الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠) [إبراهيم : ١٠] وقومهم سألوهم آيات ومعجزات محسوسة ظاهرة قاطعة ، قلنا : عرف القرآن في بينات الرسل أنها المعجزات القاطعة للحجة المثبتة للنبوة ، وقد تضمنت الآية أن هؤلاء الرسل جاءوا قومهم بالبينات ، وأما الاستدلال بخلق السماوات والأرض فنافلة وزيادة على المعجزات ، كما أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بمعجزات كثيرة ، ثم كان ينبههم على الحق بالإشارات النظرية ، وقد تضمنت هذه القصة جدالا ومناظرة من الرسل لقومهم ، واحتجاجا بينا منهم على ما قررناه ، وفي ذلك / [٢٤٥ / ل] ما يدل على شرف العلوم النظرية ، [ووجوب استعمالها عند الحاجة إليها.

(يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) / ١١٤ أ / م] [إبراهيم : ١٧] ليس هذا تناقضا ؛ لأن سلب الموت حقيقة وإثباته مجاز ، ولا تعارض بينهما.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) [إبراهيم : ٢١] يحتج به الجمهور على أن هداية العبد من الله ـ عزوجل ـ لا من نفسه ، وأنها تمتنع إذا لم يردها الله عزوجل.

وربما أجاب المعتزلة بأن هذه حكاية كلام الكفار في الكفار وقد كانوا جبرية مثلكم ، فلا حجة فيه ؛ لأنكم احتججتم علينا بعين مقالتكم ، ونحن كما لم نسلمها في دار التكليف ، لا نسلمها في دار الجزاء ؛ لأنها باطلة ، والباطل لا يتعين حقيقته باختلاف المواطن.

ويجاب عنه بأن هؤلاء الكفار لما صاروا في دار الحق ، صار كلامهم حجة لوجهين :

أحدهما : أن دار الحق لا يقع فيها إلا حق.

الثاني : أن الله ـ عزوجل ـ حكاه عنهم غير منكر له منهم ، بل مقر لهم عليه ، وحسبك بما لم ينكره الله ـ عزوجل ـ أن يكون معروفا ، وبما يقر عليه ألا يكون منكرا.

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي

٣٦١

وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢) [إبراهيم : ٢٢] يحتج به المعتزلة ؛ لأن الشيطان في دار الحق ، فلا يقول إلا حقا ، وقد ألزم الكفار الملامة ، فدل على أن سببها منهم.

وأجيب بأن سببها منهم كسبا لا خلقا ، ويكفي كسبهم لها في توجيه اللائمة عليهم.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧) [إبراهيم : ٢٧] يحتج به الجمهور ، وهو صريح في دعواهم نسبة إضلال الظالمين إلى الله ـ عزوجل ـ ويجيب المعتزلة بأنه إنما أضلهم بعد ثبوت ظلمهم المخلوق لهم عقوبة عليه ، ويقال لهم : عندكم يمتنع منه أن يضل أحدا مطلقا ؛ فإذا جاز أن يضلهم] [عقوبة جاز أن يضلهم ابتداء ، أو يقال : لا نسلم أن ظلمهم مخلوق لهم بل هو كسب لهم لا غير ، فهو أضلهم فظلموا ، ثم زادهم ضلالا لما ظلموا ، كل ذلك بحسب تصرفه وعلمه فيهم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢٨) [إبراهيم : ٢٨] إلى (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (٣٠) [إبراهيم : ٣٠] يقتضي أن لله ـ عزوجل ـ على الكفار نعما يتمتعون بها ، خلافا لمن منع ذلك ، وقد سبق الخلاف فيه في الأعراف.

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) [إبراهيم : ٣٤] إن جعل هذا عاما مطردا ؛ لزم أن كل من سأل شيئا من جميع الخلق يكون قد أوتيه أو أعطي منه ، ولا أرى هذا بتحقيق ، فالأشبه أنه عام أريد به الخاص ، وهو ما شاء الله ـ عزوجل ـ إيتاءهم إياه ، فالتقدير إذن : آتاكم من كل ما سألتموه مما شاء يؤتيكموه ، وصار هذا من باب (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١) [الأنعام : ٤١] مع عموم (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) [البقرة : ١٨٦] ونحوه.

