الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

الْفاسِقِينَ) (٢٦) [البقرة : ٢٦].

مع قوله عزوجل : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) [المدثر : ٣١] يقتضي أنه ـ عزوجل ـ يشاء إضلال بعض الخلق ويفعله ، خلافا للمعتزلة ، ولهم عن هذا ونحوه من كل موضع نسب الله عزوجل فيه الإضلال إلى نفسه جوابان :

أحدهما : أن هذه ظواهر سمعية ؛ / [٢١ / ل] فلا يعارض القواطع العقلية [العدلية] ـ زعموا ـ عندهم.

والثاني : أن : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣) [النحل : ٩٣] يحتمل أنه بمنع الإلطاف ، ويحتمل أنه بمعنى أصابه ضالا ؛ كما يقال : أضللت دابتي : أصبتها ضالة ، وأبخلت زيدا ، وأجبنته ؛ أي : أصبته بخيلا جبانا.

ويحتمل أن يضله بخلق الإضلال فيه ، كما زعم الجبرية. وإذا تطرق إليه التأويل واحتمال الأمرين ، عاد مجملا لا حجة فيه.

والصواب أن هذه العبارة ونحوها قواطع في غالب مواقعها ؛ فلا يسمع ما ذكروه من / [١٠ / ب / م] التأويل البعيد.

قوله عزوجل : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) [البقرة : ٢٨]. أي : كنتم معدومين عدما أصليا ، فأوجدكم.

وقيل : كنتم نطفا فجعلكم أحياء ، ثم يميتكم الموت الطبيعي المشهور الذي يترقبه الأحياء ، ثم يحييكم بالإعادة في الآخرة.

وفي هذا إشارة إلى إثبات إعادة الخلق بعد الموت ، بالقياس على إبدائه بعد العدم الأصلي وأولى ؛ لأن الإعادة تكون بعد وجود خارجي محقق ، والإبداء إنما كان بعد عدم أصلي ليس بوجود محقق ، سواء قيل : إن المعدوم شيء ـ على رأي المعتزلة ـ أو ليس بشيء ، على رأي الجمهور.

وإلى هذه الأولوية أشار عزوجل بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ

٤١

أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) [الروم : ٢٧] وهذه من مسائل اليوم الآخر.

قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) [البقرة : ٢٩] أي : لأجلكم ومصلحتكم ، وهذا إشارة إلى تعليل خلقه ما في الأرض بمصلحتهم وحاجتهم ، وفي كون أفعاله ـ عزوجل ـ وأحكامه معللة ـ بحث وخلاف له موضع أنسب من هذا يذكر فيه إن شاء الله عزوجل.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] هذا عام لم يخص بشيء أصلا ؛ لتعلق علمه عزوجل [بالمواد الثلاث : مادة] الواجب ، والممكن والممتنع ، بخلاف قوله ـ عزوجل ـ : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) [البقرة : ٢٠] فإنه عام مخصوص بالمحالات ، والواجبات التي لا تدخل تحت المقدورية ؛ كالجمع بين الضدين ، وكخلق ذاته وصفاته وأشباه ذلك.

واعلم أني سهوت عن ذكر جزئيات العموم والخصوص إلى هاهنا ، وأنا عائد فمستدركها من أول الفاتحة ، إن شاء الله عزوجل.

فمنها : (الحمد الله) هو عام ؛ أي : جنس الحمد ، وكل حمد ممكن وجوده فهو مستحق لله ـ عزوجل ـ لأن النعم لما كانت كلها منه كان الحمد كله له. وهذا على عمومه ، لم يخص.

ومنها : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) [الفاتحة : ٢] أي : رب كل شيء ، كما نص عليه في موضع آخر ، وهو على عمومه.

ومنها : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : ٤] أي : المتصرف في جميع ذلك اليوم وما بعده.

ومنها : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧] هو عام في المنعم عليهم ، لم يخص.

وكذا (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧].

٤٢

ومنها : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) [البقرة : ٢] وصفاتهم المذكورة بعد.

ومنها : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦) [البقرة : ٦] عام في الكفار ، لكن المراد به خاص ؛ وهم الكفار الذين سبق في علم الله ـ عزوجل ـ أنه يموتون كفارا ؛ نحو : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١) [آل عمران : ٩١] ، (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) [يونس : ٩٦] / [٢٢ / ل] ونحوه.

ودليل هذا التخصيص أنه ليس جميع الكفار الذين نزلت هذه الآية في زمانهم ، انتفى إيمانهم ، بل آمن بعد نزول الآية كثير منهم ؛ فلهذا قلنا : إنه أريد به التخصيص ؛ لئلا يخالف الخبر المخبر ، اللهم إلا [١١ / م] أن يكون (الذين كفروا) لقوم معهودين ؛ فلا يحتاج إلى التخصيص.

