تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٢

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيّد علي الموسوي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥١

نعم إنّما شاع في غيرها الإطلاق على الزائد أو الناقص ، غير إنّ الظاهر أنّه ليس إطلاقا على الزائد بوصف الزيادة ، ولا على الناقص بوصف النقصان ، ليكون مجازا على التحقيق المتقدّم ، بل هو إطلاق على أحدهما على أنّه الحدّ التامّ تنزيلا للزيادة والنقصان منزلة عدمهما ، فالتسامح إنّما هو في الزيادة والنقصان ، حيث ينزّل الأوّل لعدم الاعتداد به من جهة قلّته منزلة المعدوم ، والثاني لعدم الاعتداد به من جهة قلّته منزلة الموجود. وهذا هو معنى ما يقال : إنّ الإطلاق في محلّ التسامح.

كما أنّه ليس على وجه الحقيقة لغة ولا عرفا فكذلك ليس على وجه المجاز اللغوي ـ الّذي هو عبارة عن الكلمة المستعملة فيما وضعت له ـ بل هو من باب المجازي العقلي.

إذ لا ريب أنّ المولى إذا أمر عبده بشراء منّ من الحنطة ، أو بإتيان قصعة من الماء ، فهو يريد منه المنّ الحقيقي ، فإذا اشترى بنقص قيراط من المنّ ينزّل ذلك في مقام الامتثال منزلة العدم ، فكأنّه أتى بالمنّ التامّ ، لا أنّ المولى أراد منه الناقص فأتى به امتثالا ، فهذا الناقص من أفراد المنّ ادّعاء ومسامحة من العرف ، وكذا الكلام في القصعة.

وفي كلام غير واحد الاستدلال على نفي الحقيقيّة في الزائد والناقص ، بأنّه لو كان لفظ « المنّ » حقيقة في الأقلّ من المقدار المعهود بمثقال لقربه منه وقلّة نقصانه عنه ، لكان حقيقة في أقلّ منه أيضا بمثقالين ، لقربه من الأقلّ بمثقال الّذي هو أيضا معنى حقيقي للّفظ وقلّة نقصانه بالنظر إليه ، وهكذا يقال إلى ما ينتهى إليه النقصان.

وكذا الكلام في جانب الزيادة إلى ما لا يتناهى وبطلانه من البديهيّات ، وفيه من الغرابة والوهن ما لا يخفى.

فإنّ موضوع المسألة ما يتسامح فيه العرف ، ولذا يقيّد الزيادة والنقصان بكونهما يسيرين ، ولا ريب أنّه لا يتسامح عرفا في إطلاق الألفاظ المذكورة على الزائد والناقص إلاّ فيما كان الزيادة والنقصان ملحوظين بالقياس إلى الحدود

٢٤١

المعيّنة ، فدعوى الحقيقة مختصّة بذلك لأنّه مورد التسامح ، لا الزيادة والنقصان بجميع مراتبهما ، وهذا واضح.

واعلم : أنّه قد يتسامح عرفا في غير المقادير ممّا فيه خليط مستهلك من غير جنسه ، فيطلق الاسم على مسمّاه تنزيلا للخليط من جهة عدم الاعتداد به ، لقلّته واستهلاكه منزلة عدمه ، أو كونه من جنس المسمّى كالسمن إذا كان فيه شيء من الدبس ، والحنطة إذا كان فيه شيء من التراب ونحوه ، واللبن إذا كان فيه شيء من الماء ، والماء إذا كان فيه شيء من الطين وما أشبه ذلك ، فالإطلاق بعد التنزيل المذكور يقع على وجه الحقيقة.

ولك أن تقول : إنّ المسامحة في نحو هذه الإطلاقات ليست من جهة أصل المسمّى ، بل هي راجعة إلى الأوزان المضافة إليه من المنّ ونحوه ، لأنّه إذا فرض الخليط لاستهلاكه في جنب المنّ من المسمّى بمنزلة عدمه لنقص المسمّى عن المنّ بمقدار الخليط ، فيكون المسامحة في المنّ من السمن مثلا في إطلاق المنّ عليه لا في إطلاق السمن ، على معنى إنّ السمن المخلوط بشيء من الدبس سمن حقيقة من غير مجاز عقلي فيه ، إلاّ أنّ كونه مقدار المنّ مبنيّ على المسامحة من جهة التنزيل.

ثمّ عن بعض الفقهاء كالإسكافي في تحديد الكرّ ، والشهيد في القواعد التعدّي في المسامحة عن التحديدات العرفيّة إلى التحديدات الشرعيّة ، بدعوى : ابتنائها على التقريب كما عن الأوّل ، أو لصدق الاسم كما عن الثاني ، في سنّ مفارقة الولد في السبع فاحتمل جواز نقصه بيوم أو اسبوع تعليلا بما ذكر.

وربّما جعل نظير ذلك ما عن بعضهم من الحكم بصحّة السجود على القرطاس المكتوب والحجر الّذي يعلوه الوسخ ، التفاتا إلى أنّه يقال في العرف إنّه سجد على القرطاس أو الحجر ، ولا يبعد القول بكونه لازما لمدّعي النقل والحقيقة العرفيّة في المقادير بالنسبة إلى الزائد والناقص.

وتظهر الفائدة في تحديد الكرّ وزنا ومساحة ، ومنزوحات البئر وغلاّت الزكاة

٢٤٢

وعشرة أيّام زمان الإقامة ، وأقلّ زمان الحيض وأكثره ، وزمان التردّد في غير محلّ الإقامة ، ومسافة القصر ، وعدد المطلّقات ، والمتوفّى عنها زوجها ، وما أشبه ذلك ممّا لا يحصى.

وفيه تأمّل مع مساعدة الظاهر والأصل والاحتياط على خلافه.

