الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

٦٦] ، يقطع مادة الروح الباصر عنها ، أو بالتحام الجفنين أو غير ذلك.

(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧) [يس : ٦٧] بسلب الحياة والرطوبة من أجسادهم ، فتتمخض طبيعة الأرض فيها فيعودون جمادا.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩) [يس : ٦٩] يعني صيانة لمعجز القرآن أن ينسب إلى الشعر ، فتمكن الشبهة وتضعف الحجة ، وهو من باب (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) [العنكبوت : ٤٨] وعلى هذا اختلف فيما ورد عن النبي [من قوله] :

«أنا النبي لا كذب

وفى سبيل الله ما لقيت» (٢)

وقوله :

«هل أنت إلا إصبع دميت

وفى سبيل الله ما لقيت» (٢)

وقوله :

«إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما» (٣)

وقوله :

«اللهم لو لا أنت ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا» (٤)

فمن أهل العلم من قال : هذا رجز ، وحكم بأن الرجز ليس بشعر ، طردا (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩) [يس : ٦٩] ومنهم من سلم أن الرجز شعر ، وهو مذهب الخليل والأكثرين ، ولكن أجابوا بوجوه :

أحدها : أن هذا كلام موزون كان يصدر عنه اتفاقا لا قصدا لوزنه ، ويسمى انسجاما

__________________

(١) رواه البخاري [٣ / ١٠٥١ ، ١٠٥٤ ، ١٠٧١ ، ١١٠٧] ح [٢٧٠٩ ، ٢٧١٩ ، ٢٧٧٩ ، ٢٨٧٧] ح [١٧٧٦].

(٢) رواه البخاري في الجهاد ح [٢٨٠٢] ومسلم في كتاب الجهاد ح [١٧٩٦].

(٣) تفسير الطبري [٢٧ / ٦٦].

(٤) رواه البخاري [٣ / ١٠٤٣ ، ١١٠٣ ، ١٥٠٧ ، ١٥٣٧] ح [١٦٨١ ، ٢٦٨٢ ، ٢٨٧٠ ، ٣٨٨٠ ، ٣٩٦٠] ورواه مسلم [٣ / ١٤٢٧] ح [١٨٠٢].

٥٢١

لجودة القريحة وكمال الفطرة ، وقد وقع مثله في القرآن كثير ، نحو (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٤٩) [الحجر : ٤٩] ، وفى كلام الناس قول بعض المرضى لأهله : اذهبوا بي إلى الطبيب ، وقولوا قد اكتوى.

ويحكى أن جماعة من الشعراء جاءوا إلى منزل أوس بن حجر ليشاعروه ؛ فخرجت إليهم بنت له صغيرة ، فقالت : ما تريدون من أبي ، قالوا : جئنا لشاعره ؛ فقالت :

تجمعتم من كل أوب ووجهة

على واحد لا زلتم قرن واحد

فعادوا مغلوبين ، وهذا شعر جيد متين صدر عنها انسجاما ، ما لم تقصده ، فهذا سبيل ما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرجز على قلته وندوره.

والوجه الثاني : أن الشعر هو ما سمي به الإنسان شاعرا ، وهو نظم القصيد المتعدد الأبيات اللازم للوزن والروي ، ويطرد ذلك من صاحبه [٣٤٦ ل] وليس كذلك ما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن مجموع ما صدر عنه من ذلك هذا الذي أوردناه لا نحفظ عنه غيره ، وهو أبيات رجزية ، فاذة في أغراض مختلفة.

الثالث : أنهم أوردوا / [١٦٦ أ / م] الكلام المذكور عنه بتحريك أواخره ، أو سكونها ليخرج عن حد النظم إلى حد النثر ؛ فقالوا : أنا النبي لا كذب ، بفتح الباء أنا ابن عبد المطلب بكسرها ، وكذلك دميت ولقيت بسكون التاء فيهما ، وما عدا هذين البيتين فمسموع قبله لغيره ، فقوله : «إن تغفر اللهم» البيت محفوظ عن زيد بن عمرو بن نفيل ، أو عن أمية بن أبي الصلت ، وقوله : لو لا أنت ما اهتدينا ، محفوظ عن عامر بن الأكوع رجزية في طريقهم إلى خيبر ، وحينئذ يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاكيا له متمثلا به لا منشئا له ، كما كان يتمثل بقول طرفة : ويأتيك من لم تزود بالأخبار ، وبكسره هكذا تحقيقا لقوله ـ عزوجل ـ : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩) [يس : ٦٩] وكذا قوله : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجرة» وهو نثر لا نظم ، وربما قال : فاغفر للمهاجرين والأنصار».

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧) [يس : ٧٧] إلى قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٩) [يس : ٧٩] ذكر في الأثر أن أبي بن خلف ، أو عقبة بن أبي معيط أخذ عظما نخرا ، وقال : يا محمد ، أترى الله يبعثني إذا صرت مثل هذا؟ قال : «نعم يبعثك ، ثم يدخلك

٥٢٢

النار» (١) ، فنزلت هذه الآيات مشتملة على جملة من أدلة البعث أحدها هذا وهو قياس الإعادة على الإبداء أي الذي ابتدأها ، أولا يعيدها ثانيا بجامع الإمكان والقدرة التامة ، وقد سبق هذا.