ومنها : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) [البقرة : ٨] أي : ما لهم إيمان ، فهو نكرة في سياق النفي فتعم ، وينفي جميع أفراد الإيمان.

[فإن قيل : الإيمان] حقيقة واحدة بسيطة لا تعدد فيها حتى يلحقها العموم في النفي ، بخلاف : «لا رجل» لأجل التعدد في جنسه.

قلنا : الإيمان هو التصديق ، وهو كلي تتعدد جزئياته بتعدد متعلقاتها ؛ فمنها تصديق بالله ـ عزوجل ـ وتصديق بملائكته ، وتصديق برسله ، وتصديق بكتبه ، وتصديق باليوم الآخر ، فقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ) [البقرة : ٨] تضمن نفي كل فرد من هذه التصديقات.

ومنها : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٩) [البقرة : ٩] أي : والمؤمنين ، إن كانوا معهودين فلا إشكال ، وإلا فهو عام في جميع المؤمنين ، فيحتمل أنه لم يخص ؛ لعموم مخادعة الكفار لهم ، ويحتمل أنه خص بقوم لم يقصد المنافقون خداعهم ؛ إما تعظيما لهم أو يأسا منهم.

ومنها : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) (١٤) [البقرة : ١٤] والقول فيها كالتي قبلها.

٤٣

ومنها : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) [البقرة : ١٤] يحتمل أنهم من شياطين معهودة ، ويحتمل أنه عام في جميع شياطينهم من الإنس والجن أو أحدهما ، ثم يحتمل أنه خص ببعض الشياطين فلم يمكنهم الخلوة به لغيبة أو مرض أو نحوه من الأسباب. ويحتمل أنه لم يخص بأحد منهم.

ومنها : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) [البقرة : ١٦] يحتمل أن المراد بالضلالة جنس الضلال ، اشتروه بجنس الهدى ، عاما بعام ، ويحتمل ضلالة واحدة ؛ أي : فرد من أفراد جنس الضلال ؛ كالتمرة الواحدة من التمر اشتروها بجنس الهدى ، وهو أبلغ في غبنهم وخسارتهم ؛ إذ أخذوا فردا من أفراد الضلال وأعطوا جميع أفراد الهدى ؛ كمن يأخذ حجرا واحدا من أفراد الحجارة ويعطى جميع أفراد الدنانير. وهو على الأول عام جار على عمومه.

ومنها : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] أي : ما حصل فيها ربح فهو عام في نفي الربح ، وكذا : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٦) [البقرة : ١٦] عام في نفي هداهم ؛ أي : وما كان لهم هدى.

ومنها : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) [البقرة : ١٧] عام في جميع ما حوله. ثم احتمال تخصيصه بحسب الواقع خارجا أو ذهنا ، إن كان ما حوله مكشوفا ليس فيه ذو ظل يحجب الضوء عما يحاذيه ، فلا تخصيص ، وإلا خضّ منه ما يحاذي ذوات الظلال فيما حوله.

مثاله : لو قدر فيما حوله من الأرض شجرة لم يحصل الضوء في ظلها فيكون مخصوصا من عموم «أضاءت ما حوله».

ومنها : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] عام في جميع نورهم ؛ لأنه اسم جنس مضاف. / [٢٣ / ل].

ومنها : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) [البقرة : ١٩] يحتمل العموم ؛ لظاهر اللفظ ، ويحتمل العهد ؛ لأن أصله : والله محيط بهم ، لكن وضع الظاهر موضع الضمير ترهيبا.

ثم الضمير في «بهم» راجع إلى «من» في قوله ـ عزوجل ـ / [١١ ب / م] : (وَمِنَ

٤٤

النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٨) [البقرة : ٨] وهي نكرة موصوفة لا عموم لها ؛ أي : ومن الناس قوم يقولون : آمنا. وإذ لا عموم لها فلا عموم للعائد إليها ، وهو الضمير في : والله [بهم محيط].

ومنها : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) [البقرة : ٢٠].

قيل : هو خاص بالممكنات ، مخصوص بما عداها من الواجب والممتنع.

والتقدير : إن الله على كل شيء ممكن قدير ؛ إذ غير الممكن لا يدخل تحت القدرة.

ومنها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) [البقرة : ٢١].

قيل : هو عام أريد به خصوص أهل مكة.

وقيل : هو عام فيهم وفي غيرهم ممن شملته دعوة الإسلام ، لكن مخصوص بمن لا تلزمه العبادة كغير المكلفين.

