الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

الولد ؛ لأنه يستدعي ولادة والولادة تستدعي زوجة وافتقارا إلى الوقاع المستلزم للجسمية ، وكل ذلك ممتنع في حق الله ـ عزوجل.

الوجه الثاني : التقريع العرفي بقوله ـ عزوجل ـ (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) [النحل : ٥٧] ، (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (٥٨) [النحل : ٥٨] أي أنهم يختارون لأنفسهم البنين الذين هم أشرف وأكمل ، ويعتقدون لربهم البنات اللاتي هن أخس وأنقص ، حتى إن أحدهم إذا بشر أن قد ولدت له بنت اسود وجهه من الكآبة والحزن ، يتوارى من أصحابه حياء وخجلا ، وظنا أن قد لحقه عار عظيم ، ثم يتردد رأيه بين أن يستبقي تلك البنت على هوان وعار يلحقه منها ، أو يدفنها في التراب حية ، وهي الموءودة كشفا للعار عنه ، ومع هذا كله يختارون لربهم نقائص البنات ، ويستأثرون عليه باختيار كمال البنين ، وقد كان يجب ـ إن لم يكن بد من سوء القالة ، وقبح المقالة ـ أن يختاروا له أفضل القبيلين ، لكن (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١) / [١٢٠ ب / م) [النجم : ٢١].

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) (٦٢) [النحل : ٦٢] فزين لهم الشيطان أعمالهم بالوسواس ومساعدة القدر (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) [النحل : ٦٣] يحتمل أنه وليهم من حين ماتوا ، حيث حلوا دار البوار باتباعه ؛ فيصح أنه كان وليهم يوم نزلت هذه الآية ، ويحتمل أن هذا الكلام قيل في الأزل على جهة الحكاية كما يقال يوم القيامة ، أي زين لهم الشيطان أعمالهم ، حتى إنه ليقال يوم القيامة : (تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) [النحل : ٦٣].

(وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٦٧) [النحل : ٦٧] منسوخ بالنصوص في تحريم المسكر.

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٦٨) [النحل : ٦٨] أي ألهمه ، والوحي إما بإلهام أو إرسال أو رؤيا ونحوه.

٣٨١

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١) [النحل : ٧١] شاهد على التوحيد وتقريره : أن الله ـ عزوجل ـ فضل السادة على العبيد في الرزق ، ثم إن السادة لا يردون من فضل رزقهم على عبيدهم بحيث يشاركونهم ويساوونهم فيه والأصنام ، وسائر الآلهة التي يدعونها مع الله ـ عزوجل ـ عبيد له ومملوكون ، فلا ينبغي لكم أن تشركوهم في عبادته التي اختص بها كما [٢٥٧ / ل] لا تشركون عبيدكم في فضل رزقكم ، وهذا دليل قياسي في التوحيد ؛ فيدل على جواز استعمال القياس في الفروع بطريق أولى خلافا للظاهرية.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٧٣) [النحل : ٧٣] دليل آخر على التوحيد ، وتقريره : أن الإله هو الرازق ، وآلهتكم لا شيء منها برازق ، فلا شيء من آلهتكم بإله ، وهو واضح.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) [العنكبوت : ١٧].

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٧٥) [النحل : ٧٥] دليل آخر على التوحيد ، وتقريره أن الله ـ عزوجل ـ غني له ملك السماوات والأرض ، وآلهتكم عبيد فقراء ، فلا يساوونه في رتبة الإلهية ، ولا يستحقون معه صفة المعبودية ، كما لا يستوي العبد الفقير منكم والموسر الذي ينفق من يساره سرا وجهرا.

ويحتج بهذه على أن العبد لا يملك بالتمليك ، لأن الفقر جعل وصفا له لازما في دليل التوحيد ؛ فلا يجوز زواله ، كما لا يزول التوحيد.

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٦) [النحل : ٧٦] دليل آخر على التوحيد ، وتقريره أن الله ـ عزوجل ـ غني

٣٨٢

قادر كافل لخلقه آمرناه ، فلا تساويه أصنامكم العادمة لهذه الصفات ، كما لا يستوي رجلان أحدهما جامع لهذه الصفات ، وآخر عادمها.

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٨) [النحل : ٧٨] يذكرها بعضهم في أوائل المنطق فيقول : / [١٢١ أ] إن الإنسان في مبدأ الفطرة لا يعلم شيئا ، ثم إنه يدرك المحسوسات بحواسه ، فيتنبه لمشاركات بينها ومباينات ، فيستنتج منها تصورات وتصديقات تحصل علوما عقلية ومطالب نظرية.

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧٩) [النحل : ٧٩] هذا عند الجمهور على معنى : أنه خلق لها آلة تطير بها ، وتستمسك وتنهض بها وتنزل ، كما خلق للدواب قوائم تمشي عليها ، [وعند الاتحادية إنما أمسكها لحلوله وسريانه بذاته فيها كما مر من حكاية مذهبهم].

