الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بغيره ، سلمنا أن المراد الخلفاء الثلاثة بخصوصهم لكن الاستخلاف والوعد به لا يقتضي أن يكون حقا ؛ لأن الله ـ عز جل ـ قد استخلف في أرضه من عباده محقا ومبطلا ، ويعد الإنسان بخير بالنسبة إليه ، ثم قد يكون ذلك الخير شرا في نفس الأمر [كما يعد ملكا بفتح مدينة يقتل فيها ويسبي ؛ فذلك خير بالنسبة إلى الملك شر في نفس الأمر] فكذلك خلافة هؤلاء جاز أن تكون من هذا القبيل.

هذا هو الكلام على هذه الآية من الطرفين في هذا المعنى ، والعموم فيها قوي فلا تدل على خصوصية الأمر المتنازع فيه إلا دلالة لطيفة كما قررناه.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣) [النور : ٦٣] يحتج به على أن مقتضى الأمر المطلق الوجوب لأنه ـ عزوجل ـ توعد المخالفين لأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفتنة والعذاب ، والوعيد إنما يكون على ترك واجب أو فعل محرم ، وذلك يقتضي أن مخالفة أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرام فامتثال أمره واجب ، وهو المطلوب ، وتلخيص الدليل : أن مخالفة أمره متوعد عليه وكل متوعد عليه حرام فمخالفة أمره حرام ، فامتثاله واجب.

* * *

٤٦١

القول في سورة الفرقان

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] يحتج به على أنه منزل غير مخلوق كما سبق.

(لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) [الفرقان : ١] / [١٤٧ أ / م] يحتج به على عموم الدعوة في العالمين ، ثم تخص منه الملائكة والبهائم ونحوهم ممن خرج عن عمومها بدليله.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الفرقان : ٢] فيه نفي الولد والشريك ، وقد سبق.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) [الفرقان : ٢] يحتج بعمومه على خلقه ـ عزوجل ـ لأفعال المخلوقين خيرا وشرا ، والمعتزلة خصوصا عمومه بدليلهم العدلي ، زعموا ، وقد سبق القول فيه.

وخلق الشيء اختراعه وإبداعه وإخراجه من العدم إلى الوجود وتقديره : جعله على قدر الحاجة وفق الحكمة زمانا ومكانا وهيئة وشكلا ونحو ذلك.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣) [الفرقان : ٣] استدلال على نفي إلهيتهم بمخلوقيتهم وعدم خالقيتهم ، وأنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا ، وقد سبق تقريره.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) (٤) [الفرقان : ٤] فيه اعتراف منهم بإعجاز القرآن ؛ لأنهم يعترفون بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفصحهم أو من أفصحهم ، ثم مع ذلك اعتقدوا أنه لم يستقل بالقرآن حتى أعانه عليه قوم آخرون ، فاقتضى أنهم كانوا يرونه معجزا للفصيح الواحد ، فإذا ادعوا أنه استعان عليه بقوم آخرين ؛ قيل لهم : فاستعينوا أنتم على معارضته بمثله بقوم آخرين ، وقد أطلقتم في الجن والإنس / [٣١١ / ل] تستعينون بهم ، فإذا عجزتم دل على أنه معجز على الإطلاق باعترافكم.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ

٤٦٢

مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) [الفرقان : ٧] جوابه (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) [الفرقان : ٢٠].

وكأن هؤلاء قاسوا قياسا فاسدا ؛ فرأوا أن الرسول ملك من ملوك الأرض إذا ورد بلدا برسالته يحتجب حشمه فلا يرى آكلا ولا في سوق ؛ فقالوا : رسول الله أولى بذلك ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ أعظم الملوك. وهذا شبيه بقول القائلين : إن الله ـ عزوجل ـ أكرم من أن يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ؛ فكان هذا القياس الفاسد فتنة للفريقين ، ضربوا بسببه الأمثال فضلوا (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (٩) [الفرقان : ٩] أي لا يستطيعون طريقا إلى الهدى ؛ لأن طريق الهدى اتباع الرسول وقد سد عليهم بما خلق في نفوسهم من القياس الفاسد المانع من اتباعه.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧) [الفرقان : ١٧] إلى قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً) (١٨) / [١٤٧ ب / م] [الفرقان : ١٨] انظر إلى هؤلاء المتخذين آلهة ، كيف أنهم لما فهموا سر القدر عدلوا عن القسمين ؛ فلم يقولوا : نحن أضللناهم ، ولا قالوا : هم ضلوا السبيل ، بل حكوا عين ما وقع ، وهو أن الله ـ عزوجل ـ استدرجهم بالنعم والتمتع ، وما يتبع ذلك من خلق الدواعي والصوارف حتى شغلهم عن الذكر فنسوه ، وهذا هو مستند الجبرية ؛ فإن استدراجهم المذكور إن كان موجبا لنسيان الذكر حصل المقصود وإن لم يكن موجبا ، فلا أقل من أن يضاف إلى الله ـ عزوجل ـ بقدر ما وجد منه من الاستدراج والشغل عنه.

