تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

اللازمة من انتفاء الوضع ، ومعه فالاستناد إلى تبادر الغير حينئذ ليس في محلّه ، بل هو في جنب عدم التبادر ليس إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وأمّا شبهة انتقاض طرده بالمشترك ، فيدفعها : إنّ عدم التبادر ـ على ما بيّنّاه ـ مقصور إمّا على موارد تبادر الغير لو اعتبر باعتبار انتفاء جنس التبادر ، أو على مواضع وجود قرينة التجوّز لو أخذ باعتبار انتفاء فصل التبادر ، والمشترك عند تجرّده عن القرينة ليس بشيء من القبيلتين.

ومحصّله : إنّ عدم التبادر ليس بمتحقّق فيه بشيء من قسميه ، مع أنّه فرق واضح بين عدم وجود التبادر بحسب الواقع ، وعدم ظهور الموجود منه في الواقع للجاهل ، والعلامة هو الأوّل والموجود في المشترك هو الثاني ، لما عرفت من أنّ حصول التبادر على جهة الإجمال للعالم بالوضع في نحو الصورة المفروضة ممّا لا سبيل إلى إنكاره.

نعم لعدم ظهوره للجاهل لا يترتّب عليه فائدة العلامة ، وهو كما ترى ليس من عدم وجوده باعتبار انتفاء جنسه في الواقع أو انتفاء فصله كذلك.

وأمّا شبهة انتقاض الطرد ، بما وضع لمعنى قبل اشتهاره فيه.

فيدفعها : أنّ اشتهار اللفظ الموضوع وعدمه ممّا لا مدخل له في تبادر معناه الموضوع له وعدمه ، بل التبادر وعدمه يتبعان العلم بالاختصاص الحاصل للّفظ الناشئ عن التعيين أو غلبة الاستعمال وعدمه ، فالأوّل يستلزم التبادر لا محالة كما أنّ الثاني يستلزم خلافه ، وعلى التقديرين لا معنى للنقض.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فلأنّ العبرة في التبادر وعدمه بما يتحقّق عند العالم بالوضع ولو على جهة الإجمال ، لا ما يتحقّق عند الجاهل الساذج.

وأمّا شبهة عدم صلوح الأمر العدمي علامة للأمر الوجودي ، فيدفعها :

أوّلا : النقض بعدم صحّة السلب المأخوذ علامة للحقيقة ، الّتي لا شبهة في كونها أمرا وجوديّا.

٦١

وثانيا : إنّ الممتنع وقوع الأمر العدمي مؤثّرا في الوجودي ، والمقصود من الأمارة إنّما هو الأخذ به معرّفا ، ولذا يكون الاستدلال بها على الوضع أو عدمه إنّيّا ، فلأنّ العدم على تقدير احتياجه إلى العلّة يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، ولمّا كان علّة التبادر هو الوضع فيكون علّة عدمه انتفاء الوضع ، فالكشف فيه كالتبادر إنّيّ فيكون واسطة في الإثبات ولا مانع منه.

وثالثا : منع كون المجازيّة المطلوبة من عدم التبادر أمرا وجوديّا ، فإنّ الشبهة فيها راجعة إلى وجود الوضع وانتفائه ، وإذا كان التبادر علامة لوجود الوضع فيقابله عدمه في كونه علامة لانتفاء الوضع هذا كلّه فيما يتعلّق بالملازمة وذيهما من الوضع وانتفائه.

وأمّا ما يتعلّق من المباحث بإحراز الملزوم ، الّذي مرجعه إلى إحراز الصغرى الّذي لولاه لا يتمّ الاستدلال على المطلب من وضع أو انتفائه.

فنقول : إنّ هاهنا مناقشة معروفة ترجع في الحقيقة إلى مقام إحراز الملزوم ، وهي أنّ التبادر علامة دوريّة ، فإنّ فهم المعنى من اللفظ في الدلالة الوضعيّة موقوف على العلم بالوضع ، فلو كان العلم بالوضع موقوفا على فهم المعنى كما ذكرتم لزم الدور ، ومرجعه إلى أنّ التبادر المتوقّف على العلم بالوضع في محلّ توقّف العلم بالوضع عليه ممّا لا يمكن إحرازه.

وقد تقدّم منّا في مفتتح باب الأمارات ما يدفعها في جميع شقوق المسألة ، من كون الناظر في الأمارة جاهلا ساذجا أو جاهلا مشوبا ، لعلمه بالمعنى الموضوع له في الجملة أو إجمالا ، والعلامة في الأوّلين تبادر العالمين بالوضع كما علم من تضاعيف المسألة أيضا.

وفي الأخير يجوز كونها تبادر العالمين أيضا ، أو تبادر الناظر نفسه ما لم يكن جهله في مقام التفصيل ساريا إلى علمه الإجمالي المتعلّق بماهيّة الموضوع له باعتبار صورته النوعيّة ، ولا دور على التقديرين.

أمّا على الأوّل : فواضح ، وأمّا على الثاني فلتغاير طرفي التوقّف بالإجمال

٦٢

والتفصيل ، فإنّ المتوقّف على التبادر إنّما هو العلم التفصيلي بالموضوع له ، على معنى العلم به باعتبار أجزائه المفصّلة.

والّذي يتوقّف عليه التبادر إنّما هو العلم به إجمالا ، على معنى العلم به بتمام صورته النوعيّة.

وقد ذكرنا سابقا أنّ هذا العلم لا يستلزم العلم به بأجزائه المفصّلة ، فلا يكون متوقّفا عليه.

وقد يجاب عن إشكال الدور بما لا يرجع إلى محصّل ، وهو : إنّا لا نسلّم توقّف الفهم في الدلالة الوضعيّة على العلم بالوضع ، فإنّ الاشتهار يقتضي تبادر المعنى وفهمه من اللفظ المجرّد قطعا ، لحصول المؤانسة الموجبة للتفاهم ، والتفاهم للاشتهار لا يقتضي العلم بالاشتهار فضلا عن العلم بالوضع.