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٩٣) [النحل : ٩٣] يحتج بها الجمهور كما سبق.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١) [النحل : ١٠١] يحتج بها على النسخ.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (١٠٣) [النحل : ١٠٣] والإشارة إلى سلمان الفارسي ، كانت الكفار يقولون : إنه يعلم محمدا أخبار الفرس وقصص الأولين ، فأجيبوا بأن لسان الذي أشرتم إليه أعجمي ، ولسان القرآن عربي ؛ فكيف يكون تعليم البشر ، وقد أورد على هذا سؤال / [٢٥٨ / ل] : وهو أن يكون البشر المشار إليه يعلمه بلسانه وهو يلخصه بعبارته وفصاحته ، وحينئذ لا يقدح اختلاف اللسانين في تعليم البشر له؟

ويجاب عن هذا : بأن البشر المشار إليه إن كان هو سلمان ، فهو إنما أسلم بعد الهجرة بالمدينة بعد استقرار الإسلام وظهور المعجزات ، وذلك لا يقدح فيما ثبت ، ولو قدر أن سلمان كان يحكي له بعض أيام الفرس وقصصها على جهة التعريف بحالهم فلا يقدح في نبوة قد تقررت ، ومن أين لهم أنه كان ينقل ما يسمعه من سلمان قرآنا ، ولو كان ذلك

٣٨٣

حقا لعورض ، ثم ظهرت معارضته وقد كان النضر بن الحارث يتعاطى أن يعارض القرآن بما كان عنده من أحاديث الفرس مثل بهرام وإسفنديار ورستم ونحوهم ؛ فعجز وقصر ، وإن كان المشار إليه غير سلمان ، فهو إما عربي كرحمان اليمامة الذي زعموه ، أو عجمي ، فالأول باطل ، إذ لو صح [ذلك] لكان هذا العربي يدعي الأمر لنفسه ، وهو أولى بالعلم الذي عنده يجعله دليلا على نبوته ، وما كان ليؤثر بذلك على نفسه أحدا ، والثاني باطل ، وإلا فقد كان [بينهما ترجمان] ، فصاروا في القضية ثلاثة ، وكل حديث جاوز اثنين شائع ؛ فكان يجب أن يشيع ذلك ويشتهر ، ويتعين فاعله ، كما اشتهر أمر مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وسجاح ، وغيرهم من الكذابين.

والذي يظهر لي في سبب هذه الشبهة أنها فتنة فتنهم الله ـ عزوجل ـ بها ، وإن بعض كفار مكة أو غيرهم / [١٢١ ب / م] كشف له حتى رأى جبريل يوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة بشر دحية الكلبي أو غيره ، فقالوا : إنما يعلمه بشر ، وأشاروا إلى شخص كان جبريل على صورته.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) [النحل : ١٠٤] يحتج بها الجمهور على أنه ـ عزوجل ـ يملك منع الهداية ، فلا يهتدي أحد إلا بإرادته ، وأجاب المعتزلة بأنه جعل مع هدايتهم عقوبة على كفرهم بآياته ؛ فذلك الكفر منهم؟ قلنا : نعم هو منهم بكسبهم ، وخلق الله ـ عزوجل ـ إياه فيهم ، وإذا ملك سلب هدايتهم عقوبة ملكه ابتداء ، ولو كان لهم جهة خلق الكفر لكان لهم جهة خلق الهداية ، لما منعهم إياها ، وحينئذ كانوا غالبين لله ـ عزوجل ـ وهو محال / [٢٧٥ / ل].

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١٠٦) [النحل : ١٠٦] يحتج بها الشيعة على جواز التقية كما سبق تقريره في آل عمران ، واختلف فيمن أكره [على كلمة الكفر] بالقتل ، أيما أفضل له : إعزاز الدين بالامتناع والصبر على القتل ، أو حفظ نفسه بالإجابة مع اعتقاد الإيمان؟ فيه قولان.

ويحتمل أن الأفضل فعل الأثقل على نفسه ، ورجح بعضهم حفظ النفس استبقاء للحقوق الإلهية التكليفية فيها ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار : «إن عادوا فعد» مع قوله له ولمن معه :

«صبرا فإن موعدكم الجنة» (١) فلو كان الامتناع أفضل لاختاره لهم ؛ لأنه أسرع لهم إلى الجنة.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك [٣ / ٤٢٢] وعن أبي الزبير عن جابر [٣ / ٤٣٨] وأورده الهيثمي [٩ / ـ ـ ٢٩٣] رواه الطبراني [٢٤ / ٣٠٣] وفي الأوسط [٢ / ١٤١] وأورده البيهقي في الشعب [٢ / ٢٣٩] وانظر علل الدارقطني [٣ / ٣٩].

٣٨٤

(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٠٨) [النحل : ١٠٨] يحتج بها الجمهور كما سبق أول البقرة.

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١١١) [النحل : ١١١] إن قيل : هذا يوجب أن يكون لكل نفس نفس ؛ فيلزم التسلسل ، قيل : ليس كذلك بل النفس لفظ مشترك بين الهيكل الجسماني ذي الروح ، والجوهر البسيط المستوكر له المسمى نفسا ؛ فالهيكل نفس تجادل عن الجوهر ، الذي هو نفس ، ومجادلتها محاجتها عن نفسها بما ترجو أن يخلصها.

(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (١١٤) [النحل : ١١٤] أي توحدونه بالعبادة ، وهي تدل على أن شكر النعمة من التوحيد ؛ لأنه يضيف النعمة إلى الله ـ عزوجل ـ وحده كما توجه العبادة إليه وحده ، (وَهَداهُ إِلى)

(صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل : ١٢١] ، لعله إشارة إلى هدايته للنظر والاستدلال بأفول الكواكب على وجود الصانع ، ثم إلى طمأنينة القلب برأي العيان ، وحينئذ فيه إشارة إلى أن طريق النظر والاستدلال صراط مستقيم ، وأنه يرجى إيصاله إلى مقام العيان ؛ لأن النفس إذا استعدت لقبول العيان ، بالعلوم النظرية صارت كسراج فيه ذبالة مرواة بالزيت ، فإذا أشرقت عليها أنوار المعرفة أوقدتها فعادت كمشكاة / [١٢٢ أ / م] فيها مصباح.