ثم احتجت النصارى بهذه الآية على إلهية المسيح إلزاما للمسلمين ، وتقريره : أن المسيح أحيا العظام وهي رميم ، وكل من أحيا العظام وهي رميم فهو الذي أنشأها أول مرة ، فالمسيح هو الذي أنشأها أول مرة ، أما الأولى فلنصوص القرآن والإنجيل إجماع الملتين على أن المسيح [أحيا الموتى ، وأما الثانية فلهذه الآية إذ اقتضت أن لا محيي للعظام إلا منشئها أول مرة ؛ فثبت أن المسيح] منشئ العظام أول مرة ، ومنشئ العظام أول مرة هو الله فالمسيح هو الله ، وهذه شبهة روجوها هكذا والغلط فيها واضح ، فإن قولهم : المسيح أحيا العظام وهي رميم ، إن أرادوا أنه أحياها مستقلا بإحيائها ، فهو ممنوع ، وإن أرادوا أنه أحياها بإذن الله كما صرح به القرآن ، فإن أخذوا المقدمة الأخرى مقيدة بهذا القيد منعناها أيضا ، وإن أخذوها بدونه لم يتحد الأوسط / [٣٤٧ ل] في القياس ، فلا تنتج ، إذا يصير هكذا : المسيح أحياها بإذن الله ، وكل من أحياها مطلقا هو الذي أنشأها ، فالوسط كما تراه غير متحد ، ثم ما ذكروه معارض بأن الله يحيي العظام / [١٦٦ ب / ل] مستقلا بإحيائها والمسيح أحياها غير مستقل بإحيائها ، فالله غير المسيح فالمسيح غير الله ، أو نقول المسيح أحياها بإذن الله ، ولا أحد ممن أحياها بإذن الله بإله ؛ فالمسيح ليس بإله ، أما الأولى فلنص كتابنا ونص الإنجيل أنه كان إذا أراد إحياء ميت صلى ودعا وبكى وخضع ، وذلك دليل على عدم استقلاله بذلك بدون إذن الله ، وأما الثانية ؛ فلأن الحاجة إلى الإذن دليل على قصور في القدرة ، ولا أحد ممن هو قاصر القدرة بإله فهذا هو البرهان الواضح لا ما روجوه وغالطوا فيه.

ثم قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٩) [يس : ٧٩] ، إشارة إلى ما ذكرناه في قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

__________________

(١) رواه الطبري [٢٣ / ٣٠] وأخرجه الحاكم في المستدرك [٢ / ٤٢٩] وذكره السيوطي في الدر المنثور [٥ / ٥٠٧].

٥٢٣

الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) [٣] في سبأ.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) (٨٠) [يس : ٨٠] تضمنت الدليل الثاني على البعث ، وبيانه أن الذي أحاله منكر.

والبعث هو إخراج الجسم الحي المشتمل على الحرارة والرطوبة من عظم نخر ، قد استولت عليه طبيعة التراب الباردة اليابسة ، وذلك إخراج ضد من ضد وإيجاد طبع الحياة من طبع الموت ، وأنه محال فيما زعموا فقيل لهم : هذا الشجر الأخضر الرطب قد أخرجنا لكم منه نارا في غاية اليبوسة ، أنتم تستخرجونها بأيديكم من المرخ والعفار وغيرهما من الأشجار وهو إخراج يابس من رطب وضد من ضد ؛ فإذا جاز إخراج يابس الناس من رطب الشجر ، فلم لا يجوز إخراج رطب الحي من يابس العظم النخر؟ فإما أن تأتوا بفرق صحيح بين الصورتين ولن تجدوا ، أو تمنعوا الجواز في الصورتين ولن تستطيعوا لثبوته عيانا في إخراج النار من الشجر أو تسلموا الجواز في الصورتين وهو المطلوب.

فإن قال قائل : إن إخراج الجسم الرطب الحي من العظم اليابس ، محال لاحتياج الجسم إلى الرطوبة وهي معدومة في العظم الترابي اليابس بخلاف إخراج النار من الشجر الأخضر لجواز كمون النار في الشجر لغلبة العنصر الناري عليه ، فتقاوم رطوبة الشجرة ما يقابلها من النار وتبقى بقية النار لا معارض لها تخرج عند استخراجها بالقدح ، ومثل هذا التوجيه لا يتأتى في إخراج الحي من العظم فظهر الفرق [٣٤٨ ل].

فالجواب أن الاحتياج لم يقع على توجيه إخراج الحي من العظم [الميت] بالتوجيه الطبيعي الذي ذكرتموه ، حتى يصح مقتضى هذا الفرق ، وإنما وضع على جواز إخراج الضد الطبيعي من ضده على مشترك بين الصورتين ، إذ إخراج اليابس / [١٦٧ أ / م] من الرطب ، وإخراج الرطب من اليابس كلاهما يجمعه إخراج ضد من ضد.

أما توجيه حصول الرطوبة للجسم ، فذاك ثبت بدليل آخر ، وهو أنه ممكن ، وكل ممكن مقدور ، وبيان إمكانه أنه يجوز أن تستخرج له رطوبة مائية في الأرض ، أو تمطر عليه من السماء ، أو تخترع له اختراعا ، وقد ورد أن الأرض تمطر عند إرادة البعث أربعين يوما مطرا كمني الرجال.

وحينئذ لا يبعد أن تجعل في الأرض حرارة كحرارة الرحم يتولد منها ، ومن ذلك الماء الغليظ اللزج ما تقوم به الأجسام حية ، ثم هذا البذر يقع يابسا في أرض يابسة فتهتز بعد أيام خضراء يعصر فيخرج منه الماء ، فمن أين ذلك؟

٥٢٤

والجواب مشترك ، أما قولكم لجواز كمون النار في الشجر : فالكمون عندنا باطل ، وأنتم عند المحاقة لا تقدرون على إثباته ، فإنا لو قطعنا شجرة النار وشرحناها بأبلغ ما يكون ما وجدنا للنار أثرا لا عيانا ولا لمسا ولا غيره ، وإنما النار يخلقها الله ـ عزوجل ـ عند القدح ، وغاية ذلك أن يكون اختصاص هذه الشجرة بإخراج النار منها طبيعة مناسبة للنار لكن ذلك لا يدل على كمون النار فيها على أن في كل شجر نارا ، فلا اختصاص لبعضه دون بعض بذلك ، وإنما هو كما قلنا مخترع عند استخراجه.

قوله : لغلبة الجزء الناري عليه ، قلنا : العنصر الناري الكامن في الشجرة إما فاسد الصورة أو موجود الصورة ؛ فإن كان فاسد الصورة فليس ذلك بنار كالعنصر الناري في الإنسان لا يسمى نارا موقدة ولا يوقد منها.

