الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

والواقع قاطع في ذلك ؛ إذ قد أدرك بالنظر علوم كثيرة.

الثالثة : أن المخلوقات بأسرها من حيث هي حكمة ومن حيث هي كل فرد فرد تدل على وجود الصانع وقدمه ؛ لأن / [٩٥ ب / م] كل فرد من أفراد المخلوقات هو إما جوهر أو عرض على رأي المتكلمين ، وهو إما هيولى أو صورة أو جسم أو عقل أو نفس على رأي الفلاسفة ، وعلى كل تقدير فذلك الفرد موجود فله موجد وليس موجده نفسه ، وإلا لزم الدور ، فهو غيره وهو إما معدوم وهو محال إذ المعدوم لا يؤثر ، أو موجود ، وهو إما حادث ؛ فيلزم الدور أو التسلسل ، أو قديم وهو المطلوب.

وهذا مستفاد من قوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٨٥] أي : كل شيء من المخلوقات يدل على صانعه هذه الدلالة ، والنظر إما بالبصر وهو الرؤية أو بالقلب وهو العطف والرحمة ، أو البصيرة وهو المراد هاهنا ، وهو ترتيب أكثر من تصديق معلوم ترتيبا خاصا لاستعلام مجهول.

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١٨٧) [الأعراف : ١٨٧] ، يحتج بها الجمهور على رأيهم المشهور : وهو أن الله ـ عزوجل ـ خالق الضلال.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) [الأعراف : ١٨٧] هو موافق لقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) [الأنعام : ٥٩] (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤] (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥) [طه : ١٥] ثم المشهور عن بعض المسلمين أنها تكون على انقضاء ألف سنة أو قريبا منها من حين مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد ظهر كثير من أشراطها ، وزعم بعض المؤرخين من المنجمين : / [٢٠٤ / ل] أن أيام العالم كلها سبعة أيام

٣٠١

عدد أيام الأسبوع ، غير أن كل يوم منها اثنان وسبعون ألف سنة ، وأن المنقضي منها إلى وقت الطوفان المائي النوحي ستة أيام وقد بقي منها يوم واحد قد انقضى منه إلى عامنا هذا وهو عام «ست عشرة وسبعمائة» للهجرة ما بينه وبين الطوفان وهو نحو ثلاثة آلاف سنة تقريبا ؛ فالباقي على قوله من أيام العالم نحو تسعة وستين ألف سنة ، وزعم هذا القائل أن هذا أمر مبرهن ، وذكر برهانه عليه في تاريخه ، غير أن هذا بعيد لوجوه يستغنى عن ذكرها بأن هذا القول دهرية صغرى ، فالأشبه الأول إن شاء الله ، عزوجل.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) [الأعراف : ١٨٨] يعني أن علم الغيب من خواص الإله لا من شأن الرسل ؛ إذ إنما شأنهم التبليغ ، كما قال : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨].

ورأيت بعض من ينسب إلى فضيلة ما يستشكل هذه الملازمة المذكورة [في الآية] ، وهي الاستكثار من الخير على تقدير علم الغيب ، وما ظننت أحدا يستشكل ذلك لوضوحه ، فإن من علم الغيب / [٩٦ أ / م] علم أسباب الخير فتلقاها وأسباب الشر (فتحاماها) ، ألا ترى أن من مر بأرض فعلم أن بها كنزا سعى في إخراجه لينتفع به ، ولو علم أن فيها نارا محرقة أو بئرا مهلكا أو ثعبانا ناهشا حاد عنها ، فهذا أمر واضح لا يخفى عن ذي لب.

(فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) [الأعراف : ١٩٠] [زعم بعضهم أن المراد آدم وحواء ؛ كانا لا يعيش لهما ولد فقال لهما إبليس : سموه عبد الحارث وهو اسمه ؛ فإنه يعيش. فسمياه ، فعاش فنقم الله ـ عزوجل ـ عليهما ذلك ، ويحتج به من يجيز الكبائر على الأنبياء ؛ لأن هذا كبيرة ، وقد صدر من آدم وهو نبي ، ولا برهان على ثبوت هذا عن آدم سمعي ولا نظري ، غير أن ظاهر الآية ونظمها يقتضيه ، فالله ـ عزوجل ـ أعلم].

وحمله بعض المفسرين على إشراك المشركين عموما بدليل أن في سياقه متصلا به : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) (١٩١) [الأعراف : ١٩٠ ـ ١٩١] وهو جمع يطابق كثرة المشركين لا تثنية آدم وحواء.