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣) [النحل : ١٢٣] يحتج بها من رأى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل النبوة غير متعبد بشريعة أحد ؛ إذ لو تعبد بشريعة أحد ، لكان أولى ما تعبد به شريعة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لأنها اختيرت له بعد النبوة ، ثم لو كان متعبدا بها قبل النبوة ؛ لكان مستصحبا لها إلى ما بعدها ، فلم يحتج إلى تجديد الأمر باتباعها ، وقد اختلف في هذه فقيل : لم / [٢٧٦ / ل] يكن متعبدا بشريعة أحد ، لئلا يكون تبعا لغيره ، وقيل : كان على ملة إبراهيم ، وقيل : موسى ، وقيل : عيسى ، وقيل : كان يتعبد بما يراه ، وهو معصوم فيه على جهة التفويض على مذهب موسى بن

٣٨٥

عمران الأصولي كما سبق.

(إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٢٤) [النحل : ١٢٤] اختلف قوم في بقاء تحريم السبت على اليهود ، وفيه قولان للعلماء :

أحدهما : هو باق ، لاعتقادهم له واعترافهم وتدينهم به ، مؤاخذة لهم بإقرارهم.

والثاني : أنه ليس بباق ، لثبوت نسخه بشريعتي المسيح ومحمد ـ عليهما‌السلام ـ فلو استباحه يهودي اتجه تعزيره وتأديبه على الأول ، لانتهاكه حرمة يعتقدها لله ـ عزوجل ـ دون الثاني.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل : ١٢٥] يحتج بها المنطقيون على صحة علمهم ووجوب استعماله في الدعاء إلى الله ـ عزوجل ـ لإقامة الحجة وكشف الشبهة ، قالوا : لأن المنطق ليس إلا علما يتعرف فيه أحوال الأقيسة النظرية قوة وضعفا ، وصحة وفسادا ؛ ليتوصل بها إلى تحقيق الحق وإبطال الباطل ، وجملة الأقيسة المبحوث عنها في المنطق خمسة : البرهاني والإقناعي والجدلي والسوفسطائي والشعري ، والثلاثة الأول هي المعول عليها في المطالب العلمية ، فالبرهان لإدراك اليقين ، ويصلح لمن ارتاض بالحكمة ، أو كانت له فطرة جيدة يدركه بها ، والإقناع للعامة القاصرين عن رتبة البرهان ، والجدل لمن يقصد المغالبة أو المغالطة في الحق فيلقى به ليكف عاديته ، وأشير في الآية إلى هذه الثلاثة وسمي البرهان حكمة والإقناع الخطابي موعظة ، وأشار إلى الجدلي بقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل : ١٢٥].

أما السوفسطائي فتشكيك في الحقائق ، وإنما يعرف ليجتنب ، أو ليبطل إن شكك به.

والشعري تخييل يؤثر قبضا وبسطا في النفس يخدع به الناس عن أموالهم ، فلا يستعملان في غير ذلك فلم يبق إلا الثلاثة الأول المشار إليها في الآية ، وهي المقصود من علم المنطق ، وإنما قلنا : إن استعماله في الدعاء إلى الحق واجب ؛ لأنه أمر بالدعاء إليه به والأمر للوجوب ، ولأن المنطق للمعاني كالنحو للألفاظ / [١٢٢ ب / م] فبدونه لا تتحرر الحجج ، وما لم تتحرر الحجج لا يتضح الحق ؛ فلذلك قلنا : إن استعماله واجب ، وعلى المنطق

٣٨٦

شكوك قد ذكرت غير هاهنا ، والتنبيه من الآية على معنى ما ذكرناه وذكره الإمام فخر الدين في أول شرح الإشارات.

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) / [٢٥٩ / ل]) [النحل : ١٢٥] يستدل به على أنه هو خالق الإضلال والهدى لقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤] فلما علم بمن ضل دل على أنه خلق ما به ضل.

(إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨) [النحل : ١٢٨] معية إعانة وعناية ونصرة ورعاية.

* * *

٣٨٧

القول في سورة سبحان

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) [الإسراء : ١] فيه إثبات الإسراء ويتبعه المعراج ، لاتصاله به ، وقد أنكره بعض الفلاسفة والمعتزلة ، بناء على أن الجسم الثقيل الكثيف الهابط لا يرتقي إلى العالم اللطيف ، وإنما كان مناما بدليل قوله : «فاستيقظت فإذا أنا [نائم] في بيت أم هانئ» (١) ونحوه مما يدل على أنه كان مناما.

واعلم أن هذا مثل فلسفة إبليس في قوله : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) [الأعراف : ١٢] فإن صعود الجسماني الأرضي إلى العالم الروحاني السماوي ممكن لذاته ، وكل مقدور ، والفاعل عندنا مختار يفعل ما يشاء ويختار ، فلا يبقى لامتناع ذلك وجه.

وتوجيهه على رأي المتكلمين بأن يخلق الله ـ عزوجل ـ في الجسم الكثيف قوة جاذبة له إلى فوق أو خفة بحيث يحمله اللطيف ، أو يخلق في القضاء اللطيف كثافة بحيث يحمل الكثيف ، وهذا الغمام والمطر والبرد والصواعق وسائر الآثار العلوية كثيفة أو كثير منها ، ويحملها الفضاء اللطيف ، وأما المنام فقد لعمري كان مناما مرة توطئة لليقظة ، ثم كان يقظة ، والأحاديث الصحيحة دلت عليهما جميعا ، ولو لم يكن إلا مناما لما أنكرته قريش ، وبالإجماع أنهم أنكروه.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٣) [الإسراء : ١٣] قيل : هي صحيفة عمله تعلق في عنقه في قبره حتى يبعث بها ، فيحاسب عليها وهي الكتاب الذي يخرج له يوم القيامة ، فيلقاه منشورا.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) [الإسراء : ١٥] يحتج بها المعتزلة لإسناد الهدى والضلال إلى المكلف لا إلى الرب ـ عزوجل.

