقصان ـ حسبما فسّرناه مرارا ـ فهو مادّة الافتراق ، أو بين امور مختلفة بغيرهما من سائر مشخّصات أفراد الماهيّات المتأصّلة كالإنسان في أفراده فهو مادّة الاجتماع ، فنحو لفظ « الإنسان » مشترك معنوي وكلّي ، بخلاف نحو لفظ « القرآن » و « الصلاة » فإنّه مشترك معنوي لا غير ، ومن حكم الكلّي كون صدقه على موارده صدقا حمليّا ، وكون إطلاقه على كلّ من موارده على طريق الحقيقة في وجه والمجاز في آخر ، بخلاف القسم الآخر من المشترك المعنوي فإنّ صدق القدر المشترك فيه على موارده ليس حمليّا ، وإطلاقه على كلّ من موارده يرد على وجه الحقيقة لا غير.

٣٤٢

وبما قرّرناه جميعا يندفع ما قد يورد على القول بالأعمّ ، من أنّ وضع اللفظ للقدر المشترك بين الزائد والناقص على وجه يكون استعماله في الزائد والناقص على وجه الحقيقة غير معقول ، إمّا لعدم معقوليّة القدر المشترك بينهما ، أو لعدم معقوليّة كون الاستعمال على وجه الحقيقة حتّى في الزائد ، وذلك لأنّ الزيادة في الزائد إمّا أن يراد بها ما يدخل في حقيقة القدر المشترك ، أو ما يدخل في حقيقة الفرد ، على معنى كونها من مشخّصات الفرد الزائد.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه ضرورة امتناع اختلاف المعنى الواحد بالزيادة والنقصان ، فإنّ دخول الزيادة في حقيقة القدر المشترك يقضي بدخول النقصان فيها لكونه مشتركا بينهما ، فيلزم كون ماهيّة واحدة زائدة وناقصة وهو محال ، والثاني يقضي بكون الاستعمال في الزائد على وجه المجاز ، لفرض خروج الزيادة عن الموضوع له وقد دخلت في المستعمل فيه.

ووجه الاندفاع : إنّ القدر المشترك بين الزائد والناقص ليس على حدّ القدر المشترك بين زيد وعمرو وغيرهما من أفراد الماهيّات المتأصّلة ، ليسأل عن دخول الزيادة في حقيقته أو في حقيقة الفرد ، ويلزم كون الاستعمال في الفرد على تقدير دخوله في حقيقته مجازا ، بل هو على ما عرفت عبارة عن عدّة امور منضمّ بعضها إلى بعض ، اعتبرت في لحاظ الوضع لا بشرط ما طرئها بالانضمام من الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة مطلقا أو في الجملة.

وقد عرفت إنّ اللازم من وضع اللفظ له بهذا المعنى وبالاعتبار المذكور ، وقوع كلّ من فرديه الزائد والناقص بنفسه موضوعا له ، فكلّ من مجموع الامور المذكورة وما زاد عليها في وجه وما نقص عنها في آخر يقع مسمّى اللفظ ، ولازمه انتفاء المجاز عن استعمالاته مطلقا.

وكما يندفع به هذا الإشكال فكذلك يندفع به ما قد يورد على بعض الأعلام حيث اعترض على القول بالصحيحة بلزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلا إلى أن قال :

٣٤٣

وأمّا على القول بالأعمّ فلا يلزم شيء من ذلك ، لأنّ هذه أحكام مختلفة ترد على ماهيّة واحدة ، من أنّ ذلك مشترك الورود ، إذ لا يعقل وجود القدر المشترك بين الزائد والناقص ، ولا يعقل تبادل أجزاء ماهيّة واحدة (١).

ووجه الاندفاع : إنّ القائل بالأعمّ حيث لا يأخذ الهيئة الاجتماعيّة في مسمّى اللفظ في الجملة في فسحة من هذا المحذور ، والقدر المشترك بين الزائد والناقص بالمعنى المتقدّم أمر معقول ، بل واضح يدركه الوجدان السليم ، وتبادل أجزاء الماهيّة بهذا المعنى لا ضير فيه ، كما هو أمر معقول بل واضح ، ومن لوازم القدر المشترك بهذا المعنى قبوله من الزيادة ما هو معتبر في وظائف طائفة من أنواع المكلّفين المختلفين بحسب اختلاف أحوالهم ، ومن النقيصة ما هو معتبر أيضا في وظائف طائفة اخرى ، وهذه هي الأحكام المختلفة الواردة على ماهيّة واحدة ، هي القدر المشترك المذكور.

وينبغي التنبيه على امور :

منها : إنّ الأظهر بل المتعيّن على مقالة الأعمّي هو الوجه الثاني ، وهو ما كانت الهيئة الاجتماعيّة ملغاة عن المسمّى في طرف الزيادة ، وإلاّ لزم صحّة إطلاق اللفظ على الجزء أيضا ، وهو باطل كما عرفت.

ومنها : إنّ ما عرفته إنّما هو في تصوير الصحّة والعموم بالنسبة إلى الأجزاء ، وأمّا بالنسبة إلى الشرائط فتصويره واضح ، فإنّ أجزاء الماهيّة كما كان يعرضها الهيئة الاجتماعيّة بسب الانضمام فكذلك يعرضها هيئة اخرى بسبب لحوق الشرائط بها ، فمرجع القول بالصحيحة إلى أخذ هذه الهيئة أيضا في المسمّى ، كما إنّ مرجع القول بالأعمّ إلى منع ذلك ، بدعوى : إنّ ماهيّة المسمّى إنّما اخذت في لحاظ الوضع لا بشرط هذه الهيئة أيضا ، كما اخذت لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة في الجملة.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤.

٣٤٤

وأمّا القول المفصّل بين الأجزاء والشرائط ، فمرجعه إلى أخذ إحدى الهيئتين دون الاخرى.