اللهم إلا أن يقول القدري : إنه إنما متعهم تفضلا عليهم لا ليشغلهم عن الذكر ، وإنما هم الذين اشتغلوا بنعمته عن ذكره ، فلذلك لزمتهم الحجة ، بدليل : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) [الأنعام : ٤٤].

٤٦٣

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٢) [الأعراف : ١٨٢] فلعمري لقد قال مقالا ، غير أن نرجع إلى أصل المسألة فنقول : نسيانهم للذكر إما أن يكون مراد الوجود منهم أو مراد العدم ، أو لا مراد الوجود ولا مراد العدم ، فإن كان مراد الوجود حصل المقصود ، لما تقرر من أن القدرة لا تتعلق إلا بما تتعلق به الإرادة ، فإن كان مرادا منهم كان مقدورا عليهم ، والمقدور واجب الوقوع.

وإن كان مراد العدم لزم أن يكون وجوده منهم مراغما للإرادة / [٣١٢ / ل] والعلم والقدرة الأزلية ؛ لاستحالة تعلق الجميع إلا بمتعلق واحد ؛ لئلا تتنافى الصفات القديمة أو الذات أو الأحوال في متعلقاتها ، وهو محال ، وحينئذ يلزم غلبة الحادث للقديم ، وهو باطل.

وإن كان لا مراد الوجود ، ولا مراد العدم لزم خلو بعض الموجودات عن تعلق الإرادة والعلم والقدرة به ؛ لاستحالة تعلق بعضها بما لا يتعلق به البعض ، وإنه محال.

(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩) [الفرقان : ١٩] يحتج به القدرية ، ووجهه : أن الله ـ عزوجل ـ قسم في سؤال الآلهة تقسيما حاضرا ؛ فقال : أأنتم أضللتم هؤلاء أم هم ضلوا السبيل؟ قالوا : ما أضللناهم. فتعين أنه هم ضلوا ، فلذلك أكذبهم في دعواهم أن هؤلاء المعبودين من دون الله أضلونا ، وحينئذ يلزم نسبة ضلالهم إلى أنفسهم.

والجواب : أنا لا نسلم أن المراد بقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧) [الفرقان : ١٧] الحصر ، بل المراد تكذيب الكفار في أن معبوديهم أضلوهم ، وهو حاصل بتنصل المعبودين عن ذلك ، والقسمة تقتضي أن الذي أضلهم إما معبودوهم أو أنفسهم ، أو الله ـ عزوجل ـ مستقلا بإضلالهم كما / [١٤٨ أ / م] تقول الجبرية ، أو مشاركا فيه ، كما تقول الكسبية ؛ وحينئذ لا يتعين ما ذكرتموه من أنهم هم ضلوا بأنفسهم.

فإن قيل : فعلى كل حال لم تقم لهم حجة ، ولا أقيم لهم عذر ، ولو صح ما ذكرتموه لاحتجوا به والتمسوا العذر ولأغنى عنهم شيئا.

وجوابه : أن هذا لا يلزم ؛ لأن الكسبي يقول : قامت الحجة عليهم بكسبهم ، والجبري يقول : قامت الحجة عليهم بموجب علمه أن لو فوض إليهم خلق أفعالهم لكانوا كفارا عصاة.

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي

٤٦٤

الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠) [الفرقان : ٢٠] فيه تصريح بالتسبب إلى إيقاع الفتنة والضلال ، ومعناه : جعلنا المرسلين يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق لنفتن بهم الكفار ، ليقولوا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا ، فيخالفونهم ، فيكفرون فيعذبهم.

وهذه مقدمات صحيحة يستلزم بعضها بعضا ، مستندا ذلك إلى ما فطرهم عليه من الكبر وخلق فيهم من صوارف الإيمان ودواعي الكفر.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) [الفرقان : ٢٣] سبق معناه في سورة النور عند (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩) [النور : ٣٩].

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥) [الفرقان : ٢٥] فيه دليل على أن السماء والأفلاك تقبل الخرق والالتئام ؛ خلافا للفلاسفة ، وحجتهم أن حركة الفلك مستديرة والخرق والالتئام إنما يكون بحركة مستقيمة ، واجتماعها في موضوع واحد محال ؛ ولأن الفلك هو المحدد للجهات ، فلو قبل الخرق والالتئام لكان ذلك بحركة قطعا ، وتلك الحركة لا بد وأن تكون إلى جهة ، ولا جهة وراء محدد الجهات.

والجواب عن الأول : أنه مبني على أن الصانع فاعل بالطبع ، وأن العلويات لا تقبل الزوال ، وذلك ممنوع / [٣١٣ / ل] ، بل الصانع فاعل بالاختيار ، فهو باختياره يسلب الفلك حركته المستديرة ويحركه بالمستقيمة ، فيقبل الخرق.

