الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

كتاب فضائل علي من حديث بريدة بن الخصيب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عليا مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي» هكذا بكاف الخطاب ، قالوا : والمفهوم من الولي هو الرئيس المطاع وهو معنى الإمام ، وهذا هو المفهوم من قولنا : ولي المرأة ، وولي اليتيم ، أي : الرئيس المطاع عليهما النافذ تصرفه فيهما. قالوا : وهذه أخبار الآحاد ، وإن كنا لا نقول بها ، لكنها تلزمكم ؛ لأنها حجة عندكم فنحن نوردها إلزاما لكم لا استدلالا عليكم.

وأما أبو بكر فليس منصوصا عليه باتفاق ، لأن مستند بيعته عندكم الاختيار والإجماع ، ولو كان منصوصا عليه لما احتيج إلى ذلك ، قالوا : فهذا الاصطفاء وهو معنى النص قد ثبت لعلي دون أبي بكر ، وأما البسطة في العلم فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أقضاكم علي» ، وإنما يكون أقضاهم إذا كان أعلمهم ، ولأن من المشهور أنه كان له من الخوض في طلب العلم ما لم يكن لأبي بكر ، بدليل أن الصدقة بين يدي [نجوى] الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لم يعمل بها أحد سوى علي ، حتى كان معه عشرة دراهم هو محتاج إليها ؛ فآثر تحصيل العلم على ضرورته وتصدق بها حتى استفاد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عشر مسائل ، ولم يعرف مثل ذلك لغيره ، وكذلك نفوذه في الفقه وسرعة أجوبته في المشكلات كالمسألة المنبرية والدينارية وغيرهما مما لم يكن لغيره يدل على أنه كان أبسط في العلم من أبي بكر وغيره.

وأما البسطة في الجسم يعني القوة والشجاعة ، فلا يشك منصف أنه كان أشجع الصحابة أبي بكر وغيره ، أما أولا ؛ فلأن أبا بكر على ما ذكر في صفته كان شيخا ضئيلا نحيفا / [٢٩ / م] ولو لم يكن إلا إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ضعيف / [٦٠ / ل] في بدنه حيث قال : «رأيته ينزع بذنوب ، وفي نزعه ضعف والله يغفر له (١) ، وقوله : «إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله» ـ لكان كافيا في ضعف بدنه.

وأما علي فبالتواتر أنه كان عظيم الجسم ، شديد القوة ، عظيم المشاش ، ما صارع أحدا إلا صرعه ، ولا أمسك بعضد أحد إلا أخذ بنفسه ، وإنما سمي حيدرة تشبيها له بالأسد في الخلقة والقوة ، وكان مع ذلك شابا في عنفوان شبيبته ، ولا يشك أحد أن الشاب القوي الجلد أشد وأشجع من الشيخ الضعيف النحيف.

وأما ثانيا فإن خالد بن الوليد كان هو العلم المشهور في الصحابة بالشجاعة ، ثم لما بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليا إلى اليمن أمّر عليا عليه وإنما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدم في كل أمر أقوم الناس

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب المناقب ح [٣٣٦١] ومسلم ح [٤٤٠٧].

١٠١

به ، فلولا أن عليا أشجع من خالد لما قدمه عليه ، والأشجع من الأشجع أشجع بالضرورة ، فإن قال قائل : إن الشجاعة ليست بقوة البدن الظاهرة ، وإنما هي بقوة القلب الباطنة ، فرب شيخ ضعيف نحيف أشجع من شاب قوي جليد.

قلنا : فدعونا من هذا ، فقد أجمعت العرب وأهل الأدب على أن أشجع بيت قيل قول عباس بن مرداس :

أكر على الكتيبة لا أبالي

أحتفي كان فيها أم سواها

ولا خلاف أن عليا كان أقوم بهذه الصفة ، وأقدم على الحروب من أبي بكر ، قالوا : ولو أبطلتم لنا كل حجة على ذلك قلنا حجة تضطرون إلى تسليمها ولا تستطيعون إبطالها ، وهي أن الأصوليين إذا أرادوا إثبات الإجماع بقوله عليه الصلاة والسّلام : «أمتي لا تجتمع على ضلالة» (١) ، وحاولوا إثبات تواتر هذا الخبر. قالوا : تواتر تواترا معنويا حتى صار كشجاعة علي ، وسخاء حاتم ، فلا تراهم يضربون المثل إلا بشجاعة علي ، ولو كان أبو بكر أشجع لكان أولى بضرب المثل بشجاعته ، وأيضا فإنهم قرنوا شجاعة علي بسخاء حاتم ، ثم لما كان حاتم أجود العرب ، وجب أن يكون قرينه في ضرب المثل أشجع العرب ، فهذا مما لا جواب عنه ولا خلاص منه.

قالوا : فثبت أن الصفات التي احتج بها نبي بني إسرائيل عليهم في تقديم طالوت مختصة بعليّ دون أبي بكر ، فوجب أن يكون عليّ أولى بالتقديم من أبي بكر كما / [٦١ / ل] كان طالوت أولى بالتقديم على بني إسرائيل.

وقد ورد الأثر بأن عليا طالوت هذه الأمة ، وهو إشارة إلى ما قررناه من كونه واجب التقديم عليها كما وجب تقديم طالوت.