وتحقيقه : إنّ وضع اللفظ إمّا أن يكون بتعيينه بإزاء المعنى ، أو لتحقّق الغلبة والاشتهار فيه ، وعلى الثاني فالسبب في الفهم هو نفس الغلبة والاشتهار ، وكذا على الأوّل إن كان فهم المعنى بعد حصول الأمرين ، وأمّا إذا كان قبلهما كما في أوائل الاستعمال ففهم المعنى حينئذ موقوف على العلم بالوضع ، إذ لا سبب للفهم سوى ذلك ، فعلم أنّ فهم المعنى لا يتوقّف على العلم بالوضع مطلقا ، بل إنّما يتوقّف عليه في صورة نادرة ، هي كون الوضع تعيينيّا والاستعمال قبل حصول الغلبة والاشتهار.

نعم حصول الفهم مطلقا موقوف على نفس الوضع ، أمّا إذا كان الفهم موقوفا على العلم بالوضع كما في هذه الصورة ، فظاهر.

وأمّا إذا كان بالغلبة والاشتهار ، فلأنّ الوضع إمّا أن يحصل بهما أو بالتعيين السابق عليهما ، وعلى الأوّل فسبب الفهم هو الوضع الحاصل بالاشتهار ، وعلى الثاني فالسبب القريب في الفهم وإن كان هو الاشتهار ، لكن لمّا كان الاشتهار فيه فرع التعيين ، كان التعيين سببا بعيدا في الفهم ، فيتوقّف عليه الفهم ، فالوضع في جميع الصور من شرائط الدلالة.

٦٣

وفيه : إنّ فهم المعنى في باب الدلالات اللفظيّة من دون العلم بسببه غير معقول.

نعم لا يعتبر فيه الالتفات التفصيلي إلى السبب إذا كان معلوما ، بمعنى حضوره في الخزانة ، فالغلبة والاشتهار إن اريد بهما ما علم معهما بما يستتبعهما أو ما يستتبعانه من اختصاص اللفظ بالمعنى ولو بمعنى حضوره في الخزانة ، فالمقتضى لتبادر المعنى وفهمه هو هذا الاختصاص لا غير ، وإن اريد بهما ما لا علم معهما بالاختصاص الحاصل للّفظ على أحد الوجهين ، فلا يجدي الفهم الحاصل بهما نفعا في الانتقال إلى الوضع ، لوجود نحوه في المجاز المشهور ، فيكون في نظر الجاهل مردّدا بين فهم المعنى الحقيقي وفهم المعنى المجازي ، ولذا شرطوا في التبادر تجرّد اللفظ عن القرينة ولو شهرة بالمعنى الأعمّ.

ودعوى : أنّ المجاز المشهور ليس بثابت وإن كان مشهورا ، لأنّ الاشتهار إن بلغ حدّا يتبادر منه المعنى كان حقيقة ، وإلاّ لم يؤثّر في فهم المعنى وإن التفت إليه السامع ، ووجود شهرة يفهم بها المعنى مع الالتفات والملاحظة لا بدونهما مجرّد فرض لا نتحقّقه.

يدفعها : أنّ ذلك مكابرة للوجدان ، فإنّ تأثير مجرّد الشهرة في بعض مراتبها في فهم المعنى ولو مع العلم بانتفاء الاختصاص أمر معلوم بالوجدان ، فالدور المذكور لا مدفع له سوى ما بيّنّاه من التفصيل.

ثمّ المراد بإحراز الملزوم بالقياس إلى الأمارتين ، انكشاف التبادر أو عدمه بالنسبة إلى المعنى المبحوث عنه وتبيّن وجوده للناظر فيه ، ولمّا كان الانكشاف لا بدّ له من طريق ، فينقسم التبادر باعتبار طريق انكشافه إلى وجداني وكشفي واستقرائي.

والمراد بالأوّل : ما يجده الجاهل المشوب ، العالم بالإجمال عند استعلامه تفصيل الموضوع له ، ويشترط في انكشافه له التخلية التامّة عن جميع القرائن ، من الجليّة والخفيّة ، الحاليّة والمقاليّة ، المتّصلة والمنفصلة.

٦٤

وعن خصوصيّات المقام وموارد الاستعمال ، على معنى أنّه لو كان نظره إلى شيء من ذلك أو كان شيء منه مركوزا في ذهنه قطع النظر عنه ونزّل وجوده منزلة عدمه ، وإذا فعل ذلك فلا محالة يدرك في نفسه من التبادر ما يرشده إلى أحد طرفي شبهته.

وبالثاني : أن يرد في كتاب أو سنّة ما يكشف عن تحقّق التبادر في معنى خاصّ من لفظ خاصّ في العرف القديم من الأعصار السالفة والقرون الخالية ، كما في قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ )(١) الآية ، وقوله أيضا : ( ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ )(٢) المستدلّ بهما على كون الأمر للوجوب ، فإنّ مرجع الاستدلال بهما وبغيرهما في الحقيقة إلى الاستدلال بالتبادر المتحقّق في العرف الّذي يكشف عنه سياق الآية ، بتقريب : أنّها وردت في سياق الذمّ والتوبيخ ، فيكشف عن الاستحقاق لهما ، وهو فرع على العصيان الّذي هو فرع على فهم التكليف الإلزامي.

ونظيرهما من السنّة ما ورد في قصّة ابن الزبعرى (٣) حيث إنّه بعد ما سمع قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ )(٤) قال : لأخصمنّ محمّدا عليه‌السلام ثمّ جاءه ، وقال : يا محمّد أليس عبده موسى وعيسى والملائكة ... الخ ، فإنّه يكشف عن كونه إنّما فهم من لفظة « ما » من العموم ما هو متناول لمثل موسى وعيسى والملائكة.

ومثل ذلك في النصوص كثير ، وإذا ثبت هذا القسم من التبادر بسند قطعي كان أقوى من سائر أقسامه ، حيث لا حاجة له في استعلام حال عرف زمان الشارع إلى ضميمة والنظر في وسط آخر ، كما كان يحتاج إليه غيره.

وبالثالث : أن يعلم بتحقّق التبادر في العرف وعند أهل اللسان ، بملاحظة الاستعمالات الدائرة بينهم وتتبّع موارد إطلاقاتهم ، والعمدة في باب التبادر هو

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) الأعراف : ١٢.

(٣) تفسير القمي ٢ : ٧٥.

(٤) الأنبياء : ٩٨.

٦٥

هذا القسم ، بل لا يظهر من عبائر الأكثرين إلاّ عقد الباب لبيانه والتعرّض لأحكامه خاصّة ، وحينئذ فالجاهل باللغة إذا ورد على أهلها ولا حظ في لفظ خاصّ موارد استعمالاتهم فيعلم

تارة : بعدم حصول فهم المعنى منه.