٣٠٢

(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (١٩٥) [الأعراف : ١٩٥] احتج بها بعض المشبهة على إثبات الرجل واليد والعين والأذن لله ـ عزوجل ـ محتجا بأن الآية دلت على أن عدم هذه الجوارح صفة نقص للأصنام تمنعها من استحقاق الإلهية فإثباتها يجب أن يكون صفة كمال لله ـ عزوجل ـ مصححة لاستحقاق الإلهية عملا بموجب قيام العكس ، ويجاب عنه بأن ليس معنى الآية ما فهمتم إنما معناه : أن الإنسان مع ثبوت هذه الجوارح قاصر عن رتبة الإلهية ، والأصنام لفقد هذه الجوارح وغيرها / [٢٠٥ / ل] قاصرة عن رتبة الإنسان ، والقاصر عن الشيء أولى بالقصور عن ذلك الشيء ، أو نقول : الصنم قاصر عن رتبة الإنسان ، والإنسان قاصر عن الإلهية ، فالصنم قاصر عن الإلهية. وهذا أبلغ في الاستدلال ، وإذا أمكن حمل الآية على هذا الوجه التنزيهي لم يجز حملها على تفسيركم التشبيهي.

(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨] يحتج به المعتزلة على أن قوله ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] لا يقتضي رؤية الله ـ عزوجل ـ وإبصاره ؛ لأن الآية المذكورة تضمنت إثبات النظر المقرون بإلى مع نفي الرؤية والإبصار ، فدل على أن الأول لا يلزمه الثاني.

وجوابه : أن المشار إليه في الآية هم الأصنام ، كأنهم ينظرون إلى الإنسان إذا قابلهم ، لكونهم مصنوعين على صورة الإنسان ، و [هم] لا يبصرون إبصارا حقيقيا لكونهم جمادا ، بخلاف الحي إذا نظر إلى شيء فإن إبصار ذلك الشيء يحل لا محالة عند انتفاء موانع الرؤية.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩) [الأعراف : ١٩٩] وعيدي محكم أو منسوخ بآية السيف.

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٠٠) [الأعراف : ٢٠٠] فيه إثبات الشيطان ونزغه وتعريضه بالإنسان في يقظته ومنامه ، وإن الإنسان إذا وجد بعض ذلك يتعوذ بالله ـ عزوجل ـ من الشيطان وبذكر / [٩٦ ب / م] الله عزوجل ـ يذهب غيّه الشيطاني ويبصر رشده الرحماني.

٣٠٣

(إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦) [الأعراف : ٢٠٦] إشارة إلى الملائكة أو إلى الملأ الأعلى منهم.

واحتج به من رأى الملائكة أفضل من البشر ؛ لأنهم وصفوا بعندية مضافة إلى الله ـ عزوجل ـ دون البشر ، فكانوا أشرف وأفضل.

[ويحتج به من يثبت الجهة حملا للعندية على المكانية ، وحملها خصمه على العندية المكانية القربية التشريفية ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب].

* * *

٣٠٤

القول في سورة الأنفال

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) [الأنفال : ١] كانت كذلك يوم بدر ، ثم نسخت بقوله ـ عزوجل ـ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) [الأنفال : ٤١] على ذلك التفصيل.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٢) [الأنفال : ٢] هذا حصر للمؤمن الكامل لا لمطلق المؤمن ؛ بدليل أن المؤمن يصدق بدون بعض هذه الصفات بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» (١) لا يقال : إن من كان بهذه الصفة استلزم الصفات التي في الآية لأنا لا نمنع من ذلك ، ولا دليل عليه.

(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) (٦) [٢٠٦ / ل] [الأنفال : ٦] إشارة إلى كراهة ذلك من فاعله فيقتضي تحريم الجدال في الحق بعد بيانه ، وذم من فعله ، وأن الجدال كذلك هو المذموم ، لا مطلق الجدال كما مر.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧) [الأنفال : ١٧] يحتج به الفريقان ، أما المعتزلة فبقوله ـ عزوجل ـ : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] أضاف الرمي إليه ، وأما الجمهور فبقوله ـ عزوجل ـ : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] نفى الرمي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأثبته لنفسه ، وقد حقق ذلك بعض المفسرين فقال : الرمي بالتراب أو الحجر اشتمل على قبض وإرسال ، وهما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه الترمذي في كتاب الفقه ح [٢١٦٦] [٦ / ٣٣٣] والحاكم [١ / ١١٤] والطيالسي ص ٧ والحميدي [١ / ١٩ ، ٢٠] [٣٢] وأخرجه أحمد [١ / ٢٦].

٣٠٥

وعلى تبليغ وإصابة ، وهما لله ـ عزوجل ـ ف (وَما رَمَيْتَ) باعتبار هذين (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) باعتبار الأولين ، وهما عند الجمهور كسب له لا خلق.

(وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) [الأنفال : ٢٣] هذا ظاهره مشكل لأنه على صورة قياس مركب من شرطيتين ؛ ينتج من الشكل الأول : لو علم الله فيهم خيرا لأعرضوا عن الحق ، وذلك يستلزم خلاف مقتضى العلم الأزلي ، وأنه محال ، وأجيب عنه من وجهين : أحدهما : أن معناه : لو أسمعهم على تقدير أن لا يعلم فيهم خيرا لأعرضوا ، وتقريره : أن الجملة المذكورة متضمنة قياسين استثنائيين حذف من كل واحد منهما مقدمته الاستثنائية لظهورها ، أحدهما : لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، لكنه لم يعلم فيهم خيرا فلم يسمعهم.