هذا ما قررت به الشيعة إمامة عليّ من هذه الآية ومناقضته على التفصيل يطول ، وربما تعذر في البعض ، وإنما / [٣٠ أ / م] أجاب الجمهور عنه بانعقاد الإجماع بموافقة عليّ على

__________________

(١) إسناده ضعيف : رواه ابن ماجة ح [٣٩٤٠] وابن أبي عاصم في السنة [١ / ٤١] ح [٨٤] ، وقال الكناني : إسناد ضعيف لضعف أبي خلف الأعمى ، واسمه حازم بن عطار ، ورواه عبد بن حميد ثنا يزيد بن هارون بن بقية بن الوليد بن معاذ فذكره ، ورواه أبو يعلى الموصلي ثنا داود بن رشيد حدثنا الوليد فذكره بإسناده ومتنه ، وقد روي هذا الحديث من حديث أبي ذر ، وأبي مالك الأشعري ، وابن عمرو أبي نصرة ، وقدامة بن عبد الله الكلابي ، وفي كلها نظر ، قاله شيخنا العراقي انظر / مصباح الزجاجة [٤ / ١٦٩] ح [١٣٩٥].

١٠٢

إمامة أبي بكر ، فإذا سلم صاحب الحق فكلام الشيعة بعد ذلك فضول محض.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٢٤٩) [البقرة : ٢٤٩] ، استروح إلى هذه ونحوها بأن قالوا : قلتنا بالنسبة إلى الجمهور لا تدل على أننا مغلوبون في الحجة ، ولا على أنهم مستأثرون بالحق ، إذ كم من قليل غلب كثيرا.

وأجاب الجمهور بأن قالوا : نحن السواد الأعظم فمن شذ عنا شذ في النار.

وهذه المسائل وكل مسألة يذكر الخلاف فيها بين الجمهور والشيعة فهي من مسائل الإمامة وتوابعها ، وهي من قسم أصول الدين.

(فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) [البقرة : ٢٥١] عام أريد به الخاص ، أي : الملك على بني إسرائيل ، وحكمة مخصوصة إذ من المعلوم أن داود ـ عليه‌السلام ـ لم يؤت جنس الملك ولا جنس الحكمة ، إذ ذلك ليس إلا لله ـ عزوجل ـ الذي عم ملكه وحكمته.

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة : ٢٥١] هو عام مطرد في الناس وفي المسكون من الأرض ، إذ المعنى لفسد حال أهل الأرض ، وأرض لا ساكن بها لا يتأتى ذلك فيها.

(وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) [البقرة : ٢٥١] عام مطرد ، إذ لا أحد من العالمين إلا ولله ـ عزوجل ـ عليه فضل. [قوله عزوجل] :

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا

١٠٣

اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣) [البقرة : ٢٥٣] اعلم أن للرسل مراتب وهم درجات عند الله ، وإنما ورد النهي عن التفضيل بينهم لئلا يوهم ذلك الغض من المفضول [منهم] وتنقصه ، وجانبهم مصون عن مثل ذلك ، وهذه من مسائل الرسل من أصول الدين نحن ذكرناها وقليلا ما تذكر.

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) [البقرة : ٢٥٣] يحتج به من يرى القرآن وكلام الله ـ عزوجل ـ هو العبارات المسموعة ، وأنه ـ عزوجل ـ يتكلم بحرف وصوت قالوا : والإشارة إلى موسى الكليم ، ولو لا أنه كلمه كلاما مسموعا / [٦٢ / م] عرفا لما كانت له خصيصة على غيره إذ قد كلم الله ـ عزوجل ـ غيره وحيا وإلهاما وغير ذلك ، فدل على أن لكلامه موسى خصيصة على الجميع ، وليس إلا لما ذكرنا من أنه كلمه بكلام مسموع.

وأجاب الأشعرية [وسائر أهل الحق] بأن الله ـ عزوجل ـ كما ترى ذاته وليست جوهرا ولا عرضا كذلك يفهم كلامه وليس بصوت ولا حرف ، وأكثر ما فيه خلاف العادة والمألوف في الشاهد وهو مشترك بين المسألتين ، وهذا النائم يفهم الكلام في النوم من غير صوت ولا حرف في الخارج ، ومعتمد هؤلاء أن الصوت والحرف لا يعقل إلا من جسم ، والله ـ عزوجل ـ ليس بجسم ، ومعتمد الآخرين أن الكلام المفهوم لا يعقل إلا / [٣٠ ب / م] بصوت وحرف ، وربما أجاب الأولون بأن الكتابة والإشارة تفهم المراد ، ولا صوت ولا حرف ، وأيضا كما أن تأثيره ـ عزوجل ـ في إيجاد خلقه بلا علاج كذلك تأثيره في أسماعهم وأفهامهم بلا صوت ولا حرف ولا حركة ، وكما أنه يرى بلا جارحة ولا انطباع ولا خروج شعاع ، كذلك يتكلم بلا حركة [ولا صوت ولا حرف].

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣) [البقرة : ٢٥٣] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ مريد لجميع الكائنات خيرها وشرها ؛ لأن اقتتال هؤلاء المشار إليهم شر ، وقد أخبر أنه بإرادته ، وأنه لو شاء أن لا يكون لما يكون.