واخرى : بحصوله مع التجرّد عن القرينة.

وثالثة : بحصوله مع عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة.

ورابعة : بحصوله مع وجود القرينة الملتفت إليها ، لا لأجل ابتناء أصل الفهم عليه بل لأجل تأكيد أو تعيين أو إفهام.

وخامسة : بحصوله لمعاونة القرينة الموجودة ، على معنى كونها إنّما اعتبرت لمجرّد ابتناء الفهم عليها.

وهذه صور لا إشكال في شيء منها ، إلاّ أنّه في الاولى كالأخيرة إحراز لأمارة المجاز وهو عدم التبادر ، إمّا لانتفاء جنسه أو لانتفاء فصله ـ حسبما بيّنّاه ـ وفي البواقي إحراز لأمارة الحقيقة.

وقد يشتبه عليه الأمر ، إمّا لشبهة في أصل الفهم الّذي هو جنس التبادر ، أو في وجود القرينة ، أو الالتفات إلى القرينة الموجودة ، أو جهة القرينة الملتفت إليها من الصرف والتأكيد والتعيين والإفهام ، وهي في كلّ هذه الثلاث ترجع إلى الفصل بعد تبيّن الجنس ، وهذه أيضا صور لا إشكال في الاولى منها من حيث إنّه لا يحرز فيها شيء من أمارتي الحقيقة والمجاز ، وإن ظنّ بحصول الفهم أو بعدمه ، بناء على تحقيقاتنا السابق من عدم حجّية الظنّ في اللغات ، ومرجعه إلى عدم الاعتبار بالتبادر أو عدمه الظنّي.

نعم ربّما يتأتّى الإشكال في بواقي الصور من حيث تحقّق جنس التبادر ووقوع الاشتباه في فصله ، فهل هنا أصل أصيل وقاعدة يعتدّ بها من جهة العرف أو الشرع يقتضي الإلتزام بتحقّق الفصل أيضا ، الراجع إلى البناء على عدم وجود القرينة ، أو عدم الالتفات إلى الموجودة منها ، أو كون الالتفات لا لأجل ابتناء أصل الفهم عليها ، أو لا أصل في البين أصلا ، أو يفصّل؟

٦٦

وهذا هو مسألة دوران الأمر في التبادر بين كونه وضعيّا أو غيره ، المحكوم عليه في كلام غير واحد بكون الأصل فيه كونه وضعيّا ، وربّما يدّعى ظهور الإجماع على إطلاقه ، استشهادا بإطلاق وروده في كلامهم ، فيحتمل في المقام حينئذ وجوه :

القول بأصالة وضعيّة التبادر مطلقا ، كما يرشد إليه إطلاق من أطلق في دعوى تلك القضيّة.

والقول بالوقف مطلقا لتطرّق المنع إلى هذا الأصل رأسا ، فيبقى قاعدة توقيفيّة اللغات سليمة.

والقول بأصالة الوضعيّة في الصورة الاولى خاصّة والوقف في الباقي ، كما يظهر من بعض العبائر.

والقول بأصالة الوضعيّة في غير الصورة الأخيرة والوقف فيها مطلقا ، أو يحكم فيها بإطلاقيّة التبادر تقديما لجانب الصرف لما فيه من التأسيس ، فيبنى على المجاز لأولويّة التأسيس بالقياس إلى التأكيد.

لكن يرد عليه : أنّ هذه القاعدة ممّا لم يتبيّن له مدرك سوى ما في كلام بعض الاصوليّين في مسألة المقرّر والناقل ، تبعا لعلماء المعاني من أنّ في التأسيس إفادة والتأكيد إعادة ، والإفادة أولى.

وما في كلام بعض في نحو المقام ، من غلبة التأسيس على التأكيد نوعا وشخصا.

ويتطرّق المنع إلى الأوّل من حيث إنّ للتأكيد في موارده أيضا فوائد يجب مراعاتها ، فلا معنى لترجيح التأسيس عليه.

وإلى الثاني من حيث إنّ الغلبة المدّعاة بالقياس إلى النتيجة المأخوذة عنها ليست إلاّ ظنّيّة ، فيرجع البحث إلى الظنّ في اللغات.

ولو سلّم اعتبارها فلا تقضي بتعيّن الصرف ، لأنّ في التعيين والإفهام أيضا تأسيسا.

٦٧

وقضيّة ذلك أن يحكم بنفي التأكيد تقديما للتأسيس ، ثمّ ينفى التعيين أيضا بأصالة عدم الاشتراك وعدم تعدّد الوضع ، فيرجع الأمر حينئذ إلى تعارض المجاز والاشتراك معنى ، فعلى القول بأصالة الاشتراك ينتفي احتمال المجازيّة أيضا وإلاّ اتّجه الوقف ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : إنّ هذه المسألة غير منقّحة في كلامهم ، وليس فيها أصل يعتمد عليه ، وأصالة وضعيّة التبادر وإن كانت قضيّة مشهورة غير أنّه لم يتبيّن لها في العرف والشرع مدرك يعوّل عليه ، والإجماع المدّعى ظهوره غير واضح الانعقاد.

نعم ربّما شاع في مستنده ورود أصالة عدم القرينة ، أو هي مع أصالة عدم الالتفات إليها ، في كلام غير واحد بالقياس إلى بعض الصور ، غير أنّه يتطرّق المنع إلى اعتبار نحو هذين الأصلين المعمولين لإحراز الأمارات المرشدة إلى اللغات وأوضاع الألفاظ ، حيث لم يظهر من بناء العرف أنّهما بالقياس إلى الجاهل باللغات كالاصول العدميّة ـ المعمولة عندهم في تشخيص المرادات ـ في الاعتبار بالقياس إلى العالمين بها ، وبدونه لا يمكن الاعتداد بهما.

نعم غاية ما علم من بناء العرف إنّما هو الأخذ بالتبادرات وعدمها ، غير أنّ المتيقّن منها ما يحرز بطريق القطع فلا يتسرّى إلى غيرها ، وعليه فالمتّجه هو الوقف مطلقا.