نعم لا يبعد القول بجواز المسامحة في الغلاّت الزكويّة إذا كان الموجب لنقصها خلطها بشيء من التراب ونحوه ، فيسوغ دفعها حينئذ إلى المستحقّ أداء للحقّ الواجب ، بل يكون النقصان من هذه الجهة مغتفرا في اعتبار النصب ، لأنّه المعلوم من سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وامنائه عليهم‌السلام الثابت بتقريرهم ، ونحوه المسامحة في نزح الدلاء في منزوحات البئر ، لما يغلب فيه من أنّها لا تملأ ، والطهارة بالماء مع غلبة اختلاطه بشيء يسير من الطين ، للقطع الضروري بعدم إلزامهم عليهم‌السلام الدافعين للزكوات على دفع الخالص من الخليط ، ولا النازحين والمتطهّرين بإملاء الدلاء وتخليص الماء ، مع عدم إمكانهما عادة ، بل المقطوع به ثبوت ذلك بفعلهم عليهم‌السلام فضلا عن تقريرهم الّذي يتّسع فيه مجال المناقشة.

وبالجملة : فالأصل في التحديدات الشرعيّة عدم المسامحة إلاّ ما ثبت جوازه بالدليل ، وعليه عمل العلماء في الأعصار والأمصار ، لشذوذ المخالف ، مع اختصاص مخالفته ببعض المذكورات.

٢٤٣
٢٤٤

معالم الدين :

أصل

لا ريب في وجود الحقيقة اللغويّة والعرفيّة. وأمّا الشرعيّة ، فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها. فذهب إلى كلّ فريق. وقبل الخوض في الاستدلال ، لا بدّ من تحرير محلّ النزاع.

فنقول : لا نزاع في أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع ، المستعملة في خلاف معانيها اللّغويّة ، قد صارت حقائق في تلك المعاني ، كاستعمال « الصلاة » في الأفعال المخصوصة ، بعد وضعها في اللّغة للدعاء ، واستعمال « الزكاة » في القدر المخرج من المال ، بعد وضعها في اللّغة للنموّ ، واستعمال « الحجّ » في أداء المناسك المخصوصة ، بعد وضعه في اللّغة لمطلق القصد. وإنّما النزاع في أنّ صيرورتها كذلك ، هل هي بوضع الشارع وتعيينه إيّاها بازاء تلك المعاني بحيث تدلّ عليها بغير قرينة ، لتكون حقائق شرعيّة فيها ، أو بواسطة غلبة هذه الألفاظ في المعاني المذكورة في لسان أهل الشرع ، وإنّما استعملها الشارع فيها بطريق المجاز بمعونة القرائن ، فتكون حقائق عرفيّة خاصّة ، لا شرعيّة.

وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا وقعت مجرّدة عن القرائن في كلام الشارع ؛ فانّها تحمل على المعاني المذكورة بناء على الأوّل ، وعلى

٢٤٥

اللّغويّة بناء على الثاني. وأمّا إذا استعملت في كلام أهل الشرع ، فانّها تحمل على الشرعيّ بغير خلاف.

احتجّ المثبتون : بأنّا نقطع بأنّ « الصلاة » اسم للركعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات ، وأنّ « الزكاة » لأداء مال مخصوص ، و « الصيام » لامساك مخصوص ، و « الحجّ » لقصد مخصوص. ونقطع أيضا بسبق هذه المعاني منها إلى الفهم عند إطلاقها ، وذلك علامة الحقيقة. ثمّ إنّ هذا لم يحصل إلاّ بتصرّف الشارع ونقله لها إليها ، وهو معنى الحقيقة الشرعيّة.

وأورد عليه : أنّه لا يلزم من استعمالها في غير معانيها أن تكون حقائق شرعيّة ، بل يجوز كونها مجازات.

وردّ بوجهين : أحدهما : أنّه إن اريد بمجازيّتها : أنّ الشارع استعملها في [ غير ] معانيها ، لمناسبة المعنى اللّغويّ ، ولم يكن ذلك معهودا من أهل اللّغة ، ثم اشتهر ، فأفاد بغير قرينة ، فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة ، وقد ثبت المدّعى ؛ وإن اريد بالمجازيّة : أنّ أهل اللّغة استعملوها في هذه المعاني والشارع تبعهم فيه ، فهو خلاف الظاهر ؛ لأنّها معان حدثت ، ولم يكن أهل اللّغة يعرفونها ، واستعمال اللّفظ في المعنى فرع معرفته.

وثانيهما : أنّ هذه المعاني تفهم من الألفاظ عند الاطلاق بغير قرينة. ولو كانت مجازات لغويّة ، لما فهمت إلاّ بالقرينة.

وفي كلا هذين الوجهين مع أصل الحجّة بحث.

أمّا في الحجّة ، فلأنّ دعوى كونها أسماء لمعانيها الشرعيّة لسبقها منها إلى الفهم عند إطلاقها ، إن كانت بالنسبة إلى إطلاق الشارع فهي ممنوعة. وإن كانت بالنظر إلى اطلاق أهل الشرع فالذي يلزم حينئذ هو كونها حقائق عرفيّة لهم ، لا حقايق شرعيّة.

وأمّا في الوجه الأوّل ، فلأنّ قوله : « فذلك معنى الحقيقة الشرعيّة »

٢٤٦

ممنوع ، إذ الاشتهار والافادة بغير قرينة إنّما هو في عرف أهل الشرع ، لا في إطلاق الشارع. فهي حينئذ حقيقة عرفيّة لهم ، لا شرعيّة.

وأمّا في الوجه الثاني ، فلما أوردناه على الحجّة ، من أنّ السبق إلى الفهم بغير قرينة إنّما هو بالنسبة إلى المتشرّعة لا إلى الشارع.

حجّة النافين وجهان.

الأوّل : أنّه لو ثبت نقل الشارع هذه الألفاظ إلى غير معانيها اللّغوية ، لفهّمها المخاطبين بها ، حيث انّهم مكلّفون بما تتضمّنه. ولا ريب أنّ الفهم شرط التكليف. ولو فهّمهم إيّاها ، لنقل ذلك إلينا ، لمشاركتنا لهم في التكليف. ولو نقل ، فإمّا بالتواتر ، أو بالآحاد. والأوّل لم يوجد قطعا ، وإلاّ لما وقع الخلاف فيه. والثّاني لا يفيد العلم. على أنّ العادة تقضي في مثله بالتواتر.