وعن الثاني : بأنه مبني على أن الجهة أمر ثبوتي متقرر لا تتجاوزه حركة وهو ممنوع ، بل هي أمر اعتباري أو إضافي فلا يلزم فيها ما ذكرتم ، ولأن العلويات أجسام ، وكل جسم يقبل الخرق والالتئام.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩) [الفرقان : ٢٨ ـ ٢٩] أي بالكسب والتسبب عند الجمهور ، وبالخلق عند القدري.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

٤٦٥

فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢] تضمنت شبهة على الرسالة وجوابها.

أما الشبهة فتقريرها : لو كان هذا الرسول صادقا لنزل عليه القرآن جملة واحدة كتوراة موسى ، لكنه يخترعه من عنده شيئا فشيئا على حسب ما يريده ويرد عليه من الحوادث.

وجوابه : ليس كما ذكرتم ، بل لتنزيله مفرقا حكمة من وجوه : أحدها : تثبيت فؤاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتصال نزول الوحي عليه. / [١٤٨ ب / م].

والثاني : ترتيله في التنزيل ليتأدب بذلك في التلاوة (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ٤].

والثالث : أن الكفار متى أوردوا إشكالا أو شبهة أو أتوا بسؤال أو مثل ـ كان جوابهم بالمرصاد نأتيك به ، وما ذكرتم من أنه لو كان صادقا لجاء بالقرآن جملة واحدة ـ منتقض طردا وعكسا في الواقع أو في التقدير ؛ إذ رب من جاء بكتاب جملة وهو كاذب كالمتنبئين بالباطل ، ورب من جاء بكتاب مفرقا وهو صادق ، فليس ما ذكرتموه بلازم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) (٣٥) [الفرقان : ٣٥] يحتج به الشيعة كما سبق في «طه» : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي) (٢٩) [طه : ٢٩].

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) (٤٥) [الفرقان : ٤٥] هذه آية أرضية تابعة لآية سماوية ، نبه الله ـ عزوجل ـ عليها ؛ لأن حركة الظل وامتداده تابعة لحركة الشمس وغيرها من النيرات ، ولما كانت حركته بحركة الشمس مثلا كان سكونه ، لو قدر ، لسكونها ، وسكون الشمس في مجراها مقدور.

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) (٥٥) [الفرقان : ٥٥] سبق نظيره أول السورة.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) (٥٨) [الفرقان : ٥٨] يدل على أن حياته معنى زائد ؛ لأن الموت مفارقة الحياة فدل على أن له حياة لا تفارق. [وفيه ونظر].

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩) [الفرقان : ٥٩] أي : عنه. فيحتج به على أن «عن»

٤٦٦

ينوب عنها الباء ، وأن الحروف ينوب بعضها عن بعض. ومنهم من يخرج ما وقع من ذلك على قاعدة التضمين ، كأنه هاهنا ضمن اسأل معنى ذاكر به خبيرا.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) [الفرقان : ٦٧] سبق نظيرها في مدح التوسط في «سبحان».

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) (٦٨) [الفرقان : ٦٨] الآيتين تضمنتا / [٣١٤ / ل] قبول توبة القاتل عدوانا ، وهي عند الجمهور ناسخة لآية النساء في من يقتل مؤمنا متعمدا ، كما سبق هناك.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧) [الفرقان : ٧٧] يقتضي أن لا حكمة ولا مقصود لخلق الناس إلا التوحيد والدعاء بالوحدانية ، نحو : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات : ٥٦] وقيل : معناه : ما يعبأ بعذابكم لو لا دعاؤكم آلهة سواه ، نحو : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (١٤٧) [النساء : ١٤٧] وهو يقتضي ألا يعذب إلا مشرك ، لكن دل دليل منفصل على تعذيب غير المشرك عذابا منقطعا ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

٤٦٧

القول في سورة الشعراء

(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) [الشعراء : ٤] فيه أن في قدرة الله ـ عزوجل ـ اضطرار خلقه إلى الإيمان بما يبهرهم به من الآيات / [١٤٩ أ / م] ؛ لأن العقل لا يستقر لعجائب القدرة ، فإذا غلبت عليه بهرته.

فأجاب : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥) [الشعراء : ٥] سبق نظيرها في «الأنبياء».

(قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥) [الشعراء : ١٥] يحتج به الاتحادية ، كما سبق.

(فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦) [الشعراء : ١٦] وحد الرسول باعتبار الجنس أو الرسالة ، و (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٤٧) [طه : ٤٧] في «طه» لتعدد الشخص.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٢٠) [الشعراء : ٢٠] لا حجة فيه لنفاة عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لأن هذا كان قبل النبوة ، بدليل : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) [الشعراء : ٢١].

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣) [الشعراء : ٢٣] أبان بهذا عن جهله ، إذ لم يفرق بين من يعلم ومن لا يعلم حتى وضع «ما» في سؤاله موضع «من» ، ولما علم موسى خطأ فرعون في السؤال أجابه على مراده ، لا على لفظه ؛ فقال : (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢٤) [الشعراء : ٢٤].