وممّا عرفت من التفصيل ظهر أنّه لا وقع لما قيل : من أنّ التبادر لو اريد به ما قارنه القرينة فلا نسلّم كونه كاشفا عن الوضع ، وإن اريد به ما لم يقارنه قرينة فلا مصداق له في الخارج ، التفاتا إلى اقتران كلّ لفظ بقرينة لا محالة وأقلّها الحاليّة ، بل غلبة الاستعمال الّتي لا تنفكّ عن شيء من الألفاظ بالقياس إلى معانيها الحقيقيّة. فإنّ مقارنة القرينة بمجرّدها غير قادحة في انعقاد التبادر الكاشف ما لم يحصل الالتفات إليها لغرض التوصّل إلى الفهم وإحراز الدلالة ، ومعرفة ذلك للجاهل المشوب في غاية السهولة بعد التخلية التامّة ، وكذلك الجاهل الساذج بعد تتبّع موارد الاستعمالات.

٦٨

سادسها : في صحّة السلب وعدمها ، فإنّ الأوّل علامة للمجاز كما أنّ الثاني علامة للحقيقة ، والمراد بهما صحّة سلب اللفظ باعتبار ما سمّي به وضعا وما يفهم منه عرفا أو عدمها عن المورد ، ومجراهما ، ما لو استعمل اللفظ فيما يشكّ كونه مسمّاه الوضعي ومفهومه العرفي ، أو أطلق على ما يشكّ كونه فردا لمسمّاه العرفي ومفهومه الوضعي ، باعتبار الشكّ في كونه موضوعا لما يشمل ذلك الفرد أو لما لا يشمله حتّى يكون الإطلاق مجازيّا ، وطريق إعمالهما أن يؤخذ قضيّة سلبيّة موضوعها المعنى المشكوك فيه ومحمولها اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي ومفهومه العرفي ، ثمّ ينظر في صدقها وكذبها بمراجعة النفس بعد التخلية التامّة ، كما لو كان الناظر فيهما جاهلا مشوبا باعتبار علمه الإجمالي ، أو بمراجعة العرف وأهل اللسان ، كما لو كان الناظر فيهما جاهلا ساذجا ، أو مشوبا باعتبار علمه في الجملة.

لا يقال : استعلام حال الفرد بالأمارتين استعمال لهما في غير موضعها إذ ليس وضع الأمارات لتشخيص الفرد ، وأيضا لو كان ما يفهم من اللفظ عرفا معلوما فهو بنفسه كاف في استعلام حال الفرد ، أو لا بدّ من مراجعة أهل الخبرة وإلاّ فلا يمكن الاستعلام بالأمارتين ، لما قرّرناه سابقا من الفرق بين شبهة الفرديّة من باب الشكّ في المصداق وشبهة الفرديّة من باب الشكّ في الصدق ، وإعمال الأمارة في الأوّل استعمال لها على خلاف وضعها بخلاف الثاني ، فإنّ ما يفهم من اللفظ عرفا ربّما كان معلوما بالإجمال فيقع الشكّ في تفصيله ببعض الجهات ويؤول ذلك الشكّ إلى شبهة الفرديّة الّتي لا رافع لها إلاّ زوال الشكّ المذكور ، والمقصود من إعمال الأمارة هنا إزالة ذلك الشكّ المنتجة لرفع الشبهة ، ولا ريب أنّه استعمال لها على مقتضى وضعها.

نعم ربّما يشكل الحال هاهنا في أمرين :

أحدهما : إنّ صحّة السلب في جميع مواقعها يستلزم عدم صحّة الحمل ، كما أنّ عدم صحّة السلب في جميع مواردها يستلزم صحّة الحمل ، فما وجه عدولهم عن أخذ صحّة الحمل وعدمها أمارتين إلى صحّة السلب وعدمها.

٦٩

وثانيهما : إنّ اعتبار التبادر وعدمه أمارتين لعلّه يغني عن أخذ صحّة السلب وعدمها أمارتين ، بل هما عند التحقيق طريقان إلى إحراز التبادر وعدمه بالنسبة إلى المعنى المبحوث عنه ، إذ بصحّة سلب ما يفهم من اللفظ عرفا عنه يتبيّن أنّه ليس ممّا يتبادر من اللفظ عرفا ، كما أنّ بعدمها يتبيّن أنّه المتبادر أو ممّا هو متبادر منه عرفا.

ويندفع الأوّل : بمنع استلزام عدم صحّة السلب صحّة الحمل في تقدير ، ومنع صلوحها علامة للحقيقة لعدم اطّرادها في آخر ، ومنع عدم اعتبارهم إيّاها علامة لها في تقدير ثالث.

وتوضيحه : إنّ الحمل المقتضي لأخذ المحمول باعتبار المفهوم في الحمليّات يرد على وجهين :

أحدهما : حمل الشيء بنفس مفهومه ومن غير نظر إلى ما هو من أوصافه وأحواله على ذات الموضوع ، كما في « زيد إنسان » و « الإنسان حيوان ».

وثانيهما : حمل مفهوم الشيء باعتبار وصف من أوصافه ، أو حال من أحواله عليها ، كما في « هذا زيد » حيث يؤخذ المحمول مفهوم « زيد » ـ وهو الذات المشار إليها ـ باعتبار وصف كونه مسمّى لهذا اللفظ ، صونا للحمل عن كونه حملا للشيء على نفسه.

وعلى قياس ذلك الحمليّات الجارية على لسان أهل اللغة ، عند بيان معاني الألفاظ إذا اخذت محمولاتها الألفاظ ، كما في قولهم : « الحيوان المفترس الأسد » إذ لا وجه لصحّة الحمل فيها إلاّ أخذ المحمول مفهوم اللفظ باعتبار وصف المسمّى له ، ولأجل جريان هذين الاعتبارين في الحمليّات كثيرا مّا يوجد قضيّة واحدة في موضوع ومحمول واحد صادقة بأحد الاعتبارين وكاذبة بالاعتبار الآخر ، كما في « زيد حيوان ، أو إنسان ، أو ناطق » إذا اعتبر المحمول الحيوان والإنسان والناطق بنفس مفاهيمها ، أو تلك المفاهيم باعتبار وصف الجنسيّة أو النوعيّة أو الفصليّة.

٧٠

هذا كلّه في الموجبات ، وعلى قياسها السوالب إذ السالبة إنّما هي لسلب الاتّحاد الّذي كان يقتضيه الحمل لولا السلب ، سواء اعتبر بين المحمول بنفس مفهومه وذات الموضوع ، أو بين مفهومه باعتبار وصفه وذات الموضوع.