والثاني : لو أسمعهم لتولوا ، أي : على تقدير ألا يعلم فيهم خيرا كما دل عليه الاستثناء قبله ، لو أسمعهم لتولوا لكنه لم يسمعهم ، يعني الدواب البكم الصم ، فلم يتصور منهم التولي والإعراض. هذا تقريره على رأي المفسرين.

الثالث : على رأي المنطقيين : أن شرط إنتاج / [٩٧ أ / م] الشكل الأول كلية كبراه ، والكبرى هاهنا وهي (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ) [الأنفال : ٢٣] ليست كلية إذ ليست مسورة بكلما ونحوها على ما عرف في موضعه ، فلذلك لم تنتج الأشكال المذكورة.

وفي هذه الآية إشارة إلى ما قررناه في سر القدر في مقدمة هذا الكتاب ، وهو أن الله ـ عزوجل ـ لو فرض أعمال العصاة إليهم لما كانت إلا معصية بحسب علمه فيهم ، فرجح جانب الجبر ، وأجراهم على مقتضى العلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٤) [الأنفال : ٢٤] أي : يخلق الدواعي والصوارف في القلب يحول بين المرء وإرادته ، فربما أراد الإنسان بطبعه ، أو عقله شيئا فيخلق فيه الصارف عنه والداعي إلى خلافه.

ومن هاهنا أخذ بعض العارفين حين سئل : بما ذا عرفت ربك؟ فقال : بنقض العزائم ، أي إنه يعزم على شيء فينقضه الله ـ عزوجل ـ عليه بما يخلقه في قلبه من الصارف عنه ، وهذا من أدلة الجمهور على المعتزلة ؛ لأن فعل الإنسان إنما يتم بإرادته ، وإذا حال الله ـ عزوجل ـ بينه وبين إرادته امتنع مقتضاها ووجب مقتضى الصارف ، مثاله لو أراد أن يصلي

٣٠٦

فصرفه الله ـ عزوجل ـ عن الصلاة إلى الأكل لامتنعت منه الصلاة حينئذ ، ووجب الأكل ، والممتنع لا يوجد سواء امتنع لذاته أو لغيره.

(وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال : ٢٤] فيه إثبات المعاد.

(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢٥) [الأنفال : ٢٥] يحتمل أن المراد : اتقوا معصية لا يختص عقابها بمباشريها ، بل يتعدى إلى من ترك إنكارها ، فيكون فيها حجة على وجوب إنكار المنكر ، وأن تارك الإنكار مع القدرة في حكم فاعل المنكر في لحوق الوعيد ، كما أن الردء كالمباشر في قطاع الطريق ، وسامع الغيبة أحد المغتابين ، وراوي الكذب عالما به أحد الكذابين ، ونحو ذلك.

ويدل على هذا التأويل ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إذا ظهر فيكم المنكر فلم تنكروه أوشك أن يعمكم الله بعقاب من عنده» (١).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢٩) [الأنفال : ٢٩] أي : هداية تفرقون بها بين الحق والباطل ، وهذه أدل على هذا المطلوب من قوله ـ عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها

__________________

(١) رواه أبو عمرو الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن [٣ / ٦٩٥] وفي المسند [٦ / ٣٠٤] ومجمع الزوائد [٧ / ٢٦٨].

٣٠٧

وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٨٢) [البقرة : ٢٨٢] لاحتمال أن هذه اتفاقية اقترانية فقط لا لزوم فيها بين التقوى والتعليم بخلاف / [٢٠٨ / ل] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] فإنها شرطية لزومية.

وتوجيه ذلك : أن المتقي ولي الله ، وولي الله ـ عزوجل ـ مهدى إلى الحق ، فالمتقي مهدي إلى الحق ، أما الأولى فلقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢] وصف الأولياء بالتقوى فالولي متق ، والمتقى ولي ، لأنهما متساويان ، فينعكس أحدهما على الآخر لخصوص المادة ، وإن كان / [٩٧ ب / م] الموجب الكلي لا ينعكس كليا.

وأما الثانية فلقوله عزوجل : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) (٢) [الطلاق : ٢] أي ، من المضايق الحسية والعقلية ؛ لأن اللفظ يعمهما ، واشتباه الحق بالباطل من المضايق العقلية ، فالمتقي يجعل له منها مخرجا بأن ينصب له علم فرقان بين الحق والباطل. وأيضا : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١) [التغابن : ١١].

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) [الأنفال : ٤١] عام خص بسلب المقتول مبارزة تغريرا فإنه لقاتله غير مخموس وما كان أن من جنس هذه الصورة.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢) [الأنفال : ٤٢] هذا من أدل الأشياء على نفوذ تصرف الله ـ عزوجل في خلقه بما يخلقه فيهم الدواعي

٣٠٨

والصوارف. وذلك لأن الله ـ عزوجل ـ لما أراد بموجب علمه السابق هلاك الكفار ببدر ونصرة دينه ورسوله والمؤمنين ـ حرك قريشا على إرسال عيرهم إلى الشام مع أبي سفيان على عادتهم في التجارة ، ثم حرك لأخذها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من المدينة فأرصدوا لها على ماء بدر ، فعلمت قريش ، فتحركت لحفظ مالها ، فجاءوا حتى التقى الجمعان بعدوتي بدر المذكورتين هاهنا.