ومنها : إنّ قضيّة اختلاف وظائف المكلّفين بالزيادة والنقصان وتبادل الأجزاء باعتبار اختلاف أحوالهم ، المقتضية لاعتبار الزيادة وسقوطها أو تبادل الأجزاء ، كون الصحّة والفساد كالزيادة والنقصان أمرين إضافيّين ، يضاف كلّ منهما إلى مكلّف ، وعليه فالناقص فاسد بالإضافة إلى من وظيفته الزائد ، وصحيح بالقياس إلى من هو وظيفته ، فهو صحيح وفاسد بالاعتبارين.

ومن هنا ربّما يشكل الحال في انطباق هذين الوصفين مع ورودهما على محلّ واحد على ما تقدّم في شرح الصحّة والفساد ، فإنّ الزيادة المعتبرة في الزائد إن كان لها مدخل في ترتّب الأثر المقصود من العبادة فكيف يتصوّر كون الناقص صحيحا بالمعنى المتقدّم ، وفرض كونه صحيحا بهذا المعنى يقضي بسقوط اعتبار الزيادة وعدم كونها ممّا له مدخل في ترتّب الأثر.

لكن على تقدير كون الأثر المقصود من العبادة هو مجرّد التقرّب ورفع الدرجة ، فدفع الإشكال هيّن بعد ملاحظة أنّ هذا الأثر من توابع الأمر الّذي مداره على جعل الأمر الّذي هو تابع للمقدور بل الميسور المختلفين بحسب أحوال المكلّف.

وأمّا على تقدير كونه أمرا آخر من المصالح الخفيّة النفس الأمريّة ، فلا بدّ في دفعه من التزام كونه مع اتّحاده بحسب الجنس مختلفا بحسب المراتب في الكمال والنزول ، أكملها ما يترتّب على أكمل المركّبات من حيث الأجزاء والشرائط ، وأنزلها ما يترتّب على أقلّها جزءا وشرطا ، مع كونه في كلّ مرتبة ملزما ، على معنى كونه مقتضيا للزوم إدراكه لولا المانع من عذر أو عسر أو غيره ، وعليه فلا تنافي أيضا بين الصحّة والفساد اللاحقين بمركّب واحد بالقياس إلى مكلّفين باعتبار مدخليّة الزيادة في ترتّب الأثر وعدم مدخليّتها فيه بالاعتبارين ، فإنّ المقصود من الزائد بالقياس إلى من هو وظيفته نحو من مرتبة المصلحة ليس مقصودا من

٣٤٥

الناقص بالقياس إلى من هو وظيفته ، فالزيادة له مدخليّة في ترتّب هذا النحو من مرتبة المصلحة ، وهذا لا ينافي كون الناقص بحيث يترتّب عليه نحو آخر من مرتبة المصلحة هو المقصود منه في حقّ من هو وظيفته لا غير ، من دون أن يكون للزيادة مدخل في ترتّب هذا النحو من المرتبة أيضا.

وإن شئت فاستوضح ذلك بملاحظة الاجرة على نوع عمل الّتي يختلف مراتبها في الكمال والنزول على حسب اختلاف أفراد العمل بالزيادة والنقصان أو القلّة والكثرة.

المقدّمة السادسة : في تحقيق الحال في ثمرة المسألة ، فاعلم : أنّ المشهور فيما بينهم المذكور في جملة من الكتب الاصوليّة ، إنّ الثمرة تظهر في البناء على أصل البراءة في العبادة عند الشكّ في مدخليّة شيء فيها جزءا أو شرطا وعدمه ، فعلى القول بالأعمّ يتّجه البناء عليه في نفي المدخليّة ، لصدق الاسم وتحقّق الماهيّة بدون المشكوك فيه ، مع عدم مساعدة الدليل على اعتباره ، لا بمعنى أنّ مفاد الأصل إنّما هو عدم الجزئيّة أو الشرطيّة بحسب الواقع ، ليرد عليه : أنّه ممّا لا تعلّق له بالواقع بل شأنه إعطاء حكم ظاهري يتعبّد به في مقام العمل ، بل بمعنى إجراء آثار عدم الجزئيّة وعدم الشرطيّة من عدم كون الإخلال بالمشكوك فيه مفسدا للعبادة وعدم كونه موجبا للإعادة والقضاء اعتمادا عليه من باب الالتزام بالحكم الظاهري ، وإن كان المشكوك فيه جزءا أو شرطا بحسب الواقع إلى أن يثبت خلافه بالدليل ، فيبنى المسألة حينئذ على الإجزاء في الأمر الظاهري الشرعي وعدمه.

وعلى القول بالصحيحة لا يتّجه البناء عليه ، من حيث عدم تبيّن صدق الاسم ولا تحقّق الماهيّة بدون المشكوك فيه ، للجهل بالمسمّى بعدم معلوميّة تمام الأجزاء والشرائط ، فيجب الإتيان بجميع المحتملات تحصيلا للبراءة اليقينيّة الّتي يستدعيها الشغل اليقيني ، كما أنّه كذلك على القول بالأعمّ لو كان الشكّ في المدخليّة بحيث رجع إلى الصدق وتحقّق المسمّى بدون المشكوك فيه.

٣٤٦

ومحصّله : إنّ اللازم من ذلك إنّما هو البناء على الاشتغال ، المقتضي لإجراء أحكام الجزئيّة أو الشرطيّة من باب الالتزام بالأحكام الظاهريّة إلى أن يعلم خلافه بالدليل.

وأمّا على القول بالتفصيل فهو كالقول بالأعمّ إذا كان المشكوك فيه من مقولة الشرائط ، والصحيحة إذا كان من مقولة الأجزاء.

نعم قد يشكل الأمر حينئذ إذا تعلّق الشكّ بالجزئيّة والشرطيّة معا ، بأن يشكّ في الاعتبار ، ثمّ الجزئيّة والشرطيّة على تقدير الاعتبار ، كما في النيّة مثلا.