وقد عرض هاهنا تنبيه حسن ؛ وهو أن العام قد يكون (قار) الكمية ، أي : لا يلحقه زيادة ولا نقص ؛ كقولنا : الوجود أو العالم ما كان منه وما يكون ممكن أو مخلوق ، وقد لا يكون كذلك بأن تلحقه الزيادة والنقص ؛ نحو : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) [البقرة : ٢١] فإنه خطاب للمكلفين ، وعام فيهم ، ثم إنهم يزيدون بمن ينتقل إلى حال التكليف ؛ كالصبي يبلغ والمجنون يفيق ، وينقصون ؛ كالعاقل يجن والحي يموت.

ومنها : (مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ٢١] هو عام في المخلوقين ، هم والذين من قبلهم من الأمم.

ومنها : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) [البقرة : ٢٢] عام في الأرض خص بالبحار ونحوها مما لا يفترشه الناس.

ومنها : (وَالسَّماءَ بِناءً) [البقرة : ٢٢] أي : سقفا مبنيا فوقكم ، مثل : (وَجَعَلْنَا

٤٥

السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) (٣٢) [الأنبياء : ٣٢] ، و (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) [الطور : ٥] ثم يحتمل أنه على عمومه في السماء ؛ لأن السماء مع العالم كبيت واسع فيه ناس ، وهو سقف مبنى عليهم. ويحتمل أن يخص في السماء بما خرج عن سمت الأرض المسكونة منها ؛ كالسماء المسامتة للربع الخراب من الأرض [لا تعلق له بأهل المعمور منها بكونه سقفا لهم ولا بناء فوقهم ، وصار ذلك من السماء كالبحر الذي تعذر كونه فراشا من الأرض ، وصار حقيقة الكلام : الذي جعل لكم الأرض] التي يمكنكم التصرف عليها والاستقرار فراشا ، والسماء التي تسامتكم وتظلكم بناء. أو جعل الأرض التي تقلكم فراشا ، والسماء التي تظلكم بناء ، والبحر لا يقلنا ، وما لا يسامتنا من السماء لا يظلنا ؛ فلا يكون مرادا من لفظهما أو يكون مخصوصا منه.

ومنها : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [البقرة : ٢٣] أي : من الذي نزلناه ، فهو عام في جميع المنزل لم يخصّ منه شيء ؛ لأنه لم يؤمنوا منه بشيء.

ومنها : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة : ٢٤] عام أريد به الخاص ، وهو الناس العصاة ، أو الكفار ، وحجارة الكبريت ، على ما ورد في التفسير.

ومنها : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة : ٢٤] عام أريد به الخاص ، وهو من مات على كفره ، وإلا فكثير ممن كان كافرا وقت نزولها أسلم بعد ذلك ، فخرج عن العموم.

ومنها : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥) [البقرة : ٢٥] هو عام فيهم أريد به / [١٣ أ / م] الخاص ، وهو من آمن وعمل / [٢٤ / ل] جميع الصالحات المأمور بها إلى الموت ، ولا يخفى ما فيه من التقييد.

ومنها : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ

٤٦

بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢٦) [البقرة : ٢٦] ، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٢٦] عام فيهم إن لم يرد بهم أو ببعضهم معهود.

ومنها : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢٧) [البقرة : ٢٧] لفظها عام ، فإن أريد فسادهم في كلها المجموعي من حيث هو كل فلا تخصيص ، إذ من أفسد في ذراع من الأرض ، صدق أنه أفسد في الأرض بهذا الاعتبار.

وإن أريد فسادهم في كلية أجزائها أي في كل جزء منها ، فهو مخصوص بكل جزء منها لم يفسدوا فيه.

ومنها : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) [البقرة : ٢٩] ، هو عام مؤكد ب (جميعا) ثم يحتمل أن يكون مخصوصا بما ليس للمخاطبين مما في الأرض كعلف البهائم ونحوه ، ويحتمل إجراؤه على عمومه بأن يقال : علف البهائم ونحوه هو للمخاطبين بواسطتها ؛ لأن البهائم خلقت لهم ، وعلفها خلق لها ، والمخلوق للمخلوق للشيء مخلوق لذلك الشيء. والعيان يشهد أن علف البهائم يصير لحما لها ولبنا ، ثم يأكله الناس.

قوله عزوجل : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) [البقرة : ٣٠] هو عام فيهم لم يخص ، (وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] يحتمل أنه لتعريف الحقيقة ، أو هو مجرد جمع لا للعموم ، ويحتمل أنه [عام خص] بالواقع بأن بني آدم لم يسفكوا كل دم.

ثم إن الناس اختلفوا في عصمة الملائكة ؛ فأثبتها الجمهور ونفاها المعتزلة ، متمسكين من هذه القصة بوجوه :

أحدها : قولهم : (أتجعل فيها) وهو استفهام إنكار ، واعتراض على الله ـ عزوجل ـ وهو سوء أدب.

الثاني : قولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

٤٧

وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) [البقرة : ٣٠] وهو غيبة لبني آدم ، وقذف لهم رجما بالغيب.