الوجه الثاني : أنّها لو كانت حقائق شرعيّة لكانت غير عربيّة ، واللاّزم باطل ، فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أنّ اختصاص الألفاظ باللّغات إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها. والعرب لم يضعوها ؛ لأنّه المفروض ، فلا تكون عربيّة. وأمّا بطلان اللاّزم ، فلانّه يلزمه أن لا يكون القرآن عربيّا ؛ لاشتماله عليها. وما بعضه خاصّة عربّي لا يكون عربيّا كلّه. وقد قال الله سبحانه : « إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا ».

وأجيب عن الأوّل : بأن فهّمها لهم ولنا باعتبار التّرديد بالقرائن ، كالأطفال يتعلّمون اللّغات من غير أن يصرّح لهم بوضع الّلفظ للمعنى ؛ إذ هو ممتنع بالنسبة إلى من لا يعلم شيئا من الألفاظ. وهذا طريق قطعيّ لا ينكر. فان عنيتم بالتفهيم بالنقل : ما يتناول هذا ، منعنا بطلان اللازم ، وإن عنيتم به : التصريح بوضع اللفظ للمعنى ، منعنا الملازمة.

وعن الثاني : بالمنع من كونها غير عربيّة. كيف ، وقد جعلها الشارع حقائق شرعيّة في تلك المعاني مجازات لغويّة في المعنى اللّغويّ ؛ فإنّ

٢٤٧

المجازات الحادثة عربيّة ، وإن لم يصرّح العرب بآحادها ، لدلالة الاستقراء على تجويزهم نوعها. ومع التنزّل ، نمنع كون القرآن كلّه عربيّا ، والضمير في « إنّا أنزلناه » للسّورة ، لا للقرآن ، وقد يطلق « القرآن » على السورة وعلى الآية.

فان قيل : يصدق على كلّ سورة وآية أنّها بعض القرآن ، وبعض الشيء لا يصدق عليه أنّه نفس ذلك الشيء.

قلنا : هذا إنّما يكون فيما لم يشارك البعض الكلّ في مفهوم الاسم ، كالعشرة ، فانّها اسم لمجموع الآحاد المخصوصة ، فلا يصدق على البعض ، بخلاف نحو الماء ، فانّه اسم للجسم البسيط البارد الرطب بالطبع ، فيصدق على الكلّ وعلى أيّ بعض فرض منه ، فيقال : هذا البحر ماء ، ويراد بالماء مفهومه الكلّيّ ، ويقال : إنّه بعض الماء ، ويراد به مجموع المياه الذي هو أحد جزئيّات ذلك المفهوم. والقرآن من هذا القبيل ، فيصدق على السورة أنّها قرآن وبعض من القرآن ، بالاعتبارين ، على أنّا نقول : إنّ القرآن قد وضع ـ بحسب الاشتراك ـ للمجموع الشخصيّ وضعا آخر ، فيصحّ بهذا الاعتبار أنّ يقال السورة بعض القرآن.

إذا عرفت هذا ، فقد ظهر لك ضعف الحجّتين.

والتحقيق أنّ يقال : لا ريب في وضع هذه الألفاظ للمعاني اللّغويّة ، وكونها حينئذ حقائق فيها لغة ، ولم يعلم من حال الشارع إلاّ أنّه استعملها في المعاني المذكورة. أما كون ذلك الاستعمال بطريق النقل ، أو انّه غلب في زمانه واشتهر حتّى أفاد بغير قرينة ، فليس بمعلوم ؛ لجواز الاستناد في فهم المراد منها إلى القرائن الحاليّة أو المقاليّة ؛ فلا يبقى لنا وثوق بالإفادة مطلقا. وبدون ذلك لا يثبت المطلوب. فالترجيح لمذهب النافين ، وإن كان المنقول من دليلهم مشاركا في الضعف لدليل المثبتين.

٢٤٨

[٤٧] قوله : (لا ريب في وجود الحقيقة اللغويّة والعرفيّة ... الخ)

قد عرفت أنّ الحقيقة باعتبار الوضع المأخوذ فيها تنسب إلى ما نسب إليه واضعها ، فتنقسم بهذا الاعتبار إلى اللغويّة ، والعرفيّة العامّة والخاصّة ، والشرعيّة ، وإفراد الشرعيّة مع أنّها قسم من الخاصّة ، لشرفها واختصاصها بمزيد بحث.

ولا ريب في وجود اللغويّة والعرفيّة الخاصّة ، كما لا إشكال في وجود العرفيّة العامّة ، والقول بعدم وجودها لكونه ـ مع شذوذه ـ قاطعا لما ثبت بضرورة من العرف واضح الضعف ، فلا ينبغي الالتفات إليه كما لم يلتفت إليه المصنّف.

وربّما يشكل الحال في التقسيم المذكور باعتبار قصوره بظاهر لفظه عن شموله للحقائق الموضوعة بوضع التعيّن ، لظهور الواضع المأخوذ فيه طرفا للنسبة في موجد الوضع وفاعله.

ويساعد عليه وضع اسم الفاعل للذات المتّصفة بالمبدأ من حيث وقوعه وصدوره منه ، فلا يصدق على غلبة الاستعمالات المجازيّة الموجبة لوضع التعيّن. وقضيّة ذلك عدم اندراج ما وضع بهذا الوضع في التقسيم.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاقتصار في التقسيم على الحقائق الموضوعة بوضع التعيين ليس إهمالا في الحقائق الموضوعة بوضع التعين ، بل إحالة للأمر فيها إلى اتّضاحه من تقسيم الحقائق الموضوعة بوضع التعيين ، فإنّه إذا علم أنّها تنسب إلى ما نسب إليه واضعها فيعلم أنّ الحقائق الموضوعة بوضع التعيّن تنسب إلى ما نسب إليه مستعمليها ، فتنقسم إلى الأقسام المذكورة.