وهذان الوجهان يجريان في صحّة السلب وعدمها ، ففي صورة ما لو شكّ في كون المستعمل فيه هو الموضوع له لا بدّ وأن يؤخذ المحمول مفهوم اللفظ باعتبار وصفه ، وفي صورة ما لو شكّ في فرديّة المورد لما وضع له اللفظ لا بدّ وأن يؤخذ اللفظ بنفس مفهومه محمولا ، كما يعلم وجهه بأدنى تأمّل.

وحينئذ فإن اريد بصحّة الحمل المتوهّم كونها لازمة لعدم صحّة السلب ما لو اعتبر اللفظ بنفس مفهومه محمولا في القضيّة ، ففيه : منع إطلاق الاستلزام وإنّما يستلزمها في صورة الشكّ في الفرديّة لا مطلقا.

ومع الغضّ عن ذلك ، فوجه عدولهم عنها وعدم اعتبارهم إيّاها إذا اخذت بهذا الاعتبار علامة للحقيقة انتقاض طرده بمثل « الإنسان ناطق ، أو ضاحك ، أو ماش » أو « الناطق أو الضاحك أو الماشي إنسان » وبمثل « الحيوان ناطق أو ضاحك » أو « الناطق والضاحك حيوان » إلى غير ذلك ممّا يصحّ فيه الحمل الذاتي ، وبمثل « زيد إنسان » وغيره ممّا يصح فيه الحمل المتعارفي ، فإنّ الحمل في الجميع صحيح بلا شبهة مع عدم كون ألفاظ محمولات تلك القضايا حقائق في موضوعاتها.

وإن اريد بها ما لو اعتبر مفهوم اللفظ باعتبار وصفه محمولا ، ففيه : أيضا منع إطلاق الاستلزام أوّلا ، وإنّما يستلزمها في صورة الشكّ في كون المستعمل فيه بنفسه موضوعا له لا مطلقا ، ومنع أنّهم أهملوها ولم يعتبروها في عداد العلامات ، بل اعتبروها في غير المقام التفاتا إلى أنّها مندرجة في عنوان تنصيص الواضع وتنصيص أهل اللسان ، بل وعنوان نقل نقلة المتون ، ضرورة أنّ المراد بها ما يعمّ ذكر المعنى للّفظ بطريق الحمل على نحو ما هو مفروض الكلام.

وإنّما تعرّضوا في نحو المقام لذكر خواصّ الحقيقة ، منها عدم صحّة السلب

٧١

لينفع في مقام لم يحصل شيء من الطرق المذكورة ، فإذا اخذ ذلك علامة للحقيقة لزم منه أن يؤخذ خلافه علامة للمجاز ، فلا اعتراض عليهم.

وبالتأمّل فيما قرّرناه من قاعدة الحمل يندفع ثاني الإشكالين أيضا ، فإنّ السالبة في كلّ من صحّة السلب وعدمها إذا اخذت على الوجه الأوّل أفادت سلب الوصف عن المستعمل فيه ، نظرا إلى أنّ الإيجاب والسلب يتوجّهان إلى القيد الأخير ، فإن صحّ ذلك السلب علم عدم كون المستعمل فيه مسمّى اللفظ ، وإلاّ علم كونه مسمّاه وهذا معنى كونهما علامتين.

غاية الأمر أنّه على الأوّل يستلزم الانتقال إلى عدم تبادره عند الإطلاق.

وعلى الثاني يستلزم الانتقال إلى تبادره ، وهذا غير قادح في كونهما برأسهما علامتين ، بل علامات الحقيقة والمجاز كلّها امور متلازمة ، وإنّما تتمايز بالحيثيّات فلا بدّ من اعتبار الحيثيّة ، وإلاّ فتنصيص أهل اللسان مثلا إذا أفاد العلم بوضع لفظ لمعنى يستلزم كون ذلك المعنى متبادرا عند الإطلاق.

كما يندفع به ما قد يقال : ـ على طرد عدم صحّة السلب ـ من أنّه لا يصحّ سلب جزء الشيء أو لازمه في مثل « الإنسان ليس بناطق ، أو ضاحك » مع عدم كون اللفظ فيهما حقيقة في ذلك الشيء.

فإنّ السلب في تلك القضيّة إن اخذ على الوجه الأوّل فلا ينبغي التأمّل في صحّته ، ضرورة انتفاء وصف معنى « الناطق » و « الضاحك » عن معنى الإنسان.

وإن اخذ على الوجه الثاني ، فهو وإن لم يكن صحيحا غير أنّه لا يصلح نقضا لعدم صحّة السلب الّذي هو في نحو المثال لا بدّ وأن يؤخذ على الوجه الأوّل ، كما يظهر به أيضا وجه الملازمة بين العلامتين وذيهما ، فإنّها بعد ملاحظة ما ذكر معلومة بالوجدان ، ضرورة أنّ صحّة سلب معنى اللفظ باعتبار وصفه ممّا يوجب الانتقال إلى انتفاء ذلك الوصف عن المسلوب عنه ، وهذا معنى كونه مجازا فيه ، كما أنّ عدم صحّة سلبه بهذا الاعتبار يوجب الانتقال إلى ثبوت الوصف للمسلوب عنه ، وهذا معنى كونه حقيقة فيه ، كما أنّ صحّة سلب اللفظ باعتبار نفس مفهومه

٧٢

يوجب الانتقال إلى كون الإطلاق بالنسبة إلى المورد مجازيّا ، وعدمها بهذا الاعتبار يوجب الانتقال إلى كون الإطلاق حقيقيّا لانكشاف وضعه حينئذ لمعنى يتناول المورد.

وإن شئت قلت : إنّه على الأوّل ينكشف به كونه مجازا في المعنى العامّ المتناول للمورد ، وعلى الثاني ينكشف كونه حقيقة في ذلك المعنى العامّ.

ثمّ إنّ هاهنا مناقشة معروفة ترجع إلى إحراز الملزوم بحيث لو تمّت لقضت باستحالة إحرازه ، وهي الدور الّذي اختلفت عباراتهم في تقريره من حيث التصريح والإضمار ، فالمعروف كونه مضمرا في علامة المجاز ومصرّحا في علامة الحقيقة.

وزعم بعض الأعلام (١) جواز كونه مضمرا فيهما معا ، وذهب جماعة من الفحول إلى كونه مصرّحا فيهما معا ، وهو الأوفق بالنظر والأنسب بضابطة الدور مصرّحا ومضمرا.