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤٣) [الشعراء : ٤٣] هذا أمر تعجيز ، أي : أنتم عاجزون عن معارضتي كيفما فعلتم ، وحينئذ لا يرد قول من قال : كيف أمرهم بإلقاء عصيهم وهو منكر ؛ والأمر بالمنكر حرام؟

(قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٦٢) [الشعراء : ٦٢] هي معية بالعلم والعناية عند

٤٦٨

الجمهور ، وبالذات والحقيقة عند الاتحادية.

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) [الشعراء : ٦٣] أي فضربه فانفلق ، وهذا من دلالة الاقتضاء وهى التزامية ؛ إذ انفلاقه يستلزم سببا وهو الضرب المأمور به.

فإن قيل : كيف يتصور انفلاق البحر وتماسك أجزاء الماء ، وهو بطبعه سيال؟ قلنا : هو ممكن ، وكل ممكن مقدور. وبيان إمكانه أن طبع الماء مخلوق ، فالخالق له يقدر على إعدامه ؛ فيتماسك أو يخلق في الماء كثافة حجرية يستمسك بها ، كما يقلب الماء ملحا ، وقد سبق وتبرهن أن العناصر الأربعة يجوز انقلاب بعضها إلى بعض ، والماء أحدها ؛ فجاز انقلاب / [٣٦٦ / ل] طبعه كما ينقلب بغلبة الأرض اليابسة عليه فيصير طينا.

فإن قيل : ما السبب في انفعال البحر وغيره لعصا موسى؟ قلنا : أما على رأي المتكلمين ؛ فجعل الله ـ عزوجل ـ استعمال موسى لها أمارة على خوارق يخلقها عند ذلك ، فهي سبب وأمارة [لا علة ومؤثرة.

وأما على رأي الاتحادية ؛ فالله ـ عزوجل ـ بذاته ظهر فيها وجعلها مظهرا له يتجلى منها لمخلوقاته وهو ـ عزوجل ـ إذا تجلى لشيء خضع له] ، فلما تجلى للبحر من العصا خضع له ، فانفعل وانفلق ، كما أنه لما تجلى للجبل اندك ولموسى أخذه الصعق.

(قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) [الشعراء : ٧٢ ، ٧٣] إشارة إلى سلب الأصنام الإلهية / [١٤٩ ب / م] لنقصها ، فيقتضي بقياس العكس أن الإله الحق كامل لا نقص فيه.

(قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٧٤) [الشعراء : ٧٤] احتجوا بالتقليد الباطل.

(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٧٧) [الشعراء : ٧٧] قيل : استثناء منقطع ؛ لأن رب العالمين ليس من جنس ما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون ، ويحتمل اتصاله ؛ لأن آباءهم الأقدمين يتناولهم إلى آدم ، وكثير منهم كان يعبد رب العالمين.

وهو داخل في عموم ما كانوا يعبدون ، فيكون إخراجه بالاستثناء متصلا.

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨) [الشعراء : ٧٨] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ مستقل بالهداية كاستقلاله بالخلق لاقترانهما في كلام إبراهيم ، ثم الضلال يقابل

٤٦٩

الهدى ، [فالمستقل بالهدى] يستقل بالضلال.

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) [الشعراء : ٨٢] يحتج به على وقوع الخطيئة من الأنبياء لاعتراف إبراهيم بها على نفسه.

(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦] هذا إنجاز وعده إياه بالاستغفار في سورة مريم ؛ حيث قال : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) [مريم : ٤٧] المراد : اهد أبي ليصير أهلا للمغفرة ، بدليل : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦].

(فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٩٥) [الشعراء : ٩٤ ـ ٩٥] يعني العابد والمعبود والشيطان المغوي بعبادته يكبكبون في النار لاشتراكهم في كسب الشرك.

(وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) (٩٩) [الشعراء : ٩٩] يحتج به المعتزلة ؛ إذ حصروا إضلالهم في المجرمين المسولين لهم.

وأجاب الجمهور بأنهم أضلوهم بالكسب والتسبب.

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (١٠٠) [الشعراء : ١٠٠] هذا في حق الكفار ، فلا حجة فيه للمعتزلة على نفي الشفاعة على الإطلاق.

(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) (١٣٣) [الشعراء : ١٣٣] فيه إثبات النعمة على الكفار ، وقد سبق نظيره في الأعراف.

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥) [الشعراء : ١٥٥] قيل : خرجت هذه الناقة من الجبل تمخض عنها ، ثم انصدع فخرجت منه ، وذلك ممكن كالدود يعيش في باطن الأحجار.