كل ذلك بإرادة الله ـ عزوجل ـ وما خلقه في قلوب الفريقين من الدواعي والصوارف ، ولو لا ذلك لكانوا لو تواعدوا إلى هناك لاختلفوا في الميعاد ؛ ليعلم أن لا مراد لله إلا كائن ، ولا كائن إلا مراد.

فإذا شغب هاهنا ذو اعتزال حكم على / [٢٠٩ / ل] عقله عنه بالانعزال.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤٣) [الأنفال : ٤٣] قيل : المنام هاهنا محل النوم وهو العين والرؤية ، لذلك كانت يقظة ، وقيل : المنام على ظاهره في أنه خلاف اليقظة فكان ذلك رؤيا لا رؤية. لكن رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ووحي ، فعلى كلا التقديرين يستدل بالآية على أن لله ـ عزوجل ـ أن يظهر الأشياء على خلاف حقائقها في نفس الأمر لحكمة ، كما أظهر هاهنا قلة الكفار ، وهم في نفس الأمر كثيرون لئلا يفشل ويتنازع المؤمنون. ثم لا يعد ذلك منه سبحانه وتعالى خطأ ولا كذبا ولا جهلا ، ولا يعد بالكلية نقصا ، بل يعد حكمة وحكما ، (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٨٩) [الأعراف : ٨٩].

وهكذا الكلام في قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤) [الأنفال : ٤٤] وقد سبق في آل عمران بيان كيفية تكثير القليل ، فأما تقليل الكثير هاهنا فبأن يعدم الله ـ عزوجل ـ بعضهم ثم يوجده ، وينزل ملائكة تحجب بعضهم عن عين الناظر أو يجمع شعاع البصر أو يضعفه ، فلا يتصل إلا ببعضهم ، أو غير ذلك من أمر الله ـ

٣٠٩

عزوجل ـ والجميع ممكن مقدور.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٤٨) [الأنفال : ٤٨] ، جاء في التفسير : أن إبليس تراءى لكفار قريش / [٩٨ أ / م] على صورة سراقة بن مالك بن جعشم ؛ فغرهم بغروره حتى شركوه في ثبوره ، ففي ذلك دليل على أن الشياطين تظهر لبعض الإنس ، وتتصور بما شاءت من الصور ، وشواهده كثيرة ، والكل ممكن مقدور.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣) [الأنفال : ٦٣] ، اعلم أن الحق سبحانه وتعالى لما كان هو الواحد بالحقيقة والوحدة من خواصه ـ كانت قوته وبطشه في وحدته فلا يحتاج إلى تكثير من قلة ، ولا تقوية من ضعف ، والخلق لما كان التعدد والكثرة والتركيب من لوازمهم ـ كانت قوتهم في اجتماعهم وكثرتهم ، وشرط اجتماعهم اتفاقهم ، واتفاقهم إنما يكون بميل القلوب بعضها إلى بعض ، وقد سبق الله ـ عزوجل ـ هو المتصرف في القلوب بخلق الدواعي والصوارف ، وأنه يحول بين المرء وقلبه ، فكان أمر الله تأليف القلوب وتفريقها إليه ـ عزوجل ـ لا إلى غيره ، ثم خلق دواعي الميل والألفة قد يكون مجردا عن سبب / [٢١٠ / ل] ، وقد يكون مبنيا على سبب ، إما (صالح كالإسلام) وظهور المعجزات في تأليف قلوب الصحابة ونحوهم من أتباع الرسل ، أو فاسد كأكل الحرام ونحوه في تأليف قطاع الطريق ونحوهم من المفسدين.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) [الأنفال : ٦٤] قيل : معناه يكفيك ويكفي من اتبعك ، فمن عطف على الكاف في (حَسْبُكَ) [الأنفال : ٦٤] محلا. وقيل : هي عطف على الله ، أي : ويكفيك المتبعون من المؤمنين ؛ بدليل (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٢] فالكفاية هاهنا مضافة إلى الله ـ عزوجل ـ خلقا ، وإلى المؤمنين سعيا وكسبا على رأي الجمهور.

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٥] نسخت بما بعدها (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال : ٦٦] ، وفيها مسألتان :

٣١٠

إحداهما : نسخ الحكم إلى أخف منه ؛ لأن ثبوت الواحد لاثنين أخف من ثبوته لعشرة ، ويجوز أيضا إلى الأثقل والمساوي.