__________________

(١) أخرج نحوه ابن هشام في سيرته [٢ / ٤٢٧] وابن جرير في تفسيره [١٥ / ٢] انظر تفسير ابن كثير [٨ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩]

٣٨٨

وأجيب بأنه أسند إليه باعتبار الكسب ، وقد تكرر هذا ، والقاعدة الكلية أنه لما أضيف تارة إلى الرب ، وتارة إلى العبد ، حمل على الأول باعتبار الخلق ، وعلى الثاني باعتبار الكسب ، أو التفويض التقديري عند أهل الجبر جمعا بين النصوص.

(مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) [الإسراء : ١٥] يحتج به الجمهور على أن لا حكم للعقل بإيجاب ، ولا حظر ولا تحسين ولا تقبيح ، ولا يقتضي شيئا من ذلك ، وتقريره أنه لو كان له حكم لتوجه / [١٢٣ أ / م] التعذيب على من عصى بموجب حكمه قبل بعثة الرسل ، واللازم باطل ، فالملزوم كذلك ، أما الملازمة ، فلأنه لو كان له حكم لكان مخالفه / [٢٦٠ / ل] عاصيا قبل البعثة ، ولو كان مخالفه عاصيا لتوجه التعذيب عليه حينئذ.

وأما انتفاء اللازم ، فلهذه الآية ، إذ نفي التعذيب قبل البعثة ، وقد سبق القول في هذا ، وحكاية مذهب المعتزلة فيه في سورة الأعراف.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) (١٦) [الإسراء : ١٦] ظاهرها متروك بالنص والإجماع على أن الله ـ عزوجل ـ لا يأمر بالفحشاء والفسق أمر اقتضاء واستدعاء ، ولكن في تأويلها أقوال :

أحدها : أمرناهم بالطاعة فعصوا ففسقوا ، فحق عليهم القول ولزمتهم الحجة فعاقبناهم.

الثاني : أمرناهم كثرناهم ، ففسقوا ، والكثرة سبب الفساد ، يقال : أمر بنو فلان أي :

كثروا وعظموا.

الثالث : أمرناهم : جعلناهم يمورون فيها أي : يسعون ويجولون ، من مار يمور ، ففسقوا وهذا بخلق الدواعي والصوارف فيهم لذلك.

الرابع : أمرناهم بلسان التكوين لا التكليف ، ففسقوا كما قلنا في قوله ـ عزوجل : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) [التوبة : ٤٦] مع (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤١) [التوبة : ٤١] وذلك بخلق دواعي الفساد فيهم.

٣٨٩

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً) (١٨) [الإسراء : ١٨] هذه قيدت بقيدين :

أحدهما : في المراد وهو ما نشاء ، والثاني في المريد : وهو لمن نريد ، وبذلك قيد مطلق (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) (١٤٥) [آل عمران : ١٤٥] ، (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) [الشورى : ٢٠] ونحوه ، وكذلك (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) [الإسراء : ١٩] مقيد بقيدين السعي المناسب والإيمان ، ولا يبعد أن يفسر المحكم بمثل هذه المقيدات والمتشابه بما يقابلها من المطلقات.

(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١) [الإسراء : ٢١] إن قيل : تفاوت الدرجات في الآخرة مما يتأذى به المفضول فيها عادة ، وذلك يعارض النص بأن لا نصب فيها ولا حزن ، ولا هم ، قلنا : العادة ترتفع هناك ، ويرضى كل بما حصل له ، وثمرة التفاوت تحصل في نفس إدراك النعيم ، فإدراك بعضهم أقوى ولذته أتم من بعض ، وهذا كما تفاوتوا في الدنيا في العقول ، ثم كل منهم راض بعقله ، وثمرة التفاوت فيها يظهر في الإدراك العقلي قوة وضعفا.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) [الإسراء : ٢٣] اعلم أن قضى تستعمل بمعنى أمر ، وبمعنى حكم ، فالجمهور على أنه هنا بمعنى أمر ، أي أمر بالتوحيد وإكرام الوالدين ، وعطف الوصية فيهما على الوصية بالتوحيد تعظيما لشأنهما ، إذ كان هو الخالق ، وهما سبب الخلق الكاسبان / [٢٦١ / ل] له ، [وابن العربي صاحب / [١٢٢ / ب] «الفصوص» حمل «قضى» هاهنا على معنى حكم وجزم وقدر وحتم ، فلا جرم احتج بها على أنه ـ عزوجل ـ عين الوجود أو سار بذاته في الوجود حتى في سائر المعبودات ، كود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، ونار المجوس ، والنيرين ، والنجوم للصابئة ، واللات والعزى ، ونحوهما للعرب ، وغير ذلك ،

٣٩٠

لأنه ـ عزوجل ـ : «قضى» أي : حكم ألا يعبد سواه ، وما قضاه لا مخالف له ، فما عبد في الوجود إلا هو وهذه الأشياء قد عبدت ، فوجب أن تكون هي إياه ، وما ذلك إلا لسريانه بذاته في العالم أو كونه عين العالم.

ورد عليه بأن الغلط إنما وقع من جهة اشتراك اللفظ ، وإنما معنى قضى أمر ، ولا يلزم من الأمر الطاعة ، فهو أمرهم ألا يعبدوا إلا إياه ، فخالفوه ، وعبدوا سواه.

(وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) [الإسراء : ٢٣] هذا هو المثال المشهور في مفهوم الموافقة ، وهو ما استفيد من غير محل النطق أقوى من المنطوق ، فالمنطوق هنا تحريم التأفيف ، والمفهوم تحريم الضرب ، وهو أقوى من المنطوق بمعنى أن التحريم فيه أولى من تحريم التأفيف ، يدرك ذلك بالضرورة.