لكن قد يقال : بأنّه يرجع إلى مسألة دوران الأمر بين الجزئيّة والشرطيّة ، فيؤخذ بموجب الأصل فيها ـ إن كان ـ فيبنى على البراءة أو الاشتغال ، وإلاّ فلا مناص من الاشتغال مطلقا لرجوع الشكّ إلى الصدق.

وقد عدل جماعة من متأخّري المتأخّرين ، ولا سيّما المعاصرين من مشايخنا وغيرهم عن هذه الثمرة ، بزعم أنّ المسألة إنّما تثمر في البيان والإجمال ، إذ القول بالأعمّ يرجع إلى دعوى كون ألفاظ العبادات من المبيّنات فيعامل معها معاملة المبيّن ، فيدفع احتمال المدخليّة عند الشكّ في الجزئيّة كالسورة مثلا أو الشرطيّة كالطهارة من الخبث مثلا بأصالة الإطلاق.

وليس المراد بالشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة ما يرجع إلى الماهيّة لينافي الفرض ، فإنّ اللفظ على هذا التقدير يصير مجملا والإطلاق ينافيه ، بل ما يرجع إلى المطلوب بعد إحراز الماهيّة بدون المشكوك فيه ، ومعنى كونه جزءا أو شرطا كونه كذلك بالنسبة إلى المطلوب وقيدا بالنسبة إلى الماهيّة ، فيكون الشكّ راجعا إلى الإطلاق والتقييد.

ومن البيّن أنّ الإطلاق ينهض مع عدم ورود بيان القيد بيانا لعدم التقييد ، بخلاف القول بالصحيحة فإنّ مرجعه إلى دعوى كونها من المجملات لفرض كونها أسامي للمركّبات التامّة الجامعة للأجزاء الواقعيّة والشرائط النفس الأمريّة ، وحيث إنّ تمام الأجزاء والشرائط غير معلوم ، فالماهيّة غير محرزة بدون

٣٤٧

المشكوك فيه ، ومعه لا إطلاق يتمسّك به في نفي الجزئيّة أو الشرطيّة ، وعليه فلا مناص عن مراجعة الاصول العمليّة المحرزة للأحكام الظاهريّة ، إمّا بالبناء على البراءة أو على الاشتغال على الخلاف في الاصول.

وبالجملة : فاللفظ عند الأعمّي. ليس مجملا ، بل هو على حدّ سائر المطلقات فيؤخذ بما علم كونه جزءا للمطلوب وقيدا للماهيّة بدليل خارج ، وينفى الجزئيّة عمّا لم يساعد عليه الدليل تمسّكا بالإطلاق ، فيحكم بكون المطلوب هو الماهيّة المعرّاة عن المشكوك فيه حكما إنّيّا من باب الانتقال عن الظواهر إلى المطالب ، بخلاف الصحيحي فإنّ اللفظ عنده مجمل ، والإجمال ينافي الإطلاق ، فلا مرجع له إلاّ أحد الأصلين.

ثمّ اعترضوا على الثمرة الاولى ، بمنع الملازمة : فإنّ القول بالأعمّ غير ملازم للبناء على أصل البراءة ، كما أنّ القول بالصحيحة غير ملازم للبناء على أصل الاشتغال ، بل مبنى الأخذ بأحد الأصلين على ترجيح أدّلة ذلك الأصل من العمومات وغيرها ، فمن ترجّح في نظره أدلّة البراءة يرجع إليها في مظانّه ، وإن كان في المسألة صحيحيّا.

غاية الأمر إنّه إذا كان أعمّيّا يتعاضد عنده في خصوص ألفاظ العبادات الأصلان ، الاجتهادي وهو الإطلاق ، والعملي وهو البراءة ، بمعنى أنّه بعد التمسّك بالإطلاق يتمسّك بأصل البراءة من باب التأييد ، ومن ترجّح في نظره أدلّة الاشتغال بمعنى الاحتياط يرجع إليه في مظانّه ، وإن كان أعمّيّا في المسألة.

غاية الأمر إنّه إذا كان أعمّيّا يتعارض في نظره الأصلان في خصوص ألفاظ العبادات ، وحيث إنّ أصل الاشتغال أصل تعليقي ـ كأصل البراءة ـ معلّق اعتباره بل انعقاده على فقد الأصل الاجتهادي فلا حكم له مع نهوض الإطلاق بيانا لعدم التقييد ، رافعا للشكّ في البراءة.

وممّا يؤيّد ضعف الثمرة المذكورة ، إنّ أدلّة الأصلين مضبوطة ليس منها كون ألفاظ العبادات أسامي للأعمّ ولا كونها أسامي للصحيحة ، ولم يعهد عن أحد من

٣٤٨

أصحاب البراءة التمسّك بذلك تحكيما لهذا الأصل على مقابله ، ولا عن أحد من أصحاب الاشتغال التمسّك بنحوه تحكيما لأصله على مقابله.

نعم من صور موضع النزاع في الأصلين كون الشبهة ناشئة عن إجمال الدليل ، وهو وإن كان يناسب القول بالصحيحة ، بناء على أنّ الإجمال أعمّ ممّا يكون في أصل الحكم أو في متعلّقه المدلول عليه باللفظ المجمل ، إلاّ أنّ الأصل المعمول به في تلك الصورة كغيرها ليس مقصورا عند العلماء على الاشتغال ، لبناء كثير منهم فيها على أصل البراءة كما هو الأقوى ، مع أنّ ثمرة المسألة ما يترتّب عليها بلا توسيط وسط آخر ، وليس إعمال الأصلين على القولين من هذا الباب ، فإنّهما لا ينهضان على المطلوب من نفي المدخليّة أو إثباتها إلاّ بعد توسيط أدلّتهما كما هو واضح.