وإن كان موجود الصورة قائمها ، فإما أن يكون غالبا للجزء المائي ، أو مغلوبا له أو مكافئا مقاوما ، فإن كان غالبا له ، وجب أن يحرقه ثم يستولي على أثره في الشجرة ، وهو رطوبتها فيذهبها ثم على جرم الشجرة فيحرقها بالكلية ، والعيان بخلافة ، وإن كان مغلوبا للمائي وجب أن ينطفئ لغلبة المائي عليه.

وحينئذ [يجب] أن لا تخرج النار من الشجرة بالقدح والاستخراج ، والعيان بخلافه ، وإن كان مكافئا مقاوما ، وجب إذا شرحنا الشجرة أن نحسه عيانا ، أو لمسا / [٣٤٩ ل] لأن الفرض أن صورته النارية قائمة لا فاسدة والعيان خلافه ، فهذه الأقسام حاصرة وكلها باطلة ، فبطل قولكم بكمون النار في الشجر لغلبة العنصر الناري عليه ، ثم قوله : تبقى بقية النار لا معارض لها يخرج عند استخراجها ، قلنا : إن بقيت فاسدة الصورة ، فليست بنار ، وإن بقيت بصورتها النارية ، وجب أن تحرق ما تلاقيه من أجزاء الشجرة / [١٦٧ / م] إذ الفرض أنه لا معارض لها ، فتبين بطلان الفرق المذكور من كل وجه.

ثم إن المزاج هو كيفية متوسطة حاصلة عن تفاعل العناصر بعضها في بعض وإذا تفاعلت كسر كل منها صورة الآخر وذهبت صورته بالكلية ، ففرض كمون أحد العناصر بصورته في الجسم محال ، نارا كان ذلك أو غيره. وإنما أطلنا الكلام هاهنا لوجهين :

أحدهما : لئلا يظن ظان أن الفرق المذكور مؤثر ، فلا يثق بدليل القرآن ،

الثاني : الإعلام بأن براهين القرآن بعد كل سؤال وجواب وتشكيك من ذي ارتياب تظهر أنها قوية متينة واضحة سالمة عن المبطلات ، مستولية بالإبطال على الشبهات.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ

٥٢٥

الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٨١) [يس : ٨١] تضمن الدليل الثالث على البعث ، وقد سبق ، وتقريره : أن خلق السماوات والأرض أعظم من إعادتهم يعني منكري البعث ، والقادر على الأعظم هو على الأيسر أقدر ، أو يقال : إعادتهم أهون من خلق السماوات والأرض ، فهو قادر عليها بطريق أولى ، ودليل ذلك النص النظر ، أما النص فقوله ـ عزوجل ـ : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) [غافر : ٥٧] وأما النظر فلأن الإنسان عالم صغير والسماوات والأرض هما العالم الأكبر ، أعظم من الأصغر ، كما أن الأصغر أيسر من الأكبر ، ومن أتقن علم الهيئة والطب بحيث يقف على عجائب أشكال الأفلاك ودوائرها ، وبدائع عجائبها وأجناس ما في السماوات والأرض وأنواعها وأصنافها وأشخاصها علم أن في ذلك من الحكمة وبديع الصنعة أضعاف ما في بدن الإنسان من الحكمة التي عرفت بالتشريح.

ثم إنه ـ عزوجل ـ لما قرر أدلة البعث ، ذكر مستندها جملة وهو عموم القدرة على جميع الممكنات فقال : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس : ٨٢] أي ، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إلى غيره من الآلات / [٣٤٩ ل] والعلاجات.

وربما قال قائل : إنما دل هذا الدليل على أنه قادر على أن يخلق مثل الناس ، وهو ابتداء خلق والنزاع في الإعادة لا في ابتداء الخلق ، فيقال : لعله نبه بهذا على أنه على الإعادة أقدر ، إذ قد تقرر في سورة الروم وغيرها أن الإعادة أهون من الابتداء ، أو يكون مراده بيخلق مثلهم يعيدهم مثل ما كانوا ، والأمر قريب ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

٥٢٦

القول في سورة الصافات

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ) (٥) [الصافات : ٤ ، ٥] احتجاج على / [١٦٨ أ / م] الوحدانية أي أن رب هذا الملك لا ينبغي أن يكون إلا واحدا بدليل التمانع السابق (وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) [الصافات : ٧] الآيات فيها إثبات الشياطين واستراقهم السمع ورميهم بالشهب.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (١٦) [الصافات : ١٦] فيه إنكار البعث من الكفار.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) (١٩) [الصافات : ١٩] إشارة إلى نفخة البعث في الصور.

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) (٣٧) [الصافات : ٣٧] إثبات لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه الرسل في التوحيد.

(إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) (٣٨) [الصافات : ٣٨] إلى (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) (٧٠) [الصافات : ٧٠] متضمن لإثبات العذاب والنعيم الحسيين خلافا للفلاسفة والنصارى.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤) [الصافات : ٦٢ ـ ٦٤] وجه الفتنة فيها أنهم قالوا : النار تأكل الشجر ، فلا تبقى شجرة الزقوم فيها ؛ فكذبوا بها ، وإنما فتنهم الارتباط بالمعتاد ، والآخرة تنخرق فيها العادات.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] تنازع الفريقان في هذا ؛ فالجمهور قالوا : معناه والله خلقكم وعملكم ، وجعلوا ما مصدرية ؛ فتدل على أن أعمالهم مخلوقة لله عزوجل.

والمعتزلة قالوا : [معناه] خلقكم والذي تعملون فيه يعني : الأصنام ؛ لأن المعنى عليه ، إذ المراد : أن الله خلقكم وخلق معبودكم ، ومعبودهم هو الوثن المنحوت المعمول فيه النحت ، لا نفس العمل الذي هو النحت ، قالوا : ولو كان المراد : خلقكم وأعمالكم ، لقالوا لإبراهيم : إذا كان قد خلقنا وأعمالنا فلا لوم علينا في أعمالنا كما لا لوم علينا في ذواتنا

٥٢٧

المخلوقة له.