وتقريره ـ في جانب علامة المجاز ـ : أنّ العلم بكون المستعمل فيه مجازا يتوقّف على العلم بصحّة سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي عنه ، وهو يتوقّف على العلم بكونه مجازا ، إذ مع احتمال الحقيقة يستحيل العلم بالصحّة على هذا الوجه ، لجواز الاشتراك بين المسلوب والمسلوب عنه ، ولا يتفاوت الحال في اعتبار صحّة سلب المسمّى الوضعي بين كونه متّحدا أو متعدّدا ، فيعتبر على الأوّل صحّة سلب ذلك المتّحد بعينه ، وعلى الثاني صحّة سلب المتعدّد بجميع آحاده لينكشف به مجازيّة المستعمل فيه بالإضافة إلى اللفظ.

ونتيجة المقدّمتين أنّ العلم بكون المستعمل فيه مجازا يتوقّف على العلم بكونه مجازا.

وفي جانب علامة الحقيقة : أنّ العلم بكون المستعمل فيه حقيقة موقوف على العلم بعدم صحّة سلب اللفظ باعتبار مسمّاه الوضعي عنه ، وهو موقوف على

__________________

(١) قوانين الاصول ١٨.

٧٣

العلم بكونه حقيقة إذ مع احتمال المجازيّة يستحيل العلم بعدم الصحّة على هذا الوجه ، فالعلم بكونه حقيقه موقوف على العلم بكونه حقيقة.

وإلى نحو التقريرين يرجع ما في كلام بعض الأعاظم (١) في علامة المجاز ، من أنّ العلم بصحّة السلب إنّما يتوقّف على عدم كون المعنى من المعاني الحقيقيّة ، فلو توقّف العلم بذلك على صحّة السلب لزم الدور.

وما في كلام بعض الأجلّة (٢) في علامة الحقيقة ، من أنّ عدم صحّة السلب إنّما يعلم إذا علم بكون اللفظ حقيقة في المعنى ، فإنّ المجازي يصحّ سلبه قطعا ، فلو كان العلم بالحقيقة موقوفا على العلم بعدم صحّة السلب لزم الدور.

وأمّا من توهّمه مضمرا في جانب علامة المجاز ، فقد قرّره ـ على ما في كلام بعض الأعلام مصرّحا بكونه مضمرا بواسطتين ـ : بأنّ كون المستعمل فيه مجازا لا يعرف إلاّ بصحّة سلب جميع المعاني الحقيقيّة ، ولا يعرف سلب جميع المعاني الحقيقيّة إلاّ بعد معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها ، لاحتمال الاشتراك فإنّه يصحّ سلب بعض معاني المشترك عن بعض ، وهو موقوف على معرفة كونه مجازا ، فلو أثبت كونه مجازا بصحّة السلب لزم الدور.

ويرد عليه أوّلا : إنّ المقدّمة الثانية المفروض كونها واسطة لا تغاير المقدّمة الاولى بالذات بل هي عينها ، فإنّه إذا علم بصحّة سلب العين بمعنى الذهب والفضّة والجارية والباكية والركبة مثلا عن الربيئة كانت في معنى العلم بأنّها ليست بشيء منها.

ولو سلّم المغايرة ، فهي مغايرة استلزاميّة على غير جهة التوقّف بدليل عدم الترتّب بينهما كما يدركه الوجدان ، وما عرفته في تعليل وجه التوقّف فمحلّه المقدّمة الاولى المحكوم عليها بالحاجة إلى صحّة سلب الجميع ، كما هو واضح.

وثانيا : إنّه على فرض تسليم الإضمار مضمر بواسطة لا بواسطتين ، فإنّ

__________________

(١) إشارات الاصول : ٣٥ ( الطبعة الحجرية ).

(٢) هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله.

٧٤

الواسطة فيما بين مقدّمات الدور عبارة عن المقدّمة المتخلّلة فيما بين الصغرى والكبرى ، اللتين تتمايزان بكون الموقوف في إحداهما عين الموقوف عليه في الاخرى ، فالاولى هي الصغرى كما أنّ الثانية هي الكبرى.

ولا ريب أنّ المتخلّلة هنا مقدّمة واحدة ، وهي كون معرفة سلب جميع المعاني الحقيقيّة متوقّفة على معرفة أنّ المستعمل فيه ليس منها.

ولعلّ توهّم من توهّم ذلك نشأ عن أخذ الكبرى إحدى الواسطتين ، لأنّها مع المقدّمة المذكورة متخلّلة بين الصغرى والنتيجة وهو كما ترى ، مع قضائه بسقوط الدور المصرّح بالمرّة.

وأمّا من توهّمه مضمرا في علامة الحقيقة كبعض الأعلام (١) فقد قرّره : بأنّ معرفة كون اللفظ حقيقة في المورد ـ كالإنسان في البليد ـ موقوفة على عدم صحّة سلب معانيه الحقيقيّة عنه ، وعدم صحّة سلب معانيه الحقيقيّة عنه موقوف على عدم معنى حقيقي له يجوز سلبه عنه ، ومعرفة عدم هذا المعنى موقوفة على معرفة كون اللفظ حقيقة فيه.

ويرد عليه : إنّ عدم صحّة سلب الجميع في قضيّة لا يصحّ (٢) إمّا أن يراد به ما يكون مفاده سلب العموم على معنى رفع الإيجاب الكلّي ، ليكون المعنى : أنّ علامة الحقيقة أن لا يصحّ سلب جميع الحقائق سواء صحّ سلب البعض أو لا ، أو يراد به ما يكون مفاده عموم السلب على معنى السلب الكلّي ، ليكون المعنى : أنّ علامة الحقيقة أن لا يصحّ سلب شيء من الحقائق ، فإن كان الأوّل سقط اعتبار الواسطة لعدم الحاجة إليها حينئذ ، فإنّه يصحّ العلم بعدم صحّة سلب الجميع على هذا الوجه مع العلم بأنّ للّفظ معنى آخر يصحّ سلبه عن المورد كما هو واضح.

وإن كان الثاني ، بطلت المغايرة بين المقدّمتين الاولى والثانية ، فإنّ العلم بعدم

__________________

(١) قوانين الاصول : ١.

(٢) والمراد به قضيّة قولنا : لا يصحّ سلب الجميع ، كما أشار إليه في تعليقته على القوانين بقوله : فإنّ عدم صحّة سلب الجميع الذي هو في معنى قولنا : لا يصحّ سلب الجميع ... الخ.