ويمكن الذبّ أيضا : بحمل الواضع على ما يعمّ فاعل الوضع والمستعمل ، أعني القدر الجامع بينهما ، وهو الّذي يستند إليه الوضع بمعنى التعيّن ، إمّا بتعيينه أو استعمالاته المجازيّة.

وإن شئت قلت : إنّه يراد بالواضع سبب الوضع ، وهو أعمّ من فاعله والاستعمالات المجازيّة ، وإطلاق المشتقّ على سبب وجود الحدث كثير شائع في كلامهم ، ومنه ما في كلام الفقهاء من إطلاق الموجب على الأحداث الست

٢٤٩

المعروفة ، فإنّ المراد به هاهنا سبب الوجوب لا فاعله الّذي هو الشارع تعالى.

[٤٨] قوله : (وأمّا الشرعيّة فقد اختلفوا في إثباتها ونفيها ... الخ)

الأولى لاستيفاء جميع جهات البحث في الألفاظ الشرعيّة من عباداتها ومعاملاتها التكلّم ، تارة من حيث ثبوت الوضع الشرعي فيها وعدمه ، واخرى من حيث أخذ الصّحة في معانيها وعدمه ، فتمام البحث فيها يقع في فصلين :

الفصل الأوّل

في إثبات الحقيقة الشرعيّة ونفيها

واعلم : أنّ النسبة المستفادة من أداة النسبة تعريف للحقيقة الشرعيّة ، إذ ليس المقصود من تعريفها طلب ماهيّة الحقيقة الشرعيّة بجنسها ولا في فصلها ، لأنّ معرفة الماهيّة بكلا الاعتبارين قد حصلت من تعريف مطلق الحقيقة باللفظ المستعمل فيما وضع له ، بل المقصود هنا طلب المميّز ، أعني ما يميّز هذا الصنف من الماهيّة عن سائر الأصناف ، ويكفي فيه ملاحظة النسبة المأخوذة في هذا العنوان ، إذ كما أنّ الحقيقة اللغويّة يراد بها الحقيقة المنتسبة إلى اللغة ، وانتسابها إلى اللغة ، إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل اللغة ، فالحقيقة اللغويّة ما استند وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل اللغة.

والحقيقة العرفيّة يراد بها الحقيقة المنتسبة إلى العرف ، وانتسابها إلى العرف إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى أهل العرف. فالحقيقة العرفيّة ما استند وضعها تعيينا أم تعينا إلى أهل اللغة.

فكذلك الحقيقة الشرعيّة فيراد بها الحقيقة المنتسبة إلى الشرع ، وانتسابها إلى الشرع إنّما هو باعتبار استناد وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى الشارع.

فالحقيقة الشرعيّة ما استند وضعها تعيينا أم تعيّنا إلى الشارع ، وهذا كما ترى تعريف تامّ مستفاد من النسبة ، ولا حاجة معه إلى كلفة تعريف آخر ـ كما صنعه

٢٥٠

غير واحد من الأواخر ـ كبعض الأفاضل (١) حيث عرّفها : « باللفظ المستعمل في المعاني الشرعيّة الموضوع لها في عهد صاحب الشريعة » وبعض الفضلاء (٢) فعرّفها : « بالكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع شرعي ».

وهذا كلّه كما ترى كلفة لا حاجة إلى ارتكابها ، مع ما في نحو هذه التعاريف من الإطناب وغيره من الحززات الغير المستحسنة في مقام التعريف.

ولعلّ ما ذكرناه من كفاية النسبة المستفادة من أداة النسبة في تعريف الصنف هو السرّ في خلوّ كلام أوائل الاصوليّين عن التعرّض لتعريفها بالخصوص بنحو ما عرفت ، ثمّ تحقيق المسألة يستدعي رسم امور :

الأمر الأوّل : في أنّ « الشارع » بحسب أصل اللغة جاعل الشرع وواضعه ، وهو محدث الطريقة ومخترعها ، ويرشد إليه النصّ اللغوي كما عن الجوهري في تفسيره شرع : بسنّ الأمر ، الظاهر في الجعل والاختراع ، كما فهمه المحقّقون ونطق به الأخبار كما في الحديث : « من سنّ سنّة حسنة فله مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة فله مثل وزر من عمل بها ».

وقد غلّب في عرف الفقهاء والاصوليّين على ما يرشد إليه إطلاقاتهم الواردة في الكتب الفقهيّة والاصوليّة على الله عزّ وجلّ ، فإنّ قولهم : الشارع حكم بكذا ، وإنّ الأحكام التكليفيّة مجعولات للشارع ، وإنّ الوضعيّات ليست من مجعولات الشارع ، وإنّ المعاني الشرعيّة ماهيّات إخترعها الشارع ، وإنّ المعاملة الفلانيّة ممّا أمضاه الشارع إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، لا يراد منه بل لا يفهم منه إلاّ الله سبحانه ، كما يدركه المنصف ومن أنكره فهو مكابر وجدانه.

لكنّ الكلام في أنّ التغليب المذكور هل من باب النقل إليه تعالى باعتبار وصف الشارعيّة ، على معنى كون الوصف مأخوذا في كلّ من المنقول منه والمنقول إليه إلاّ أنّه في الأوّل على الوجه الكلّي وفي الثاني على الوجه الجزئي ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٩٢ ( الطبعة الحجريّة ).

(٢) الفصول الغرويّة : ٤٢.

٢٥١

فيكون من نقل الكلّي إلى الفرد ، أو أنّه من باب النقل من المعنى اللغوي الوصفي إلى المعنى الاسمي ، وهو الذات المعرّاة عن وصف المعنى اللغوي ، فيكون علما له تعالى بالغلبة كلّ محتمل.