والجمهور قالوا : أراد بذلك الإخبار [بعموم إلهيته] وقدرته على العامل وعمله ومحل عمله ، حتى لا يخرج عن دائرة قدرته شيء ، كما قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (١٠٢) [الأنعام : ١٠٢] وهم تمسكوا بظاهر اللفظ وعمومه ، والمعتزلة تمسكوا بمعناه على ما قلناه ، وغايتها / [٣٥١ ل] أن تكون من متشابه هذا الباب ، فيرد إلى محكمه ، وهو مع الجمهور كما عرف في مواضعه.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) [الصافات : ٩٩] يعارض به نفاة الجهة مثبتيها إذا احتجوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرج به إلى ربه إلى فوق فدل على أنه فوق ، قالوا : فقد أخبر إبراهيم أنه ذاهب إلى ربه ، ثم ذهب إلى الشام ؛ فيلزمكم أنه في الشام.

وقد يجاب بأن إبراهيم يظهر من كلامه وحاله أن ذهابه مجاز ، وأن مراده : إني ذاهب إلى قدرة ربي [أو رضى] ربي ، بخلاف عروج محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه إلى ذات ربه قطعا.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) / [١٦٨ ب / م]) [الصافات : ١٠٢] أي إني رأيت ، فعبر عن الماضي بالمضارع ، ثم تابعه ابنه على ذلك.

فقال (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصافات : ١٠٢] أي ما أمرت (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) [الصافات : ١٠٣] : أي استسلما لأمر الله ـ عزوجل ـ وطاعته (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣) [الصافات : ١٠٣] أضجعه للذبح (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥) [الصافات : ١٠٤ ـ ١٠٥] أي : صدقت فرأى عزمك على ذبح ابنك ، وإنما المقصود امتحان صدقك لا ذبحه ، وقد حصل ذلك بصدق عزمك (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) [الصافات : ١٠٧] هو كبش هابيل المذكور في قصة ابني آدم في التفسير.

واحتج الجمهور بهذه القصة على جواز نسخ الفعل قبل وقوعه ؛ لأن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أمر بذبح ابنه ، ثم نسخ عنه قبل أن يفعل ، ومنع ذلك المعتزلة.

ومأخذ الخلاف نظرا أن مثل هذا الفعل هل له فائدة أم لا؟

فالجمهور قالوا : له فائدة وهي امتحان المكلف بصدق العزم على الامتثال كما كان

٥٢٨

من إبراهيم.

والمعتزلة قالوا : لا فائدة لذلك ؛ إذ حاصله افعل لا تفعل ، وهو تهافت ، ثم أجابوا عن القصة بوجوه :

أحدها : لا نسلم أنه رأى أنه مأمور بذبحه وإنما ظن أن سيرى بدليل قوله : إني أرى وهو مستقبل لا ماض ، ولهذا قال ابنه : افعل ما تؤمر بصيغة المستقبل ، أي إن أمرت بذبحي كما خطر لك أنه سيكون ، فافعل.

الثاني : سلمنا أنه أمر بشيء ، لكنه لم يؤمر بنفس الذبح بل بمقدماته كأخذ المدية والإضجاع والربط ونحوه ، وقد فعل ذلك بدليل : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥) [الصافات : ١٠٥] ولو كان مأمورا بنفس الذبح لما كان صدقها.

الثالث : سلمنا أنه أمر بذبحه ؛ لكن لا نسلم أنه نسخ قبل فعله ، بل فعله ، وكان كلما قطع جزءا من عنقه التحم ، فلم يفرغ من قطعها حتى التحمت جزءا فجزءا ، واعلم أن من تأمل القصة / [٣٥٢ ل] وسياقها علم بطلان هذه الوجوه بالضرورة واستغنى عن تكلف الجواب ، لكن لا بد من جوابها على العادة.

والجواب عن الأول ما سبق من استعمال المضارع بمعنى الماضي ، والمضارع أريد به الحال لا المستقبل ؛ لأنه لما رأى رؤياه في الليل أصبح وهو يتذكرها ويتخيلها في الحال ، وهو حال كل ذي رؤيا يذكرها ، فلذلك عبر عن الماضي بلفظ الحال ، وكذا قول ابنه (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) [الصافات : ١٠٢] أي ما أنت مأمور به في الحال ؛ لأنه مأمور في الحال بما كان أمر به في الماضي استصحابا لحاله ، إذ لم ينسخ عنه بعد ، وعن الثاني بأنه خلاف نص قوله : (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى) (١٠٢) [الصافات : ١٠٢] ولم يقل ، إني أعزم على ذبحك ، ولأنه لو كان مأمورا بمقدمات الذبح لا غير / [١٦٩ أ / م] لما كان فيه امتحان ، ولا بلاء مبين ، والنص مصرح بأنه كان بلاء مبينا ، وأيضا لما كان فيه مزية لإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ على غيره ، إذ صغار الناس إذا علم أنه مأمور بمقدمات ذبح نفسه لا غير ، لم يتوقف في فعل ذلك ، ورأى أنه مأمور بأنه يلعب.

وعن الثالث بأنه لو صح ، لكان أولى ما ذكر في القصة هو ، إذ هو أعظم وأعجب وأغرب وأتم نعمة على إبراهيم وابنه من الفداء بالكبش ، وقد ذكر وعظم إذ قال :

٥٢٩

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧) [الصافات : ١٠٧] سلمنا أنه لا يلزم ذكره ، لكن لو صح ما ذكرتموه ، لما كان للفداء بالكبش معنى ؛ لأن معنى الآية : وفديناه من الذبح بذبح عظيم فلو كان قد ذبح كما زعمتم لكان هذا الإخبار غير مطابق.