الثالث : قولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ) [البقرة : ٣٠] وهو عجب منهم بأعمالهم ، ومن [منهم] على الله ـ عزوجل ـ بها ، وكل هذه أفعال تنافي العصمة.

الرابع : أن إبليس وهاروت وماروت من رؤسائهم وقد علم ما كان منهم مما ينافي العصمة فمن دونهم من الملائكة أولى.

الخامس : أن البشر أفضل من الملائكة عند كثير من الناس ، ثم إنهم غير معصومين ، فالملائكة الذين هم مفضولون أولى.

واحتج الجمهور بوجوه :

أحدها : أن الملائكة رسل الله ، لقوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١].

(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٧٥) [الحج : ٧٥]. ورسل الله ـ عزوجل ـ معصومون لقوله عزوجل : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤) [الأنعام : ١٢٤].

الثاني : قوله ـ عزوجل ـ في وصفهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) [التحريم : ٦] وهو معنى العصمة. / [٢٥ / ل]

الثالث : أن المنافي للعصمة هو المعاصي ، و [هي] إنما تصدر عن الشهوة والغضب ، وهم مجردون عنهما ؛ فكانوا معصومين / [١٣ ب / م] عنها.

قالوا : وهذه الوجوه قواطع في عصمتهم ، وما ذكره المعتزلة في نفيها ما بين ممنوع أو ظاهر لا يعارض القاطع.

٤٨

وأقول في هذا : إن الله ـ عزوجل ـ متصرف عدل فبتصرفه ابتلى البعض بالبعض ، وبعدله سلط بعض بني آدم على الملائكة فتكلموا فيهم انتصافا منهم ، ثم إنه ـ عزوجل ـ بين للملائكة فضل بني آدم حتى صاروا يستغفرون لهم.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) [البقرة : ٣١] ، قيل : أسماء الملائكة فهو خاص بهم.

وقيل : أسماء الموجودات فهو عام فيها (١) ، ويحتج به من يرى أن اللغات توقيفية لا اصطلاحية.

وأجيب عنه بأنه يجوز أنه علمه لغة من كان قبله ، وهي في الأصل اصطلاحية ، ويجوز أنه علمه ذلك بأن أقدره على الاصطلاح ، وألهمه اللغات فوضعها.

وهذه المسألة من مسائل اللغات من أصول الفقه ، وقد اختلف فيها فقيل : اللغات توقيف ، وقيل : اصطلاح ، وقيل : القدر المعرف للتخاطب توقيف ، والباقي اصطلاح ، وقيل غير ذلك ، وهذه المسألة من رياضات الفن ، لا من ضرورياته.

قولهم : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٣٢) [البقرة : ٣٢] عام خص بالاستثناء المذكور ، وفيه رد على من تأله الملائكة ، إذ لو كانوا آلهة لكان علمهم كاملا عام التعلق بالأشياء.

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) [البقرة : ٣٣] ظاهر في أن الأسماء التي علمها أسماء الملائكة ، أي : أنبئ الملائكة بأسمائهم ، [ويحتمل : أنبئهم بأسماء المسميات كلها. أو بأسماء] الملائكة من جملة المسميات ، وبه يحصل مقصود إعجازهم.

(إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) [البقرة : ٣٣] عام في كل ما غاب فيهما عن الخلق ، أما الله ـ عزوجل ـ فلا يغيب عنه شيء ، ولا تخصيص فيه مثل : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير [١ / ٣٤٧].

٤٩

عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣].

واعلم أن المصحح لعلم الغيب هو كمال العلم والقدرة والإرادة ، وهذا الكمال [لم يحصل إلا لله] ـ عزوجل ـ فلذلك اختص بعلم الغيب وقد شرحت ذلك في موضع آخر.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤) [البقرة : ٣٤] هو عام فيهم لم يخص.

(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) احتج به من رأى أن إبليس من الملائكة ، إذ لو لم يكن منهم لما تناوله الأمر لهم ، وعورض بقوله ـ عزوجل ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٥٠) [الكهف : ٥٠] والاستثناء منقطع ، أي لكن إبليس أبى.

واحتج به أيضا من رأى الأمر المطلق يقتضي الوجوب والفورية (١) ، لأن الملائكة لما قيل لهم : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) [البقرة : ٣٤] فسجدوا على الفور سلموا من اللائمة ، / [٢٦ / ل] وإبليس لما ترك السجود لحقته اللائمة ، فدل على أنه ترك الواجب الفوري ، وإلا لما لزمه اللوم إذ كان له أن يقول : أمرتني ، ومقتضى الأمر الندب أو التراخي ، فأسجد متى شئت ، وقد ناظر بأشد من هذا حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧٦) [ص : ٧٦] ، / [١٣ أ / م] فلو كان له حجة من جهة الندب ، أو التراخي لما تركها.