وربّما يذكر في المقام ثمرة اخرى ، وهي ما يظهر في مقام النذر ، كما لو نذر إعطاء دينار لمن يراه يصلّي ، فعلى القول بالأعمّ يبرء ذمّته لو أعطى المصلّي من غير تفتيش وفحص عن صحّة صلاته ، بخلافه على القول بالصحيحة ، فلا يبرأ بالإعطاء من غير فحص.

وهاهنا ثمرة اخرى تذكر في المقام ، وهو جواز الاقتداء بالعدل من دون تفتيش عن صحّة صلاته على القول بالأعمّ ، وعدمه إلاّ بعد التفتيش على القول الآخر ، وفيهما ما لا يخفى من فساد التفريع مع إمكان المناقشة في الفرع.

أمّا الأوّل ، فلأنّ ثمرة المسألة كائنة ما كانت عبارة عن الفائدة المقصودة من وضع المسألة وتدوينها.

ولا ريب أنّ ما يرجع إلى مقام النذر أو القدوة ليس ممّا قصد من وضع المسائل الاصوليّة ولا مبادئها ، فإنّ المسألة المبحوث عنها إن كانت من المسائل الاصوليّة فالفائدة المقصودة من وضعها والبحث عنها ما يرجع إلى مقام الاستنباط ، بكونها مأخوذة في المقدّمات المأخوذة في استدلالات المسائل الفقهيّة لا غير ، وإن كانت من مبادئها فالغرض من وضعها والبحث عنها إحراز ما

٣٤٩

يرجع إلى موضوعات المسائل الاصوليّة ، أو إحراز ما يرجع إلى استدلالات تلك المسائل. وجواز إعطاء المنذور من دون فحص وعدمه ، كجواز الاقتداء من دون فحص وعدمه لا يندرج في ذلك ، بل هو من الأحكام الفرعيّة الّتي تتفرّع على المسألة من باب الاتّفاق وليس الغرض الأصلي من وضعها التوصّل إلى هذا الحكم الفرعي.

وبالجملة : فرق واضح بين مقاصد المسائل الاصوليّة ومبادئها وفوائدها ، والثمرة لا بدّ وأن يكون من قبيل المقاصد ، وما ذكر من الحكمين الفرعيّين من قبيل الفوائد لا المقاصد ، فلا تصلح ثمرة.

وأمّا الثاني : فلتطرّق المنع إلى الفرق والتفصيل في الجواز وعدمه بين القولين ، إذ لو كان مبناه على كون النذر والقدوة معلّقين على مسمّى الصلاة ، والقول بالأعمّ ملزوم لتحقّق المسمّى فلا حاجة في إحرازه إلى الفحص ، والقول بالصحيحة غير ملزوم له فلا بدّ في إحرازه من الفحص ، ففيه : منع واضح لاعتبار الصحّة في كلّ من الأمرين.

أمّا في الثاني : فلما دلّ على عدم كفاية مجرّد تحقّق المسمّى في الجواز ، بل لا بدّ معه من وصف الصحّة.

وأمّا في الأوّل : فلانصراف الإطلاق إلى إرادة الصحّة ـ ولو بمعونة شهادة الحال ـ وإن كان مبناه على كونهما معلّقين على الصحّة والقول بالأعمّ ملزوم لها بخلاف القول بالصحيحة ، فلا بدّ في إحرازها حينئذ من الفحص.

ففيه : إنّه أوضح منعا ، فإنّ الأعمّ ـ على القول بالأعمّ ـ لا معنى له إلاّ عدم كون المسمّى ملزوما للصحّة ، بل الملزوم لها إنّما هو الصحيحة.

وإن كان مبناه بعد فرض كونهما معلّقين على الصحّة على أنّه يكفي في إحرازها أصالة الصحّة في فعل المسلم على القول بالأعمّ بخلافه على القول بالصحيحة ، فلا بدّ في إحرازها من الفحص.

ففيه : إنّ أصالة الصحّة في فعل المسلم كما تجري في الصلاة المفروضة على

٣٥٠

القول بالأعمّ ، فكذلك على القول الآخر ، فتكفي في إحراز الصحّة مطلقا والفرق تحكّم.

فإن قلت : إنّ النذر والقدوة معلّقان على المسمّى والصحّة معا ، وحينئذ يحصل الفرق بين القولين ، إذ على القول بالأعمّ يحرز المسمّى بفرض كون اللفظ اسما للأعمّ صادقا على الصلاة المفروضة ، والصحّة بأصالة الصحّة ، وعلى القول الآخر لا طريق إلى إحراز المسمّى ليتمسّك في إحراز الصحّة بالأصل ، بل لا بدّ في إحرازه من الفحص ، وحيث إنّ الصحّة لازمة للمسمّى على هذا القول ، فالفحص لإحراز المسمّى فحص لإحرازها.

قلت : أصالة الصحّة على تقدير جريانها على هذا القول ، فالصحّة المحرزة بها كافية في إحراز المسمّى لمكان الملازمة بينهما.

والحاصل : إذا بنى على جريان الأصل على هذا القول ، فإحراز الصحّة بواسطة إحراز المسمّى بالفحص ليس بأولى من إحراز المسمّى بواسطة إحراز الصحّة بالأصل ، ومعه لا حاجة إلى طريق آخر لإحرازه.

إلاّ أن يقال : بمنع اندراج المورد على هذا القول في أدلّة ذلك الأصل ، بدعوى : أنّه إنّما يجري في فعل المسلم بعد ما كان العنوان الّذي علّق عليه حكم الصحّة محرزا ، ليندرج الفعل المشكوك في صحّته في أدلّة الصحّة ، بأن يكون الشكّ في صحّته راجعا إلى ما لا يوجب الإخلال به إخلال في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم.