٧٥

صحّة سلب شيء من الحقائق عن المورد في معنى العلم بعدم معنى للّفظ يصحّ سلبه عنه.

ولو سلّم المغايرة فالثانية ممّا يستلزمها الاولى لا أنّها يتوقّف عليها ، هذا مع ما في الالتزام بهذا الاعتبار في علامة الحقيقة من الفساد الواضح ، فإنّ عدم صحّة سلب جميع الحقائق عن المورد على هذا الوجه غير معقول ، إذ المورد إمّا بنفسه معنى حقيقي للّفظ بالنظر إلى الواقع ، أو فرد من معنى حقيقي له.

والأوّل لا يتصوّر فيه إلاّ عدم صحّة سلب أحد الحقائق على التعيين ، وإلاّ لزم بملاحظة ما سبق ـ من أنّ عدم صحّة السلب في جميع موارده يستلزم صحّة الحمل ـ صدق حقائق متعدّدة على حقيقة واحدة ، وكذلك على الثاني ، وهذا كما ترى محال إلاّ على الثاني إذا كانت الحقائق امورا متلازمة متصادقة في مصداق واحد.

ولا ريب أنّ تنزيل العلامة إلى نحو هذه الصورة النادرة بعيد عن نظر أرباب الفنّ ، مع أنّ اعتبار نحو ذلك في موضع الحاجة إلى النظر في العلامة التزام بما لا حاجة إليه ، حيث لا غرض من إعمالها والنظر فيها إلاّ استعلام كون المورد مسمّى اللفظ أو اندراجه في مسمّاه.

وواضح أنّ هذا الغرض يتأتّى لمجرّد عدم صحّة سلب المعنى الحقيقي في الجملة ، على معنى بعض الحقائق.

ودعوى : أنّه لا يثبت حينئذ إلاّ الحقيقة في الجملة لا مطلقا ممّا لا يرجع إلى محصّل ، فإنّ الحقيقيّة وصف في المعنى تلاحظ بالإضافة إلى اللفظ في نوع الاستعمالات الطارئة له باعتبار هذا المعنى ، فلا تضاف إلى معنى من معانيه بل هي من هذه الجهة ليست من الامور الإضافيّة ليلاحظ فيها الإضافة والنسبة ، وإنّما هي صفة تابعة للوضع ، فتثبت حيثما يثبت.

نعم ربّما تلاحظ النسبة في المجازيّة ، كما في المشترك إذا استعمل في أحد معانيه لا للوضع الثابت له بل لعلاقة بينهما ، فيقال : إنّه مجاز بالإضافة.

٧٦

ومن هنا التزموا في تعريف الحقيقة بما التزموا من اعتبار قيد الحيثيّة ، فكونه مجازا إنّما هو بالنسبة إلى هذا المعنى لا مطلقا ، ولذا يشترط في ثبوت المجازيّة المطلقة صحّة سلب جميع الحقائق ، وإلاّ لا يعلم بانتفاء الوضع عن المورد مطلقا ، ومقايسة عدم صحّة السلب عليها في اعتبار الجميع بالمعنى المفروض كمقايستها عليه في الاكتفاء بالبعض ممّا يبعد عن طريقة العلماء ، بل خروج عنها بالمرّة ، لوضوح الفرق بينهما كرابعة النهار.

ثمّ بملاحظة ما قدّمناه مرارا يندفع الدور ، لتغاير محلّ التوقّف تغايرا ذاتيّا ، كما لو كان الناظر في الأمارتين جاهلا ساذجا أو مشوبا لعلمه في الجملة ، فإنّ المراد بصحّة السلب وعدمها حينئذ ما تتحقّق عند أهل العرف العالمين بحال اللفظ المميّزين لحقائقه عن مجازاته ، وهما علامتان للجاهل بأحد هذين المذكورين ، أو اعتباريّا كما لو كان جاهلا مشوبا ، لعلمه الإجمالي بمسمّى اللفظ مع رجوع شكّه إلى كونه في الاندراج ، لتعدّد جهة التوقّف حينئذ بالإجمال والتفصيل فلا دور مطلقا.

وممّن دفع الدور على الوجه الّذي قرّرناه بعض الأجلّة (١) من أنّ المراد صحّة السلب وعدمها في العرف على الإطلاق ، أي في الكلام المجرّد عن القرينة وحينئذ فلا دور ولا إشكال ، وذلك لأنّه إذا صحّ في العرف أن يقال للبليد : « ليس بحمار » مع تجرّد الكلام عن القرينة المعيّنة للمراد ، علم أنّ « الحمار » لم يوضع لما يتناول « البليد » وإلاّ لم يصحّ سلبه عنه إلاّ بقرينة ، وإذا لم يصحّ في العرف أن يقال له : « ليس بإنسان » مع التجرّد علم أنّ الإنسان موضوع لما يتناوله ، وإلاّ لصحّ سلبه عنه من غير قرينة وذلك واضح.

وفي معناه ما أفاده الوحيد البهبهاني (٢) : من أنّ المراد سلب ما يستعمل فيه اللفظ عرفا مجرّدا عن القرينة وما يفهم منه كذلك عرفا ، إذ لا شكّ في أنّه يصحّ

__________________

(١) هو السيّد بحر العلوم قدس‌سره. ( منه ).

(٢) الفوائد الحائريّة : ٣٢٥.

٧٧

عرفا أن يقال للبليد : « إنّه ليس بحمار » ولا يصحّ أن يقال : « ليس برجل ، ولا ببشر ، أو بإنسان ».

وهذا ما حكاه بعض الأعلام بعين تلك العبارة لكنّه اعترض عليه : بأنّ ذلك مجرّد تغيير عبارة ولا يدفع السؤال ، فإنّ معرفة ما يفهم من اللفظ عرفا مجرّدا عن القرائن هو بعينه معرفة الحقائق ، سواء اتّحد المفهوم العرفي وفهم معيّنا أو تعدّد بالاشتراك ففهم الكلّ إجمالا ، وذلك يتوقّف على معرفة كون المستعمل فيه ليس هو عين ما يفهم عرفا على التعيين ، أو من جملة ما يفهم عرفا على الإجمال ، فيبقى الدور بحاله انتهى (١).

ولعلّه قدس سرّه أخذ ما في العبارة من قيد « عرفا » في الموضعين الأوّلين قيدا « للاستعمال » و « الفهم » كما هو مقتضى صريح كلامه ، وحينئذ فالاعتراض عليه كما ذكره.