واختلف فيه ، أهو قياس ، أم لا؟ فقال قوم : هو قياس جلي ، ونظمه : إن ضرب الوالدين أذى لهما فكان حراما كالتأفيف لهما وأولى ، وأركان القياس موجودة الأصل والفرع والعلة والحكم.

وقال آخرون : ليس بقياس ، وإنما هو مدلول لفظي ، لتفاهم العرب له مع عدم معرفتهم بالقياس ، ولأن ذلك يفهمه من لا يتصور القياس ، ولا يخطر له ببال ، ويحتمل أن يقال :

المنطوق في [مثل] هذا أعم ، أو كالأعم من المفهوم. فالنهي عنه من باب نفي الأعم المستلزم نفي الأخص ، وهذا من باب الدلالة العقلية لا اللفظية.

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤) [الإسراء : ٢٤] هذا مجاز [تشبيها للولد] في ذلك بطائر خفض جناحه لأفراخه يظلهم به ، وكذا (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) [الحجر : ٨٨] ، ولما قال أبو تمام الطائي في قصيدته المشهورة :

لا تسقني ماء الملام فإنني

صب قد استعذبت ماء بكائي

أنكرت عليه هذه الاستعارة ، ولم تستحسن منه ، فأرسل إليه العتابي غلاما له ، ومعه قارورة وقال له : قل له : احتجنا إلى شيء من ماء الملام فابعث به إلينا في هذه القارورة ، فعلم أبو تمام أنه منكر عليه ، متهكم مستهزئ به فقال للغلام : ارجع إلى مولاك فقل له : يرسل إليّ بريشة من جناح الذل ، أخرجه له بها ، فكان في ذلك مناظرة بالكناية شبيهة

٣٩١

بمناظرة القاضي عبد الجبار وأبي إسحاق المذكورة عند قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) [الأعراف : ٢٨].

وتوجيهها : أن العتابي قال لأبي تمام : إن الملام لا ماء له فكيف استجزت استعارته؟! فقال له أبو تمام : فإن الذل لا جناح له / [١٢٤ أ / م] فكيف استجيز استعارته في القرآن.

واعلم أن المؤاخذة على أبي تمام ليست في نفس الاستعارة ، وإنما هي / [٢٦٢ / ل] في حسنها وتمامها وتطبيق المفصل بها ، وليست استعارته في ذلك كاستعارة جناح الذل ، وبينهما بون بعيد يدرك ذلك حسا وعقلا ، وإن شئت تحقق ذلك فتخيل الذل طائرا خفض جناحه ، وتخيل الملام ماء في وعاء نخيل تجد الأول أسرع والنفس إليه أبدر ، واستقصاء الكلام في هذا غير هاهنا.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩) [الإسراء : ٢٩] شاهد على مدح التوسط ، وذم الانحراف والتطرف.

(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠) [الإسراء : ٣٠] وكيفية ذلك بتقدير الأسباب المفيدة للرزق ومنعها : وهي بيد الله ـ عزوجل ـ وذلك ظاهر ، وعلل ذلك بما تضمنه قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠) [الإسراء : ٣٠] وهو أن فيهم من لا يصلحه إلا بسط الرزق ، وفيهم عكس ذلك ، فهو يراعى بذلك مصلحة من يشاء منهم ، تفضلا منه من حيث لا يعلمون ، ولا يشك عاقل أن قارون لو كان فقيرا لكان أقرب إلى صلاحه ، وأن السارق وقاطع الطريق لاضطرار الفقر له إلى ذلك لو كان موسرا لكان أقرب إلى صلاحه.

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١) [الإسراء : ٣١] مفهوم خرج مخرج الغالب فلا يعتبر.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦) [الإسراء : ٣٦] احتج به من رأى الظن نوع علم ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن اتباع غير العلم ، ثم إنه كان يحكم بالظن المستفاد من البينة واليمين وخبر الواحد ونحوه.

٣٩٢

ولو لا أن ذلك نوع علم لكان مرتكبا للنهي ، وأنه غير جائز منه.

وجوابه أنه سمى الظن علما للرجحان المشترك بينه وبين العلم كما سبق في (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (٨١) [يوسف : ٨١].

واحتج بهذا أيضا من منع العمل بخبر الواحد ، وهم الشيعة ، ومن تابعهم ، لأنه إنما يفيد الظن لا العلم وقد نهى عن اتباع غير العلم وذلك يقتضي النهي عن العلم بخبر الواحد.

وأجيب بأن هذا عام خص في خبر الواحد بأدلة كثيرة ، منها ما سبق في (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤) [النحل : ٤٤] (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) [التوبة : ١٢٢] وبالإجماع على قبول خبر المفتي والشاهد والحاكم ثبت عندي ، ونحو ذلك.

(ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٣٩) [الإسراء : ٣٩] يعني الآداب المتضمنة للطاعة واجتناب المعصية ، وهذا التفسير لها داخل فيما سبق في تعريفها عند قوله ـ عزوجل ـ : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩) [البقرة : ٢٦٩] (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٣٩) [الإسراء : ٣٩] نهى عن الشرك ، وأمر بالتوحيد وظاهره يقتضي ما سبق من أن عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ من وقوع الشرك لا من جوازه / [٢٦٣ / ل] خصوصا على رأي من يقول : إن النهي عن الشيء [١٢٤ ب / م] يقتضي صحة وقوعه.

قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠) [الإسراء : ٤٠] الكلام فيه كما في (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) [النحل : ٥٧] ووجه تعظيم قولهم في القبح ، أنهم

٣٩٣

أضافوا إلى الله ـ عزوجل ـ ما هو منزه عنه ، ويستحيل عليه واستئثارهم عليه بالأكمل على تقدير جواز ذلك عليه.

(قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (٤٢) [الإسراء : ٤٢] هذا من أدلة التوحيد ، وتقريره من وجهين :

أحدهما : لو كان معه إله غيره لطلب ذلك الغير سبيلا إلى مغالبة ذي العرش على الملك وانفراده بالإلهية دونه واللازم باطل ؛ فالملزوم كذلك ؛ بيان الملازمة أن العادة اطردت بأن المشتركين في الملك يحاول كل واحد منهما المكر بصاحبه ، أو مغالبته على إخراجه من الملك ، وانفراده به دونه ، واطراد العادة حجة ، ولذلك كان انخراقها للأنبياء معجزا ، بيان بطلان اللازم أن كل من ادعيتموه إلها مع الله تعالى كالأصنام ونحوها أسير في قبضة قدرته لا يستطيع السبيل إلى الخروج عن عبوديته فضلا عن ابتغاء السبيل إلى مغالبته.

الوجه الثاني : لو كان معه غيره لطلب ذلك الغير السبيل إلى الوصول إلى رتبة ذي العرش أو إلى الشفاعة إليه فيما يريد ، على العادة في بلوغ النظير رتبة نظيره والشفاعة إليه في بعض أموره ، واللازم باطل ، والمعول عليه هو الوجه الأول.

(تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤) [الإسراء : ٤٤] فيه قولان :

أحدهما : أنه عام أريد به الخاص وهم ذوو الحياة المتأتي منهم التسبيح ، وعلى هذا يتمسك به الفلاسفة في أن الأفلاك حية ناطقة ، لأنها مسبحة بهذا النص ، وكل مسبح حي ناطق ، فالأفلاك حية ناطقة.

وجوابه : بمنع كونها مسبحة على هذا التقدير ، وينتقض عليهم بالأرض ؛ فإنها مسبحة بهذا النص ، وليست حية باتفاق.

الثاني : أنه عام مطرد في الحي وغيره كالجمادات ، لكن تسبيح كل شيء بحسبه ؛ فالحي بالنطق والجماد إما بظهور آثار القدرة فيه والتسخير له قسرا أو بخلق حياة فيه ، أو أصوات يسبح بها لا يعلمها ويدركها إلا خالقها ، ومن أطلعه عليها ، [قال بعض العلماء المحققين رضي الله عنهم :] وقد أخبرني الثقة ، أنه كان نائما في بستان فاستيقظ ليلا فسمع للنخيل والأشجار وجدار البستان كدوي النحل بالتسبيح ، وأخبرني الثقة عن الثقة فيما أحسب أنه مر في أرض / [٢٦٤ / ل] مزروعة حنطة ، وهو يسبح ، فسمع السنبل جميعه يسبح ، وفي تسبيح الجبال مع داود ـ عليه‌السلام ـ غنية عن ذلك كله.

٣٩٤

[وعلى هذا فربما احتج به الاتحادية على أنه سار / [١٢٥ أ / م] بذاته في كل شيء ، وأنه يسبح نفسه منها.

وجوابه أن ذلك يقتضي اتحاده بها أو حلوله فيها ، وهو محال على ما تبرهن في الكلام والحكمة ، ويحتج ب (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤) [الإسراء : ٤٤] ونحوه على أن الفقه لغة الفهم ، وقد قيل : هو العلم كما مر في مقدمة الكتاب].

[قوله تعالى] (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (٤٥) [الإسراء : ٤٥] قيل : ساترا ، فلا يرونك ليؤذوك إذا أرادوا ، وقيل : مستورا عن أعين الناظرين ، وهو إما خلق الصوارف [في قلوبهم عنك ، أو ملائكة يسترونك عنهم كما ستره ملك عن أم جميل امرأة أبي لهب حين جاءته وهو في المسجد لتؤذيه.

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (٤٦) [الإسراء : ٤٦] هذه الأكنة والوقر في آذانهم إما حسية ، أو عقلية بخلق الصوارف] عن اتباع القرآن كما مر في ختم الله على قلوبهم.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) (٤٩) [الإسراء : ٤٩] تضمنت إنكارهم للبعث بشبهتهم السابقة في سورة النحل.

(أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١)

[الإسراء : ٥١] هذا جوابهم عن إنكار البعث بإثباته والاستدلال عليه ، بقياس الإعادة على الابتداء أول مرة ، بجامع الإمكان والقدرة على كل ممكن فيهما.

(أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١)

[الإسراء : ٥١] ليس فيه تحديد لوقت قيام الساعة ، إذ القريب أمر إضافي فألف سنة قريب بالإضافة إلى عشرة آلاف سنة ، وبعيد بالنسبة إلى مائة سنة ، ومائة ألف سنة قريب [إلى ألف ألف سنة بعيد بالنسبة إلى] [عشرة آلاف].

(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (٥٢)

٣٩٥

[الإسراء : ٥٢] اعلم أن الأجساد للأرواح كالثياب للأجساد ، وكما أن جماعة عراة إذا صاح بهم صائح بادر كل منهم إلى ثوبه فلبسه ، ثم أجاب الصائح ، كذلك الموتى تتجرد أرواحهم ، ثم تبلى أجسادهم فإذا أريد بعثهم أعيدت الأجساد كما كانت ، وقد دللنا على إمكانه ووقوعه ، ثم بادر كل روح إلى جسده فلبسه ، ثم أجاب داعي البعث ، وكما خلق الله ـ عزوجل ـ الجسم بالتطوير والتصوير من نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخرها ، فهو قادر على إعادته بدون ذلك ، كما أنه خلق بني آدم بالتطوير ومن قبلهم خلق آدم بدونه ، فالقدر المشترك في ذلك كله وغيره هو القدرة / [٢٦٥ / ل] التامة ، وما زاد فهو كالآلات لا ينبغي أن يوقف معه ، فهذه حقيقة البعث إن شاء الله ـ عزوجل.