وبعبارة اخرى : أن لا يكون الشكّ في الصحّة راجعا إلى الشكّ في تحقّق أصل العنوان وصدقه على الفعل البارز في الخارج من المسلم ، ولذا لو تنازع المتعاقدان في صحّة عقد بدعوى أحدهما حصول القبول ولحوقه بالإيجاب ، ودعوى الآخر عدمه ، ليس للحاكم الحكم للأوّل استنادا إلى أصالة الصحّة ، لأنّ الصحّة من مقتضيات ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) ولا يعقل له اقتضاء إلاّ إذا صدق على الفعل البارز

__________________

(١) المائدة : ١.

٣٥١

في الخارج عنوان العقديّة ، والمفروض مشكوك في تحقّق هذا العنوان فلا يتناوله العموم جزما ، فلا وجه للحكم بالصحّة ، بل المقام حينئذ من مجاري أصالة العدم بلا معارض ، فيجب فيه الحكم للثاني.

ومنه : ما لو وقع الاختلاف في الوقف الخاصّ بين ورثة الواقف وورثة الموقوف عليه ، بأن يدّعي الأوّل عدم لحوق قبول الموقوف عليه بإيجاب الواقف ، ويدّعي الثاني لحوقه ، فحينئذ لا يمكن الحكم للثاني تعويلا على أصالة الصحّة. ومحلّ البحث على القول بالصحيحة من هذا الباب ، إذ الشكّ في الصحّة حينئذ مرجعه إلى الشكّ في تحقّق عنوان الصلاتيّة وصدقه على الفعل البارز في الخارج ، ومعه لا معنى للحكم بالصحّة استنادا إلى أصالة الصحّة في فعل المسلم.

فإن كان النظر في الفرعين المذكورين إلى هذه القاعدة فالفرق بين القولين متّجه ، ومحصّله يرجع إلى منع جريان أصالة الصحّة في فعل المسلم إذا وقع في موضع العبادة على القول بالصحيحة ، لا من باب تقييد أدلّة هذا الأصل أو تخصيصها لنطالب بدليلهما ، بل من باب خروجه عنها خروجا موضوعيّا ، وبذلك ـ مع ملاحظة بطلان القول بالفحص والتفتيش عن صحّة صلاة المصلّي في المسألتين ، حيث إنّ المتشرّعة غير ملتزمين بذلك عند الوفاء بالنذر والقدوة ، بل لو التزم به أحد كان مستنكرا في نظرهم ـ يظهر قوّة القول بالأعمّ وضعف القول الآخر ، حيث إنّه يكشف عن كون المركوز في أذهانهم كون وضع اللفظ للعبادة بمثابة لا تمنع عن الاستناد إلى أصالة الصحّة في إحراز الصحّة الرافعة للحاجة إلى الفحص والتفتيش وهو الوضع للأعمّ ، كما يظهر به قوّة ما صنعه بعض الأعلام (١) من استظهار صحّة مقالته وبطلان مقالة الصحيحي ، من عدم التزام المؤمنين في الأعصار والأمصار بالتفحّص عن مذهب المصلّي في مسألتي القدوة وإعطاء النذور ، فإنّه استظهار حسن ، غير إنّه علّل عدم كفاية أصالة الصحّة في فعل المسلم لإحراز الصحّة على القول بالصحيحة بغير ما نبّهنا عليه.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٥١.

٣٥٢

وملخّصه : إنّ غاية ما يثبت بهذا الأصل إنّما هو الصحّة عند الفاعل ، لأنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده المطابق لنفس الأمر بظنّه.

قال : ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئا واحدا حتّى يبنى عليه في المجهول الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة (١).

وحاصل ما أفاده قدس‌سره : أنّ هذا الأصل في المسائل الخلافيّة الّتي حصل فيها الاختلاف بين الحامل والفاعل بحسب اجتهادهما أو تقليدهما لمجتهدين مختلفين في الرأي لا يكفي في إحراز الصحّة في نظر الحامل.

وهذا الكلام عند التحقيق ليس بسديد ، إذ الاختلاف في المسألة بحسب المذهب غير ضائر في الاعتماد على هذا الأصل ما لم يعلم بالمخالفة في الواقعة الشخصيّة ، وهو وقوع الفعل البارز في الخارج على خلاف ما هو الصحيح الواقعي في نظر الحامل ، فيجوز الصلاة في مغسول من لا يرى التعدّد شرطا والأكل من ذبيحة من لا يرى التسمية شرطا ، والتمتّع من معقودة من لا يرى العربيّة في العقد شرطا ، والايتمام بمن لا يرى السورة في الصلاة واجبة ، لمن يرى اعتبار التعدّد والتسمية والعربيّة والسورة ، حتّى ما احتمل عنده ولو ضعيفا وقوع الفعل من فاعله المخالف في المذهب على طبق معتقده من الصحيح الواقعي ، احتياطا منه أو اختيارا لأفضل الفردين أو من باب النعت والاتّفاق.

نعم إذا علم بأنّه لم يقع إلاّ على طبق مذهب الفاعل فلا حمل ، وبالجملة المخالفة في المذهب غير ضائرة في الحمل ما لم يصادفها المخالفة الشخصيّة ، فالوجه في عدم البناء على الأصل ـ بناء على القول بالصحيحة ـ هو ما ذكرنا لا غير فليتدبّر.

وتمام الكلام في تحقيق هذا الأصل أوردناه في رسالة منفردة (٢) ولنرجع إلى تحقيق الحال في الثمرتين الاوليين المختلف فيهما.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٥١.

(٢) الرسالة الموسومة بـ « أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة » المطبوعة بانضمام رسالتين إحداهما في العدالة والاخرى في قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، باهتمام مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة سنة ١٤٢٠ ه‍. ق.

٣٥٣

فالّذي يقتضيه التدبّر فيما قرّرناه من تصوير النزاع ، ومراجعة كلام الفقهاء واستدلالاتهم المتعلّقة بالعبادات ، هو المحاكمة بين الفريقين بالتفصيل.

