الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

لين الجلود والقلوب إلى ذكر الله ، كل ذلك بفعل الله ـ عزوجل ـ وإرادته.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الزمر : ٢٣] أضاف هذا الهدى إليه لأنه مرتب على أسباب مخلوقة له.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣] صريح في إضلاله من يشاء ؛ بأن يخلق في قلبه ضد ما خلق في قلب المهتدي.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) [الزمر : ٢٨] قيل : غير مخلوق ، وقد سبق القول فيه.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢٩) [الزمر : ٢٩] هو من أدلة التوحيد ؛ وبيانه أن التوحيد أصلح للموحد ، كما أن المالك الواحد للعبد أصلح له من تعدد الملاك ؛ لأن كثرة الأرباب / [٣٦٠ ل] والملاك تتنازع الواحد ؛ فيهلك ، أو يشقى ويتعب ؛ بخلاف الرب الواحد ؛ والمالك الواحد ، إذ لا تنازع مع الوحدة وهذه المادة شبيهة بمادة (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) [الأنبياء : ٢٢].

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣) [الزمر : ٣٣] الآيات تنازعها الفريقان : السنة : فزعموا أنها لأبي بكر الصديق ؛ لأنه الصديق ، والشيعة [لعنهم الله] فزعموا أنها لعلي لأنه عندهم الصديق الأكبر ، وأول من أسلم.

واعترض الجمهور عليهم بأن في سياق هذا (لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣٥) [الزمر : ٣٥] وعلي عندكم معصوم ، لا سيئة له ؛ فليست الآية له ، فهي لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وأجاب الشيعة بأنا قد أثبتنا عصمة علي فيما سبق ، والعصمة لا تنافي اليسير من سوء العمل ، [بدليل : أن الأنبياء عندكم تجوز عليهم الكبائر والصغائر ، و] وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) [الفتح : ٢].

والجواب مشترك ، والحق أن الآية ليست لواحد بعينه ، بل هي عامة لكل من اتصف بالصدق والتصديق ، بدليل ما اكتنف الآية قبلها وبعدها.

٥٤١

أما قبلها فقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٣٢) [الزمر : ٣٢] وهو ذم ووعيد عام ، ثم قابله بالذي جاء بالصدق وصدق به ، وأي صدق وصدق ، وهو مقابل لمن كذب وكذب في الآية قبلها ، وهو مدح ووعد عام ، وأما بعدها ، فقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) (٣٤) [الزمر : ٣٣ ـ ٣٤] الآيات بصيغة الجمع المقتضي للعموم ، ولا مقتضى لاختصاصها بأحد الرجلين ، إلا عصبية الفريقين ، نعم هما داخلان تحت الوعد فيها ، ومن أحق الناس بها.

(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) (٣٧) [الزمر : ٣٦ ـ ٣٧] صريح في مذهب الجمهور ، وتأوله المعتزلة على أنه يهدي بفعل الألطاف ، ويضل بمنعها. وقد سبق القول في ذلك.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣٨) [الزمر : ٣٨] / [١٧٣ ب] هي شبيهة بقول إبراهيم : (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) (٧٣) [الشعراء : ٧٣] وقول صاحب يس : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) [يس : ٢٣] وهو استدلال على التوحيد ، ونفي إلهية الشركاء بعدم ملكهم التصرف بالضر والنفع أي : هؤلاء لا تصرف لهم ، وكل من لا تصرف له ؛ فليس بإله ، فهؤلاء ليسوا آلهة.

(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (٤١) [الزمر : ٤١] يحتج به المعتزلة ؛ لأنه نسب الهداية والضلال إليهم على وجه يقتضي تفويض أفعالهم إليهم وإلا كان معناه : من هديته

٥٤٢

أنا فلنفسه ومن أضللته فعليها ، وهذا محض جور لا تقوم به حجة في حكم العدل ، ويجاب بأن جميع ذلك أعني نسبة الضلال إليهم والاحتجاج والوعيد لهم يتعلق بالكسب عن الكسبية وبالخلق على تقدير التفويض عند المجبرة ، كما تقرر في مقدمة الكتاب / [٣٦١ ل].

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢) [الزمر : ٤٢] أي : أن الله ـ عزوجل ـ تارة يقبض الأرواح بالكلية ، وهو الموت ، وتارة تعرج إليه على عزم معاودة البدن ، وهو النوم ثم قد يقضي الموت على النائم ، فيمسك روحه عنده فيموت ، وقد لا يقضي عليه الموت ؛ فيرسل روحه إلى جسده ؛ فيستيقظ حيا ، وهو ضرب من الموت والبعث ، يقال : إن النفس تعرج والروح تبقى يتحرك به النائم ، فإن قضى عليه الموت نائما قبض الروح إلى النفس ، وإلا عاد النفس إلى الروح ، وقد سبق نحو هذا في الأنعام.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢) [الزمر : ٤٢] هو كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣) [الروم : ٢٣].