وإن أمكن ترجيح الثاني ، بدعوى : عدم انفهامه تعالى في الإطلاقات المذكورة ونظائرها بوصف المعنى اللغوي ، ولا يبعد الالتزام بتعدّد النقل فغلّب عند أوائل الفقهاء والاصوليّين إليه تعالى من حيث إنّه ذات متّصفة بالوصف ، واخرى عند أواخرهم إلى الذات المعرّاة.

وبالجملة : فهو المراد في المسألة من « الشارع » المنسوب إليه وضع الألفاظ الشرعيّة المتنازع فيه ، كما يعلم ذلك من ملاحظة مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم واستدلالاتهم الواردة على الإثبات والنفي ، فالوضع المتنازع فيه هو وضع الشارع بهذا المعنى ، خلافا لجماعة من الأواخر ، فتخيّلوا أنّ المراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى أنّ السيّد بحر العلوم نسبه إلى ظاهر كلام القوم وغيرهم.

ونقل عن بعض المتأخّرين من أهل اللغة التصريح بذلك ، والظاهر إنّه يعني به صاحب المجمع إلاّ أنّهم اختلفوا في وجه هذا الإطلاق.

فعن بعضهم دعوى كونه حقيقة عرفيّة فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي كلام غير واحد مجيئه لغة بمعنى المبيّن للشريعة ، والآتي بها مستشهدين لذلك بنصّ بعض أهل اللغة ، المراد به ما في القاموس من تفسيره سنّ الأمر ، المتقدّم عن الجوهري في تفسير شرع ببيّنه ، فإطلاق الشارع عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما هو باعتبار هذا المعنى.

واعترض عليه تارة : بأنّه لو صحّ ذلك لصحّ إطلاق الشارع على الأئمّة عليهم‌السلام بل على علماء الشيعة أيضا ، لكونهم مبيّنين للشرع دالّين عليه ، والتالي باطل بالضرورة.

واخرى : بأنّ قضيّة ذلك كون وضع الألفاظ المتنازع فيها وضع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويشكل : بأنّه يقضي بوجوب حمل الخطابات النبويّة على المعاني الحادثة بناء على القول بالثبوت ، وأمّا الألفاظ الواردة في الكتاب العزيز فيشكل القول بتعيّن

٢٥٢

الحمل فيها ، لأنّ المتكلّم بها ـ وهو الله ـ لم يضعها لتلك المعاني على ما هو المفروض ، ووضع النبّي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقتضي وجوب الحمل في خطاباته وخطابات من تابعه من المتشرّعة لا مطلقا.

وصريح كلامهم يقتضي الاتّفاق على عدم الفرق بين الخطابات القرآنيّة والأحاديث النبويّة في وجوب الحمل على المعاني الشرعيّة أو اللغويّة.

فإنّ القائلين بالحقيقة الشرعيّة اتّفقوا على الأوّل ، والنافين لها أجمعوا على الثاني ، وهذا بخلاف ما لو قيل بأنّ الواضع هو الله تعالى ، فإنّ الحمل على المعاني الحادثة حينئذ متعيّن في الجميع.

أمّا في خطاب الله تعالى فظاهر ، وأمّا في كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلأنّه تابع على هذا التقدير كالمتشرّعة.

ويندفع الأوّل : بجواز قيام المنع الشرعي ، كما قام نظيره في إطلاق لفظ « النبيّ » مع وجود معناه في الأئمّة عليهم‌السلام ، سواء اخذ من النبأ أو من النبوّة ، مع قوّة احتمال كون الشارع بمعنى المبيّن بلا واسطة البشر ، فمعناه غير موجود في الأئمّة وعلماء الشيعة.

والثاني : بجواز التبعيّة في العكس أيضا ، فالفرق تحكّم واضح كما هو الحال في سائر اللغات على تقدير واضعيّة البشر ، فإنّ خطاباته تعالى محمولة على المعاني العرفيّة تبعا.

ويستفاد من السيّد المتقدّم ذكره ، جواز ابتناء هذا الإطلاق على كونه باعتبار المعنى الأوّل وهو جاعل الشرع وواضعه ، فإنّه بهذا المعنى يصدق عليه في الجملة لثبوت التفويض إليه في بعض الأحكام ، كالزيادة في أعداد الصلاة المكتوبة ، وجعل النافلة في الصوم والصلاة ضعف الفريضة ، وإطعام الجدّ السدس ، وتحريم المسكر عدا الخمر ونحو ذلك.

وهذا ليس من التفويض الباطل الّذي قال به الطائفة الضالّة الموسومة بالمفوّضة ، كتفويض أمر الخلق إليه ، أو تفويض الرزق إليه دون الخلق ، أو تفويض

٢٥٣

أفعال العباد إليهم على الاستقلال ، بل هو تفويض صحيح ورد به أخبار أهل العصمة ، وقد عقد الشيخان الجليلان أبو جعفر محمّد بن الحسن الصفّار القمّي ، وأبو جعفر محمّد بن يعقوب الكليني الرازي ، لذلك بابا في جامعيهما البصائر (١) والكافي (٢) وأوردا فيهما كثيرا من الروايات المعتبرة الّتي هي نصّ في المطلوب.

ولا يخفى ضعف دعوى كون المراد من « الشارع » هو النبيّ ، وأضعف منها الوجوه المذكورة في توجيه إطلاقه عليه.

أمّا الأوّل : فلأنّه إن اريد بما ذكر إرادة النبيّ على أنّه المعنى المصطلح عليه عند الفقهاء والاصوليّين.

فيدفعه : إنّ الإطلاقات الواردة في الكتب الفقهيّة كما عرفت في خلافه ، وإن اريد به إنّه علم بشهادة القرائن كون المراد به في خصوص المسألة هو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ففيه : إنّه لم نقف على قرينة تشهد به إلاّ ما يوهمه ما في العبائر من إضافة الزمان إلى الشارع في نحو قولهم : « إنّ الألفاظ نقلت إلى المعاني الشرعيّة في زمان الشارع أو بعد زمان الشارع ».