ويحتمل أن الجبل جعل فيه تخلخل ومسام يدخل منه النسيم إليها ويخرج منه النفس ، إن قيل : إنها كانت هناك مدة ، وإن قيل : اخترعها في الحال. فلا حاجة إلى التوجيه.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٩٢) / [٣١٧ ل]) [الشعراء : ١٩٢] يحتج به على أنه منزل لا مخلوق ، وقد سبق.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (١٩٦) [الشعراء : ١٩٦] يعني ذكر القرآن والوعد بإنزاله في

٤٧٠

الكتب القديمة ، فهو آية صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٩٧) [الشعراء : ١٩٧] ولو لم يكن المراد ما ذكرناه لما كان آية ، ولا قامت الحجة على الكفار بعلم علماء بني إسرائيل ، لأن مجرد كون معاني القرآن في التوراة مثلا لا يكفي في الحجة على صدق الرسول.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) (١٩٩) / [١٥٠ أ / م]) [الشعراء : ١٩٨ ـ ١٩٩] هذا شبيه بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٩٧) [يونس : ٩٧] (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) [الأنعام : ١١١] لأن إظهار هذا القرآن على لسان رجل أعجمي معجز ضروري ، ثم لو كان كذلك لما آمنوا لما يخلق في قلوبهم من الصوارف عن الإيمان ، دل على ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٢٠١) [الشعراء : ٢٠٠ ـ ٢٠١] أي سلكنا الشك فيه والتكذيب به في قلوبهم ، فلا يدعهم ذلك أن يؤمنوا.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) (٢١٢) [الشعراء : ٢١٢] لحراسة الشهب للسماء.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) (٢١٣) [الشعراء : ٢١٣] يحتج بها على ما سبق في غير موضع من أن عصمة الأنبياء إنما هي من وقوع الكفر لا من جوازه ، وإلا لما كان لهذا النهي والوعيد عليه فائدة.

(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٢١٦) [الشعراء : ٢١٦] وعيدي محكم مثل (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١) [يونس : ٤١].

* * *

٤٧١

القول في سورة النمل

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٤) [النمل : ٤] نسب تزيين الكفر إليه ؛ فيحتج به الجمهور.

وأجاب المعتزلة : بأن ذلك جزاء على عدم إيمانهم لا ابتداء ، وقد عرف. وجوابه : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) [النمل : ٨] احتج بها الاتحادية على أن الله ـ عزوجل ـ يظهر في المظاهر ؛ لأنه هاهنا ظهر لموسى في النار ، ولذلك قال : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) [النمل : ٨] مجد نفسه التي في النار ، وبارك على موسى الذي هو حولها ، ولأنه أخبر أن في النار من يعبر عنه بمن في قوله : (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨) [النمل : ٨] ، ولا نعلم قائلا بأنه كان فيها ملك ولا جان ولا إنس ؛ فتعين أنه هو الذي كان فيها.

والجمهور عندهم أن هذا لو صح لكان إما على جهة الاتحادية أو الحلول ، وكلاهما باطل تبرهن بطلانه عندهم.

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١١) [النمل : ١٠ ، ١١] قيل : هو استثناء منقطع. [وقيل : متصل ، فاحتج به من يرى جواز الظلم ونحوه من الأنبياء.]

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) [النمل : ١٦] احتج به الشيعة على أن الأنبياء يورثون ؛ ليبطلوا الحديث المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا معاشر الأنبياء ، لا نورث ما تركنا صدقة» (١) أخرجاه في الصحيحين وغيرهما ، وجه احتجاجهم منه قوله ـ عزوجل ـ في داود : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ

__________________

(١) أخرجه البخاري [٣ / ١١٣٦] ح [٢٩٢٦] ومسلم [٣ / ١٣٧٧] ح [١٧٥٧ ـ ١٧٥٩].

٤٧٢

وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢٥١) [البقرة : ٢٥١] ثم قال هاهنا : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) [النمل : ١٦] فدل على أن الملك الذي أوتيه داود ورثه سليمان هاهنا ، وإذا ثبت ذلك كان الحديث المشهور على خلاف نص / [١٥٠ ب / م] القرآن ، فيكون مردودا ، واعترض الجمهور بوجهين :

أحدهما : أن المراد : وورث سليمان داود علمه وحكمته ، بدليل أن قبل ذلك (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥) [النمل : ١٥] وبعده (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) [النمل : ١٦] يعني سليمان.

الوجه الثاني : أن قوله ـ عزوجل ـ : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) / [٣١٨ / ل] [النمل : ١٦] مطلق لا عموم له ، فيصدق بصورة تتأدى بها وظيفته ، وأجمعنا أنه ورثه العلم ، فلم يبق لإرث المال ما يقتضيه من اللفظ فتسقط دعواه.

وأجاب الشيعة عن الأول : بأنا لا نسلم المراد إرث العلم لوجهين :

أحدهما : إن إرث العلم مجاز ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.

الثاني : أن سليمان كان قد أوتي من العلم أكثر من علم داود ، بدليل قوله ـ عزوجل ـ (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩) [الأنبياء : ٧٩] وكان سليمان يستدرك على داود قضاياه ، كما في قصة المرأتين اللتين أخذ الذئب ابن إحداهما وغيرها ، فلم يكن له حاجة إلى إرث علم داود.

وأما قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٥) [النمل : ١٥] فحجة لنا ؛ لأنه يقتضي

٤٧٣

استغناء سليمان عن علم داود لكونه أوتي من العلم مثله. وقوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦) [النمل : ١٦] إما خاص بسليمان ؛ فيؤكد ما قلناه ، أو عام فيه وفي داود ، وهو لا يقتضي أنه ورثه.