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) (٤٣) [الزمر : ٤٣] أي : شركاء يرجون شفاعتهم ، قل : أتتخذونهم شركاء ، وإن كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا ، ولا يعقلون شيئا ، إذ هم أصنام جماد ، فإن قالوا : نعم فقد لزمهم غاية السفه والضلال ، وإن قالوا : لا ، فقل : فإن شركاءكم كذلك لا يعقلون ولا يملكون فلا تتخذونهم.

وهو دليل على التوحيد تلخيصه : أن اتخاذكم لهؤلاء الآلهة ، إما مع علمكم بأنهم لا يملكون ولا يعقلون ، فهو سفه وضلال ، أو مع عدم علمكم بذلك ، فقد أعلمناكم فدعوهم ولا تدعوهم آلهة.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣) [الزمر : ٥٣] هذا عام مخصوص في المغفور والمغفور له. أما في المغفور ، فلأن الشرك لا يغفر ، لقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ

٥٤٣

أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) [النساء : ٤٨].

وأما في المغفور له ؛ فلقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤٨) [النساء : ٤٨] فمن لا يشاء أن يغفر له مخصوص من عموم العباد المغفور لهم هاهنا.

فإن قيل : فما فائدة قوله : (جميعا) قلنا : يعني يغفر جميع ما سوى الشرك لمن شاء أن يغفر له ، أو جميع الذنوب حتى الشرك بالإيمان.

(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦) [الزمر : ٥٦] زعم أبو عبد الله / [١٧٤ أ / م] بن حامد : أن لله ـ عزوجل ـ صفة ذاتية تسمى الجنب ، كما قال في اليد والوجه ، وهو ضعيف جدا ، لغلبة المجاز على هذه الكلمة ، إذا يقال : طمع فلان في جنب فلان وجانبه ، وخذ هذا الدرهم في جنب الله ، فإثبات صفة ذاتية بمثل ذلك لا وجه له.

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) [الزمر : ٥٩] احتج المعتزلة بهذا ، ووجهه أنه ـ عزوجل ـ رد على الكافر قوله :

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٥٧) [الزمر : ٥٧] بقوله هذا ، ومعناه : قد هديتك بمجيء آياتي ، فكذبت واستكبرت ، فلو كان هو الذي أضله أو منع عنه الهدى لما اتجه هذا التكذيب حتى قال : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠) [الزمر : ٦٠] أي الذين كذبوا عليه بقولهم : ما هدانا ؛ فدل على أنه هداهم / [٣٦٢ ل] ، ولم يضلهم.

والجواب : أن الهدى مشترك بين الإرشاد و [بين] العصمة من الضلال بما يخلق في القلوب من موجبات الإيمان ، والكافر إنما أنكر الهدى بمعنى الإرشاد ، ولا شك في أنه كذب ، لأن الله ـ عزوجل ـ قطع الحجة وأوضح المحجة بالإرشاد بالكتب على ألسنة الرسل ، وإنما الذي فات الكافر هو الهدى بالمعنى الثاني ، فالله ـ عزوجل ـ هداه تكليفا ، ولم يهده تكوينا ، فلا تناقض ، وعدنا إلى قاعدة الكسب والجبر في قيام الحجة على الكافر.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) [الزمر : ٦٢] عام خص

٥٤٤

بالإجماع بذات الله وصفاته ، ثم اختلف فيه بعد ذلك ؛ فطرده الجمهور فيما عدا ذلك ، حتى أفعال الناس مخلوقة له ، وخصها المعتزلة منه بدليلهم العدلي فيما زعموا.

(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥) [الزمر : ٦٥] يحتج بظاهره على جواز الشرك من الأنبياء ، وإن عصموا من وقوعه ، وتأول بعضهم هذه على أن الخطاب فيها له ، والمراد أمته ، وهو ضعيف ؛ لأن قوله ـ عزوجل ـ : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٦) [الزمر : ٦٦] عطف عليه ، وهو مراد منه باتفاق فكذا ما قبله يكون مرادا منه.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧) [الزمر : ٦٧] اختلف الناس في آيات الصفات مثل هذه في القبضة واليمين ، ونحو : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) [الرحمن : ٢٧] (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٦٤) [المائدة : ٦٤] و (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢) [القلم : ٤٢] «يضع الجبار قدمه» (١) «يحمل السماوات على إصبع» (٢) الحديث ، ونحو ذلك على أقوال :

أحدها : إمرارها كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل ، وهو مذهب أهل الحديث.

الثاني : حملها على ظاهرها في التشبيه وصرحوا به ، وهو قول الكرامية ، ورد عليهم ب (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] وباستحالة

__________________

(١) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه [٥ / ١٢٥].

(٢) رواه البخاري ح [٤٨١١].

٥٤٥

التجسيم على القديم.

الثالث : حملها على صفات لله ـ عزوجل ـ حقيقة مقولة على صفات المخلوقين / [١٧٤ / م] بالاشتراك اللفظي ، [اللهم كأنهم] قالوا : لله يد هي صفة لائقة به لا تشبه يدنا ، ولنا يد هي هذه الجارحة مستحيلة في حقه عزوجل. وهو محكي عن الظاهرية ، وإليه يرجع المذهب الأول.