والمعتزلة هاهنا يضطرون ويتلجلجون ، وإلى التأويلات البعيدة جدا يلجئون ؛ كقولهم : لو شاء الله إجبارهم على ترك الاقتتال لأجبرهم عليه ، فلم يقتتلوا ، ولكنه تركهم واختيارهم ، فلذلك اقتتلوا وهو كما تراه ، وهذا هو جوابهم في كل موضع ذكرت فيه المشيئة وظاهرها عليهم يتأولون الإجبار.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ

١٠٤

وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) [البقرة : ٢٥٤] عام مطرد ، ليس هناك بيع يعقد ، ولا فدية تقبل (ولا خلة) أي : ولا صداقة ، إذ لا صداقة ولا غيرها تنفع يومئذ من أمر الله.

حتى إن إبراهيم خليل الرحمن لا يملك لأبيه نفعا ، فيؤخذ برجليه ويديه في صورة ضبعان فيلقى في النار ، ويحتمل أنه مخصوص بخلة المتقين ، / [٦٣ / ل] فإنها نافعة من بعضهم لبعض بالشفاعة والإيثار بالحسنات ونحو ذلك لقوله ـ عزوجل ـ : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزخرف : ٦٧] أي : فلا عداوة بينهم فهم أصدقاء وأخلاء.

(وَلا شَفاعَةٌ) يحتج بها المعتزلة في نفي الشفاعة لمن مات غير تائب ، وقد سبق. واحتجاجهم بعمومه وعند الجمهور هو خاص بالكفار لا شفاعة لهم ولا فيهم ، بخلاف المؤمنين فإنهم يشفعون ويشفع فيهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) [البقرة : ٢٥٤] عام مطرد ، وليس المراد أن مطلق الظلم محصور فيهم بل إن أعظم الظلم وهو الكفر محصور فيهم.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥] عام مطرد فما من إله إلا الله.

(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) عام مطرد.

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٥٥] عام مطرد ، وكذا الجمل الأربع بعدها عامة مطردة إلا (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥) [البقرة : ٢٥٥] فإنه خص بالاستثناء بعده.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) [البقرة : ٢٥٦] عام خص بالمرتد يجبر على الإسلام ونحوه من صور الإكراه بأدلتها.

(قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦] أي في الإيمان والكفر تبين الحق من الباطل والرشد من الضلال ، فالحق هو الإسلام والباطل ما عداه ، فهو عام مخصوص ، إذ ليس الرشد

١٠٥

من الغي واضحا في كل شيء ، بل الأمور كلها إما أمر تبين رشده أو أمر تبين غيه ، فهذان طرفان واضحان / [٣١ أ / م] أو أمر اشتبه رشده بغيه ، وهو واسطة بينهما فحكمها أن يستعمل فيها النظر والاستدلال ، ولا بد معه من مساعدة التوفيق والهداية الربانية.

(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦) [البقرة : ٢٥٦] هذه الجملة عامة مطردة.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧) [البقرة : ٢٥٧] اعلم أن ولاية الله ـ عزوجل ـ لخلقه على أقسام ؛ عامة وخاصة وأخص.

فالعامة ؛ ولايته للمؤمنين باعتبار الإيمان يدخل فيها العدل والفاسق والمتبع والمبتدع وغيرهم ، وإذ لو لا توليته إياهم وعنايته بهم لما وفقهم للإيمان وأخرجهم من ظلمات الكفر والطغيان.

والخاصة ؛ وهي ولاية الصالحين.

والأخص ؛ ولاية المقربين.

فالآية المذكورة عامة مطردة بالاعتبار / [٦٤ / ل] الأول لا غير.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧) [البقرة : ٢٥٧] عام بشرط الموافاة على الكفر.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨] تضمنت هذه الآية مناظرة بين إبراهيم ونمروذ فلنقرها وهي في إثبات إلهية الله ـ عزوجل دون نمروذ ، قال إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ،) وهذا استدلال منه ـ عليه‌السلام ـ معناه : إنك يا نمروذ لست ربي ولا رب غيري ؛ لأنك تحيي ولا تميت ، والرب حقيقة هو من يحيي ويميت فأنت لست برب ، وهذا قياس من الشكل الثاني.

١٠٦

قال نمروذ : (قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] وهو اعتراض على دليل إبراهيم وتقديره : لا أسلم مقدمتك الأولى بل أنا أحيي وأميت.

قال إبراهيم : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] بعض الناس زعم أن هذا انتقال من إبراهيم عليه‌السلام عن تمشية الدليل الأول ، واستدل به على جواز الانتقال في الجدال ، واعلم أن هذا الكلام غير محرر ، بل الانتقال في المناظرة على ضربين : أحدهما : يكون للعجز عن تمشية الدليل الأول ، وهو انقطاع.

والثاني : يكون مع القدرة على تمشية الدليل الأول] ، وهذا يسمى تنزيلا على تقدير التسليم ، وهذا هو الذي استعمله إبراهيم عليه‌السلام ؛ لأن نمرود لما قال : أنا أحيي وأميت كان هذا دعوى منه تضمنت منع دليل إبراهيم ، ثم يقال : إن نمروذ بين مستند منعه بأن أخرج شخصين من السجن قد وجب عليهما القتل ؛ فأطلق أحدهما ، وقال : قد أحييته ، وقتل الآخر ، وقال : قد أمته. فرأى إبراهيم أن خصمه يغالطه بالمجاز عن الحقيقة ، فانتقل إلى ما لا يقدر فيه على المغالطة ، فقال : على تقدير أنك تحيي وتميت ، فإن لربي فعلا آخر ، به وبأمثاله استحق الإلهية ، وهو أنه يصرف الشمس وأنت لا تصرف الشمس ، فأنت لست برب.