وفيه : إنّ هذا التعبير ونظائره إنّما هو للتنبيه على ما هو المعتبر عندهم ، من كون الوضع المتنازع فيه هو الوضع الحاصل في زمان ورود الشرع لا ما بعده ، فيراد بزمان الشارع زمان ظهور شارعيّة الشارع.

ومن جميع ما ذكر ظهر وجه ضعف دعوى كونه حقيقة عرفيّة في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إن اريد به عرف الفقهاء والاصوليّين ، لمساعدة إطلاقاتهم كما عرفت على خلافه.

وأمّا كون إطلاقه عليه باعتبار مجيئه لغة بمعنى المبيّن للشرع ، فيزيّفه أوّلا : منع أصل الإطلاق أو شيوعه.

وثانيا : منع مجيئه لغة لهذا المعنى بحيث لا يشهد به شاهد ، ونسبته إلى النصّ اللغوي يكذّبها إنّه خلاف ما يفهم من اللفظ عرفا ، بل خلاف ما يستفاد من كلام

__________________

(١) بصائر الدرجات : ٣٨٣ باب : في أنّ ما فوّض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوّض إلى الأئمّة عليهم‌السلام.

(٢) الكافي ١ : ٢٦٥ باب : التفويض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمّة عليهم‌السلام في أمر الدين.

٢٥٤

أهل اللغة وإطلاقات الأخبار ، وتفسير صاحب القاموس لما في كلام الجوهري بذلك بعد مخالفته لما ذكر ممّا لا يعبأ به ، حيث إنّ حجّية قول اللغوي في اللغات ليست تعبّدا محضا ، وهو مع ملاحظة ما ذكر لا يفيد اطمينانا ولا ظنّا فضلا عن العلم.

وثبوت التفويض في الجملة بعد تسليمه وتسليم دلالة النصوص عليه لا يثبت الإطلاق ومجرّد الاحتمال غير كاف ، وجواز الإطلاق بهذا الاعتبار لا يقضي بظهور كلام القوم في إرادته بعد انكشاف خلافه بشهادة ما ذكرناه.

فما قد يقال : من أنّ الوضع المتنازع فيه يمكن كونه مطلقا من الله ، بناء على أخذ الشارع بمعنى الجاعل ، أو من النبيّ بناء على أخذه بمعنى المبيّن ، أو منهما معا على التلفيق بكون وضع ما في الكتاب العزيز من الله وما في السنّة من النبيّ ، بناء على أخذ الشارع بمعنى القدر المشترك بين المعنيين كمن يؤخذ منه الشرع ونحوه ، ليس على ما ينبغي ، بل الواضع في الجميع هو الله تعالى.

هذا مع أنّ تحقيق هذا المطلب ممّا لا يثمر فائدة بالنسبة إلى الثمرة المطلوبة من ثبوت الحقائق الشرعيّة وعدمها ، كما هو واضح.

الأمر الثاني : في كلام جماعة من الاصوليّين من العامّة والخاصّة تقسيم الحقيقة الشرعيّة إلى ما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما ، وما يعرفون كليهما ولكن لم يكن اللفظ عندهم لذلك المعنى ، وقد صرّح غير واحد من الأجلّة بأنّ المعتزلة سمّوا ما عدا الأخير حقيقة دينيّة.

وفي كلام بعضهم إنّهم قالوا : « الحقيقة الدينيّة أخصّ من الشرعيّة » ، فكلّ حقيقة دينيّة شرعيّة ولا عكس ، وكأنّ وجه تسمية ما عدا الأخير دينيّة ما فيه من جهة اختصاص بهذا الدين ، من لفظ فقط أو معناه كذلك أو كليهما ، نظرا إلى عدم كون أحد هذه الامور معروفا متداولا عند غير أهل هذا الدين ، فيكون وضعه الشرعي على القول بثبوته محدثا فيه ، بخلاف الأخير فإنّه لكون لفظه ومعناه معروفين قبل حدوث هذا الدين كان وضعه الشرعي ثابتا من الشرائع السالفة.

٢٥٥

وستعرف أنّ الحقيقة الشرعيّة عندهم أعمّ ممّا ثبت وضعه من سائر الشرائع ، فتأمّل لتعرف أنّه لا ملازمة بين سبق معروفيّة اللفظ والمعنى ، وسبق وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى ، على تقدير كون اللفظ عند أهل اللغة لغير ذلك المعنى.

نعم إنّما يتّجه هذا البيان إذا فرض كون معنى اللفظ عندهم هو هذا المعنى المعروف لديهم لا غيره ، ولعلّه المراد إن لم يشكل الأمر بالقياس إلى كون وضعه شرعيّا ، والمقام لا يخلو عن تأمّل.

والأولى أن يوجّه التسمية بملاحظة ما سيأتي من أنّهم يخصّون الحقائق الدينيّة بأسماء الذوات ، المفسّرة باصول الدين وما يتعلّق بالقلب ، فليتدبّر.

وأمّا وجه التقسيم المذكور ، فلعلّه التنبيه على أنّ الحقائق الشرعيّة باعتبار الوضع ليست بأسرها منقولات ، كما يظهر من كلام كثير منهم بل صريح بعضهم ، حيث عبّر عنه بنقل الشارع ، بل فيها ما يكون وضعه من باب الارتجال كما يرشد إليه ما عن ظاهر كلام العضدي (١) والتفتازاني من أنّ الحقيقة الدينيّة بأقسامها الثلاث من الموضوعات المبتدعة دون المنقولة.

وما عن المحقّق الشريف والفاضل الباغنوي من التصريح بأنّها كذلك على الأوّل والثالث ، وأمّا على الثاني فهي محتملة للأمرين.