الرابع : تأويل ما أوهم منها التشبيه على ما يزيل تلك الشناعة مما يحتمله اللفظ في كلام العرب ، وهو مذهب الأشعرية ، ومن وافقهم.

الخامس : أن اللفظ إن ظهر منه إرادة الحقيقة حمل عليها على المذهب الأول ، أو إرادة المجاز حمل عليه كلفظ الجنب ، «وقلب المؤمن بين إصبعين» (١) و «الحجر يمين الله في الأرض» (٢) ونحوه ، وإن لم يظهر منه أحدهما اجتهد فيه المجتهد في الأصول ، وقلد فيه المقلد ، والأشبه الأخذ بالمذهب الثالث.

ولعلك تقول : هل يجوز التقليد في أصول الدين حتى يقول : وقلد فيه المقلد؟ فنقول : نعم.

وتحرير ذلك أن مسائل الشريعة إما / [٣٦٣ ل] ظني كالفقهيات ، أو علمي قاطع كالتوحيد والنبوات ، أو واسطة بينهما ، كهذه المسائل الدائرة بين أهل الحديث والمعتزلة والجهمية ونحوهم ، فهذه ارتفع دليلها عن القسم الأول ، وانحط عن القسم الثاني ، لكن تعارضت فيها الشبه وتصادمت الحجج ؛ فجاز فيها التقليد للعامي ، ولم يسغ فيها التكفير ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨) [الزمر : ٦٨] هذه نفخ الصعق ونفخة البعث ، وقبلها نفخة الفزع المذكورة في سورة النمل ، فهي ثلاث نفخات ، وهذا من أحكام اليوم الآخر (إِلَّا مَنْ شاءَ) قيل : من في الجنة ، وقيل : بعضه الملائكة.

__________________

(١) رواه النسائي في الكبرى [٤ / ٤١٤] [٧٧٣٨] وابن ماجة في المقدمة [١ / ٧٢] ح [١٩٩] وأحمد [٤ / ١٨٢] وابن حبان [٢٤١٩] والحاكم في المستدرك [١ / ٥٢٥] ورواه البغوي في شرح السنة [١ / ١٥٣ ـ ١٥٤] ح [٨٨] والطبراني في الكبير [٢٢ / ٣٦٦].

(٢) رواه أبو الشيخ في طبقات المحدثين بأصبهان [٢ / ٣٦٤] [٢١٣] وابن عدي في الكامل [١ / ٣٤٢].

٥٤٦

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٩) [الزمر : ٦٩] إن قيل : ما يمنعها الآن أن تشرق به؟

قيل : دون أنواره الخاصة حجاب العزة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حجابه النور لو كشف عنه ، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١) أو كما قال.

ويوم القيامة يكشف هذا الحجاب ؛ فتشرق الأرض بنور رب الأرباب.

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧١) [الزمر : ٧١] احتج عليهم بالعدل ، واحتجوا بالجبر ، فلم ينفعهم لما قررناه في سورة يس.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٧٥) [الزمر : ٧٥] هذا يمنع من تأويل العرش على الملك على ما زعمه قوم.

__________________

(١) رواه مسلم [١ / ١٦١] ح [١٧٩].

٥٤٧

القول في سورة غافر

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤) [غافر : ٤] فيه ذم الجدال بالباطل ، إذ المراد يجادل في آيات الله ليبطلها ، كما قال بعد : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) [غافر : ٥].

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) [غافر : ٦] أي : وجبت ولزمهم / [١٧٥ أ / م] حكمها مع تعلق العلم والإرادة بكفرهم ، ويلزم الجبر.

واعلم أن الجبر على ضربين : جبر محسوس ، كمن يقبض على أطواق شخص ويجره إلى الدار ، وجبر معقول كمن يزين له دخولها بما يخيله إليه من الأسباب المقتضية لذلك ، أو يجذبه إلى ذلك بجاذب حالي نفساني ، ونحوه.

والضرب الأول من الجبر مجمع على عدمه في أحكام القدر ، وإنما النزاع في الضرب الثاني فالجبرية أثبتوه ، والمعتزلة نفوه.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) [غافر : ٧] احتج بها من فضل مؤمني البشر على الملائكة ؛ لأنهم لم يستغفروا لهم إلا وقد علموا أنهم أشق عملا وأفضل منزلة.

وقال بعضهم : بل الملائكة أتقياء ، فتقواهم حملتهم على الاستغفار للمؤمنين ، جبرا لما وقع منهم في حقهم بقولهم في البدء : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) [البقرة : ٣٠] وهذه كلمة استرسلت على جميع أفراد بني آدم / [٣٦٤ ل] ، فالكافر ونحوه وقعت منه موقعها ، والمؤمن لم تقع منه موقعها ؛ فرأوها غيبة أو قذفا ؛ فاستدركوها بالاستغفار لهم ، وهذا حكم من اغتاب شخصا أو قذفه أو يعرفه ما قال فيه ، ويستوهب منه ، فإن لم يمكنه تعريفه استغفر له حتى يعلم أنه قد

٥٤٨

تدارك أمره معه.