الثانية : قوله ـ عزوجل ـ : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] احتج بها هشام بن عمرو الفوطي من

المعتزلة على حدوث علم الله ـ عزوجل ـ وأنه لا يعلم شيئا حتى يكون ؛ استدلالا بقوله : (خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] عطف العلم على التخفيف ثم التخفيف حادث لتقييده بالآن ، فكذا ما عطف عليه.

وجوابه : أن المعطوف إنما يشارك المعطوف عليه وجوبا في الإعراب ونحوه ؛ أما في الأحكام العقلية فلا ، وإنما معنى الآية : الآن خفف الله عنكم ، وقد علم ـ أي في الأزل ـ أن فيكم الآن ضعفا عما كلفتموه فخففه / [٩٨ ب / م] عنكم بالنسخ. غاية ما يلزم منه استعمال الفعل الماضي في موضع الحال بدون قد ، وهو مذهب الكوفيين خلافا للبصريين ، وشاهده : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠) [النساء : ٩٠] مع شواهد أخر في كلام العرب. وعلى رأي البصريين] تكون قد مقدرة ، ولعل هشاما بنى ذلك على جواز قيام الحادث بذات الله ـ عزوجل ـ أو على أنه يعلم بعلم حادث لا في محل كالإرادة عنده وعند أصحابه ، وكلا الأمرين فاسد ، وتأسيس بنيان جوار على شفا جرف هار.

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧) [الأنفال : ٦٧] يحتج بهما على أمرين : أحدهما : أن الأنبياء / [٢١١ / ل] يجوز منهم الصغائر. الثاني : وقوع الخطأ منهم في الاجتهاد. ثم ينبهون عليه ، وقد سبق هذا في سورة النساء.

والحق أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ معصومون مطلقا ، وما عوتبوا عليه ، فإنما هو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو نحو ذلك والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

٣١١

القول في سورة براءة

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦) [التوبة : ٦] يحتج به الصوفية ، وقد سبق القول فيه.

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) [التوبة : ١١] يحتج به من رأى تكفير تارك الصلاة تكاسلا ، وهو مذهب أحمد ، وتقريره أنه علق كونهم إخواننا في الدين على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بحرف إن ، والمعلق بها عدم عند عدم ما علق عليه عملا بموجب مفهوم الشرط ، فكونهم إخواننا في الدين منتف عند انتفاء إقامتهم الصلاة ، وذلك يقتضي كفرهم ؛ لأن المؤمنين إخواننا وهؤلاء ليسوا إخواننا ، فهؤلاء ليسوا مؤمنين ، وأكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بين العبد والكفر ترك الصلاة ، فمن تركها فقد كفر» (١) حديث صحيح ؛ ولأنه ركن يدخل في الإسلام بفعله فخرج منه بتركه كالشهادتين.

واعترض عليه بأن الآية في الكفار الأصليين ونحوهم بعلة الكفر ، وترك الصلاة وغيرها من أعمال الكفار ، فلا يلزم مثله في غيرهم.

وعن الحديث بحمله على التغليظ أو كفر النعمة ، بدليل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال : لا إله إلا الله دخل الجنة» (٢) ونحوه من العمومات المانعة من تكفير تارك الصلاة.

وعن القياس : بأنا لا نسلم دخوله في الإسلام بفعل الصلاة ، سلمناه لكن لا نسلم أن كفره بترك الشهادتين معلل بأنه يدخل في الإسلام بهما ، بل لأن امتناعه منهما دل على كفر باطن ؛ فحكم بكفره لذلك.

وقد نقل عن أحمد أنه رجع عن هذا القول إلى موافقة باقي الأئمة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب الإيمان [١٣٤] [٨٢] وأخرجه أحمد [٣ / ٣٨٩] وأبو داود [٤٦٧٨] والترمذي [٢٦٢٠] والنسائي [١ / ٢٣٢] وابن ماجة [١٠٧٨].

(٢) رواه الترمذي في الإيمان ح [٢٦٣٨] وابن حبان [١ / ٣٦٤] وهو في الموارد [١ / ٣١] والطيالسي [٦٠] [٤٤٤] ورواه الحاكم [٤ / ٢٧٩] ورواه الطبراني [٧ / ٤٨] [٦٣٤٨] ورواه أبو يعلى [٧ / ٩] [٣٨٩٩] والطبراني [٢٠ / ٤٩] [٨٢].

٣١٢

عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨) / [٩٩ أ / م] [التوبة : ٢٨] فيه أن شعائر الله ـ عزوجل ـ يجب تعظيمها ، ولا يتسامح فيها بجعل يؤخذ من الكفار ، وقد جرت عادة اليهود ببيت المقدس أن يدخلوا المسجد فيصلون إلى قبة / [٢١٢ ل] الصخرة آمنين يرفعون أصواتهم بكتابهم يجعل يبذلونه لولي الأمر ، وهذه الآية نص أو كالنص في منع ذلك.

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٣٠) [التوبة : ٣٠] ، اليهود فهاهنا طائفة مخصوصة منهم يقال لهم : العنابة فيما أقول ، وليس ذلك قولا لجميعهم ، وإنما زعموا ذلك في عزير ؛ لأن بخت نصر لما أحرق التوراة أملاها عزير من حفظه ، فقالوا : ما حفظها إلا وهو ابن الله ، تعالى الله عن قولهم.