وعن الثاني : بأنا لا نسلم أنه ورثه العلم ، وإنما ورثه عندنا الملك الذي أوتيه وبه تأدية وظيفة اللفظ.

قالوا : ومما يقدح في الحديث أن أهل السير اتفقوا على أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا مياسير ذوي ثروة. من إبل وغنم وكراع وأثاث ، ثم إن بعضهم ورث بعضا ، ولم ينقل قط أن أحدا منهم قال : تصدقوا بتركتي ؛ فإني لا أورث ، ولو كان ذلك مشهورا لكان متواترا عن الأنبياء كمعجزاتهم.

وقصد الشيعة [لعنهم الله] بذلك تظليم الشيخين بمنع فاطمة إرثها من أبيها ، والعباس [إرثه من] ابن أخيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتمادا على حديث هو على خلاف نص أو ظاهر القرآن. وبين الطائفتين فيه بحث طويل قد سبق نبذة جيدة منه في أول سورة مريم.

(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) [النمل : ٢٣] يحتج به ، وبقوله ـ عزوجل ـ : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٥] على تخصيص العموم بالحس ؛ لأنه من المدرك حسا أن بلقيس هذه لم تؤت من ملكوت السماوات شيئا ، وكذلك الريح لم تدمر السماوات والأرض والجبال. والأشبه أن يجعل ذلك من / [١٥١ أ / م] باب العام أريد به الخاص ، وهو خصوص ما أوتيته هذه ودمرته الريح.

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤) [النمل : ٢٤] أي بالوسوسة ، والله ـ عزوجل ـ زينها لهم خلقا ، وأي خلقها بما خلق فيهم من دواعيها ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) [الأنعام : ١٠٨].

٤٧٤

(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) [النمل : ٣٥] قيل : أي منتظرة. ويستشهد به المعتزلة على أن ناظرة في قوله ـ عزوجل ـ : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) [القيامة : ٢٣] بمعنى منتظرة ، أي تنتظر نعم ربها ؛ لئلا يلزمهم ثبوت الرؤية.

ويجاب بأن قولها : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) [النمل : ٣٥] معناه فرائية بم يرجع ، كما يقال : قد أرسلت إلى فلان بكذا لأنظر ، أي لأرى ما يكون منه ، وهى رؤية عين أو قلب ، فيسقط استشهادهم.

(قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) (٣٩) [النمل : ٣٩] إلى قول الآخر : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠) [النمل : ٤٠] فيه أن التصرف بالقدرة أعظم / [٣١٩ ل] من التصرف بالأقدار ؛ لأن تصرف العفريت لو وقع كان بإقدار الله ـ عزوجل ـ له عليه ، وتصرف الذي عنده علم من الكتاب كان بقدرة الله ـ عزوجل ـ بواسطة اسمه الأعظم ، فلذلك كان أسرع وأعظم.

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠) [النمل : ٥٠] فيه جواز وصف الله ـ عزوجل ـ بالمكر ، وهو بلوغ المقصود بطريق لطيف يخفى على الخصم ، ثم إن المخلوق إنما يستعمل المكر غالبا لعجزه عن بلوغ المقصود مجاهرة ، والله ـ عزوجل ـ يفعله على طريق الحكمة وإقامة الحجة ونحوه ، لا عجزا عن المجاهرة ؛ إذ لا يعجزه شيء.

قوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (٦٠) [النمل : ٥٩ ـ ٦٠] إلى قوله ـ عزوجل ـ : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٦٤) [النمل : ٦٤] تضمن ذلك نحو خمس عشرة آية من آيات الله ـ

٤٧٥

عزوجل ـ يحتج بها على وحدانيته ونفي الشريك له ، وأنه الإله الحق لا غيره.

ونظم الدليل منه هكذا : إن الله ـ عزوجل ـ يفعل هذه الأفعال ، وكل من فعل ذلك فهو الإله الحق لا غيره ، فالله ـ عزوجل ـ هو الإله الحق لا غيره.

أو يقال : لا شيء من آلهتكم [تفعل هذه الأفعال ، والإله الحق يفعل هذه الأفعال ، وكل من فعل ذلك فهو الإله الحق لا غيره ، فالله ـ عزوجل ـ هو الإله الحق لا غيره.

أو يقال : لا شيء من آلهتكم [تفعل هذه الأفعال ، والإله الحق يفعل هذه الأفعال ، فلا شيء من آلهتكم] بإله الحق.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥) [النمل : ٦٥] إنما كان كذلك ؛ لأن مدار علم الغيب على كمال القدرة والإرادة والعلم ، وهذا الكمال مختص بالله ـ عزوجل ـ فذلك اختص بعلم الغيب.