فإن قيل : فما يمنع الملائكة أن تستوهب ذلك من بني آدم؟ قيل : لأنهم من أركان الإيمان ، وهم غيب ، فلو ظهروا ليستوهبوا صار الإيمان بهم وبسائر أركان الإيمان ضروريا ، وبطلت فائدة التكليف ؛ فلذلك عدلوا إلى التدارك بالاستغفار.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (١١) [غافر : ١١] سبق ذكره في أوائل البقرة عند : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨) [البقرة : ٢٨].

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) [غافر : ١٥] يحتج بظاهره مثبتو الجهة حملا له على الرفعة الحسية بدليل اقترانه بذكر العرش ، وتأوله الآخرون على الرفعة المعنوية].

(عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (١٥) [غافر : ١٥] فيها إثبات النبوات على ما تقرر في نظيرها في أول النحل.

(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) [غافر : ١٧] يحتج به المعتزلة ، ويجيب الجمهور بما قبله ، وهو (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) [غافر : ١٧] فلا ظلم عليهم إذ هم مجزيون على كسبهم.

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) [غافر : ١٨] احتج به المعتزلة في إنكار الشفاعة ؛ للمذنبين لعموم لفظ الظالمين.

وأجيب بأن المراد الكفار ؛ بدليل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) [البقرة : ٢٥٤] ، (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [لقمان : ١٣] ، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ

٥٤٩

قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦) [الرعد : ٦] أي كفرهم (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢) [الأنعام : ٨٢] أي : كفر ونحوه ، لا الظالمون من أهل الإيمان ، فإذن / [١٧٥ ب / م] احتجاجهم بعام مخصوص ، أو أريد به الخصوص ، وهو غالب ما يعتمدون عليه في هذه المسألة ، ونحوها من السمعيات.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨) [غافر : ٢٨] احتجت بها الشيعة على جواز التقية ؛ لأن هذا المؤمن استعملها ، وقد أثنى الله ـ عزوجل ـ عليه ومدحه ، وعلى أن أبا طالب كان مؤمنا ، لكنه استعمل التقية مع قريش في نصرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما استعملها هذا المؤمن في نصرة موسى ، وقد سبق المسألتان في موضعهما من آل عمران والقصص.

(وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (٢٨) [غافر : ٢٨] يحتج بها على أن لا واسطة بين الصدق والكذب ؛ لأنه احتج عليهم بالسبر والتقسيم ، ولو كان هناك واسطة لما كان تقسيمه حاصرا ، ولكانت حجته فاسدة ، لكن القرآن ، يقتضي صحتها ، فيكون التقسيم حاصرا ، فلا يكون بين الصدق والكذب واسطة ، وقد سبق تفصيل هذا في أول سورة سبأ ، والمراد هنا بالصدق والكذب مطلق المطابقة ، وإلا مطابقة من غير تقييد ، فمن ثم انتفت الواسطة.

(أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) (٣٧) [غافر : ٣٧] / [٣٦٥ ل] على ما لم يسم فاعله يحتج بها الجبرية.

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) (٣٨) [غافر : ٣٨] دعاهم إلى التوحيد ، والإيمان بالله واليوم الآخر ، وإلى الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، على ما هو ظاهر في كلامه.

٥٥٠

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) [غافر : ٤٥ ـ ٤٦] أي : في البرزخ ، ويستدل به على عذاب القبر ؛ بدليل : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) [غافر : ٤٦] فإنه يقتضي أن عرضهم على النار غدوا وعشيا قبل يوم القيامة ، وليس ذلك في الدنيا فتعين أنه في البرزخ ، وهو ما بينهما.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٥٢) [غافر : ٥٢] يحتج به المعتزلة ، إذ لو كانت أعمالهم مخلوقة لله ـ عزوجل ـ لنفعتهم معذرتهم بأن يقولوا : خلقت فينا ما لا خروج لنا عنه ، فكنا مجبورين فعلام تعذبنا؟ وجوابه ما سبق من أن جبره إياهم جبر معقول يدركه ولا تنكره العقول ، فعقولهم تقضي عليهم باللائمة بحسب كسبهم ولا يعذرهم بجبرهم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (٥٦) [غافر : ٥٦] فيها وفى نظيرتها قبل بقليل دليل على ذم الجدال بغير علم وبغير الحق ، وأن ذلك إما عن جهل أو / [١٧٦ أ / م] عناد واستكبار.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) [غافر : ٥٧] مع قوله بعد : (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٩) [غافر : ٥٩] إشارة إلى دليل البعث والمعاد ، وينتظم هكذا : إعادة الناس أهون من ابتداء خلقهم ، وابتداء خلقهم أهون من خلق السماوات والأرض ، فإعادتهم أهون من خلق السماوات والأرض ، فهو عليها أقدر. أو هكذا : خلق السماوات أكبر من خلقكم وخلقكم أكبر من إعادتكم ، فخلق السماوات أكبر من إعادتكم ، فالقادر عليه يكون عليها أقدر ، وقد سبق هذا في آخر سورة يس وغيرها.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) [غافر : ٦٠] فيه كلام سبق في (وَإِذا سَأَلَكَ

٥٥١

عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) [البقرة : ١٨٦] ، (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (٦٠) [غافر : ٦٠] ظاهر في تسمية الدعاء عبادة ، وأن الاستكبار عنه حرام ، إذ فيه إظهار الاستغناء عن الله ـ عزوجل ـ وفى الحديث : «الدعاء مخ العبادة» (١) وذلك لأنه إنما يكون عن محض التوحيد.