ويحكى عن ابن كمونة شارح التلويحات السهروردية أنه مر على قارئ يقرأ (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] فقال والله ، ما قالت اليهود هذا ، فتبعه من سمعه من المسلمين ليقتلوه ، فأعجزهم وتحصن منهم.

وهذا جهل منه من وجهين :

أحدهما : حمل اللام في اليهود على الاستغراق ، وإنما هي للعهد كما قلنا.

الثاني : جهله بمقالات أهل دينه وفرقهم ، ولو عرف أن ذلك مقالة طائفة من اليهود لما أنكر.

وأما النصارى فقد سبق القول معهم غير مرة (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١) [التوبة : ٣١] أما المسيح فاتخذوه ربا معبودا بالحقيقة ، وأما الأحبار لليهود والرهبان للنصارى ؛ فإنما اتخذوهم أربابا مجازا ، لأنهم أمروهم بتكذيب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكار رسالته ، فأطاعوهم ، وغير ذلك مما أطاعوهم فيه ، فصاروا كالأرباب لهم بجامع الطاعة.

والنصارى يزعمون أن المسيح قال لتلاميذه عند صعوده عنهم ما حللتموه فهو محلول في السماء ، وما ربطتموه فهو مربوط في السماء فمن ثم إذا أذنب أحدهم ذنبا جاء

٣١٣

بالقربان إلى البترك أو الراهب ، وقال. يا أبونا ، اغفر لي : بناء على أن خلافة المسيح مستمرة فيهم ، وأنهم أهل الحل والعقد في السماء والأرض ، على ما نقلوه عن المسيح ، وهو من ابتداعاتهم في الدين (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٣١) [التوبة : ٣١] بدليل قول المسيح : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٧٢) [المائدة : ٧٢].

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٣٣) [التوبة : ٣٣] أي على جميع الأديان والملل بالحجة والسيف حيث انتهى حكمه. وتأول / [٢١٣ / ل] عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ هذه الآية في موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن رسول الله لم يمت ولن يموت حتى يظهر الله على الدين كله ، كما وعده ، وكان تأويلها إظهار أمته بدينه على الأمم والأديان / [٩٩ ب / م] لأن الكلمة والدعوة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمة بسيفه يضربون وببركته ينتصرون ، فقد تحقق وعد الله ـ عزوجل ـ له ولو كره الكافرون.

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠].

احتج به أهل السّنّة على فضل أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من وجوه :

أحدها : النص على ثبوت صحبته حتى قال بعض العلماء : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ؛ لتكذيبه النص المتواتر القاطع بإثباتها ، بخلاف من أنكر صحبة غيره لعدم ذلك ، وفيه نظر ؛ لأن غيره كعمر وعثمان وعلي وباقي العشرة ثبتت صحبتهم بالتواتر ، وهو قاطع أيضا فإنكار مدلوله كفر.

الوجه الثاني : قوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] فكان له في هذه المعية اختصاص لم يشاركه فيها صحابي. وقد يقال بأن هذا التشريف حصل لجميع الصحابة

٣١٤

بقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) (٣٥) [محمد : ٣٥] غير أن لقائل أن يقول : معية أبي بكر [رضوان الله عنه] أخص من هذه ، فيمتاز بها.

الوجه الثالث : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) [التوبة : ٤٠] قالوا : فيه إشارة إلى شيئين :

أحدهما : أنه ثانيه من بعده في الإمرة.

الثاني : أن اسمه لم يفارق اسمه ؛ إذ كان يقال له : خليفة رسول الله ، حتى توفي ، فقيل لمن بعده ـ وهو عمر ـ رضي الله عنه ـ : أمير المؤمنين ، وانقطعت خصيصة (ثانِيَ اثْنَيْنِ) [التوبة : ٤٠].

الوجه الرابع : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) [التوبة : ٤٠] قال بعضهم : الضمير في (عليه) لأبي بكر ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تفارقه السكينة أبدا حتى يحتاج إلى نزولها عليه ، وإنما أنزلت على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو ضعيف ، أما أولا فلقوله ـ عزوجل ـ :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢٦) [الفتح : ٢٦] فقد أنزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم السكينة مع ما ذكروه من عدم مفارقتها له ، ولا امتناع من أن يزاد سكينة على سكينة ، ونورا على نور ، وأما ثانيا :

فلأن ذلك يقتضي أن الضمير في (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٤٠] لأبي بكر أيضا ، وهو خلاف الظاهر / [٢١٤ / ل] بل القاطع ، ولا أظن أحدا قال بذلك.

أما الشيعة فطعنوا على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من الآية بوجه واحد ، وهو قوله : (لا تَحْزَنْ) [التوبة : ٤٠] دل على أنه حزن لأجل طلب الكفار لهما مع أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعين الله تحت رعاية الله ، وقد سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبر بأنه سيظهر على أعدائه ويظهر دينه على جميع الأديان ؛ فحزن أبي بكر والحالة هذه ، إما شك في هذا الخبر ، أو ضعف منه وخور.