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (٥٤) [الإسراء : ٥٤] مورية لزناد الجبرية ، حيث قالوا : إنه ـ عزوجل ـ علم أنه لو فوض إلى العاصي عمله لكان معصية ، فجبر على ما لو فوض إليه لفعله كما تقرر في / [١٢٥ ب / م] المقدمة ، وبيانه من الآية أن المعنى الظاهر منها ربكم أعلم بكم ، لو فوض إليكم خلق أفعالكم ، ما ذا كان يكون فهو يرحم ويعذب بحسب ذلك العلم.

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٥٥) [الإسراء : ٥٥] دلت على أن بعضهم أفضل من بعض في الحقيقة ، وأما نحن فنهينا عن التفضيل بينهم لما عرف من إيهام ذلك غضّا من المفضول ، فقد جاء في الحديث «لا تفضلوا بين الأنبياء» (١).

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٥٦) [الإسراء : ٥٦] هو من أدلة التوحيد ، ونفي الشرك ، وقد سبق نظيره في غير موضع.

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧) [الإسراء : ٥٧] معناه : أن آلهتكم التي تدعونها شركاء عبيد لله ـ عزوجل ـ ضارعون يطلبون القرب إليه ويرجونه ويخافونه ، ولا شيء ممن هو كذلك بإله.

__________________

(١) رواه البخاري كتاب الخصومات ح [٣٤٠٨] ومسلم كتاب الفضائل ح [٢٣٧٣].

٣٩٦

(أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (٥٧) [الإسراء : ٥٧] اعلم أن بعض علماء الظاهر ينكر على بعض أهل العمل قوله : لست أعبد الله ـ عزوجل ـ رجاء جنته ، ولا خوفا من ناره. والتحقيق أن الجزم في هذا بأحد الطرفين ، أعني الجواز والمنع مطلقا حطأ ، بل الحق التفصيل ، وهو أن من قال هذا القول إظهارا للاستغناء عن فضل الله ورحمته وجرأة عليه ، فهو مخطئ كافر ، ومن قاله لاعتقاده أن الله ـ عزوجل ـ أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك رحمة ولا عذاب ولا جنة ولا نار ، لكان أهلا أن يعبد فهو محقق عارف ، وتحقيق ذلك أن للحق ـ عزوجل ـ صفتي جلال وجمال ، فلو انتفى الخوف من جهة صفة جلاله لوجبت عبادته لما هو عليه من الكمال [من جهة صفة] جماله.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩) [الإسراء : ٥٩] تضمنت الجواب عن استعجال الكفار الآيات في أول الأمر ، وقولهم : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) [الرعد : ٧].

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧) [الحجر : ٧] ونحوه ، وتقريره : أنه لم يمنعنا من تعجيل الآيات إلا الإبقاء عليكم إذ جرت عادتنا أن من كذب بآياتنا أهلكناه كما كذب بها الأولون فأهلكناهم فأخرناها عنكم / [٢٦٦ / ل] مدة لعلكم تراجعون الحق ، فلما أصروا على كفرهم ، جاءتهم الآيات كانشقاق القمر وإمساك المطر وتسليم الحجر والشجر ، ونحوها ، [فلزمهم بها] الحجة ثم أهلكوا ، سنة الله التي قد خلت من قبل.

(وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩) [الإسراء : ٥٩] يحتج به من زعم أن [لا عذاب] في الآخرة وبقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦) [الزمر : ١٦] قالوا : لأن هذه الآية دلت على أن ما ثم إلا التخويف ، أما إيقاع ما وقع به التخويف فلا.

وجوابه : أن هذا الحصر ممنوع بل هناك تخويف ، وهو لا ينافي وقوع ما خوف به ، وقد

٣٩٧

صرحت به / [١٢٦ أ / م] النصوص فوجب القول به.

واحتجوا بأن العقاب إما للطائع وهو غير مناسب ، أو للعاصي ، وهو إما لا لفائدة وهو عبث ، أو لفائدة ، وهي إما لله ـ عزوجل ـ وهو غني عما سواه ، أو للمكلف فهي إما في الدنيا وقد انقطعت فصارت عدما ، أو في الآخرة وهو باطل ؛ لأن العقاب ضرر محض مناف للفائدة ، فثبت أن العقاب باطل لبطلان جميع أقسامه وأحواله.

وجوابه من وجوه :

أحدها : أن هذا مخالف للنصوص القاطعة وإجماع العلماء ، فلا يلتفت إليه ولا يعارض القاطع.

الثاني : أن العقاب لفائدة وحكمة استأثر الله ـ عزوجل ـ بها ، ولا نسلم أن العقاب ينافي الفائدة ، كما في تأديب الصبي ونحوه.

الثالث : أن العظمة الإلهية لذاتها تقتضي العقاب على المعصية.

الرابع : أن ما ذكرتموه منتقض بآلام الدنيا ومصائبها ومحنها ، هي ضرب من العذاب ، وهي إما للطائع أو العاصي إلى آخر ما ذكرتم ، فيلزم أن تكون منتفية ، وهو باطل ، لا يقال : محن الدنيا تعوض عنها بخلاف عقاب الآخرة ؛ لأنا نقول : العوض عندنا غير لازم ، بل لله ـ عزوجل ـ أن يؤلم ويهلك ويمتحن بما شاء من غير تعويض ، وحينئذ جوابكم عن بلاء الدنيا هو جوابنا عن عذاب الآخرة.

(وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً) (٦٠) [الإسراء : ٦٠] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ يريد ويقصد فتنة بعض الناس وإضلاله ، وينصب لهم شراك ذلك ، وهذه الرؤيا هي رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شجرة الزقوم في النار ، فأخبر بها الكفار ، فكذبوا وقالوا : النار تأكل الشجر ، فلا يكون فيها شجر ، وهو غلط منهم ، لجواز أن يخلق في النار ضعف عن أكل الشجرة ، أو في الشجرة قوة على الثبات في النار ؛ وهذا السمندل طائر يعيش في النار ، فالشجرة أولى.

والشجرة الملعونة في القرآن هي عند الجمهور شجرة الزقوم ، كما ثبت في الحديث ، وعند الشيعة هي شجرة بني أمية لما صدر عنهم من قطع أرحام بني عبد المطلب ، وقاطع الرحم ملعون بالنص والإجماع ، ولما ورد في السّنّة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي وهو غير راض عن ثقيف وبني حنيفة / [٢٦٧ / ل] وبني أمية.

٣٩٨

والأشبه الأول ؛ لأن الشجرة فيه على حقيقتها وهي على الثاني مجاز ، والحقيقة أولى.

(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (٦٤) [الإسراء : ٦٤] قيل : بالربا ، (والأولاد) قيل : بالحنث في طلاق الزوجات ، وقيل : بمشاركته الرجل في وطء امرأته ، إذ لم يسم عند الجماع. روي عن ابن عباس : أن الرجل إذا جامع ولم يسم ، قعد الشيطان على فخذه ، ينكح معه ، ويقوي / [١٢٦ ب / م] ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن أحدهم إذا أتى أهله قال : بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ؛ فقضي بينهما ولد لم يضره الشيطان» حديث صحيح ، ومفهومه أنه إذا لم يسم فقضي بينهما ولد ضره الشيطان ، ولا ضرر أبلغ من أن يشارك فيه.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (٦٥) [الإسراء : ٦٥] أي عبادي المخلصين الخواص عندي المختصين بعنايتي ورعايتي لا سلطان لك عليهم ، وحينئذ ادعت الشيعة أن من أبغض عليا فهو ولد زنا ، وهو ابن الشيطان لأن عليا لا يبغضه إلا منافق بالنص الصحيح.

والمنافق ليس من عباد الله الخواص المنفي عنهم سلطان الشيطان ، فهو من العباد المبعدين عن الله المستولي عليهم سلطان الشيطان ، فالمنافق داخل تحت سلطان الشيطان ، ومن سلطان الشيطان عليه مشاركته لأبيه فيه كما سبق ، فمبغض علي يشارك الشيطان فيه ؛ فهو ولد زنا وابن الشيطان. ثم أكدوا ذلك بما ذكره القرطبي في تفسيره من حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود ، قال : بينا علي بن أبي طالب يمشي في بعض سكك المدينة عرض له إبليس ، فهم علي بقتله ليريح الناس منه ، فقال له إبليس : مهلا يا أبا الحسن ما هذا جزائي منك ؛ فقال : وأي جزاء لك عندي يا ملعون؟ قال : والله ما أبغضك أحد إلا وقد شركت أباه في أمه ، وهذا من الشيعة تعريض بالخوارج والنواصب.

وأجاب الجمهور عن هذا بأن قالوا : نحن نحب عليا [ولا] نبغضه ، فلا يلحقنا مما قررتموه معرة ، نعم أنتم أولى بما ذكرتم لأنكم ترون إباحة المتعة وهي زنا ، وأكثركم أو كثير منكم مولود منها.

(وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) (٦٧) [الإسراء : ٦٧] هذا من أدلة التوحيد كما سبق في (بَلْ إِيَّاهُ

٣٩٩

تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١) [الأنعام : ٤١] ونحوه.

(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) (٦٩) [الإسراء : ٦٩] أي في البحر ، وهذا مما يحتج به على أن كسب الإنسان مخلوق لله ـ عزوجل ـ والإنسان مجبور ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ نسب إعادتهم إلى البحر إليه شاءوا أم أبوا ، وذلك إنما يكون بما يجبرهم به على ذلك من خلق الدواعي والصوارف ، فإن الإنسان يرى من هول البحر ما يزعجه جدا حتى / [٢٦٨ / ل] [يعزم ، وربما حلف الأيمان المغلظة أنه لا يعاود ركوبه ، ثم يكذبه الله ـ عزوجل ـ] ويرغمه ويضطره إلى ركوبه خاسئا [مخشوشا بخشاش] القدر كالجمل الذلول ، لا يمكنه أن يمتنع ، وهو دليل على ما ذكرناه.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠) [الإسراء : ٧٠] يحتج بها من فضل الملائكة على بني آدم لأنهم / [١٢٧ أ / م] إنما فضلوا على كثير من المخلوقات لا على جميعها ، والإجماع على تفضيلهم على من عدا الملائكة ، فدل هذا على أنه لم يفضلوا على الملائكة ، ثم إذا انضم إلى هذا الحديث الصحيح : «ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» تم الاستدلال على الملائكة أفضل من بني آدم.

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤) [الإسراء : ٧٤] هاهنا مسائل :

الأولى : أن العصمة تثبيت وصرف عن المعصية بما يخلق في النفس من شدة الخوف وغيره من الأسباب ، بدليل (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٧٤) [الإسراء : ٧٤] (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣) [يوسف : ٣٣] ، وليست العصمة امتناع وقوع المعصية عقلا ، وإلا لما ظهرت فضيلة التقوى أبدا ، ولتعذر ابتلاء أحد بالمعصية ؛ إذ الممتنع عقلا لا يدخل تحت المقدورية.

الثانية : [أن عصمة الأنبياء إما هي من وقوع المعصية والكفر لا من جواز ذلك ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ أخبر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه هو الذي ثبته عن الركون إلى الكفار بالافتراء على الله بغير

٤٠٠