وكأنّ السرّ في مخالفتهما العضدي والتفتازاني بجعلها على الثاني محتملة اختلاف النظر في الوضع هنا على تقدير النقل ، من حيث كونه وضع التعيّن المسبوق على التجوّز ، أو وضع التعيين المسبوق على مجرّد ملاحظة المناسبة ، مع البناء على اشتراط نقل الآحاد في المجاز أو الاختلاف فيه أيضا.

فإطلاق الارتجال من الأوّلين بناء منهما على ترجيح نقل التعيّن على تقدير النقل ، واشتراط نقل الآحاد في المجاز ، فلا يمكن الالتزام بالنقل على الثاني لعدم كون المعنى منقولا من العرب بحكم الفرض ، ليصحّ الالتزام بسبق المجاز الّذي

__________________

(١) شرح العضدي على مختصر المنتهى لإبن الحاجب : ٥٢.

٢٥٦

هو في نحو محلّ البحث لا بدّ وأن يكون لغويّا ، كما يرشد إليه مقالة نفاة الحقيقة الشرعيّة لانتفاء شرطه.

وإبداء احتمال الأمرين من الأخرين بناء منهما على تجويز وضع التعيين ، فيجوز حينئذ كونه لملاحظة المناسبة أوّلا لها ، على منع اشتراط النقل في المجاز ، فلا مانع حينئذ من اعتبار الوضع من باب التعيّن كما جاز كونه من باب التعيين فجاز معه الأمران.

واعلم أنّ العلاّمة والسيّد وشارح المختصر ، في النهاية (١) والمنية (٢) وبيان المختصر نسبوا إلى المعتزلة أنّهم إنّما سمّوا باسم الحقيقة الدينيّة ما يقع من الأسماء الشرعيّة على الذوات ، المفسّرة في كلام غير واحد باصول الدين ، أو ما يتعلّق بالقلب كالإيمان والكفر وما يشتقّ منهما كالمؤمن والكافر ، فرقا بينها وبين ما يقع منها على الأفعال المفسّرة بفروع الدين ، أو ما يتعلّق بالجوارح كالصلاة والزكاة والمصلّي والمزكّي.

وهذا كما ترى يخالف بظاهر إطلاقه الشامل للأقسام الأربع المتقدّمة لظاهر إطلاق ما تقدّم المتناول للقسمين ، وبينهما عموم من وجه ، فيتعارضان في مادّتي الافتراق ، لكون كلّ نافيا لما أثبته الآخر كما لا يخفى.

وفي كلام بعض الفضلاء (٣) أنّ الحقيقة الدينيّة هي الّتي عرّفها المعتزلة بما لا يعرف أهل اللغة لفظه أو معناه أو كليهما ، وخصّوها بأسماء الذوات والصفات كالمؤمن والكافر وما يشتقّان منه ، دون أسماء الأفعال كالصلاة والحجّ ، وهذا كما ترى يخالف كلاّ من الأوّلين بكونه أخصّ من كلّ منهما ، وكأنّه قصد بذلك إلى الجمع بينهما تنزيلا لاصطلاح المعتزلة على مادّة اجتماعهما ، وليس ببعيد.

__________________

(١) نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ٢٢ ( مخطوط ).

(٢) منية اللبيب في شرح التهذيب : ... ( مخطوط ) حيث قال : « ثمّ إنّهم ( أي المعتزلة ) قسمّوا الأسماء الشرعيّة إلى ما جرت على الأفعال كالصلاة والصوم وإلى ما جرت على الفاعلين كالمؤمن والفاسق والكافر فسمّوا الأخير بالأسماء الدينيّة ... ».

(٣) الفصول الغرويّة : ٤٢.

٢٥٧

وأمّا توهّم إمكانه بإرجاع أحدهما إلى صاحبه ، المستلزم لطرح مادّة افتراقه ، ففيه ما فيه.

وكلامهم هنا غير خال عن الإجمال والاضطراب ، ولعلّه الباعث على فتح باب الاعتراض على ما نسب اليهم من زعمهم كون أسماء الذوات من قبيل الحقيقة الدينيّة دون أسماء الأفعال ، بأنّ هذه دعوى فاسدة لمكان القطع بأنّ الصلاة وغيرهما من أسماء الأفعال مجهولة المعاني عند أهل اللغة ، كالإيمان والكفر وغيرهما من أسماء الذوات ، فالحكم بأنّ جميع أسماء الذوات من قبيل الحقيقة الدينيّة دون أسماء الأفعال ، تحكّم محض لا يلتفت إليه.

ويمكن أن يكون نظرهم إلى قصر اصطلاحهم على ما كان الأقسام الثلاث من أسماء الذوات لا قصرها عليها ، فلا ينافي حينئذ وجود ما يكون من أسماء الأفعال مجهول المعنى عند أهل اللغة ، وعليه فيسلّم عن الاعتراض إذ لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّ في كون الاختلاف فيما بين المعتزلة وغيرهم في إثبات الحقيقة الدينيّة وعدمه اختلافا في المعنى ، بدعوى : إنّ الفريقين بعدما اتّفقا على إثبات الحقيقة الشرعيّة ـ على معنى إثبات الوضع الشرعي لها ـ اختلفا في الحقيقة الدينيّة فأثبتها المعتزلة وأنكرها غيرهم ـ على معنى إنكار الوضع لما يسمّونه حقيقة دينيّة ـ أو في مجرّد التسمية والاصطلاح ، بدعوى : أنّهما بعدما اتّفقا على إثبات الوضع الشرعي للألفاظ الشرعيّة بجميع الأقسام الأربع المتقدّمة ، وتسمية الجميع بالحقيقة الشرعيّة اختلفا في تسمية بعضها بالحقيقة الدينيّة أيضا ، فأثبتها المعتزلة دون غيرهم ، وجهان ظاهر عنوان التقسيم هو الثاني ، حيث أخذ المقسم الحقيقة الشرعيّة.

وربّما يظهر أوّلهما من عبارة الحاجبي حيث قال : الشرعيّة واقعة خلافا للقاضي ، وأثبت المعتزلة الدينيّة أيضا (١).