وأجاب المخالف بأن الوجوب لعله فهم من قرينة حالية أو مقالية ، لم يحكها القرآن ، أو من خصوصية تلك اللغة التي وقع الأمر بها ، إذ العربية لم تكن حينئذ وإنما حكى القرآن بها ما وقع بغيرها ، والخلاف إنما هو في الأمر المجرد عن القرائن بلغة العرب. وأما الفور فلم يفهم [من مجرد] الأمر وهو : (اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] بل إما من قرينة ، أو مقتضى تلك اللغة كما سبق ، أو من قوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي

__________________

(١) انظر المسألة في تشنيف المسامع [١ / ٦٠٧].

٥٠

فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩) [الحجر : ٢٩] فتعقيب التسوية والنفخ بالأمر بالسجود بفاء التعقيب خصوصا بلفظ الوقوع الدال على أبلغ ما يكون من المبادرة قاطع في الفورية.

(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) [البقرة : ٣٥] عام فيهما.

(وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما) [البقرة : ٣٥] عام في أمكنتها.

(وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣٥) [البقرة : ٣٥] خصت من عموم الجنة.

قوله ـ عزوجل ـ : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦) [البقرة : ٣٦] زللهما مخلوق لله عند المجبرة ، ولآدم وحواء عند المعتزلة ، ومكسوب لهما مخلوق لله ـ عزوجل ـ عند الكسبية ، وهي من مسائل القدر ، وأضيف الإزلال إلى الشيطان لتسببه إليه بالوسوسة.

(فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) عام خص بورق الجنة الذي خصفاه عليهما منها ، وهو مما كانا فيه من نعيم الجنة ، وهو كما قيل : متاع قليل من حبيب مفارق.

(وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) (٣٦) [البقرة : ٣٦] عام في الهابطين المخاطبين وهم آدم وحواء وإبليس والحية والطاوس (١) فيما قيل.

(فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨) [البقرة : ٣٨] عام ، مخصوص بمن مات على الهدى.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٣٨) [البقرة : ٣٨] عام ، سواء بني الخوف مع لا أو رفع منونا ؛ لأنه جنس لا يقبل التثنية وقع عليه النفي ، بخلاف نحو : لا رجل بالرفع ؛ لأنه يقبل التثنية ؛ فيجوز أن يقال فيه ؛ لا رجل في الدار بل رجلان أو رجال ، ولا يحسن هاهنا لا خوف عليهم بل خوفان ؛ وكذا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ

__________________

(١) انظر شذرات الذهب ٣ / ١٧١.

٥١

هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩) [البقرة : ٣٩] عام فيهم بشرط أن يموتوا على الكفر.

قوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠) [البقرة : ٤٠] عام فيهم [الموجودين في] عصر النبوة.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) (٤٠) [البقرة : ٤٠] عام في العهد وهو ما التزموه من / [٢٧ / ل] الإيمان والطاعة

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (٤١) [البقرة : ٤١] أي بجميعه فهو عام فيه ، إذا الكفر بحرف منه كالكفر بجميعه.

(مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) أي لجميعه. فلا تناقض ولا تكاذب فيما جاء من عند الله ـ عزوجل ـ كليا ولا جزئيا ؛ بل كل قضية منه موافقة لباقي قضاياه ؛ لأن كلام الله ـ عزوجل ـ إن كان هو العبارات المسموعة فهو غني عن الكذب فيه ، وإن كان هو المعنى القائم بذاته فالكذب نقص لا يجوز قيامه بها فعلى كل حال لا كذب ، ولا / [١٣ ب / م] تناقض في كلامه عزوجل.

(وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤٢) [البقرة : ٤٢] عام أريد به الخاص ، أي : لا تخلطوا الحق الذي من عندكم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالباطل الذي تخترعونه لتضيعوا أمره على الناس.

قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) [البقرة : ٤٦] أي يعلمون أو يعتقدون ، وإلا فالظن المجرد لا يكفي في العقائد ، والفرق بين الثلاثة أن العلم جازم لا يقبل التشكيك [كالعلم بأن الواحد نصف الاثنين ، والظن غير جازم ويقبل التشكيك] كظن أن النية شرط في الوضوء ، والاعتقاد جازم لكنه يقبل التشكيك ، ولهذا ينتقل أهله عنه كالقدري يصير جبريا والمعتزلي أشعريا ونحوه.

والظن لغة الاعتقاد غير الجازم راجحا كان أو مرجوحا ؛ لأنهم قالوا : الظن خلاف العلم وهو يتناول ذلك.