(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٦٢) [غافر : ٦٢] يحتج به الجمهور كما سبق في آخر الزمر وغيره.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦٧) [غافر : ٦٧] إلى : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٦٨) [غافر : ٦٨] احتجاج على البعث والإعادة بقياس الابتداء كما في أول الحج.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٧٠) [غافر : ٦٩ ـ ٧٠] الآيات منطبقة على الفلاسفة ، صادقة عليهم ، إما بخصوصهم / [٣٦٦ ل] ، أو في عموم مدلولها ؛ لأن الفلاسفة بنوا أمرهم على أن البرهان العقلي لا يعارضه شيء ، ثم تسامحوا حتى عدوا ما ليس ببرهان برهانا ، إما وهما منهم أو هوى ، أو عصبية ، أو غير ذلك ، فإذا قرروا شبهة هي عندهم برهان ؛ جادلوا بها الكتب المنزلة على الأنبياء ، إما بالتكذيب المحض ، أو بالتأويل الباطل ، فإذا سمعوا الكتب تثبت الصفات لله ، تأولوها على أن مقاصدها ثابتة له لذاته ؛ لئلا يلزم تعدد القدماء ، ويتأولون الملائكة على قوى الأفلاك ونحوها ، والرسل على قوم حكماء ، ذوي سياسة ونفوس قوية ، تنفعل لها العنصريات يضعون قوانين حافظة لنظام

__________________

(١) رواه الترمذي [٥ / ٤٠٦] ح [٣٣٧١] وأبو داود [٢ / ٧٦] ح [١٤٧٩] وكذا الترمذي [٥ / ٢١١] ح [٢٩٦٩] ورواه ابن ماجة [٢ / ١٢٥٨] ح [٣٨٢٨] وأحمد [٤ / ٢٦٧ ، ٢٧١] وابن حبان [٣ / ١٧٢] والحاكم [١ / ٦٦٧].

٥٥٢

العالم ، وأنها دائمة أبدا بدوام العالم أبدا لا تنقطع ، وكلما دثرت ملة ظهرت أخرى.

[وإذ سمعوا من يقول : إن محمدا خاتم النبيين لا نبي بعده ، سخروا من عقله ، كما حكي عن بعضهم أنه رأى الناس يركضون عند إقامة الجمعة ، ليدركوها ، فوقف متعجبا يقول : سبحان الله ، ما فعل هذا العربي بالناس؟ يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسبة إلى العرب ـ إنما يستخف عقول الناس حتى أجابوه إلى مثل هذه الخفة / [١٧٦ ب / م] : زعم. ويتأولون المعاد على الروحاني دون الجسماني ، ويثبتون قدم العالم ، وأنه أزلي أبدي ، وأن الله ـ عزوجل ـ إنما يفعل بالطبع والإيجاب ، لا بالقدرة والاختيار ، وغير ذلك من أصولهم ، كقولهم :] إن النعيم والعذاب فيما بعد الموت عقلي لا حسي ، كل ذلك على خلاف ما جاءت به الرسل ، وأنزلت به الكتب.

وإذا تأدبوا مع الشرائع تأولوا نصوصها على ما يوافق أصولهم ، ثم لا يبالون كان التأويل قريبا من الظاهر ، أو بعيدا جدا شبيها بالتلاعب ، كقول بعضهم في عصا موسى : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٤٥) [الشعراء : ٤٥] ـ : إنه كناية عن حجته غلبت حجة فرعون وقومه ، وفى انفجار اثنتي عشرة عينا من الحجر ، إنه إشارة إلى منافذ الإنسان كعينيه وأذنيه ومنخريه وفمه وقبله ودبره وسرته ، وليت شعري هذه عشر فأين الآخران؟!! وأشباه ذلك من تلاعبهم ، فالآية بالضرورة صادقة عليهم مع نظرائهم من المشركين.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) [غافر : ٧٨] لما كان سنة ثمان وسبعمائة ، رأيت المسيح عيسى ابن مريم في النوم : رجلا أشقر إلى الحمرة ، ما هو رشيق القامة ، عليه ثوب قطن غليظ دسم ، وهو مفرق الثنايا ، في يده عصا لطيفة كالقضيب ، أشبه الناس به الحسين بن علا رجل من أهل العلث من الصالحين ، ورأيته صلى ركعتين إلى قبلة المسلمين ؛ فلما فرغ ، وكان مني على خطوات يسيرة ؛ فجاء حتى وقف عليّ ، وقال لي : كم أرسل الله رسولا؟ ففكرت في أمري ، وقلت : هذا رسول ، وهو عالم ، فإن أجبته بغير علم لم تكن مصلحة ، فتلوت عليه هذه الآية ، وقلت : إن كتابنا لم يذكر عددهم ، ولكن قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ

٥٥٣

اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) [غافر : ٧٨] فرأيته ضحك حتى رأيت أسنانه ، فترددت في النوم في ضحكه : هل هو استقصار لعلمي أو لأني تحريت الصدق ، ولم أعد الحق وهذا هو أظهر الاحتمالين ، ثم لما استيقظت نظرت / [٣٦٧ ل] في تأويل هذه الرؤيا ، فذكر فيها بعض المعبرين أن من رأى المسيح في النوم ، فقدر له الاشتغال بالطب في ذلك العام برز فيه ، فشرعت من حينئذ في قراءة القانون في الطب ، فقرأت فيه يومين أو ثلاثة ، ثم لم يقدر لي الاستمرار.

(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) (٧٨) [غافر : ٧٨] سبق نظيرها والكلام فيه.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٨٣) [غافر : ٨٣] إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن / [١٧٧ أ / م] يعارض علم الرسل بغيره ، فإنه حينئذ كمن يعارض طب بقراط وجالينوس بطب العجائز ، بل أسخف عقلا وأضعف رأيا ؛ إذ الأنبياء يستندون في علمهم إلى كشف عياني مستند إلى قدرة وعلم رباني ، وهذا المعارض له بعلمه مستند إلى عقله وفهمه ، وأين عقل الإنسان الضعيف من علم الحكيم اللطيف.

* * *

٥٥٤

القول في سورة فصلت

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٧) [فصلت : ٦ ، ٧] يحتج بها على أن الكفار مكلفون بفروع الدين ، لأنه ذمهم وتوعدهم على منع الزكاة وهي فرع ، كما توعدهم على الشرك وترك الإيمان ، وهو أصل فدل على أنهم مكلفون بهما ، إذ ما لا مدخل له في العلة لا يعلل به ، وما ليس بواجب لا يتوعد على تركه.

احتج الخصم بأنهم لو كلفوا بالفروع لصحت منهم حال الكفر ، أو لوجب عليهم قضاؤها بعد الإسلام ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ، بيان الملازمة أنهم لو كلفوا بها لم يكن للتكليف بها بد من فائدة ، ولا فائدة إلا صحة أدائها أو وجوب قضائها ، بيان انتفاء اللازم الإجماع على أن الأداء لا يصح منهم ، والقضاء لا يجب عليهم.

وجوابه : أنا لا نسلم انحصار فائدة التكليف بها فيما ذكرتم. بل له فوائد المشهور منها تضعيف العذاب عليهم في الآخرة لأجلها مثل : إن استحق أن يجلد على الكفر سوطين من نار ؛ فيجلد عليه وعلى ترك الزكاة ثلاثة أسواط ونحو هذا مثلا ، [وبواقي فوائده] ذكرها القرافي في شرحه نحو ثنتي عشرة فائدة ، فلتطلب من هناك. وأما عدم صحتها منهم ، حال الكفر فلأنها عبادات لا بد فيها من النية ، ولا نية لكافر ، فانتفاء صحتها منهم لانتفاء شرط الصحة ، لا لعدم وجوبها كانتفاء صحة الصلاة من المحدث ، وأما عدم وجوب قضائها ، فإما لأن القضاء بأمر جديد ، ولم يرد في حقهم ، أو لأن الإسلام يجب ما قبله ، أو لأن الكافر كالميت فالإسلام كابتداء / [٣٦٨ ل] وجوده وولادته ولا قضاء عليه لما قبل ولادته ، أو لئلا ينفر الكفار عن الإسلام لكثرة ما يلزمهم قضاؤه في أزمنة كفرهم المتطاولة ، أو لغير ذلك من حكمة الشرع ، وفى المسألة أقوال :

ثالثها : أن الكفار مكلفون بالنواهي دون الأمر ، لصحة الترك منهم لعدم توقفه على النية ، دون الفعل لتوقفه عليها وفيه كلام. والطرفان قد وجهناهما.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٩) [فصلت : ٩] الآيات اقتضت أنه خلق السماوات / [١٧٧ ب / م] والأرض في ثمانية أيام ؛ هذين اليومين والأربعة بعدهما ، وهو مخالف لباقي النصوص على أنه خلقها في ستة أيام.

٥٥٥

والجواب : أن اليومين الأولين داخلان في الأربعة بعدهما ، وذلك مع اليومين الآخرين ستة أيام ، كأنه قال : خلق الأرض في يومين ، وقدّر فيها أقواتها في تمام أربعة أيام ، أو في أربعة أيام مع اليومين السابقين. وبعضهم يسمي هذا فذلكة الحساب ، مشتق من قولهم مثلا : أضف اثنين إلى اثنين فذلك أربعة ، وإنما قلنا ذلك لأن هذه الآية مجملة لاحتمالها إرادة ثمانية أيام ، واحتمالها إرادة ستة ، وباقي النصوص مبينة ناصة مجمعة على الستة.

والقاعدة : حمل المجمل على المبين.