(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (١١٢) [الصافات : ١١٢] يحتج به من رأى أن الذبيح إسماعيل ، لأنه لما فرغ من قصة الذبيح بشر بإسحاق ، وهو يدل على أن الذبيح غيره ، وليس إلا إسماعيل وليس بنص ، إذا العطف بين القصتين ، أعني : قصة الذبح والبشرى بالواو ، وهي لا تفيد الترتيب واحتمل أنه بشر بإسحاق أولا ثم أمر بذبحه ثانيا ، وقد اختلف الناس في الذبيح ، فالمسلمون على أنه إسماعيل ، وأهل الكتاب على أنه إسحاق وعن أحمد فيه القولان :

احتج الأول بوجوه : أحدها : ما ذكرناه من سياق القصة وهو إن لم يكن نصا فهو ظاهر.

الثاني : أن إسماعيل هو أكبرهما ؛ [فالظاهر أن] الامتحان كان فيه ؛ لأنه الأنفس والأفضل عند الأب عادة.

الثالث : قوله : (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١) / [٣٥٣ ل]) [الصافات : ٩٩ ـ ١٠١] ثم استطرد قصته دل على أن المذبوح هو أول ما وهب له من الولد وهو إسماعيل ، وهذا الوجه كالدليل والمستند للذي قبله وبينهما اشتباه وتغاير.

الرابع : قوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) (١٠١) [الصافات : ١٠١] والأب تظهر أخلاقه في أولاده ، والعرب الذين هم بنو إسماعيل أحلم من بني إسرائيل الذين هم بنو إسحاق فالظاهر أن الحليم المأمور بذبحه هو إسماعيل.

الخامس : من قوله هاهنا : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) [الصافات : ١٠٢] مع قوله في الأنبياء : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٨٥) [الأنبياء : ٨٥] فوصف بالصبر هنا مبهما ، وفى الأنبياء مبينا والمبين يقضي على المجمل المبهم ، فالظاهر أن الصابر هناك هو الصابر المذبوح هنا.

السادس : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا ابن الذبيحين ولا فخر» وهو من ولد إسماعيل لا إسحاق.

٥٣٠

السابع : قوله : ـ عزوجل ـ : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) (٧١) [هود : ٧١] والظاهر أنها بشرت بيعقوب على صفته من أنه [من] ولد إسحاق ، ثم لا يخفى مثل ذلك عن / [١٦٩ ب / م] إبراهيم وحينئذ يكون إسحاق معلوم الحياة إلى أن يولد له بالبشرى الإلهية ، ومثل ذلك لا يفيد الامتحان بالأمر بذبحه ، لأن من علم قطعا أن ابنه يعيش إلى بعد البلوغ لا يخشى عليه قبل البلوغ من أمر بذبحه ، ولا غيره ، فتعين إسماعيل للقصة.

واحتج الآخرون بقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٤٦) [ص : ٤٥ ـ ٤٦] فذكر إسحاق مع من أخلص بالامتحان ؛ ثم قال : (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٤٨) [ص : ٤٨] ولم يذكر ما يقتضي امتحانا فدل على أن الذبيح هو إسحاق ، وهذا ليس بشيء وجوابه من وجوه :

أحدها : أن ذكره من المخلصين لا يدل على أن إخلاصه بالامتحان بجواز أنه وصف له بالإخلاص في العبادة والطاعة.

الثاني : سلمناه لكن لا نسلم أن امتحانه بخصوصية الذبح لجواز أنه امتحن بالعمى كابنه يعقوب ، وقد عمي إسحاق فلم يمت إلا مكفوفا أو بغير العمى.

الثالث : أن ما ذكرتموه منقوض بيوسف وأيوب وذي النون وداود وموسى ، وغيرهم ممن أخلص بالامتحان ولم يذكر هاهنا.

الرابع : أن ما ذكرتموه معارض بوصف إسماعيل بالصبر في قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٨٥) [الأنبياء : ٨٥] أي : قد أتى بما يلام عليه يحتج [به من يرى وقوع المعاصي من الأنبياء ولحوق اللائمة لهم على بعض أفعالهم ، وقد سبق القول فيه ، وأن معاملة الله ـ عزوجل ـ لهم على طريق حسنات الأبرار سيئات المقربين].

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠) [الصافات : ١٤٩ ـ ١٥٠] إنكار على من زعم أن الملائكة بنات الله وقد سبق.

٥٣١

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٥٢) [الصافات : ١٥١ ـ ١٥٢] لاستحالة ذلك في حقه (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١٥٤) [الصافات : ١٥٣ ـ ١٥٤] هو كما سبق من قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) [النحل : ٥٧] أي كيف هذا الحكم الفاسد يجعلون الأنقص للأكمل وبالعكس والحكم الجيد إذا لم يكن بد من هذا الاعتقاد الرديء خلاف ذلك (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (٤٠) [الإسراء : ٤٠] (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) [النجم : ٢٢] ، (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) [الصافات : ١٥٨] زعموا أن الملائكة ، وهذا إنما جاءهم من قبل أنهم تكلموا في الإلهيات بغير دليل شرعي ، ولا نظر عقلي ، فإن النظر العقلي يفضي إلى بطلان ما قالوه كالفلاسفة لم يقولوا بالشرع ، وقد أبطلوا ما زعمه هؤلاء الكفار / [١٧٠ أ / م] إذ النكاح والولادة يستلزم الجسمية ، وهي محال في حق القديم الواجب الوجود سبحانه.

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) [الصافات : ١٥٨] أي لعذاب من كفر منهم ، ولو كانوا كما زعم الكفار لكانوا صهرا له ونسبا ، فلم يعذبهم ، أو المراد [أن الكفار] يكذبون على الجن بأنهم أصهار الله ـ عزوجل ـ والجن تعلم كذبهم في ذلك ، إذ يعلمون أنه لا نسبة لهم إليه إلا بالعبودية ، وأنهم ما بين محضر العذاب يوم القيامة مرحوم.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٥٩) [الصافات : ١٥٩] أي تنزه عن قولهم إذ لا يليق به وهو محال في حقه ـ عزوجل ـ (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (١٦٠) [الصافات : ١٦٠] مستثنى من قوله : (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨) [الصافات : ١٥٨] أي لمحضرون النار والعذاب إلا المخلصين منهم فلا يعذبون ، وهذه قسمة للجن إلى مخلص وغيره كانقسام الإنس إليهما في قوله : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) [ص : ٨٢ ـ ٨٣].