ولكن يدفعه : ذلك القيد في الموضع الثالث ، فإنّه ظاهر كالصريح في كونه قيدا « للصحّة وعدمها » وأصرح منه ما في ذيل العبارة من قوله : « والحاصل الصحّة وعدمها العرفيّان علامتان » ومع ذلك يتعيّن ما في أوّل العبارة لكونه قيدا للسلب الّذي يضاف إليه الصحّة وعدمها ، وعليه فلا اعتراض.

وفي كلام جماعة منهم الفاضل في شرح الزبدة ، والنراقي في عين الاصول دفع الدور بأنّ المراد من قولنا : « صحّة السلب من علامات المجاز » إنّا إذا علمنا المعنى الحقيقي للّفظ ومعناه المجازي ولم نعلم ما أراد القائل منه ، فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد أنّ المراد المعنى المجازي.

ثمّ قالوا : إنّ الدور لا يندفع في جانب عدم صحّة السلب ، فإنّا إذا علمنا المعنيين ولم نعلم أيّهما ، المراد فلا يمكن معرفة كونه حقيقة بعدم صحّة سلب المعنى الحقيقي.

__________________

(١) قوانين الاصول ٢١ : ١.

٧٨

وعلّله بعضهم كما عن المحقّق الشريف ، بأنّ العامّ المستعمل في فرده مجاز مع امتناع سلب معناه عن مورد استعماله.

وهذا كما ترى لا ينطبق على المدّعى ، لوضوح الفرق بين انتقاض طرد العلامة وبين تضمّنها الدور ، هذا مع ما في البيان المذكور بالقياس إلى علامة المجاز من حيث إنّه بظاهره لا ينطبق على قواعدهم ، وما هو المقصد الأصلي من وضع العلامات كما لا يخفى.

ويمكن إصلاحه بضرب من التوجيه : بكون العلم بالمعنيين مرادا به الإجمالي وبالمورد ما يكون فردا مردّدا بين كونه من المعنى الحقيقي المعلوم بالإجمال أو من المعنى المجازي المعلوم بالإجمال ، مع ورود الاستعمال فيه من باب إطلاق الكلّي على الفرد المردّد بين كونه المعنى الحقيقي أو المجازي « كالماء » إذا أطلق على « ماء السيل » المشكوك في كونه باعتبار مسمّاه الوضعي أو باعتبار مسمّى « الوحل » الّذي قد تستعمل فيه الماء مجازا.

وممّا يؤيّد إرادة هذا المعنى قولهم : « فإنّا نعلم بصحّة سلب المعنى الحقيقي عن المورد ... الخ » فإنّ المورد لا يراد به إلاّ مورد الاستعمال ، ولا يجوز أن يراد به مع فرض الجهل بالمراد إلاّ الفرد مع جهالة حاله ، مع أنّ السلب من دون العلم بالمسلوب منه غير معقول ، ولا يصلح له في مفروض العبارة إلاّ الفرد ، وعليه فمفادها ما يرجع إلى ما قرّرناه أخيرا.

لكن يشكل : بأنّ هذا التوجيه يقضي بجريان الجواب في علامة الحقيقة أيضا ، فلا وجه لما تقدّم فيه من الإشكال ، إلاّ أن يوجّه أيضا ، بأنّ العلم الإجمالي لا يكفي في الحكم على اللفظ بكونه حقيقة ، لأنّه كما يجامع فرض الإطلاق كذلك يجامع فرض الاستعمال في الخاصّ بقيد الخصوصيّة ، واستعمال العامّ فيه مجاز مع عدم صحّة سلبه عنه.

لكن يدفعه : فرض الإطلاق من أوّل الأمر ورجوع الشكّ في الفرد إلى تعيين المعنى العامّ المراد من اللفظ.

٧٩

ومن الأجلّة (١) من أجاب عن الدور أيضا : بأنّ المراد بصحّة السلب هو صحّة سلب المعنى الملحوظ في الإثبات في نفس الأمر لا مطلق المعنى ، حتّى يلزم فساد الحكم بصحّة السلب في بعض صوره ، وعدم دلالته على المجاز في بعض آخر ، ولا خصوص المعنى الحقيقي ليلزم الدور في العلامة.

وتوضيح ذلك : إنّ في إطلاق « الحمار » على « البليد » قد لوحظ معنى الحيوان الناهق ، فإنّ إطلاقه عليه إنّما هو بهذا الاعتبار ، مع أنّه يصحّ سلب هذا المعنى بعينه عنه في نفس الأمر ، فيقال : « البليد ليس بحمار » أي ليس بحيوان ناهق في نفس الأمر فتكون مجازا فيه ، إذ لو كان حقيقة لكان البليد حمارا ، أي حيوانا ناهقا في نفس الأمر والمفروض خلافه.

وإذا عرفت معنى صحّة السلب الّذي هو علامة المجاز تبيّن لك المراد من عدم صحّة السلب الّذي هو علامة الحقيقة.

ويرد عليه : أنّ صحّة السلب وعدمها النفس الأمريّين وإن كانا ملزومين للمجاز والحقيقة بحسب نفس الأمر ، غير أنّهما ما لم ينكشفا للجاهل لا يترتّب عليهما فائدة العلامة كما مرّ مرارا ، كما أنّهما إذا انكشفا من دون معلوميّة وصف المعنى المسلوب ليسا بملزومين لهما ، وكونه في نفس الأمر هو المعنى الحقيقي لا يجدي في معرفة كون المعنى المسلوب عنه هو المعنى المجازي أو الحقيقي ، فلا بدّ أوّلا من معرفة أصل الصحّة وعدمها ، وثانيا من معرفة كون المسلوب هو المعنى الحقيقي ، وهو مع الجهل بحال المستعمل فيه المسلوب عنه عند استعلام حاله بهما دوريّ لا محالة.

ومن الأفاضل (٢) من دفع الدور ، بأنّ ما يتوقّف عليه الحكم بعدم صحّة السلب هو ملاحظة المعنى الحقيقي بنفسه ، لا ملاحظته بعنوان كونه معنى حقيقيّا ، والمعلوم بالعلامة المفروضة هو الصفة المذكورة.

__________________

(١) هو السيّد مهدي بحر العلوم رحمه‌الله.

(٢) هداية المسترشدين : ٥٠ ( الطبعة الحجريّة ).

٨٠