وفي الاصطلاح ، وهو الحكم الراجح في أحد الاحتمالين ، والمرجوح وهم والمساوي

٥٢

شك (١) ، وقد يستعمل الظن بمعنى العلم وفي القرآن منه مواضع هذا الموضع (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) (٥٣) [الكهف : ٥٣].

و (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) [فصلت : ٤٨] ، (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢٤) [ص : ٢٤] وقول الشاعر :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

سراتهم في الفارسي المرد

وقد يحتج بهذا ونحوه مثل : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) [الكهف : ١١٠] ، (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) [يونس : ١٠] وأشباهه من يرى أن الله ـ عزوجل ـ يرى في الآخرة وهو مذهب الجمهور ، وهي من مسائل صفات الله ـ عزوجل ـ وهو كونه مرئيا.

ووجهه أن اللقاء لغة يقتضي بإطلاقه الرؤية ، وفي هذه المسألة بحث يذكر في موضعه إن شاء الله عزوجل.

قوله ـ سبحانه وتعالى ـ : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧) [البقرة : ٤٧] عام أريد به الخاص ، وهو عالمو زمانهم أو عام خص بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها أفضل الأمم بالنص والإجماع.

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨) [البقرة : ٤٨].

يحتج به المعتزلة وبنحوه مثل : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (١٠٠) [الشعراء : ١٠٠] ، (فَما

__________________

(١) انظر المحصول للرازي [١ / ١٢ ، ١٣] والأحكام للآمدي [١ / ١٥].

٥٣

تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٤٨) [المدثر : ٤٨] / [١٨ / ل] ـ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) [غافر : ١٨] على أن العصاة ما لم يتوبوا في دار التكليف لا تنفعهم الشفاعة ، والجمهور يخالفونهم في ذلك بما سيقع في مواضعه إن شاء الله ـ عزوجل ـ وحملوا هذه الآيات على الكفار ، وعلى هذا يكون (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] مخصوص بذوي الشفاعة في الآخرة حيث تقبل منهم وبأهل الكبائر من الموحدين حيث تقبل فيهم ، أما (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٤٨) [البقرة : ٤٨] أي فدية فعلى عمومه لم يخص ، إذ لا فدية هناك ولو ملء الأرض ذهبا.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (٤٩) [البقرة : ٤٩] عام في ذلك إلا من خص كموسى ـ عليه‌السلام ـ إذ سلم من الذبح ، ومن عساه قتل من النساء بسبب خاص.

(وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٠) [البقرة : ٥٠] عام إذ لم ينقل [١٥ أ / م] أنه سلم منهم أحد ، ودل على ذلك قوله عزوجل (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥٥) الزخرف : ٥٥] فأكد.

فأما قوله ـ عزوجل ـ في فرعون (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) [يونس : ٩٢].

فمعناه نلقيك على نجوة من الأرض أي : موضع عال ميتا ليعتبر بك ، ويحتمل أنه ننجيك من ابتلاع البحر لك كما ابتلع قومك فلم يظهر منهم أحد.

(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤) [البقرة : ٥٤] قومه هاهنا عام أريد به الخاص ، وهم عبدة العجل منهم ، وليس جميع قومه عبده ، وكذلك (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] أي يقتل بعضكم

٥٤

بعضا ، إن ثبت أن جميع من عبد العجل واتخذه قتل فهو على عمومه ؛ وإلا فهو مخصوص بمن سلم منهم كالسامري ونحوه.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (٥٥) [البقرة : ٥٥] عام أريد به الخاص ، وهم السبعون المختارون ، لكن لما كانوا على رأي الباقين ، وهم كالأئمة لهم صار صعقهم كصعق الجميع.

(ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٦) [البقرة : ٥٦] دل على أن الصعق كان موتا حقيقيا ثم عاشوا بعده كما عاش الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وهذه من مسائل المعاد.

وقد صنف ابن أبي الدنيا أو غيره كتابا فيمن عاش بعد الموت ، ذكر فيه خلقا كثيرا ، وزعم قوم أن هؤلاء السبعين لم يموتوا ، وإنما لحقهم صعق كصعقة موسى شبيها بالإغماء والخروج عن عالم الحس ، ثم أفاقوا كما أفاق موسى ، وسمي موتا بجامع الخروج عن الإحساس أو لكونه من مقدمات الموت ، وأما قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] فيحتج به المعتزلة على امتناع رؤيته ـ عزوجل ـ إذ لو كانت جائزة لما قوبلوا على سؤالها بالموت والصعق ، ولا حجة فيه ، لاحتمال أن صعقهم لم يكن عقوبة على مجرد سؤالهم الرؤية ، بل على سؤالها تكذيبا وعنادا / [٢٩ / ل] أو على سؤالها في الدنيا ، وإنما وقتها الآخرة.

(وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥٧) [البقرة : ٥٧] هو إما غمام ومنّ وسلوى معهود أو عام أريد به الخاص ، إذ ليس كل غمام ظلل عليهم ، ولا كل منّ وسلوى أنزل عليهم ، بل القدر الذي احتاجوا إليه من ذلك.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨) [البقرة : ٥٨] عام في جميع الخطايا ، تمحوها التوبة والاستغفار وهو معنى قولهم : «حطّة» ، وهو مخصوص بالشرك لا يغفر إلا بالإيمان لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا

٥٥

يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) [النساء : ٤٨].

(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٥٩) [البقرة : ٥٩] عام في أولئك الظالمين أنهم أهلكوا بالطاعون أو غيره.

(فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١] عام فيما سألوه من البقول ونحوها ، وتخصيصه موقوف على / [١٥ ب / م] الدليل.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) عام أريد به الخاص ، أي الذلة الكافية في خزيهم أو هو للعهد ، أي الذلة المعهودة لهم.

(يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [البقرة : ٦١] عام سواء كفروا بجميعها أو ببعضها الذي هو كالكفر بجميعها.

(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٦١) [البقرة : ٦١] عام أريد به الخاص أو عام مخصوص بمن لم يقتلوه منهم كموسى وهارون ـ عليهما‌السلام ـ وغيرهما.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [البقرة : ٦٢] ، الآية عام لم يخص.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٦٣) [البقرة : ٦٣].

عام فيجب على كل من أوتي تكليفا من الله ـ عزوجل ـ أن يأخذ بجميعه ويعمل به كله إلا ما خصّ منه بنسخ [ونحوه ، وكذلك : (واذكروا ما فيه) أي : من العهد يجب الوفاء بجميعه إلا ما خص منه بنسخ] أو عجز أو نسيان مسقط ، فالصلاة مثلا عهد وأمانة عند المكلف يسقط منها القيام ونحوه بالعجز عنه ، وواجباتها الثمانية عند من يراها بالنسيان والتضييق فيها سقط استحبابه بالنسخ.

٥٦

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) [البقرة : ٦٥] هذا أمر تكوين واقتدار ، وصيغة «افعل» تأتي على نحو من عشرين وجها منها هذا ، وسنشير إلى الباقي في مواضعه إن شاء الله ـ عزوجل ـ وهذه تذكر في مسائل الأمر من أصول الفقه.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٦٧) [البقرة : ٦٧] هي مطلقة لدلالتها على ماهية البقرة من غير قيد ، وفيه جواز التكليف والخطاب بالمطلق ، ثم قد كان في علم الله ـ عزوجل ـ تقييدها بالقيود المذكورة بعد كالصفرة وعدم الشية ونحوها ، فمن ثم احتج به من رأى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى العمل خلافا لبعض الأصوليين (١) ؛ لأن ذلك يوهم اعتقاد الخطأ.

وجوابه : أن ذلك وإن كان مفسدة لكن قد يتعلق به مصلحة نية الطاعة ، والعزم على الامتثال وهي أرجح.

وقد يكون المجمل أجدر بحصول تلك المصلحة فلذلك جاز ، والأكثرون على [أن] تأخير البيان عن وقت الخطاب وإلى وقت الحاجة / [٣٠ / ل] جائز ، وعن وقت الحاجة ممتنع وهو الأظهر. وهذه من باب المطلق والمقيد والمجمل والمبين.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) [البقرة : ٧٣].

أي : فضربوه ببعضها فعاش. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٧٣] ، فيها مسائل :

الأولى : جواز الإضمار إذا اقتضاه ودل عليه الكلام ؛ لأن ضرب الميت ببعضه وحياته ليس مذكورا هاهنا بل هو مقتضى الكلام ومدلوله ، ومن هذا الباب (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠)

__________________

(١) انظر المسألة في المعتمد [١ / ٣١٥] والبرهان [١ / ١٢٨] والمستصفى [١ / ٣٦٨] والمحصول [١ / ٤٧٧] وشرح الكوكب المنير [٣ / ٤٥٣] ونهاية السول [٢ / ١٥٦].

٥٧

[البقرة : ٦٠] أي : فضرب فانفجرت.

(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٤) [البقرة : ١٨٤] أي : فأفطر فعليه صوم عدة.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) (٤٦) [يوسف : ٤٥ ـ ٤٦] أي : / [١٦ أ / م] فأرسلوه ، فجاء إليه ، فقال (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٦].

المسألة الثانية : إثبات المعاد بإحياء هذا الميت ، والإخبار بإحياء الموتى.

المسألة الثالثة : جواز القياس كأنه قال : كما أحيينا هذا الميت الخاص كذلك نحيي غيره لاشتراكهما في علة الإحياء ومصححه ، أما علته فالقدرة التامة ، وأما مصححه فكون الإحياء ممكنا ، والقياس إما لجمع على جمع ، أو لمفرد على مفرد ، أو لمفرد على جمع ، أو لجمع على مفرد ، كما في هذه المسألة إذ قاس إحياء الموتى على إحياء هذا الميت الواحد.