٣٦٢

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) [إبراهيم : ٣٤] هذا واضح ولو لم يكن إلا أن للإنسان / [١١٤ ب / م] حواس خمسا يدرك بها محسوساتها ، وعليه بكل واحد منها نعمة ، وهو لا يطيق إحصاءها ، بل حس البصر وحده أو حس أيها شئت لا يطيق إحصاءه ، وأنت تدرك ببصرك نجوم السماء ؛ فعليك بإدراك كل نجم نعمة ، فهل تحصي نجوم السماء ، كلا ، فالحمد لله عدد نعمه على جميع خلقه ، ما بين الأزل والأبد حمدا يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥) [إبراهيم : ٣٥] يستدل به على ما سبق من أن عصمة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إنما هي من وقوع الكفر ، لا من جوازه عليهم ، وإلا لم يكن لهذا الدعاء فائدة ، ولم يصح كما لا يصح أن يقول : اجنبني أن أكون بشرا حجرا في حالة واحدة.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) [إبراهيم : ٣٦] أي : كن سبب ضلالهم ، [وإلا] فالمضل لهم بالحقيقة ، إما هم لأنفسهم على رأي المعتزلة ، أو الله ـ عزوجل ـ على رأي الجمهور.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩) [إبراهيم : ٣٩] هذا يقتضي أن الولد نعمة يحمد عليها ، وقد ثبت الولد من زينة الدنيا ، فيقال : هكذا الولد نعمة والولد زينة ، ينتج بعض النعمة زينة وينعكس بعض الزينة نعمة ، والغرض من هذا التعريف كيفية نظم المقدمات المتفرقة في القرآن واستنتاج نتائجها ، وكذلك ثبت أن بعض الولد عدو ، والولد نعمة ينتج بعض العدو نعمة ، فبعض النعمة عدو.

وعلى هذا وإن أمكن تخلف بعض [الشروط] فيما ذكرناه لكن المقصود تعريف تأليف مقدمات القرآن ، وعليك أنت باعتبار شروط القياس.

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٥١) [إبراهيم : ٥١] [إن أريد ما كسبت] من خير فهو عام مطرد ، بل ويزاد بالحسنة عشرا ، وإن أريد ما كسبت من خير وشر فهو عام مخصوص بمن يعفو الله ـ عزوجل ـ عنه ، وهذا بحسب التكليف الظاهر ، أما بحسب باطن علم الله ـ عزوجل ـ فالظاهر اطراده ، إذ كل نفس تجزى بعملها بحسب علمه الباطن كما سبق في (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُ

٣٦٣

الْكِتابِ) (٣٩) [الرعد : ٣٩].

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) [إبراهيم : ٥٢] فيه إثبات الوحدانية ، وأن القرآن يدل عليها لأنه أخبر أنه أنزل القرآن بلاغا للناس لأجل إنذارهم به وعلمهم بالوحدانية ، ولو لا تضمنه دليلها لما صح هذا التعليل ، وسيأتي بيان دليل التوحيد في «الأنبياء» و «سبحان» و «المؤمنون» وغيرها ، وقد مضى شيء من ذلك.

* * *

٣٦٤

القول في سورة الحجر

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣) [الحجر : ٣] محكم وعيدي ، أو منسوخ بآية السيف.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥) [الحجر : ٥] فيه أن القاتل لا يقطع أجل المقتول ، وقد سبق القول فيه.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨) [الحجر : ٨] لأن برؤية / [١١٥ أ / م] الملائكة يبقى الإيمان اضطراريا غير نافع كما سبق.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] يحتج بها على أنه منزل غير مخلوق ، وقد سبق ، وعلى أنه محفوظ من الزيادة والنقص وسائر التغيرات خلافا لمن زعم أنه يغير ببعض هذه الوجوه ، والدليل على حفظه ضبط المصاحف والحفاظ له في سائر الأعصار ضبطا متواترا ، والتغير يستحيل على ما هذه صفته عادة.

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) (١٤) [الحجر : ١٤] هذا كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) [الأنعام : ١١١] والمانع لهم فيهما من الإيمان هو الخذلان بخلق الدواعي والصوارف ، وأن الذي عاينوه من البرهان سحر مستمر وفي ذلك حجة للجمهور على مذهبهم المشهور.

(وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) (١٨) [الحجر : ١٧ ـ ١٨] فيه إثبات الشياطين واستراقهم السمع ، وحراسة السماء بالشهب من ذلك.