٥٣٢

(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) [الصافات : ١٦١ ـ ١٦٣] يحتج به الجمهور على أن لا فتنة من مخلوق ، إذ معنى ذلك أنكم أيها الكفار لا تفتنون أحدا بعبادة معبودكم إلا من سبق عليه القول بأنه يصلى الجحيم ، فيكون المؤثر في فتنته إرادة الله ـ عزوجل ـ لا إغواؤكم وفتنتكم أنتم.

والمعتزلة يوجهونها على مذهبهم ؛ فيقولون معناها : أنكم لا تفتنون من يعبد آلهتكم بل هو يفتن نفسه ويضلها.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤) [الصافات : ١٦٤] هذا حكاية قول الملائكة ، وهم متفاوتون في مقاماتهم كالإنس في درجاتهم (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣) [آل عمران : ١٦٣] (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢) [الأنعام : ١٣٢] وقياسا على حاشية الملك مقاماتهم عنده متفاوتة.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) [الصافات : ١٦٥ ـ ١٦٦] هذا كالتفسير (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) في أول السورة ، وأنهم الملائكة يصفون أجنحتهم أو أقدامهم ويتلون تسبيح الرب عزوجل.

* * *

٥٣٣

القول في سورة ص

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٤) [ص : ٤] نظيره : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) [يونس : ٢] ووجه عجبهم لزوم الترجيح بلا مرجح في زعمهم ، وقد سبق ، وجوابه في سورة إبراهيم وغيرها.

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥) [ص : ٥] لما ألفت نفوسهم الكثرة نفرت من التوحيد فهم في ذلك على محض التقليد ولو وفقوا لحسن النظر لعلم كل منهم ما يأتي ويذر.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) (٨) [ص : ٨] هو إلزام الترجيح بلا مرجح بزعمهم ، وهو غير لازم وجوابه (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩) [ص : ٩] / [١٧٠ ب / م] أي أنت خصصت من بينهم [بالنبوة] برحمة ربك.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩) [ص : ٩] أي أنت خصصت بإنزال الذكر دونهم برحمة الله وإرادته ، وهو ذو الملك المتصرف فيه بما يختار ، فإن كانوا هم أهل التصرف في الملك أو شركاء صاحب الملك.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) (١٠) [ص : ١٠] أي في الحبال إليه لينازعوه ملكه ، ويحتمل أن الارتقاء في الأسباب مثل ومعناه كمعنى قوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٣٩) [المرسلات : ٣٩] ، وحاصل الكلام أن اعتراضهم في تخصيصي إياك بالنبوة دونهم شأن منازع لي في ملكي لا شأن من يعترف بأنه عبدي.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) (١٩) [ص : ١٨ ـ ١٩] أي مسبح (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا

٥٣٤

فاعِلِينَ) (٧٩) [الأنبياء : ٧٩] (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) [سبأ : ١٠] وقد سبق توجيه ذلك.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) [ص : ٢١] يحتج به على أن أقل الجمع اثنان لأن هذا الخصم كان اثنين ، وقد رد إليهم ضمير الجمع ؛ فقال : تسوروا.

وأجيب بأنه يحتمل كان معهم غيرهم ؛ فصاروا جمعا ، ويحتمل أن جمع الضمير باعتبار لفظ الخصم ، فإنه من المصادر يصدق على القليل والكثير.

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) (٢٢) [ص : ٢٢] ، لأنهم دخلوا عليه في غير وقت التحاكم فأنكرهم ، ففزع إما لما تخشاه الملوك من غوائل الإنس ، أو لما تفرسه وكان يتوقعه من إلزام الحجة له على لسان بعض خلق الله ـ عزوجل ـ.

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) قيل حقيقة ، وقيل : كنى عن المرأة بالشاة لما ذكر في القصة ، وكقوله :

يا شاه ما قنص لمن حلت له

 ...

وقوله :

والشاه ممكنة لمن هو مرتمي

 ...

البيتين.

(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) / [٣٥٦ ل] [ص : ٢٣] أي أعطنيها ، واجعلني أكفلها (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣) [ص : ٢٣] أي غلبني ، وفى المثل : من [عزيز] ، أي : من غلب سلب.

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) إلى قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢٤) [ص : ٢٤] أي علم أننا أصبناه بالمحنة ، وألزمناه الحجة.

وتلخيص القصة أن داود فيما حكي في السير قال : يا رب نوه بذكري كما نوهت بذكر آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب : فقال له :

أولئك ابتليتهم ، فصبروا ، قال داود : فابتلني حتى أصبر ، قال : فاستعد لذلك يوم كذا وقت كذا ؛ فلزم داود محرابه في ذلك الوقت محترزا يقرأ في الزبور ؛ فبينا هو كذلك ، إذ

٥٣٥

وقع بين يديه طائر صغير ، بديع الخلقة جدا ؛ فأعجبه فمد يده ليأخذه لبعض صغار ولده ؛ فتأخر الطائر يسيرا ؛ فتقدم له داود ؛ فتأخر يسيرا ، فلم يزل كذلك يستتبع داود مطعما له ، حتى صعد سطح المحراب ، ثم طار فأتبعه داود بصره ؛ فوقعت / [١٧١ أ / م] عينه على امرأة تغتسل ، فأعجبه جمالها ، وكان زوجها : أوريا بن حنان في الجهاد ؛ فكتب داود إلى أمير الجيش : أن قدم أوريا بن حنان في الجهاد ؛ فكتب داود إلى أمير الجيش : أن قدم أوريا بالتابوت ، وكان لا يتقدم به أحد ، فيرجع إلا مفتوحا عليه أو مستشهدا ؛ فقدمه بالتابوت مرارا ، ويفتح عليه ؛ ثم قتل بعد ذلك ، لما ألظ الأمر به ؛ فتزوج داود امرأته ، وكان له غيرها تسع وتسعون امرأة ؛ ولم يكن لأوريا إلا تلك المرأة ، فلذلك جاءه الخصمان ، فألزماه الحجة على لسانه بقياس جلي واضح.