فإن كان النظر في الثمرة إلى أجزاء ماهيّة العبادة فالحقّ ما ذكره الأوّلون ، وإن كان النظر إلى شروطها فالحقّ ما جزم به الآخرون.

أمّا الأوّل : فلأنّ الإجمال الّذي لا إطلاق معه يتمسّك به في موضع الشكّ مشترك اللزوم بين القولين ، غير إنّه على القول بالصحيحة إجمال مفهومي ، ومن حكمه هنا كونه محرزا لموضوع أصل الاشتغال ، وعلى القول بالأعمّ إجمال مرادي ، ومن حكمه هنا كونه محرزا لموضوع أصل البراءة.

أمّا الفرق بينهما في الإجمال : فلأنّ مقتضى ما التزم به القائل بالصحيحة من أخذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة في المسمّى والموضوع له ـ حسبما قرّرناه سابقا ـ جهالة مفهوم اللفظ بما هو مفهومه ، باعتبار جهالة جزئه وهو الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة بعدم معلوميّة تمام الأجزاء الواقعيّة ، ومقتضى ما التزم به القائل بالأعمّ من تعرية المسمّى عن هذه الهيئة الاجتماعيّة باعتبار طرف الزيادة معلوميّة مفهوم اللفظ بما هو مفهومه ، وهو الأركان الأربعة مثلا بأيّ هيئة طرئها في جانب الزيادة ، فإنّها بكلّ هيئة طرئها بانضمام الزوائد إليها من مسمّى اللفظ المعروض للوضع ، وهذا ممّا لا إجمال فيه أصلا.

نعم يطرئه الإجمال بحسب إرادة المتكلّم في مثل ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) عند الشكّ في جزئيّة شيء كالسورة مثلا ، إذ لا يدرى إنّ المراد بالصلاة في هذا الإطلاق هل هو ما دخل فيه السورة أو ما خلا عن السورة ، مع كون كلّ منهما مسمّاه على وجه الحقيقة ، نظير اسم الإشارة إذا ورد بلا قرينة الإشارة المردّد بين إرادة زيد أو عمرو ، مع كون كلّ منهما مسمّاه حقيقة ، وهذا كما ترى إجمال في المراد لا في المفهوم والمسمّى.

__________________

(١) الأنعام : ٧٢.

٣٥٤

وأمّا الفرق بينهما في الرجوع إلى الأصلين : فلما حقّق في محلّه وسيأتي تفصيله من أنّ الشكّ المأخوذ في موضوع الأصلين إذا تعلّق بالمكلّف به بعد العلم بأصل التكليف لا يوجب الرجوع إلى أصل البراءة ، ما لم يكن آئلا إلى الشكّ في التكليف ، ولو دار الأمر بين الأقلّ والأكثر ، كما هو الحال في ماهيّات العبادات إذا شكّ في جزئيّة شيء لها.

وضابط أوله حينئذ إلى الشكّ في التكليف وعدمه ، هو أنّه إن تعلّق التكليف بعنوان معيّن في الواقع مردّد في نظر المكلّف بين كونه حاصلا في ضمن الأقلّ وبين عدم حصوله إلاّ في ضمن الأكثر ، فالشكّ فيه ممّا لا يؤول إلى التكليف بالزائد ، ومعه لا يعقل الرجوع إلى أصل البراءة ، بل المتعيّن فيه الرجوع إلى أصل الاشتغال المقتضي لمراعاة الأكثر تحصيلا للبراءة اليقينيّة.

وإن لم يتعلّق بنحو هذا العنوان ، بل تعلّق بالأقلّ يقينا مع احتمال تعلّقه معه بالزائد عليه.

وبعبارة اخرى : تعلّق بالأمر الدائر بين كونه نفس الأقلّ أو هو مع ما احتمل دخله في المكلّف به ، ولازمه دوران وجوب الأقلّ بين النفسي والمقدّمي.

فالشكّ فيه آئل إلى أصل التكليف بالنسبة إلى القدر الزائد ، وهذا معنى ما يقال : من رجوع اليقين بالاشتغال مع الشكّ في المكلّف به إلى العلم بالمكلّف به في الجملة مع الشكّ البدوي ، ومعه يجوز الرجوع إلى أصل البراءة المقتضي للاقتصار في الخروج عن عهدة التكليف على القدر المتيقّن وهو الأقلّ ، إذ اليقين بالاشتغال لم يحصل إلاّ بحسبه.

ولا ريب أنّ دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر عند الشكّ في جزئيّة السورة على القول بالصحيحة من باب القسم الأوّل ، إذ التكليف إنّما يتعلّق بمسمّى اللفظ المأخوذ فيه الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة ، وهو عنوان واقعي تعلّق التكليف به مردّد بين حصوله في ضمن الأقلّ وعدم حصوله إلاّ في ضمن الأكثر.

وإن شئت قلت : إنّه كدوران المكلّف به بين المتبائنين ، إذ لا يدرى أنّ المكلّف

٣٥٥

به الواقعي هل هو الهيئة المتقوّمة بالأجزاء الخالية عن السورة ، أو الهيئة المتقوّمة بالأجزاء المشتملة عليها ، فليس في البين قدر متيقّن يؤخذ به ويرجع في الباقي إلى الأصل ، بخلافه على القول بالأعمّ ، إذ الهيئة الاجتماعيّة الخاصّة كما لم تؤخذ في المسمّى فكذا لم تؤخذ في المكلّف به ، فهو مردّد بين كونه نفس الأقلّ وهو ما لا يدخل فيه السورة أو هو مع السورة ، والقدر المتيقّن من مورد التكليف هو الأوّل وتعلّقه بالسورة غير معلوم ، فيدفع احتماله بالأصل.