وعند الفلاسفة أن الشهب المنقضة سببها مادة دخانية تتراقى من الأرض متصلة بالأبتر وهو كرة النار ، فيعلق في تلك المادة وبحسبها قلة وكثرة تكون الشهب صغرا وكبرا ، وطول مدة وقصرا ، ولم يرد الشرع بما قالوه ولا بنفيه ، فالله أعلم بما خلق.

(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٢٧) [الحجر : ٢٧] فيه أن وجود الجان والجن قبل آدم والإنس.

٣٦٥

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٢٩) [الحجر : ٢٩] يحتج بها من رأى قدم الروح ، ويحكى عن أهل جيلان ، وحجتهم أنه أضاف الروح إليه ، فدل على أنها روح ذاته ، وأيضا أن الملائكة لم يؤمروا بالسجود لآدم قبل حلول الروح فيه وأمروا بالسجود له بعد ذلك ، والسجود إنما يكون للقديم ؛ فدل على أنه الروح القديم حل فيه حتى استحق أن يسجد له.

وجوابه أن إضافة / [٢٤٦ / ل] الروح إليه إضافة تشريف ، وإلا لزم ما قالته النصارى في المسيح للنص على أنه كلمة الله وروح منه ، وللإجماع على أنه روح الله ، وأما السجود فإما أن يقال : إنه لله ـ عزوجل ـ وآدم قبلة له ، أو يكون لآدم وهو سجود تحية لا عبادة كسجود أبوي يوسف وإخوته له.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٣٧) [الحجر : ٣٦ ـ ٣٧] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ لو لم يرد إضلال بعض الناس وإهلاكهم وإغواءهم ، لما أجاب إبليس إلى هذا السؤال ، ومن زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ، ويرسل فيها النار العامة أو الأفاعي القاتلة الكثيرة ، ولم يرد أذى أولئك القوم بالإحراق أو اللسع ، فقد خرج عن فطرة البشر.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٩) [الحجر : ٣٩] سبق ذكره في الأعراف.

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠] / [١١٥ ب / م] تزيين الشيطان وإغواؤه بالوسوسة ، وإنما يتم ذلك بقدر الله ـ عزوجل ـ وخلقه الدواعي والصوارف.

(إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) [الحجر : ٤٢] يحتج به من أجاز استثناء الأكثر مع قوله : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٤٠) [الحجر : ٣٩ ـ ٤٠] فاستثنى تارة المخلصين من عموم العباد ، وتارة الغاوين من عموم المخلصين ، وأيهما كان أكثر لزم استثناء الأكثر.

وأجيب بأن استثناء المخلصين من عموم العباد استثناء الأقل ، وأما استثناء الغاوين من

٣٦٦

عبادي فليس متصلا ، إذ ليس «الغاوين» من العباد الذين ليس لإبليس عليهم سلطان ، وإلا لما كانوا غاوين ، فهو إذن منقطع ، وإنما يتم دليلكم أن لو كان متصلا.

واعلم أن استثناء الأقل صحيح ، والاستثناء المستغرق باطل ، واستثناء الأكثر والنصف محل خلاف ، وهو في الأكثر أبعد.

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) [الحجر : ٥٨ ـ ٦٠] هذا استثناء من استثناء ، الأول منفي فالثاني مثبت ، بناء على أن الاستثناء من الإثبات نفي ، ومن النفي إثبات خلافا للحنفية ، ومأخذ الخلاف أنا إذا قلنا ما قام أحد إلا زيد ، هل زيد محكوم عليه بإثبات القيام ، أو أنه مجرد حكم إثبات أو نفي ، وهذا قولهم ، والأشبه الأول ، [لأن الاستثناء] يتضمن جملتين بمقتضى لسان العرب مستثنى منها ومستثناة ، فهما إما موجبتان أو سالبتان ، وهو باطل ؛ إذ هو تطويل محض بلا فائدة ، أو الأولى موجبة والثانية سالبة ، وهو خلاف الفرض ، إذ الكلام في الاستثناء من النفي ، فتعين الرابع ، وهو أن : الأولى سالبة والثانية موجبة وهو المطلوب.

واستدل عليه بأن الاستثناء من النفي لو لم يكن إثباتا لما حصل التوحيد بلا إله إلا الله ، واللازم باطل بالإجماع فالملزوم كذلك.