__________________

(١) مختصر ابن الحاجب : الورقة ١١ ( مخطوط ) وانظر أيضا شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب : ٥٢.

٢٥٨

ولعلّه لذا أورد بعض الأجلّة على نسبة القول بالحقيقة الدينيّة إلى المعتزلة خاصّة ، مع تصريحهم بأنّها قسم من الحقيقة الشرعيّة ، بأنّه إنّما يستقيم لو كان دعوى المثبتين للحقيقة الشرعيّة راجعة إلى موجبة جزئيّة ، هي إنّ الحقيقة الشرعيّة ثابتة في الجملة وهو خلاف التحقيق ، فإنّ الظاهر كما ستعرف أنّ النزاع في الحقيقة يرجع إلى الإيجاب والسلب الكلّيين ، فالقائل بالحقيقة الشرعيّة قائل بالحقيقة الدينيّة والنافي للحقيقة الدينيّة ناف للحقيقة الشرعيّة ، فلا يكون النزاع في الحقيقة الدينيّة نزاعا آخر غير النزاع في الحقيقة الشرعيّة.

وظنّي أنّ هذا غفلة منه قدس‌سره عمّا نسب إليهم ، وجزم به من تصريحهم بأنّ الحقيقة الدينيّة أخصّ من الشرعيّة وقسم منها.

وهذا كما ترى كالصريح في كونه قرينة صارفة لعبارة الحاجبي عمّا هي ظاهرة فيه ، لقضائه بأنّ المعتزلة بعد إثباتهم الحقيقة الشرعيّة على وجه الإيجاب الكلّي وفاقا لغيرهم من مثبتيها على هذا الوجه ، تفرّدوا بإثبات الحقيقة الدينيّة أيضا ولم يبق له محلّ إلاّ إثباتها بحسب التسمية ، وبه يقيّد إطلاق عبارة الحاجبي ، فمخالفة غيرهم لهم إنّما هي في تسمية ما يسمّونه بذلك الاسم.

وظاهر أنّ إنكار التسمية لا يلازم إنكار المسمّى ، لثبوته عند غيرهم أيضا على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة ، إلاّ أنّهم لا يسمّونه بهذا الاسم.

وأيضا فإنّ في كلام غير واحد : إنّ ما ذكروه من الأنواع الأربع ، إنما هو مجرّد فرض وتجويز عقل ، وإلاّ فالموجود منها في الخارج ليس إلاّ أحد الأنواع ، وهو ما يعرف أهل اللغة لفظه دون معناه ، فلو أنّ الاختلاف المذكور كان معنويّا لكان معقد البحث في الحقيقة الشرعيّة الّذي هو مطرح أدلّة المثبتين والنافين مجرّد فرض لا خارج له فيما بين الألفاظ ، أو هو على تقدير وقوعه في غاية الندرة ، وفيه ما فيه.

وبما قرّرناه يعلم أنّه لا تدافع بين ما في بعض العبائر من التصريح بانحصار الحقيقة الشرعيّة فيما ذكر من النوع الواحد ، وبين ما اشتهر من قضيّة انقسامها إليه وإلى سائر الأنواع ، لاختلاف القضيّتين في الموضوع ، فإنّ النظر في التقسيم إلى مجرّد المفهوم الذهني ، وفي الحصر إلى المصداق الخارجي.

٢٥٩

الأمر الثالث : في أنّ الألفاظ الواردة في خطاب الشرع على أنواع :

منها : ما علم كون المعنى المفهوم منه حال الخطاب بعينه المعنى المفهوم منه في العرف ، من دون اختلاف بينهما بنقل ولا ارتجال ، على معنى اتّحاد العرفين وهو الأكثر ، كالأرض والسماء والماء والكلاء والكلب والخنزير ، وهذا ممّا لا خفاء في حكمه من حيث تعيّن حمل الخطاب على ما اتّحد فيه العرفان.

ومنها : ما علم فيه بتغاير العرفين ، على معنى كون المفهوم منه في هذا العرف مغايرا لمتفاهم عرف زمن الخطاب ، كالأرطال والأوقية والدراهم ، وهذا أيضا ممّا لا خفاء في حكمه ، من حيث تعيّن حمل الخطاب فيه على متفاهم زمن الخطاب.

ومنها : ما علم له في متفاهم هذا العرف معنى ، واشتبه معناه في متفاهم زمن الخطاب باحتمال طرو النقل ، كالأمر والنهي وألفاظ العموم وغيرها ممّا يثبت الوضع فيه بالأمارات العرفيّة.

وهذا أيضا واضح الحكم ، من حيث تعيّن حمل الخطاب فيه على المعنى العرفي ، لكن بعد توسيط أصالة عدم النقل.

ومنها : ما علم له معنى لغوي ومعنى عرفي ، واشتبه المراد منه حين الخطاب ، وهذا هو مسألة تعارض العرف واللغة ، وقد أشبعنا الكلام فيه.

ومنها : ما علم فيه النقل وطروّ الوضع الجديد ، ولكن حصل الشكّ في مبدأ حصولهما ، بحيث يتردّد بين تقدّمه على صدور الخطاب وتأخّره عنه ، وموضوع المسألة من هذا القبيل ، لكن بالقياس إلى المعاني الشرعيّة.

وتحريره : إنّه لا شبهة كما لا خلاف ظاهرا في أنّ كثيرا من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة مستعملة في عرف المتشرّعة ـ ونعني بهم كلّ من تديّن بدين الإسلام ، فقيها كان أو عاميّا ، مؤمنا كان أو مخالفا ـ في غير معانيها الأصليّة اللغويّة على وجه الحقيقة ، الناشئة عن النقل كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ وغيرها ، فإنّها بحسب اللغة كانت للدعاء والنموّ والإمساك والقصد ، وقد صارت عند المتشرّعة للأركان المخصوصة المقرونة بالنيّة ، والقدر المخرج من المال المقرون

٢٦٠