ثم إن إبراهيم إنما طالبه بتصريف الشمس من المغرب على خلاف العادة ؛ لأنه رأى من نمروذ [٣١ ب / م] الشغب والمكابرة والمغالطة والوقاحة وقلة الحياء والإنصاف في المناظرة ، فخشي إن قال له فأت بها من المشرق أيضا أن يقول له : نعم أنا آتي بها من المشرق ، ثم يصبر حتى تطلع منه يقول : ها قد أطلعتها من المشرق ، أو يدعي ذلك بوقاحته فيحتاج إبراهيم إلى ما يبطل به / [٦٥ / ل] تلك الدعوى ، وفي ذلك تطويل البحث وانتشاره ، فاستراح من ذلك بأن طلب منه ما يعجزه ، وهو أن يأتي بها من المغرب.

(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨] أي انقطع ؛ لأنه إن ادعى أنه يأتي بها كذلك عجز عن تحقيق دعواه [وإن اعترف بالعجز عن ذلك ظهر نقصه وبطلان دعواه] الإلهية.

وإنما قلنا : إنه في الدليل الأول غالط بالمجاز عن الحقيقة ، لأن إبراهيم عليه‌السلام ، إنما ادعى لربه الأمانة الحقيقة ، وهي نزع الروح الحيواني عن الجسد بغير علاج محسوس ، والإحياء الحقيقي ، وهو إعادة الروح إليه بعد نزعها منه.

والنمروذ إنما أثبت لنفسه مجاز ذلك وهو استبقاء الحياة في الإحياء وتفويتها بالعلاج المحسوس في الإماتة ، وذلك مما يقدر عليه اللصوص والشلوح وقطاع الطريق ، فلا مزية

١٠٧

لنمروذ فيه ، وقد تضمنت هذه الآية جواز المناظرة في طلب الحق ، وتقرير الأدلة ، وحذف بعض مقدماتها للعلم بها ، وهو المسمى قياس الإضمار ، والتنزل مع الخصم على تقدير التسليم ، وإبطال الشبه والشكوك ، وإلزام الخصم ما يفهمه ، وجواز مناظرة السوفسطائية ونحوهم من منكري الحقائق ونحوهم ، بما يقيم الحجة عقلا أو حسا ، وقيام الحجة بانقطاع الخصم وانقطاعه بالعجز عن تمشية الدليل إذ لم يكن خائفا ، وتضمن شرف علم الجدل والأصول والنظر في المعقول ، والكلام في التوحيد به ، وإمام الناس فيه إبراهيم عليه‌السلام.

[فلا جرم] قيل : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) [الحج : ٧٨].

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) [البقرة : ١٣٥].

(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٣) [النحل : ١٢٣] ، ولا جرم لما أمر نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتباع ملة إبراهيم ورد كتابه القرآن مملوءا من المباحث الجدلية مشحونا بالحقائق النظرية ، في هذا منقبة عظيمة للمتكلمين والأصوليين وأهل النظر. ولكن أكثر الناس لا يعقلون ولأجل هذا وضعنا هذا الكتاب.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩) [البقرة : ٢٥٩].

هذا من حجج البعث والمعاد كما في إحياء البقرة الألوف (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ

١٠٨

أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) [البقرة : ٢٦٠].

اعلم أن من الناس من زعم أن إبراهيم شك في القدرة على إحياء الموتى / [٦٦ / ل] حكاه القرطبي عن الطبري ، واحتج بقوله عليه الصلاة والسّلام : «نحن أحق بالشك من إبراهيم» (١) وليس هذا بشيء ، إذ برهان القدرة واضح ، فكيف يخفى مثله على إبراهيم مع استخراجه حدوث العالم وقدم / [٣٢ ، / م] الصانع بلطيف النظر من أفول الكوكب والشمس والقمر ، وإذا كنا لا نظن ذلك بذي النون حيث (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧) [الأنبياء : ٨٧] حتى تأولناه على خلاف ظاهره مما يدفع ذلك عنه مع أن رتبة إبراهيم أعلى منه فكيف نظنه بإبراهيم.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فليس معناه إثبات الشك من إبراهيم ، وإنما هي نفي للشك عنه بطريق أولى ، ومعناه لو شك إبراهيم لكنا [بالشك أولى] منه ؛ لقصورنا في المعرفة عنه ، لكنا نحن لم نشك فإبراهيم أولى أن لا يشك ، وهذا تأويل جيد للحديث ، ثم أورد بعضهم هاهنا سؤالا وهو : أن قول إبراهيم : بلى. يقتضي أنه آمن ، أي : بلى آمنت ، وقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] يقتضي أن قلبه لم يطمئن إلى الآن ، لكن الإيمان تلزمه الطمأنينة وحينئذ يصير كأنه قال : آمنت ما آمنت ، أو اطمأن قلبي ولم يطمئن وهو تناقض.