وأجيب بأن ثبوت إلهية الله ـ عزوجل ـ إنما حصلت بدليل العقل لا من هذا اللفظ ، واحتج الحنفية بأن الاستثناء من النفي لو كان إثباتا ، للزم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة إلا بطهور» (١) و (لا نكاح إلا بولي) (٢) صحة الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ، ويجاب بوجهين :

أحدهما : أن الخلاف في الاستثناء من ذات متعددة نحو : ما قام القوم إلا زيد ، وما

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه كتاب الطهارة [٣ / ١٢٨ / ٢٢٤] ورواه الترمذي في أبواب الطهارة [١ / ٥ / ١].

(٢) رواه أحمد في المسند [٤ / ٣٩٤ ، ٤١٣ ، ٤١٨] وأبو داود كتاب النكاح [٢ / ٢٢٩ / ٢٠٨٥] والترمذي كتاب النكاح [٣ / ٤٠٧ / ١١٠١] وابن ماجة كتاب النكاح [١ / ٦٠٥ / ١٨٨١] وابن حبان [٦ / ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٦ / رقم ٤٠٦٥ ، ٤٠٦٦ ، ٤٠٧١ ، ٤٠٧٨] والحاكم في المستدرك [٢ / ١٦٩ ، ١٧١ ، ١٧٢] ورواه أحمد في المسند [١ / ٢٥٠] وابن ماجة كتاب النكاح [١ / ٦٠٥ / ١٨٨٠] والطبراني [١١ / ٣٤٠ / ح ١١٩٤] و [١٢ / ٦٤ / رقم / ١٢٤٨٣].

٣٦٧

ذكرتموه استثناء من مصدر ، فليس محل النزاع.

الثاني : هب أنه من محل النزاع لكن منع من لزوم ما ذكرتم مانع ، وهو أنه لو لزم ذلك لزم خلاف قاعدة عقلية ، وهي أن الشرط لا يلزم من وجوده وجود [المشروط] ، إنما يلزم من / [١١٦ أ / م] عدمه [عدمه] ، فتأثيره في عدمه لا في وجوده ، وعلى ما ذكرتم كان يلزم من وجود بعض شروط الحكم وجوده وأنه باطل لما ذكرنا ، ولاحتمال بطلان الصلاة والنكاح لتخلف شرط آخر ، وإذا خصت قاعدة «الاستثناء من النفي إثبات» بقاعدة «الشرط العقلية» بقي حكم الاستثناء فيما عدا ذلك للدليل السالم عن المعارض ، وبيان الآية المذكورة من هذا الباب أنه استثنى آل لوط من القوم المجرمين ، ثم استثنى امرأته من آله كأنه قال : أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم ، وهم قوم لوط إلا آل لوط فليسوا مجرمين ، فنحن منجوهم إلا امرأته من آله ، فإنها مجرمة فتهلك ؛ فأثبت لها الإجرام والهلاك المنفي عن الآل ، وهو استثناء مثبت من منفي ، وهو المطلوب.

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥) [الحجر : ٦٥] قد يقال : إنه عام خص بقوله ـ عزوجل ـ في سورة هود : (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) (٨١) [هود : ٨١] والحق / [٢٤٨ / ل] أن هذا ليس بتخصيص ؛ لأن امرأته لم يكن مأمورا أن يسري بها ، ولا كانت هي منهية عن الالتفات حتى تناولها الخطاب فتخص منه ، إنما أمر بالإسراء بغيرها من أهله ، لكن هي تبعتهم بغير إذن طمعا في النجاة ، فقدر عليها أن التفتت ، فهلكت ، فصار التقدير : ولا يلتفت منكم أحد وإن امرأتك ستتبعكم وتلتفت ؛ فتهلك ، فهو خبر آخر لا تخصيص.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) (٧٥) [الحجر : ٧٥] قيل : هم المتفرسون ؛ فيستدل به على صحة الفراسة واستعمالها والاعتماد عليها في بعض الأحكام ، وهي الاستدلال بأمارات خلقية ظاهرة على أخلاق باطنة ، كالاستدلال بشقرة اللون وزرقة العين على الشر ، على ما اشتهر ونحو ذلك ، وقد صنف الناس فيها كتبا كأرسطو ونحوه من القدماء ، والإمام فخر الدين من المتأخرين وغيرهم.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ

٣٦٨

فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥) [الحجر : ٨٥] فيه وجوب قيام الساعة سمعا.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (٨٥) [الحجر : ٨٥] منسوخ بآية القتال.

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤) [الحجر : ٩٤] يحتمل أنه وعيدي محكم ، [أو منسوخ بما ذكر] أو معناه : اصدع بما تؤمر ، ولا تلتفت إليهم [في تثبيطهم] لك عن ذلك.