قالوا : وإنما الشجاع المؤمن واللبيب الموقن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ حيث كان حينئذ نائما على فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [١٠٠ أ / م] معرضا نفسه من أيدي الكفار لشرب كئوس الحمام ، فما شك وما خار ، ولا تبلد ذهنه ولا حار.

وأجاب أهل السّنّة بأن حزن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يكن ضعفا ولا شكا ، وإنما

٣١٥

كان رقة غالبة وشفقة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو كان ذلك عن شك أو ضعف لكان أولى ما صدر منه يوم بدر حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد» (١) وأبو بكر آخذ بردائه يقول : كفاك مناشدتك ربك ، إن الله سينجز لك ما وعدك. وهذا غاية الشجاعة ، والإيمان ثبوت الجنان عند قراع الأقران.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٤٣) [التوبة : ٤٣] يحتج بها على أمرين :

أحدهما : كرامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه ؛ حيث بدأه بالعفو قبل العتاب. وقيل : لو لا ذلك لتقطع قبله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرقا وخشية من الله ـ عزوجل ـ.

الثاني : الخطأ في الاجتهاد حيث أذن لهم في التخلف عن الغزو في غير موضع الإذن ، بدليل أنه عوتب عليه ؛ وجوابه ما سبق في آخر الأنفال.

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) [التوبة : ٤٦] فيه مسائل :

الأولى : إثبات الكراهة صفة لله ـ عزوجل ـ ثم هل هي ذاتية أو فعلية؟ فيه خلاف ، ويحتمل أن كراهته للشيء عبارة عن سلب إرادته له ، أو عن إرادة / [٢١٥ / ل] سلبه.

الثانية : أن تثبيط هؤلاء هو تحليل عزائمهم بما يخل [ق : في قلوبهم] من دواعي القعود والصوارف عن الخروج ، ثم إن تثبيطه لا بد وأن يكون مؤثرا ، إما وحده فيكون حجة للمجبرة ، أو مع فعل العبد كما يقوله المعتزلة ؛ فيلزم المقدور بين قادرين واستحقاق جزء من التجويز ، بحسب للتثبيط من التأثير وهما باطلان ، وقد سبق تقرير هذا في آخر الأعراف.

الثالثة : (وَقِيلَ اقْعُدُوا) [التوبة : ٤٦] ظاهره التناقض مع قوله لهم (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] وجوابه : أن قوله (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) [التوبة : ٤١] بلسان التكليف ، و (وَقِيلَ اقْعُدُوا) [التوبة : ٤٦] بلسان التقدير والتكوين ؛ فلا تناقض.

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٥١) [التوبة : ٥١] هذا أصل في التفويض والتسليم لتقدير العزيز العليم ،

__________________

(١) رواه مسلم [٣ / ١٣٨٣] ح [١٧٦٣].

٣١٦

وهو عام في مصائب الدنيا والدين غير أن ما لا كسب للعبد فيه ، كالمرض والموت ـ لا لائمة عليه فيه ، وما له فيه كسب كالمعاصي تلحقه فيه اللائمة باعتبار كسبه على ما عرف من رأى الكسبية والمجبرة.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (٦٦) [التوبة : ٦٥ ـ ٦٦] قوله : (قَدْ كَفَرْتُمْ) [التوبة : ٦٦] يحتمل أنه إخبار عن كفرهم بأسباب معروفة ، ويحتمل أنه إنشاء للحكم بكفرهم عقب استهزائهم / [١٠٠ ب / م] فيحتج به على أن من استهزأ بالله أو رسول من رسله أو بشيء من كتبه المنزلة ـ كافر ، ولا نعلم فيه خلافا.

(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) (٧٧) [التوبة : ٧٧] فيها إشارة إلى أن الكذب وخلف الوعد الحرام يعقب النفاق ؛ [لأن هؤلاء عقبوا النفاق] بخلف الوعد والكذب ، ويشهد له قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أربع من كن فيه فهو منافق ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق : من إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر (١) وانظر إلى هذه المناسبة ، وهي أن الأربع المذكورة فيها معنى النفاق من مخالفة الظاهر للباطن ، وهو ظاهر في الثلاث الأول ، وأما الرابعة فلأن الإنسان في حال / [٢١٦ / ل] اعتداله وعدم الخصومة يعتقد فيه تقوى وعفاف واقتصاد باطن ، فإذا فجر في خصومته تبين ظاهره مخالفا لما اعتقد في باطنه.

(وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [التوبة : ٧٧] يستدل به على أن الجملة الشرطية خبرية يلحقها الصدق والكذب ؛ لأن كذبهم وإخلافهم إنما هو في قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٧٥) [التوبة : ٧٥] وهي قضية شرطية ، وقد سمى تركهم مضمونها إخلافا وكذبا ، وذلك من خواص الخبر فدل على ما قلناه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان [١ / ٨٩] ح [٣٤] ومسلم في كتاب الإيمان [٢ / ٦١ ـ ٦٢] ح [١٠٦ / ٥٨].