ثم تضمنت هذه الآيات خلق الأرض قبل السماء ، وفى النازعات ذكر خلق السماء ، ثم قال : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) [النازعات : ٣٠].

وجوابه : أنه خلق الأرض غير مدحوة ، ثم بنى السماء ثم دحا الأرض ، ودحوها غير خلقها إنما كانت كحصير ملفوف ، ثم فرش ، (وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) (٤٨) [الذاريات : ٤٨].

وقد اختلف الناس في أيهما خلقت قبل الأخرى على قولين ، أظنهما سبقا.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) [فصلت : ١١] ظاهره أنهما نطقا حقيقة بحياة خلقت فيهما ، وحمله قوم على مجاز سرعة الإجابة والانقياد للقدرة والإرادة ، فكأنهما لذلك مصرحتان بالطاعة.

(إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) (١٤) [فصلت : ١٤] هذه شبهة الكفار على الرسل ، وهي لزوم الترجيح بلا مرجح ، وقد سبق وجوابه.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧) [فصلت : ١٧] يحتج به المعتزلة في أن الله ـ عزوجل ـ هدى خلقه ـ ولم يضلهم ، وإنما هو أضلوا أنفسهم ، وجوابه ما سبق من أن الهدى الذي حصل لثمود هو هدى الإرشاد والدلالة ، لا هدى العصمة والرعاية ، وإلا لاستحال تخلف أثره عن مؤثره ، ومخالفة مخبره لخبره / [٣٦٩ ل] ، وأما استحبابهم العمى على الهدى ، فهو بحسب كسبهم واختيارهم الذي هو معلول مشيئة الله ـ عزوجل ـ واختياره ، ومعلول المعلول معلول ، فكسبهم واختيارهم معلول للإرادة الأزلية كما تقرر في قوله ـ عزوجل ـ :

٥٥٦

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٣٠) [الإنسان : ٣٠].

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) [فصلت : ٢١] قد سبق في آخر يس الإشارة إلى كيفية إنطاق الجوارح ، وقد أحاله هاهنا على مجرد القدرة والحكمة.

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) [فصلت : ٢١] عام أريد به الخاص ، وهو الأعيان بخلاف الأعراض ، فإنها لا يتصور منها النطق / [١٧٨ أ / م] فلعله أشار إلى كيفية إنطاقها بأنه خلق النطق في الناطق ، وذلك يستوي فيه جميع الأعيان من جارحة وغيرها ، ونظمه هكذا : الجارحة عين ، وكل عين يمكن أن يخلق فيها النطق فتنطق ، فالجارحة يمكن أن يخلق فيها النطق فتنطق.

(قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) [فصلت : ٢١] إن كان هذا من قول الجوارح يوم القيامة ـ عطفا على : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢١) [فصلت : ٢١] فهو توجيه ثان لإنطاقها ، وتقريره : أن إنطاق الجوارح أيسر من خلقها أول مرة ، فالقدرة عليه أولى ، وإن كان ابتداء كلام من الله ـ عزوجل ـ فهو مع ما بعده دليل على الإعادة بقياس الابتداء ، أي : أنه يبعثكم كما خلقكم أول مرة ، ثم ترجعون إليه ، [وأما على رأي الاتحادية فهو الناطق منها ؛ لأنه سار بذاته فيها.]

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٢٥) [فصلت : ٢٥] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ يضل خلقه بتقدير الأسباب ، فإن تقييض القرناء ، وهم الشياطين ، للتزيين كان مع خلق فيهم من الأكساب الظاهرة ، وفى قلوبهم من الدواعي والصوارف ، كان علة تامة لضلالهم ، وكون القول حق عليهم ، وكل ذلك منه لا شيء لهم فيه إلا حركات اكتسابية مقارنة لاختيارات جبرية.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ

٥٥٧

أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) (٢٩) [فصلت : ٢٩] أي تسببا في ضلالنا بالإغواء والوسوسة والمشورة والقدوة.

(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) (٣١) [فصلت : ٣١] ، أما في الآخرة فبالإكرام والسّلام والخدمة ونحوها ، وأما في الدنيا فبلمة الملك المشار إليها في الحديث النبوي : «إن لكل إنسان لمة من الملك ولمة من الشيطان والمعصوم من عصم الله» (١) أو كما قال ، وهذا يدل على أن استقامة من استقام في الدنيا بإعانة من الله بتولي الملائكة له ، ينفثون في روعه بالخير وتقبيح الشر.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٣) [فصلت : ٣٣] هذا يدخل فيه الملائكة يدعون الأنبياء إلى الله ـ عزوجل ـ بما يوحون إليهم ، والأنبياء يدعون الأمم إلى الله بما يبلغونهم ، / [٣٧٠ ل] والعلماء والأولياء يدعون إلى الله هؤلاء بأقوالهم وهؤلاء بأحوالهم ، فيكشفون عن القلوب الغيابات ويبلغون في البيان أقصى الغايات. والدعاء إلى الله ـ عزوجل ـ هو اجتذاب القلوب إلى معرفته وطاعته ، بتنبيهها على آياته وعظيم ربوبيته ، وإنما كان هذا القول أحسن الأقوال / [١٧٨ ب / م] لأنه وسيلة إلى المعرفة التي هي أحسن الأحوال.