وأمّا الثاني : فلأنّ الهيئة الخاصّة الحاصلة من لحوق الشرائط مأخوذة في المسمّى أيضا على القول بالصحيحة ، وهو يوجب الإجمال المفهومي أيضا لجهالة هذه الهيئة بعدم معلوميّة تمام الشرائط الواقعيّة ، ولازمه البناء على أصل الاشتغال أيضا لعين ما قرّرناه ، لا كما توهّمه الجماعة من جواز الأمرين حينئذ ، بخلافه على القول بالأعمّ فإنّه لعدم أخذه هذه الهيئة في المسمّى أصلا في فراغ عن الإجمال بالمرّة ، فيؤول الشكّ في الشرطيّة حينئذ إلى الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى ماهيّة المسمّى الملتئمة من الأجزاء المعيّنة لا بشرط الهيئة الاجتماعيّة في طرف الزيادة ، فينهض ذلك الإطلاق بيانا لعدم التقييد فيما لم يساعد على شرطيّته الدليل.

وممّا يكشف عن صحّة ما قلناه من الفرق ، إنّه لم يعهد من الفقهاء في أبواب العبادات التمسّك بالإطلاق في الأفعال أو التروك المختلف في وجوبها فيها ، بل المعهود منهم ـ على ما يشهد به التتبّع ـ هو التمسّك بأصل البراءة للنفي وأصل الاشتغال للإثبات ، مع التمسّك بالأدلّة الخاصّة على تقدير وجودها وعدمه على تقدير العدم.

نعم قد كثر تمسّكهم به في بحث الشروط ، كما وقع عن العلاّمة في المختلف وصاحب المدارك وغيرهما في مسألة تجويز الحرير للنساء في الصلاة بعد منع الرجال عنه ، وغيرها من المسائل المتعلّقة بالشروط.

وبما بيّنّاه يندفع ما قد يتوهّم : من أنّ تمسّكهم بالإطلاق في أبواب العبادات أيضا كثير بل في غاية الكثرة ، كما في مسألة الحرير للنساء في الصلاة لتمسّكهم

٣٥٦

للجواز بإطلاق الأمر بالصلاة ، فلا يتقيّد إلاّ بدليل ، وفي مسألة كفاية الخمسة في عدد انعقاد الجمعة ، حيث تمسّكوا بإطلاق الأمر بالسعي في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ )(١) لنفي اعتبار الزائد كالسبعة وغيره ، ومسألة عدم اشتراط حضور الإمام ومنصوبه حيث تمسّك أهل القول بالوجوب مطلقا بإطلاق الأمر في الآية ، ومسألة التنفّل في السفر حيث تمسّك القائلون بجوازه بإطلاق أدلّة النوافل والأوامر الواردة عليها ، ومسألة الصلاة في السمجد عند الخطاب بإزالة النجاسة عنه حيث تمسّك القائل بصحّة هذه الصلاة بإطلاق الأمر بها ، قبالا لمن يفسدها تعويلا على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ المقتضي لفساد العبادة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى عددا.

ووجه الاندفاع : إنّ التمسّك به في باب الشروط كالمثال الأوّل مسلّم ، وفي باب الأجزاء غير مسلّم ، وما ذكر من الأمثلة ليس من هذا الباب ولا من الباب الأوّل ، لوضوح الفرق بين إطلاق الأمر وإطلاق المأمور به وما وجد في الموارد المذكورة وغيرها تمسّك بإطلاق الأمر ، التفاتا إلى أنّ العدد وحضور الإمام أو نائبه الخاصّ في مسألة الجمعة ، والحضر في مسألة التنفّل ، وفقد الأمر المضيّق في مسألة الصلاة في المسجد مكان الإزالة ـ على القول باعتبارها ـ من شروط الوجوب لا الواجب ، فيكون الأمر بالنسبة إليها على تقدير عدم مساعدة الدليل على الاشتراط بها مطلقا.

ولا ريب أنّ إطلاق الأمر لا ينافي إجمال المأمور به بالنظر إلى الأجزاء حتّى على القول بالأعمّ ولا بالنظر إلى الشرائط على القول بالصحيحة.

والحاصل : أنّ التمسّك بالإطلاق لم يعهد منهم إلاّ في باب شروط الأمر وشروط المأمور به ، ولا ينافي شيء من ذلك ما ادّعيناه من الإجمال المانع عن الإطلاق بالنظر إلى الأجزاء حتّى على القول بالأعمّ.

__________________

(١) الجمعة : ٩.

٣٥٧

وممّا يرشد إلى صحّة ذلك ما عن المحقّق البهبهاني ملخّصا في بيان طريق إثبات ماهيّة العبادات ، من أن يرجع إلى اصطلاح المتشرّعة ، ويقال : المتبادر في اصطلاحهم هو هذا فهو مطلوب الشارع.

إلى أن قال : لكن يشكل ذلك على القول بكون ألفاظ العبادات أسامي للصحيحة الجامعة لشرائط الصحّة مطلقا ، وعلى القول بكونها اسما للأعمّ من الصحيحة ، لو كان الإشكال والتشكيك في الأجزاء ، وأمّا لو كان الإشكال في ثبوت شرط لها ، فيصير مثل المعاملات في جواز الاكتفاء بما يفهم منه عرفا ، وينفي الشرط المحتمل بالأصل ، إلى آخره.

فإنّ هذه العبارة وإن أو همت لكثير من الأنظار كون مفادها اختيار القول بالتفصيل في أصل المسألة ، وقد تقدّم منّا احتمال آخر فيها ، وهو كون المراد منها إرجاع القول بالأعمّ ـ المعروف المأخوذ في الطرف المقابل من القول بالصحيحة ـ إلى هذا التفصيل.

لكنّ الإنصاف : إنّ أظهر محاملها كونها تفصيلا في ثمرة القولين بين الأجزاء والشرائط ، مع كون المراد بالأصل الجاري في الشرائط على القول بالأعمّ هو الأصل اللفظي ، كما يقتضيه التشبيه بالمعاملات.