٣١٧

(إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] يحتج به على رؤية الله ـ عزوجل ـ وقد سبق نظائره.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٨٠) [التوبة : ٨٠].

هذا ونحوه من المقادير العددية نحو (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [يوسف : ٤].

و (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (١٢) [المائدة : ١٢].

و (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢٣) [ص : ٢٣].

و (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤) [النور : ٤] يتضمن من حيث هو مفهوما عدديا ، وهو انتفاء الخبر أو الحكم عما زاد عليه أو نقص على خلاف في هذا المفهوم ، أما هذا الموضع بعينه فلم يرد به المفهوم ؛ لما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر لهم لزدت» (١) ، وإنما خرج مخرج المبالغة والتكثير ؛ لأن العرب لهجت بالسبعين كثيرا حتى تداولوها في معرض التكثير.

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) (٨١) [التوبة : ٨١] فيه إشارة إلى فقه العباد والمجتهدين والمجاهدين أنفسهم في ذات الله ـ عزوجل ـ المتجشمين متاعب الدنيا خوفا من متاعب الآخرة. وذلك مستفاد من قياس العكس ؛

__________________

(١) رواه البخاري [١٣٦٦].

٣١٨

لأنه جعل من عرض نفسه لنار الآخرة بالسلامة من حر الدنيا لا يفقه ، فاقتضى أن عكسه وهو من صبر على حر الدنيا في الطاعة خوفا من حر الآخرة فقيه ، وهو كذلك.

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨٢) [التوبة : ٨٢] / [١٠١ أ / م] احتج بها الفريقان أما المعتزلة ؛ فلأنه جعل بكاءهم بعلة من جهتهم ، وهي أفعالهم ، فدل على أنهم خالقوها وموجدوها.

وأما الجمهور / [٢١٧ / ل] فقالوا : هو جزاء على كسبهم كما صرح به في الآية ، ولا يلزم من الكسب الخلق.

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣) [التوبة : ٨٣] أي لعلة رضاكم بالقعود ، فيحتج به وبأمثاله نحو : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣) [النمل : ٤٣] و : «إنها من الطوافين» (١) على أن «إن» تفيد التعليل.

(وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) (٨٥) [التوبة : ٨٥] دلت على أن المال والولد عذاب في الدنيا على خلاف ما في ظن الناس أنها نعمة وراحة ، ثم يستفاد من هذه ، ومن قوله ـ عزوجل ـ : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (٤٦) [الكهف : ٤٦] أن زينة الدنيا عذاب وينتظم القياس هكذا : المال والبنون زينة الدنيا والمال والولد عذاب. أو : ليس براحة في الدنيا ينتج أن زينة الدنيا عذاب. أو : ليس براحة في الدنيا.

ولقائل أن يقول : العذاب إنما هو سياسة المال ، وأما الانتفاع به فهو نعيم لا عذاب ، والتقدير حينئذ : إنما يريد الله أن يعذبهم بسياستها وحفظها في الدنيا ، وحينئذ لا ينتج

__________________

(١) الموطأ [١ / ٢٣] ورواه أحمد في المسند [٥ / ٢٩٦] [٢٢٦٣٠] وأبو داود في الطهارة [١ / ٢٠ / رقم ٧٥] والترمذي في كتاب الطهارة [١ / ١٥٣ ، ١٥٤ / ٩٢] والنسائي في كتاب الطهارة [١ / ٥٥ / ٦٨] وابن ماجة في كتاب الطهارة [١ / ١٣١ / ٣٦٧] وابن خزيمة في صحيحه [٥٥ / ١٠٤].

٣١٩

القياس ؛ إذ يبقى هكذا : المال والولد زينة ، وسياسة المال والولد عذاب ، فلا يتحد الأوسط فلا ينتج.

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠) [التوبة : ١٠٠] والأخرى السابقة : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨٨) [التوبة : ٨٨] احتج بها الجمهور على فضل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأنهم مرضي عنهم ، ومن أهل الجنة لتصريحها بذلك وعمومها فيهم.

واعترض الشيعة [أبعدهم الله] بأن عمومها مخصوص بمن عادى أهل البيت وخالف الإمام المنصوص عليه منهم ، وأجيب بأن أحدا من الصحابة لم يعاد أهل البيت ولا خالف إماما منصوصا عليه منهم.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) [التوبة : ١٠٥] فيه إشارة إلى معنى قوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٤٣) [البقرة : ١٤٣] وإلى معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم شهداء الله في الأرض» (١).

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) [التوبة : ١٠٥] فيه إثبات المعاد.

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

__________________

(١) رواه البخاري [١ / ٤٦٠] ح [١٣٠١] ومسلم [٢ / ٦٥٥] ح [٩٤٩].

٣٢٠