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣) [البقرة : ٧٣] عام أريد به الخاص ، أي : الآيات التي أراها بني إسرائيل.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) [البقرة : ٧٤].

قيل : بل أشد [وهو ضعيف ، وقيل : (أو) للتخيير ، أي : أنتم مخيرون في أنها كالحجارة أو أشد] ، اختاروا أي الحكمين شئتم ، وقيل : هي للشك بالنسبة إلى من يجوز عليه ، وقيل غير ذلك.

ونحوه القول في : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) [البقرة : ١٩] وهذه من مسألة حروف المعاني في أصول الفقه.

٥٨

قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٥) [البقرة : ٧٥].

وكذلك : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) [التوبة : ٦] احتج به من ذهب إلى أن كلام الله ـ عزوجل ـ هو العبارات المسموعة بالحقيقة ، إذ لا نعلم كلاما وراء ذلك ، وأجاب الأشعرية بأن المراد يسمعون دليل كلام الله ، لأن كلام الله ـ عزوجل ـ عندهم معنى قائم بذاته لا يفارقها كالعلم ، وهذه العبارات المسموعة مخلوقة دليل عليه كالعالم حادث ، وهو دليل على الصانع القديم ، واحتجوا هم والمعتزلة على خلق المسموع بأنه مسموع وكل مسموع مخلوق عملا بالاستقراء في المسموعات ، لكنه استقراء غير تام فلا يفيد اليقين ، واحتجوا بأنه مؤلف من الحروف وكل مؤلف مخلوق ، وفيه كلام يأتي بعد إن شاء الله ـ عزوجل.

وأصل الخلاف أن الكلام حقيقة في العبارات المسموعة ، أو في المعنى القائم بالنفس ، أو مشترك بينهما؟

فيه ثلاثة أقوال عن / [٣١ / ل] الأشعري.

فإن قيل : هو حقيقة في العبارات انبنى على أن الكلام صفة فعل أو ذات ، فمن رآه صفة فعل قال : هو مخلوق كالمعتزلة ، ومن رآه صفة ذات قال : هو قديم كالحنابلة ، ومن رآه معنى قائما بالنفس قال : العبارات ليست بكلام بل هي دليل على الكلام وهي مخلوقة.

ومن قال : هو مشترك بينهما ، قال : الذاتي قديم والنطقي مخلوق ، وهذه من مسائل الصفات من أصول الدين.

(ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) [البقرة : ٧٥].

وهذا ونحوه مثل : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) [النساء : ٤٦] عام أريد به الخاص ؛ لأنهم لم يحرفوا جميع كلم التوراة ، ولا جميع ما سمعوه من كلام الله ـ عزوجل ـ على الطور ، وإنما حرفوا بعضه ، وهو ما لهم في

٥٩

تحريفه : [١٦ ب / م] مصلحة كتخفيف التكليف الثقيل ، وتغيير صفات النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ، وهل تحريفهم لذلك تحريف تبديل أو تحريف تأويل؟ فيه قولان ، والأشبه أنهم جمعوا بينهما ، فبدلوا بعضا وتأولوا على غير وجهه بعضا.

(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٦) [يس : ٧٦] عام لا تخصيص فيه لعموم تعلق العلم الأزلي.

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨١) [البقرة : ٨١] هو عام لم يخص ؛ لأن المراد بالسيئة الكفر بدليل مقابلته بالإيمان في الآية بعدها وإحاطتها به أن يموت عليها ومن مات كافرا خلد في النار بغير تخصيص ولا مثنوية وأما (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٢) [البقرة : ٨٢] فعام مخصوص بمن مات على ذلك ، ولم يقطع عليه بالكفر طريق النجاة.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣) [البقرة : ٨٣] هو عام في الأصناف المذكورة ، مخصوص بمن لم يوجد منه ما يوجب الإساءة إليه كجناية توجب حدا ، أو بغي يوجب قتالا ، أو بدعة توجب هجرا ، ونحوه على أن هذه الأشياء من باب التأديب له لا من باب الإساءة إليه ، فاللفظ إذن على عمومه.

(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣] عام مخصوص بمن وجد منه ما يقتضي إساءة القول له ، والقول فيه كالذي قبله ، وهذه الآداب قد وردت في خصوص شرعنا ، وإنما يحتج بها من خطاب بني إسرائيل بها هاهنا بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا كما سيأتي بيانه إن شاء الله عزوجل.

(ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) [البقرة : ٨٣] عام خص بالاستثناء بعده وهو (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣) [البقرة : ٨٣].

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ

٦٠