وقد اختلف الناس فمنهم من صحح هذه القصة [وجوز على الأنبياء الكبائر بسببها وما أشبهها] ، ومنهم من منع صحتها ، لأنه من أخبار القصاص وغبرات أهل الكتاب أهل التحريف والتبديل ، وهم لا يرون عصمة الأنبياء ؛ فلا يتحاشون من نسبة مثل هذا وأعظم منه إليهم ، فقد ذكر في توراتهم على ما شاهدته أن روبيل بن يعقوب وطأ سرية لأبيه فغضب عليه يعقوب ، وقال : نجست فراشي وإن بعض كنائن يعقوب وقفت لزوجها في الطريق من حيث لا يعرفها فوطئها ، غير عالم أنها زوجته ، وأعطاها جديدا من المعز ، وإن لوطا لما نجا بابنتيه إلى مغارة في الجبل ، قالت إحداهما للأخرى : إن أبانا لا زرع له فهلمي نسقيه خمرا فيواقعنا ؛ فيحصل له منا زرع ؛ فأسكرتاه فواقعهما فأحبلهما ، فكان من ولد إحداهما من ذلك الحمل بنو موات يعني المواتين ، وزعموا أن داود من ذلك النسل وحينئذ فلعل هذه القصة في حق داود من أكاذيبهم على الأنبياء فلا يترك لها ما ثبت من دليل عصمتهم ، وهذا هو اللائق بحالهم.

وإن كان الظاهر من حال داود ـ عليه‌السلام ـ وقوع ذلك منه ؛ لأن الذي حكاه ثقات المسلمين ، كوهب بن منبه / [٣٥٧ ل] وكعب الأحبار ، وغيرهم ، وكانوا أئمة أثباتا نقادا ، فلو علموا فيها مغمزا لما حكوها عنه ، ولأنه لو لا مثل هذه القصة من مثل داود لما بكى ذلك البكاء ، وناح ذلك النواح المحكي عنه فالله ـ عزوجل ـ أعلم بحقائق المغيبات بما كان ، وما هو آت ، وبتقدير صحة القصة يحتج بها على إثبات القياس ، إذ حاصلها أنك ما كان لك أن تغلب أوريا على امرأته مع أن لك تسعا وتسعين امرأة كما لم يكن لأحد الخصمين أن يغلب صاحبه على نعجته مع أن له تسعا وتسعين نعجة.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى

٥٣٦

فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦) [ص : ٢٦] فيه إشارة إلى أن عصمتهم من وقوع الضلال [لا من جوازه] ، وقد سبق له نظائر.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤) [ص : ٣٤] / [١٧١ ب / م] قيل : هو صخر المارد الذي أخذ خاتمه ، وتشكل بشكله ، وجلس على سريره ؛ فسلب ملكه بسببه مدة ، ثم عاد إليه ، وقيل : هو ولده الذي حصل له من طوافه على تسعين امرأة في ليلة ثم أشفق عليه من الموت فسلمه إلى الغمام تكفله فقبض ثم ألقي ميتا على سريره.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥) [ص : ٣٥].

تكلم الناس في هذا فربما ظن قوم أنه [حب للدنيا] ، وآخرون أنه استئثار على أبناء الجنس ، وآخرون غير ذلك وكله مما لا يليق نسبته إلى سليمان خصوصا مع حكمته ، وتمام معرفته بالله ـ عزوجل.

والأشبه أن ذلك كان أمارة على عناية الله ـ عزوجل ـ به وحظوته عنده ، فلذلك سأله ، كما قيل : إن سؤال إبراهيم إحياء الموتى كان لكونه أمارة على خلته ، أو لأن هذا جرى من سليمان مجرى الاستكثار من فضل الله وبركته ، والتخصص بمزيد فضله كما أن أيوب مع كثرة ماله لما أمطر الله عليه جرادا من ذهب جعل يحثي في حجره ؛ فلما قيل له : ألم نكثر مالك قال : بلى ، يا رب ، ولكن لا غنى بي عن بركتك.

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٩) [ص : ٤٩] الآيات ، فيها إثبات النعيم الحسي ، وفيما بعدها من ذكر الحميم والغساق ونحو إثبات العذاب الحسي خلافا للنصارى والفلاسفة كما سبق.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (٥٤) [ص : ٥٤] فيه دوام رزق الجنة وأكلها من غير انقطاع ، وأن المعدوم منقطع إذ لا يجوز انقلابه دائما أبدا ، واعلم أن المعلوم إما أزلي أبدي ، وهو الحق سبحانه وتعالى ، أو لا أزلي ولا أبدي كالأعراض تحدث وتفنى على الفور ، أو أزلي لا أبدي كعدم العالم ، أو أبدي لا أزلي كنعيم الجنة وعذاب النار وأهلهما ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

٥٣٧

القول في سورة الزمر

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣) [الزمر : ٢ ، ٣] فيه الاهتمام بالإخلاص لوصية الله ـ عزوجل ـ رسوله به مع أنه معصوم من الرياء وغيره.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣) [الزمر : ٣] أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى هذا رأي الوثنيين وعبدة الكواكب من الصابئين يحتجون بذلك [تنصلا] من الشرك.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) [ص : ٣] فإن الله ـ عزوجل ـ إنما يتقرب إليه بعبادته وطاعته من غير واسطة ، ثبت ذلك بتواتر الرسل والكتب ، ومن ذلك قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) [ق : ١٩].

قوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) [الزمر : ٤] ، زعم / [١٧٢ أ / م] أبو محمد بن حزم الظاهري في كتاب «الملل والنحل» له أن الله ـ عزوجل ـ قادر على أن يتخذ ولدا لظاهر هذه الآية ، وهو قول شنيع باطل.

أما شناعته فلمضارعته النصرانية ؛ فإنهم إذا حاجوا في ذلك قالوا : الولد صفة كمال ، فانتفاؤه في حق الله ـ عزوجل ـ نقص وامتناعه على الله ـ عزوجل ـ عجز.

وأما بطلانه ، فلأن ما زعمه إنما يصح أن لو قال : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لولد أو لتزوج ونسل ، أو لاتخذ ونحو ذلك ، لكنه إنما قال : لاصطفى مما يخلق ما يشاء ، [ونحن قد بينا قبل أن الولدية تنافي المخلوقية كما تنافي المملوكية ، فلو قدر أنه اتخذ ولدا مما يخلق لم يكن ذلك الولد ولدا ، وإنما يكون على جهة التبني ، لا على حقيقة البنوة والولدية ، فإن زعم هذا القائل أن معنى الآية : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق زوجة ، فأولدها ولدا كما قال : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ

٥٣٨

لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧) [الأنبياء : ١٧] أي : زوجة نلهو بها لزمه أن يجيز عليه التزوج والنكاح والنسل ونحوه من لوازم الأجسام ، وذلك محال باطل بإجماع ، وإنما يصح ذلك على رأي الاتحادية الذين يجيزون عليه الظهور في المظاهر الطبيعية ، وابن حزم لا يقول ذلك] ، وإن قال : إن الولد الذي يقدر على اتخاذه روحاني لا جسماني كالنور مولود للشمس ، والحكمة مولودة للعقل ، فلا يلزم التجسيم.

قلنا : هذا هو عين مذهب النصارى ، فإنهم لما ألزموا ما ألزمت من التجسيم ، ادعوا ما ادعيت من الولادة الروحانية ، فإن قال : النصارى ادعوا وقوع اتخاذ الولد ، وأنا إنما ادعيت القدرة عليه وجوازه ؛ قلنا : يلزمك أن مذهب النصارى جائز ، وأجمع المسلمون ـ بل العقلاء ـ على أنه محال ، فقد كنت بدعواك هذه تخالف الشرع ، فالآن خالفت الشرع والعقل جميعا ، فإن قال : لو لم يقدر على اتخاذ ولد ، لكان عاجزا ، قلنا : لا يلزم ذلك ؛ لأن اتخاذ الولد عليه محال ، والمحال لا يدخل تحت المقدورية أي : لا يقبل تأثير القدرة فيه ليكون عدم تأثيرها فيه عجزا فإن تأثير القدرة في الشيء تارة ينتفي لقصورها عنه وتارة لعدم قبول ذلك الشيء لتأثيرها فيه لعدم إمكانه بوجوب أو امتناع ، والعجز هو الأول لا الثاني ، وإلا لزمك أن / [١٧٢ ب / م] تجيز عليه جميع المحالات بعلة أنه لو لم يقدر عليها ، لكان عاجزا.

[فإن قال : فما معنى قوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) [الزمر : ٤] إذن قلنا معناه : لو احتاج إلى ولد لاستغنى عنه بمن يختاره من مخلوقيه ، كما لو قيل لرجل : لو تزوجت لجاءك ولد يخدمك ؛ فقال : لو أردت ولدا يخدمني أو لو احتجت إلى خدمة الولد ، لاشتريت بمالي عبيدا يخدموني.

وهذا التأويل قريب من ظاهرها جدا ، وهو خير من اقتحام الشناعة والمحال.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) [الزمر : ٤] أي : تنزه عن اتخاذ الولد وقوعا وجوازا إذ (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤) [الزمر : ٤] أي : أن حكمة الولد التكثر به من قلة أو الاستعانة / [٣٥٩ ل] به عن غلبة وانقهار ، والله ـ عزوجل ـ واحد لا يجوز عليه الكثرة ، ولا التكثر ؛ قهار لا يلحقه الانقهار ، وإذا انتفت حكمة الولد في حقه ، وجب انتفاؤه وقوعا وجوازا ، إذ ما لا حكمه فيه ، لا يجوز وجوده. (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا

٥٣٩

يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧) [الزمر : ٧] احتج به المعتزلة ؛ لأن من لا يرضى لهم الكفر ، لا يخلقه فيهم ، ولا يقدره عليهم ، ولا يتسبب إليه بوجه كما أن في الشاهد من لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر لسابق علمه فيهم بالعصمة منه.

الثاني : لا يرضى لهم الكفر عبادة وطاعة وقربة ، وإن رضيه ابتلاء ومنحة بدليل : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥) [الأنبياء : ٣٥].

الثالث : أن لا يرضى معناه : يكره ، وكراهته الشيء لا تقتضي عدم فعله بدليل أن الله ـ عزوجل ـ خالق عين الكافر ، وهو يكرهه ، كذلك جاز أن يخلق الكفر وهو يكرهه.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) (١٦) [الزمر : ١٦] الكلام كما في (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩) [الإسراء : ٥٩] وقد سبق هناك.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢) [الزمر : ٢٢] شرح الصدر هو كشف حجاب القلب بما يخلق فيه من براهين الحق ودواعي اتباعه ، وهو النور المذكور ، وقد أخبر الله ـ عزوجل أنه الذي يشرح الصدر ، فكذا هو الذي يجعله ضيقا حرجا ، بضد ما يشرحه به من الطبع عليه ، وخلق ظلمات الشكوك والريب فيه ؛ فيقسو عن اتباع الحق.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) (٢٣) [الزمر : ٢٣] : يشبه ، ويصدق بعضه بعضا.

(تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣] هو سبحانه وتعالى يخلق الخوف في قلوبهم ، ثم / [١٧٣ أ / م] يترتب على الخوف الاقشعرار ، ثم

٥٤٠