والجواب : [أنه قد قيل : معناه ، بلى] آمنت بالقدرة ، ولكن ليطمئن قلبي بالخلة ، وكان قد جعل إظهاره على إحياء الموتى علامة على اتخاذه خليلا ، وعلى هذا فلا تناقض ، وهذا وإن كان قريبا ممكنا غير أن المختار غيره ، وهو الإيمان يستند إلى العلم والعلم له مراتب : علم اليقين هو ما حصل عن النظر والاستدلال ، وعين اليقين وهو ما حصل على شهادة وعيان ، وحق اليقين وهو ما حصل عن العيان مع المباشرة ، فالأول كمن علم بالعادة أن في البحر ماء.

__________________

(١) رواه البخاري [٣ / ١٢٣٣] ح [٣٢٩٢] ومسلم [١ / ١٣٣] ح [١٥١].

١٠٩

والثاني : كمن مشى إليه حتى وقف على ساحله وعاينه.

والثالث : كمن خاض فيه ، واغتسل وشرب منه ، وإذا عرفت هذا فإيمان إبراهيم عليه‌السلام بالقدرة على إحياء الموتى قبل أن يراه كان عن علم يقين نظري ، فأراد أن يطمئن قلبه بالإيمان بذلك عن عين اليقين ، فلذلك قيل له : خذ أربعة من الطير إلى آخره ، أي :

باشر هذا الأمر ليحصل لك عين اليقين عيانا وحق اليقين مباشرة.

وفي الحديث : «ليس الخبر كالعيان» إن موسى بلغه أن قومه قد فتنوا فلم يتغير فلما رآهم عاكفين على العجل أخذ برأس أخيه يجره إليه ، وفي هذا المعنى قيل :

ولكن للعيان لطيف معنى

له سأل المعاينة الكليم

وحينئذ يكون معنى الكلام : بل آمنت عن / [٦٧ / ل] نظر واستدلال ، ولكن أريد طمأنينة القلب بنظر العيان ، وهذه أيضا دليل على إمكان البعث.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١) [البقرة : ٢٦١] ، هذا عام مطرد ، أما المرائي فليس منفقا في سبيل الله ، فلذلك لم ينتفع بإنفاقه ، غير أن في هذه الآية إطلاقا قيد في الآية بعد بقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) [البقرة : ٢٦٢] فصارت / [٣٢ ب / م] مضاعفة الصدقة إلى سبعمائة ضعف مشروطة بعد المن والأذى ، وصار تقدير الآية : مثل الذين ينفقون أموالهم [في سبيل الله ثم] لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] عام في بطلان الصدقات بذلك والمن تذكير النعمة ، والأذى إلحاق ضرر بالسائل دون أخذها كانتهاره ، وزجره وتقريعه ونحو ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢٦٤) [البقرة : ٢٦٤] عام مطرد ؛ إذ أعمال الكفار والمرائين هباء منثورا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ

١١٠

غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٢٦٧) [البقرة : ٢٦٧] يستدل به على تعلق الزكاة بكل ما يخرج من الأرض من معدن ونبات وثمر ، لكن خص العلماء من أشياء بأدلة وحدّدها ، وبقيت الزكاة في الباقي كالركاز والمعدن ، والعنب والرطب ، والمكيل المدخر على تفاصيل فيه.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٦٩) [البقرة : ٢٦٩] عام مطرد ، لكن ما هذه الحكمة؟ فالأشبه أنه العلم الموصل إلى معرفة وجود الله ـ عزوجل ـ وما يجوز عليه ، وما لا يجوز ، وإلى معرفة معاملته ، فالأول : علم أصول الدين ، والثاني : علم الفقه لأدب الظاهر ، وعلم الأخلاق وأعمال القلوب لأدب الباطن ، وذلك لأن المكلف لا بد له من اعتقاد يلقى الله ـ عزوجل ـ به ، وعمل ظاهر يقيم به رسوم التكليف ، وأدب باطن يقيم به رسم العبودية ، فهذه العلوم الثلاثة أركان الحكمة ، والقيم بالأول المتكلمون ، وبالثاني الفقهاء ، وبالثالث محققو الصوفية كشيخ الإسلام في مقاماته ونحوه.

فأما الحكمة التي هي عبارة عن المنطق والإلهي والطبيعي والرياضي ، فهي حكمة فلسفية باصطلاحهم والخطر في الإلهي منها عظيم على رأيهم ، فلا يليق النظر فيه إلا لمتضلع من الحكمة الأولى وعلوم الشرع.

وقد [٦٨ / ل] يحتج الفلاسفة على أن الحكمة في الآية هي حكمتهم المذكورة لقوله ـ عزوجل ـ عقيب ذلك : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩] والتذكر : النظر ، والألباب : العقول ، فهو إذن إشارة إلى أن الحكمة المذكورة إنما طريق إدراكها نظر العقل. وحكمتنا أحق بذلك ؛ لأنها مؤسسة على النظر والاستدلال العقلي.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٢٧٠) [البقرة : ٢٧٠] أي فيجازى عليه ، وهو عام مطرد.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (٢٧٢) [البقرة : ٢٧٢] اعلم أن الهدى تارة يراد به الإرشاد ، وهذا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ معناه التبليغ والدعاء إلى الحق ، وتارة يراد به ميل القلب إلى الحق مستندا إلى ظهور الحجة / [٣٣ / أ / م] وانكشاف الشبهة ، وقيام الداعي وانتفاء الصارف ، وهذا

١١١

لا يقدر عليه إلا الله ـ عزوجل ، وهو المراد هاهنا ، وقد أخبر الله ـ عزوجل ـ أنه مستبد به يهدي ، من يشاء ، ويحتج به الجمهور على أن الإنسان لا يملك هدى نفسه ، والحجة معهم ، خلافا للمعتزلة إذ عندهم أن العقل كاف في المعرفة والنظر ، ومخلوق للناظر ، والعلم متولد عنه والهدى تابع للعلم بتحقيق الحجة وكشف الشبهة وذلك يقتضي أن هداهم مخلوق لهم.