(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) (٣٨) [فصلت : ٣٨] إشارة إلى الملائكة ، وهو من باب :

(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) [النساء : ١٧٢] أي الملائكة مع شرفهم لا يستكبرون عن عبادته ، فأنتم أولى ألا تستكبروا.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٩) [فصلت : ٣٩] استدلال على البعث بإحياء الأرض كما سبق في مواضع ، وينتظم القياس اقترانيا واستثنائيا.

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك [٣ / ٥٤٣] ح [٦٠٢١] وابن المبارك في الزهد [١ / ٥٠٣] ح [١٤٣٥] موقوفا على سيدنا عبد الله بن مسعود ، وانظر / تفسير القرطبي [١٤ / ١١٧].

٥٥٨

أما الاقتراني فهكذا : إحياء الموتى كإحياء الأرض ، وإحياء الأرض ممكن مقدور ، فإحياء الموتى ممكن مقدور. أما الأولى فلأن الأرض تكون يابسة قد غلب عليها اليبس والغبار ، وهي هامدة خاشعة ، أي : متواطئة ، فينزل عليها ماء المطر ، فيتخلل أعماقها فتربو وترتفع ، وتنبت الحب الذي فيها ، فإذا هي تهتز خضراء ، وكذلك الموتى غلب عليهم اليبس الذي هو طبيعة الأرض ؛ فيجمعها الله ـ عزوجل ـ ثم يمطر عليها ماء قدرته ، إما حسا كما قيل : إن السماء تمطر أربعين يوما ماء كمني الرجال ، أو عقلا كما يشاء الله ـ عزوجل ـ فيعود إلى العظام ما كان لها حال الحياة من رطوبة وغيرها ، ثم تعاد إليها الأرواح ، (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨) [الزمر : ٦٨] وأما الثانية فمشاهدة ؛ إذ الأرض تكون مواتا فتحيا.

وأما الاستثنائي فهكذا : إن كان إحياء الأرض بعد موتها ممكنا ، فإحياء الموتى ممكن ، والمقدم حق ؛ فالتالي مثله ، والتقرير ما سبق إنه على كل شيء قدير ، إشارة إلى الجامع في القياس ، وهو المقدورية وتمام القدرة ، أي : أن المصحح لإحياء الأرض المقدورية والإمكان ، وهو وإحياء الموتى في ذلك سيان.

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) [فصلت : ٤٢] أي : لم يتضمن كذبا في إخباره بما كان ولا إخباره بما سيكون ، والمراد لا يلحقه الباطل ولا الإبطال بجهة من الجهات ، لا بمناقضة ، ولا معارضة ، ولا تنكيت ، ولا تبكيت ، ولا شيء من جنس ذلك.

وربما احتج بهذا من منع النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني ؛ لأن النسخ إبطال للنص ، وهو باطل منفي عن الكتاب بالنص ، ويجاب بمنع أن النسخ إبطال / [٣٧١ ل] ، ثم بمنع أن هذا الإبطال باطل ، بل هو حق من حق (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) [الرعد : ٣٩] ، وقد سبق القول في مسألة النسخ.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (٤٤) [فصلت : ٤٤] يحتج بها على أن لا

٥٥٩

معرب في القرآن ، لاقتضائها نفي الأعجمية عنه ، وإثبات العربية له. / [١٧٩ أ / م] ولا حجة فيها على ذلك ؛ لجواز أن يكون فيه ألفاظ يسيرة من المعرب كالمشكاة والسجيل ونحوها ، لا يوجب له لقلتها العجمية ، ولا تسلبه ، وبالجملة فالاحتجاج بعمومها ، وباب التخصيص مفتوح وطريقه مهيع فسيح.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦) [فصلت : ٤٦] ونظيرتها في سورة الروم : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (٤٤) [الروم : ٤٤] ، يحتج بهما المعتزلة ، وإلا لكان الوعد والوعيد فيهما على فعله وما هو مخلوق له ، وإنه محال.

وجوابه ما عرف من تعلق الوعيد بالكسب تحقيقا عند الكسبية ، أو تقديرا عند الجبرية.

(وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤٦) [فصلت : ٤٦] وقد عرفت شبهتهم منها ، وجوابها.

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (٤٧) [فصلت : ٤٧] الآية. أي لا يعلم هذه الأشياء سواه ، وهي من مفاتح الغيب.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) (٤٨) [فصلت : ٤٨] أي : علموا وتيقنوا ، وقد سبقت نظائره.

(وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٠) [فصلت : ٥٠] يحتج بها القدرية لنسبة كفرهم ، وعملهم إليهم ، وتعذيبهم عليه. وجوابه باعتبار الكسب.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [فصلت : ٥٣] ، أي في الآفاق بفتحها ، وفي أنفسهم بهلاكهم حتى يتبين لهم أن الله ودينه ورسوله هو الحق.

ويحتمل أن معناه : سنريهم آياتنا في آفاق السماوات والأرض وأقطارها من بديع

٥٦٠