وبيان ذلك : أن الله ـ عزوجل ـ إذا أراد إيقاع المطر مثلا بعد شهر وإرادته / [١٥١ ب / م] لا معارض لها يمنعها عن إيقاعه بعد الشهر وقدرته على ذلك تامة لا عجز يلحقها ، وعلم أنه لا ينسخ هذا الحكم ولا يلحقه فيه بداء علم قطعا وقوع المطر بعد شهر ، وهكذا علم الغيب في سائر الصور ، [ولو كان مثل هذه الإرادة والقدرة والعلم لأحد من الخلق لعلم الغيب قطعا ، لكن ذلك في المخلوق غير موجود] وإنما من خواص واجب الوجود ـ سبحانه وتعالى.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٦٥) [النمل : ٦٥] يعني من في السماوات والأرض لا يعلمون متى البعث ؛ لأنه عند قيام الساعة وقيام الساعة من مفاتح الغيب الخفي علمها عن الخلق.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) [النمل : ٦٧] هذا إنكار منهم للبعث ، وسبق نظيره في «المؤمنون» ودليله في النحل ، وتقريره يأتي بعد إن شاء الله عزوجل.

(قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) [النمل : ٧٢] يستدل به على زيادة اللام ؛ إذ تقديره : ردفكم ، ويحتمل أنه ضمن ردف معنى بدأ أو غيره مما يتعدى باللام ، أي : بدا أو ظهر لكم ، ولا يحتاج إلى حمله على الزيادة لأنها خلاف الأصل.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) (٧٤) [النمل : ٧٤] [إن قال قائل :

٤٧٦

وقد وجهتم كيفية علم الغيب في الأشياء الخارجة ، فكيف توجيه علمه بذات الصدور الباطنة؟ قلنا : قد] اختلف في توجيهه ، فالمتكلمون [وسائر أهل الحق] قالوا : لأن علمه كامل ، وهو صفة قديمة قائمة بذاته عامة التعلق بالمعلومات الظاهرة والباطنة ، الكلية والجزئية ، كما إرادته عامة التعلق بالمرادات ، وقدرته عامة التعلق بالمقدورات.

والفلاسفة والمعتزلة لما كانوا يرون أن لا علم زائد على مفهوم ذاته ؛ قالوا : إن ذاته لما استغرقت الأزل والأبد وجودا كذلك استغرقت ما بينهما من المعلومات علما (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) [الأعراف : ٨٩].

[وزعموا أن الفرق بينه وبين غيره في عموم العلم وخصوصه هو هذا ، وهو أن علمه بالأشياء بذاته ، فعم علمه وعلم غيره بصفة زائدة على مفهوم ذاته ، فخص علمه بعض المعلومات دون بعض.

وقد سبق الكلام معهم في هذه المسألة.

وزعم بعض الأوائل : أن أرواح الخلق تعرج إليه كل يوم وليلة حال النوم ، فتفضي إليه بما تكنه الصدور ، ويأمرها بما يحرك به القلوب. كما حكاه ميخا النبي أو غيره من أهل الكتب الاثني عشر في (مرامية).

وأما الاتحادية فعندهم : أنه سار بذاته في الخلق ؛ فلذلك يعلم ما تكنه الصدور / [١٥٢ أ / م] وتوسوس به النفوس ، واستدلوا بنحو : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) [الواقعة : ٨٥] ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) [ق : ١٦] وغيره مما سبق من حجتهم في سورة الأنعام ، فهذا ما حضرنا الآن في هذا الجواب ، والأقرب إلى تنزيه الله ـ عزوجل ـ وأدلة الشرع ـ هو قول المتكلمين ، وهو مذهب المسلمين].

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥) [النمل : ٧٥] اعلم أن علمه ـ عزوجل ـ سبق بالكائنات / [٣٢٠ ل] في الأزل ، ثم أثبتها في الكتاب المبين وهو اللوح المحفوظ على وفق علمه الذاتي ، أو كما شاء ثم إنها في الواقع تقع على مطابقة ما سبق في العلم الأزلي والكتاب المبين.

٤٧٧

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢) [النمل : ٨٢] هذه من غائبات القرآن الواجب وقوعها ، ومن معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإخباره بالغائبات التي لا بد من وجودها.

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨٤) [النمل : ٨٤] يحتج به الظاهرية في العقائد ويقولون : إن الله ـ عزوجل ـ خاطبنا من صفات ذاته بما لا نحيط به ، فيجب علينا الإيمان بظاهره.

ويجاب عنه : بأن ذلك متشابه ، وقوله ـ عزوجل : (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] محكم ، فيجب رد المتشابه إليه واستعمال التنزيه عما لا يليق بجلاله ـ عزوجل.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢) [النمل : ٩٢] يحتج به القدرية لنسبة الضلال إلى المكلف ومقابلته بالإنذار ، وقد عرف جوابه.

* * *

٤٧٨

القول في سورة القصص

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) [القصص : ٨] هذه لام العاقبة. أي : لتكون عاقبتهم ذلك ؛ نحو :

لدوا للموت وابنوا للخراب

 ...