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٤) [البقرة : ٢٧٤].

قالت الشيعة : نزلت هذه في علي ؛ كان معه أربعة دراهم ، أنفق درهما ليلا ، ودرهما نهارا ، ودرهما سرا ، ودرهما علانية ، فنزلت هذه الآية ذكره عبد الرزاق في تفسيره.

قالوا : وليس مثله لأبي بكر ولا غيره فيكون أفضل ، وعارضه الجمهور بنحو :

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) (١٧) [الليل : ١٧].

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠) [الحديد : ١٠].

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) [الزمر : ٣٣] (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٠) [التوبة : ٤٠].

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥) [البقرة : ٢٧٥] استشكل بعضهم هذا ، وقال :

١١٢

النظم الواضح يقتضي أن يقال : «إنما الربا مثل البيع» فالعدول إلى عكسه غير متضح ، والجواب أن الكفار إنما أرادوا بقولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] المناقضة والإلزام كأنهم قالوا : يعاب علينا الربا والبيع مثله ، فمن أنكر علينا الربا لحصول التغابن فيه لزمه إنكار البيع لحصول التغابن فيه. / [٦٩ / ل].

ولو قالوا : إنما الربا مثل البيع ، لكان ذلك قياسا ، كأنه قيل : الربا صفقة تضمنت تفاضلا وتغابنا فكان حلالا كالبيع ، [لكن

هؤلاء إنما قصدوا] الإلزام والمناقضة لا القياس والمماثلة ، وإنما ذكرنا هذا لكونه سؤالا كثير إيراده واستشكاله ، ولتعلقه بالقياس [والنص والإلزام] ، وذلك من مسائل أصول الفقه.

(وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] هذا فيه حجة قوية للظاهرية في اعتبارهم الظواهر السمعية ، دون العلل القياسية ، وتقرير ذلك أن أكلة الربا لما أوردوا مناقضتهم المذكورة أجابهم الله ـ عزوجل ـ بالحكم الإلهي فقال : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] فيجب عليكم متابعة هذا الحكم المنصوص ، ولم يحتج عليهم بحكمة تحريم الربا المناسبة مع أنها ظاهرة مؤثرة ، وهي أن الربا إنما يكون مع اتحاد الجنس أو العلة ، فالغبن فيه لازم لا يستدرك بخلاف البيع ، فإنه يكون مع اختلاف الجنس فالغبن فيه يمكن استدراكه ، مثاله : لو اشترى ثوبا بعشرين وهو / [٣٣ ب / م] يساوي عشرة ، أمكن أن تبيعه بعشرين أو أكثر ، لرغبة أو ارتفاع سوق ونحوه ، أما لو اشترى مد قمح بمدين ، فيبعد أن يرد له المد الواحد مدين [إلا ويرد] المدان البائع أربعة أمداد ، اللهم إلا أن يختلفا بالجودة والرداءة بحيث يساوي المد الجيد مدين رديئين.

لكن الجودة الرداءة هاهنا غير معتبرة طردا للباب في المنع ، ولو كانت هذه الحكمة القياسية حجة لاحتج بها عليهم ؛ لأنها أشبه بإلزامهم المذكور ، وأقرب إلى عقولهم ، فلما لم يحتج عليهم بها بل بالنص القاطع للحجة ، دل على ، لا حجة في العلل والمناسبات وصار هذا كما قال لإبليس : (قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١٢) [الأعراف : ١٢] ، احتج عليه بالأمر ، ولم يسمع منه علته الفلسفية المزخرفة ، وهي قوله : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) [الأعراف : ١٢].

وقد كان يمكنه أن يعارضه بأحسن منها وأنس في العقل ، وهو أن الطين ثابت ورزين متواضع لين رطبن والنار مضطربة خفيفة ، مستعلية يابسة شريرة محرقة.

١١٣

ومن ثم رجع إبليس إلى أصله في الخفة والطيش ، ورجع آدم إلى أصله في الثبات والرزانة ، فقال : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٢٣) [الأعراف : ٢٣] فاعترف ؛ فعرف واستغفر ؛ فغفر له ، فما لم يفعل ذلك / [٧٠ / ل] ؛ دل على أن لا ارتباط للأحكام إلا بالنصوص والظواهر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢٧٧) [البقرة : ٢٧٧] قد تكرر هذا في القرآن كثيرا ، ويحتج به من يرى الإيمان مجرد التصديق ، وأن الأعمال ليست ركنا للإيمان بل أثرا من آثاره خلافا للجمهور من المحدثين وغيرهم.

حجة الأول : أنه عطف العمل الصالح على الإيمان والعطف يقتضي التغاير ، فالإيمان غير الأعمال ، وأجاب الآخرون بأن هذا من باب عطف الخاص على العام كالصلاة الوسطى على الصلوات ، وجبريل وميكائيل على الملائكة ، ولا ينافي ذلك كون الخاص من العام ، وهذا ضعيف ؛ لأنا لو اقتصرنا على الملائكة فهمنا جبريل وميكائيل وهاهنا لو اقتصرنا على الإيمان لم نفهم العمل الصالح إلا على دعوى الخصم ويعود النزاع.

(وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢٨١) [البقرة : ٢٨١] أي كل نفس مكلفة ، أو كل نفس منكم ليخرج من العموم من ليس بمكلف ، كالصبيان والمجانين والبهائم ونحوهم ، فالعموم مخصوص بهم.

(وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً) [البقرة : ٢٨٢] عام مطرد.

(وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢] عام خص منه ما إذا أبى لمرض أو خوف أو كونه مكرها على تحملها بالباطل ، أو كان عبدا تحملها بلا إذن سيده ، ومنعه من السعي للأداء.

وذهب بعض الأئمة إلى عدم أهلية العبد للشهادة / [٣٤ أ / م] بهذه الآية ، لأنه مأمور بالسعي للأداء ، وذلك يبطل حق السيد من خدمته ومقتضى هذا أنه عن تحملها بإذن السيد جاز أن يسعى للأداء ، ودخل في عموم (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ.)

(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] أمر إرشاد ، وذهب بعض الظاهرية إلى أنه أمر وجوب قطعا للتنازع وصيغة «افعل» ترد بمعان : منها الإرشاد والإباحة والتكوين

١١٤

والتعجيز ، والوجوب والتسوية والتهديد والإهانة ، وغير ذلك ، وهذه من مسائل الأوامر من أصول الفقه.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨٣) [البقرة : ٢٨٣] احتج به الظاهرية على أن الرهن لا يجوز في الحضر ، بمفهوم قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) [البقرة : ٢٨٣] والجمهور على خلافه ، وحملوا هذا المفهوم على أنه خرج مخرج الغالب ، إذ الغالب في السفر عدم الكاتب ، والمفهوم إذا خرج الغالب لا يحتج به ، ومنه (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣].

(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥) [النساء : ٣٥] (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) (٣١) [الإسراء : ٣١] ، وهذه من مسائل دليل الخطاب (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢٨٥) [البقرة : ٢٨٥] هذه غالب / [٧١ / ل] أركان الإيمان ، وقد سبق الكلام عليها عند (لَيْسَ الْبِرَّ) [البقرة : ١٧٧].

(لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] تعريض باليهود والنصارى حين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفرت اليهود بالمسيح ، والكل رسل الله ـ صلواته عليهم أجمعين ـ كما سيأتي تقريره إن شاء الله ـ عزوجل.

١١٥

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦) [البقرة : ٢٨٦] احتج به المعتزلة على امتناع تكليف ما لا يطاق ؛ لأنه لا يدخل تحت الوسع وما لا يدخل تحت الوسع لا يكلف به ، فما لا يطاق لا يكلف به ، والأولى قاطعة والثانية سمعية بهذه الآية.

ولأن التكليف شرطه الإمكان ليتبين المطيع من العاصي ، فما ليس بممكن لا يكلف به ، وإلا كان جورا.

(رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] هذا رفع للتكليف الناسي والمخطئ ، كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن التكليف شرطه الفهم وإلا لكلف الجماد والحيوان الأعجم ، وهو باطل ، ثم الناسي والساهي لا يفهم فلا يكلف ، وأما المخطئ فلم ينتهك حرمة ، ولا قصد له حتى ينتظمه دليل التكليف ، فإن ترتب حكم التكليف على أحد منهم كالصائم يفطر وتلزمه الكفارة بالنسيان ، والمخطئ في القتل تلزمه الدية ، ونحو ذلك ـ فهو من باب ربط الأحكام بالأسباب أو مخصوص من عموم القاعدة بدليل : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) [البقرة : ٢٨٦] احتج به من أجاز تكليف ما لا يطاق وإلا لم يكن / [٣٤ ب / م] لهذا السؤال فائدة ، واعلم أن بعض الأصوليين يترجم هذه المسألة بتكليف ما لا يطاق ، وبعضهم بتكليف المحال ، وما لا يطاق يطلق تارة على ما يشق فعله وإن أمكن لذاته ، وتارة على ما لا يمكن وقوعه ، والمحال إما لذاته كالجمع بين الضدين ، وإما لغيره كإيمان من تعلق علم الله ـ عزوجل ـ بأنه لا يؤمن.

وقد قال قوم بجواز التكليف بالقسمين ، وقوم بامتناعه فيهما ، وآخرون بجوازه في المحال لغيره ، دون ذاته ، والأشبه الأول. وإذا اشترك القسمان في استحالة الوقوع ، فلا أثر للفرق بالإمكان الذاتي وعدمه.

ومأخذ الخلاف في هذه المسألة أن المقصود من التكليف الامتثال وامتحان الطائع من العاصي عند المعتزلة ، فلذلك اشترطوا كون الفعل المكلف به ممكنا ، وعند الجماعة ليس المقصود منه ذلك بل المقصود جعل وجود الفعل أو عدمه علما أو أمارة / [٧٢ / ل] على

١١٦

الثواب أو العقاب ، وعلى السعادة أو الشقاء ، وذلك حاصل من التكليف بالممكن وغيره ، أما وقوع التكليف بما لا يطاق ، فقد اختلف فيه أيضا ، والأشبه أنه وقع في مسألة خلق الأفعال على رأي الجبرية والكسبية ؛ إذ الإنسان مكلف بكسب ما خلقه الله ـ عزوجل ـ وهو تحصيل الحاصل ، وفي مسألة تكليف الكافر بالإيمان مع العلم بأنه سيموت كافرا ، وإذا تعلق علم الله ـ عزوجل ـ بوجود شيء أو عدمه [فهل يبقى خلاف معلوم الله ـ عزوجل ـ مقدورا أم لا؟ فيه قولان.