ومحصّله : إنّه بالنسبة إلى الأجزاء ليس هنا أصل لفظي يرجع إليه على القولين معا ، وكذلك بالنسبة إلى الشرائط على القول بالصحيحة.

وأمّا على القول بالأعمّ ، فالأصل اللفظي وهو الإطلاق موجود.

والعجب ممّن اختار القول الأوّل في المسألة مع مصيره في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر إلى عدم وجوب الاحتياط ، مع اعترافه في غير موضع بتعيّن الرجوع إلى أصل الاشتغال فيما لو دار المكلّف به الواقعي بين تحقّقه في ضمن الأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، وليس هذا إلاّ غفلة عن حقيقة الحال في تصوّر المسألة حسبما بيّنّاه.

وأعجب منه : إنّه بعد ما أورد على نفسه بأنّ متعلّق الخطاب مجمل لتنجّز

٣٥٨

التكليف بمراد الشارع من اللفظ فيجب القطع بالإتيان بمراده ، دفعه : بأنّ التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله ، حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّى يجب الاحتياط فيه ، وإنّما هو متعلّق بمصداق المراد والمدلول ، لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر ، لا مصداقه. انتهى.

والجواب : إنّ أحدا لا يقول بتعلّق التكليف بمفهوم المراد المتأخّر انعقاده عن عروض الإرادة والاستعمال بالمسمّى الموضوع له اللفظ ليدفع بنحو ما ذكر ، بل متعلّق التكليف مصداق هذا المفهوم الّذي نفس الموضوع له وقد طرئه الإرادة ، وهو مردّد بين الهيئة الشخصيّة المتقوّمة بالأقلّ ، والهيئة الشخصيّة الاخرى المتقوّمة بالأكثر ، وهو شكّ في المكلّف به الدائر بين الأقلّ والأكثر غير آئل إلى الشكّ في التكليف ، ولذا لو قيل : بأنّ الأصل عدم تعلّقه بالهيئة المتقوّمة بالأكثر ، كان معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالهيئة المتقوّمة بالأقلّ.

ولا يلزم نظير ذلك على القول بالأعمّ ، لعدم اعتبار شخص الهيئة حينئذ في متعلّق التكليف من حيث عدم دخوله في المسمّى الموضوع له اللفظ ، بل التكليف إنّما تعلّق بنفس الأجزاء المعرّاة عن اعتبار هيئة خاصّة المردّدة بين الأقلّ أو هو مع الزيادة المحقّقة لعنوان الأكثر ، وهذا كما ترى آئل إلى الشكّ في أصل تعلّق التكليف بالزائد بعد تيقّن تعلّقه بالأقلّ ، مردّدا بين كونه نفسيّا أو مقدّميّا ، ولذا لو دفع احتمال تعلّقه بالزائد بالأصل لم يكن معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالأقلّ.

وهذا مع ما عرفته على القول بالصحيحة من معارضة الأصل بمثله بيّنة واضحة على الفرق بين القولين في كيفيّة تعلّق التكليف وحقيقة متعلّقة ، وأول الشكّ على أحدهما إلى أصل التكليف بالنسبة إلى الزيادة دون الآخر ، ولا يعتبر في عدم أوله إليه تعلّق التكليف بالمفهوم المبيّن المردّد مصداقه بين أمرين ، بل يكفي تعلّقه بالمصداق المردّد بين أمرين ، كما هو لازم القول بالصحيحة.

٣٥٩

المقدّمة السابعة : في تحقيق أقوال المسألة ، والإشارة إلى ما يصلح أصلا فيها.

أمّا الأقوال : فالحقّ منها ـ تحصيلا ونقلا ـ قولان : الصحيحة مطلقا كما نسب إلى جماعة من الخاصّة والعامّة ، وربّما عزى إلى أكثر المحقّقين.

وقد يدّعى فيه الشهرة ، والأعمّ كذلك كما صار إليه جماعة من متأخّري المتأخّرين.

ويظهر من الأوائل ممّن تمسّك في المسائل المتعلّقة بماهيّات العبادات بأصل البراءة ، كالعلاّمة وصاحب المدارك ونظرائهما.

وقد اشتهر قول ثالث وهو التفصيل بين الأجزاء فالصحّة والشرائط فالعموم ، والمعروف في الألسنة نسبة هذا القول إلى العلاّمة البهبهاني ، وفي النسبة ما عرفت.

فهذا القول إمّا لا أصل له أو قائله ليس بمعلوم.

وقد يحكى قول رابع عن الشهيد في القواعد ، وعبارته : « إنّ الماهيّات الجعليّة كالصلاة والصوم وسائر العقود لا تطلق على الفاسدة إلاّ الحجّ ، لوجوب المضيّ فيه ، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة وهو الدخول فيها ، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث ، واحتمل عدمه لأنّه لا يسمّى صلاة شرعا ولا صوما ، وأمّا لو تحزّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانع لم يحنث قطعا ». انتهى (١).

وهي لكثرة ما يجري فيها من وجوه الاحتمال لا تكاد تدلّ على ما استظهروه منها لا صراحة ولا ظهورا ، لابتناء دلالتها على أضعف هذه الوجوه ، مع عدم خلوّ شيء منها عن شيء :

منها : كون المراد بالمنفيّ سنخ الإطلاق المتناول لكلّ من وجهي الحقيقة والمجاز ، ويفسده : أنّه نظير إنكار ما هو كالضروري في عرف المتشرّعة ، وأطبق عليه الفريقان من ورود إطلاقها على الفاسدة حتّى في لسان الشارع ولو على وجه المجاز ، كما يزعمه أصحاب القول بالصحيحة.

__________________

(١) القواعد والفوائد ١ : ١٥٨ القاعدة ٤٢ الفائدة ٢.

٣٦٠