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠) [القصص : ١٠] أي : ثبتناها عن الإبداء بأمر موسى. وذلك لما ألهمناها وخلقناه في قلبها من دواعي الكتمان والصوارف عن الإذاعة. واستعارة الربط [هاهنا] من بديع الاستعارة تشبيها للقلب بوعاء ربط لحفظ ما فيه.

ويحتج الجمهور بهذا ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ إذا كان له من التصرف في القلوب أن يربط عليها ويطلقها ـ كان له من التصرف فيها أن يهديها ويضلها.

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣) [القصص : ١٣] فيه تعليل أفعاله ـ عزوجل ـ / [١٥٢ ب / م] بالحكم والمقاصد.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) [القصص : ١٥] احتج به الشيخ شمس الدين الجزري شارح المنهاج في أصول الفقه على الشيخ تقي الدين ابن تيمية ـ فيما قيل عنه إنه قال : لا يستغاث برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الاستغاثة بالله ـ عزوجل ـ من خصائصه وحقوقه الخاصة به ؛ فلا تكون لغيره كالعبادة.

وتقرير الحجة المذكورة : أنه قال : يجب أن ينظر في حقيقة الاستغاثة ما هي ، وهي الاستنصار والاستصراخ ، ثم قد وجدنا هذا الإسرائيلي استغاث بموسى واستنصره واستصرخه بنص هذه الآيات ، وهي استغاثة مخلوق بمخلوق ، وقد أقر موسى عليها الإسرائيلي ، وأقر الله ـ عزوجل ـ موسى على ذلك ، ولم ينكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لما نزلت عليه هذه الآية. أي فكان هذا إقرارا من الله ـ عزوجل ورسوله على استغاثة المخلوق

٤٧٩

بالمخلوق ، وإذا جاز أن يستغاث بموسى فبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [٣٢١ ل] أولى ؛ لأنه أفضل بإجماع.

ومما يحتج به على ذلك حديث هاجر أم إسماعيل حيث التمست الماء لابنها ؛ فلم تجد ، فسمعت حسا في بطن الوادي ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث. وهذا في معنى الاستغاثة منها بجبريل ، وقد أقرها على ذلك ولم ينكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها لما حكاه عنها.

ولأن اعتقاد التوحيد من لوازم الإسلام ، فإذا رأينا مسلما يستغيث بمخلوق علمنا قطعا / [١٥٣ أ / م] أنه غير مشرك لذلك المخلوق مع الله عزوجل ، وإنما ذلك منه طلب مساعدة ، أو توجه إلى الله ببركة ذلك المخلوق ، وإذا استصرخ الناس في موقف القيامة بالأنبياء ليشفعوا لهم في التخفيف عنهم ، جاز استصراخهم بهم في غير ذلك المقام ، وقد صنف الشيخ أبو عبد الله بن نعمان كتابا سماه «مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام» واشتهر هذا الكتاب وأجمع أهل عصره على تلقيه منه بالقبول ، وإجماع أهل كل عصر حجة ، فالمنكر لذلك مخالف لهذا الإجماع ؛ فإن قيل : الآية المذكورة في قصة موسى والإسرائيلي ليست في محل النزاع من وجهين : أحدهما أن موسى حينئذ كان حيا ، ونحن إنما نمنع من الاستغاثة بميت. الثاني أن استغاثة صاحب موسى به كان في أمر يمكن موسى فعله وهو إعانته على خصمه وهو أمر معتاد ، ونحن إنما نمنع من الاستغاثة بالمخلوق فيما يختص بالله ـ عزوجل ـ كالرحمة والمغفرة والرزق والحياة ، ونحو ذلك : فلا يقال : يا محمد ، اغفر لي أو ارحمني أو ارزقني أو أجبني أو أعطني مالا وولدا ؛ لأن ذلك شرك بإجماع.

وأجيب عن الأول بأن الاستغاثة إذا جازت بالحي فبالميت المساوي ـ فضلا عن الأفضل ـ أولى ؛ لأنه أقرب إلى الله ـ عزوجل ـ من الحي لوجوه :

أحدها : أنه في دار الكرامة والجزاء ، والحي في دار التكليف.

الثاني : أن الميت تجرد عن عالم الطبيعة القاطعة عن الوصول إلى عالم الآخرة ، والحي متلبس بها.

الثالث : أن الشهداء في حياتهم محجوبون ، ويعد موتهم أحياء عند ربهم يرزقون.

وعن الثاني : أن ما ذكرتموه أمر مجمع عليه معلوم عند صغير المسلمين ـ فضلا عن كبيرهم ـ أن المخلوق على الإطلاق لا يطلب منه ولا ينسب إليه فعل ما اختصت القدرة الإلهية به ، وقد رأينا إغمار النار وعامتهم وأبعدهم عن العلم والمعرفة يلوذون بحجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يزيدون على أن يسألوا الشفاعة والوسيلة : [يا رسول] ، اشفع لنا ، يا الله ببركة نبيك اغفر لنا : فصار الكلام في المسألة المفروضة فضلا لا حاجة بأحد من المسلمين إليه.

٤٨٠