والحق أنه مقدور لذاته لا لغيره].

واعلم أن مواد الأفعال ثلاث : واجب ، وممتنع وممكن خاص ، فالممكن يجوز التكليف به إجماعا ، والواجب والممتنع يخرج التكليف بهما على تكليف المحال ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

١١٧

القول في سورة آل عمران

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣) [آل عمران : ٣] عام مطرد كما سبق في (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١) [البقرة : ٩١].

(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٤) [آل عمران : ٣ ، ٤] عام بحسب القوة كما سبق في (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٨٥) [البقرة : ١٨٥].

(مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [آل عمران : ٤] أي بشرط الموافاة على الكفر فهو مخصوص بمن ختم له منهم بالإيمان.

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٥) [آل عمران : ٥] عام مطرد نحو (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩) [آل عمران : ٢٩].

(يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) [آل عمران : ٦] عام أريد به الخاص وهي الأرحام القابلة للحمل ، أو مخصوص بالأرحام العواقر.

(كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦] عام مطرد في جميع الكيفيات التي يتعلق بها [مشيئة الله] ـ عزوجل ـ من طويل وقصير ، وأسود ، وأبيض ، وغير ذلك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما

١١٨

شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) [الانفطار : ٨].

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) [٣٥ أ / م]) [آل عمران : ٧] اختلف الناس في المحكم والمتشابه على نحو اثني عشر قولا ، أجودها أن المحكم هو المتضح المعنى.

والمتشابه : هو ما أشكل معناه ؛ لاشتراك أو إيهام تشبيه ونحوه ، ويجب رده إلى المحكم ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ سمى المحكمات أم الكتاب ، أي أصله ، والأشياء يجب ردها [عند الإشكال] إلى أصولها ، فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١]. ورد المتشابهات في الأفعال إلى محكم (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) [الأنعام : ١٤٩] الآيتين على ما سنوضحه في موضعهما إن شاء الله عزوجل.

وهذه الآية نفسها من المتشابه ؛ حيث تردد الوقف فيها بين أن يكون على (إِلَّا اللهُ) وبين أن يكون على (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) [آل عمران : ٧] وترددت الواو في / [٧٣ / ل] (وَالرَّاسِخُونَ) بين الاستئناف والعطف ، والأشبه أنها للاستئناف ، وأن الوقف على (إِلَّا اللهُ ،) وأن الله ـ عزوجل ـ تعبد عباده من كتابه بما لا يعلمون ، وهو المتشابه كما تعبدهم من دينه بما لا يعقلون ، وهو التعبدات ؛ ولأن العبادات فرع القرآن إذ به ثبتت ، والقرآن فرع الذات ، إذ هو صفتها وعنها صدر ، وكما أن من الذات ما يعقل وهو وجودها ، وما لا يعقل وهو ماهيتها التي هي بها هي [فكذا يجوز] أن يكون في فرعها وفرع فرعها ما يفهم وما لا يفهم ، ولأن قوله ـ عزوجل ـ تردد بين كونه حالا

١١٩

فضلة ، وخبرا عمدة ، وهذا الثاني أولى ، وهو يقوي ما ذكرنا ، والبحث هنا طويل ، وهذا منه كاف إن شاء الله ـ عزوجل.

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] عام مطرد في المتشابه وغيره ، وهو تسليم يقتضي ما قررناه [في التي قبلها].

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٨) [آل عمران : ٨] يقتضي أن إزاغة القلوب وهدايتها من فعله ـ عزوجل ـ ومنسوب إليه ، خلافا للمعتزلة ، وحملوا الآية على منع [الألطاف] ، وقد عرف ما فيه.

(رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩)

[آل عمران : ٩] عام مطرد.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) (١٠) [آل عمران : ١٠] عام مطردا].

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١) [آل عمران : ١١] عام أريد به الخاص ، وهو الآيات الظاهرة على يد موسى ، ويحتمل أنه عام مطرد ، لأن آيات الأنبياء متفقة الدلالة على التوحيد والإيمان فتكذيب بعضها كتكذيب جميعها فلما كذبوا بآيات موسى ، صاروا كأنهم كذبوا آيات جميع الأنبياء بل وآيات الله ـ عزوجل ـ جميعها لو ظهرت إلى الوجود ، وشبيه بهذا قوله ـ عزوجل ـ : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥٩) [هود : ٥٩].

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١١) [آل عمران : ١١] الذنوب سبب الأخذ عند الجمهور ، وعلة له عند المعتزلة / [٣٥ / ب / م] وقد سبق أصل هذا وتقريره.

(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢) [آل عمران : ١٢] هو إما لمعهودين أو عام أريد به الخاص ، وهو من علم أن سيموت كافرا إذ قد أسلم بعد نزول هذه الآية كفار كثيرون فصاروا غالبين ، ووجب لهم الجنة.

١٢٠