٣٦٩

القول في سورة النحل

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) [النحل : ١] أي قرب وسيأتي ، فنزل المستقبل لقربه منزلة الماضي لتحقق وقوعه في علمه.

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) [النحل : ١] فيه ذم الشرك ونفيه وإثبات التوحيد.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (٢) [النحل : ٢] فيها إثبات عموم النبوة والتوحيد خلافا للبراهمة في النبوة فإنهم نفوها ، محتجين بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف ؛ لأنه / [١١٦ ب / م] يأتي الحسن ويجتنب القبيح ، ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك ، فالأنبياء إما أن يأتوا على وفق العقل ، فلا حاجة معه إليهم ، أو على خلاف العقل ، فلا التفات إليهم.

وجوابه : أن هذا مبني على التحسين والتقبيح العقلي ، وهو ممنوع ، وبتقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي خصوصا في حقوق الإله ـ عزوجل ـ فلا بد له من معين على معرفة ما لا يستقل به من مصالح المعاش والمعاد وكيفية شكر المنعم والتعبد له وتعريف المقدرات ونحو ذلك ، وحينئذ لا نسلم أنهم إن جاءوا على وفق العقل لا حاجة إليهم ؛ لجواز أن يعرفوه بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له ، أو يؤكدوا حكمه بحكمهم ، ودليلان أقوى / [٢٤٩ / ل] من دليل واحد ، ولا نسلم أنهم إن جاءوا على خلافه لا يلتفت إليهم ؛ لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عنه كما مر ، على أن ذلك في نفس الأمر فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر ، وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه العقل كتفضيل بعض الأمكنة والأزمنة على بعض لأسرار خفيت عنه ، وكوجوب صوم آخر يوم من رمضان وإفطار الذي بعده ، ونحو ذلك ومع البراهمة كلام أبسط من هذا.

وخلافا لبعض المتصوفة حيث زعموا أن الرسل سوى الله ، وكل سوى الله حجاب عن الله ـ عزوجل ـ فالرسل حجاب عن الله ـ عزوجل ـ فلا حاجة بالخلق إليهم ، وهذا من هؤلاء إما جهل ظاهر ، وفساد عقل أصابهم من غلبة الرياضة عليهم ، أو زندقة خفية وإلحاد غلب عليهم من نظر فاسد. وأيسر ما يجابون به أن كبرى قياسهم ممنوعة الكلية ، وهو كاف في فساد قياسهم ، فإن الرسل وسيلة إلى معرفة الله ـ عزوجل ـ والوصول

٣٧٠

إليه ، لا حجاب عنه ، وهل يقبل ذو عقل أن يقال : نائب السلطان في بلاده حجاب عنه ، فلا حاجة إليه؟ إذ الأنبياء يسوسون العباد في أمر المعاش والمعاد كنواب الملك في بلاده.

وهب أن هذا المتصوف وشرذمة قليلة من أصحابه أمكنهم الوصول إلى الله ـ عزوجل ـ بلا واسطة لقوة رياضتهم واستعدادهم وقابليتهم ، فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكن هؤلاء يتركون على انقطاعهم وجهلهم من غير موصل ومعرف؟! هذا جهل عظيم من هؤلاء ، وإنما هذا كمن له عبيد كثيرون سائرون في سفر عرض لهم بحر وفيهم نفر يسير عوامون ، والباقون لا يعرفون العوم ، فإن مكثوا انقطعوا وإن خاضوا غرقوا ، فهل ينكر العقل أن يمدوا بعوامين أو ملاحين يقطعون بهم تلك اللجة / [١١٧ أ / م].

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٧) [النحل : ٧] ربما ظن بعضهم أن المراد بهذا البلد مكة على الخصوص ، وليس كذلك ، بل عموم البلاد التي تحتاج فيها إلى الظهر ، وتلحق المشقة دون بلوغها ، وكيف ولعل الخطاب لأهل مكة وما حولها ، ولا مشقة عليهم بالنسبة إلى بلوغها ، لأنها دارهم وقرارهم.

(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨) [النحل : ٨] احتج بها أبو حنيفة ومالك ـ رحمهما‌الله ـ على تحريم لحوم الخيل ؛ لأنه ـ عزوجل ـ قرنها بما لا يؤكل ، وهي البغال والحمير ونص على الحكمة في خلقها [٢٥٠ / ل] في سياق الامتنان به ، ولو كان في خلقها حكمة سوى الركوب ، لاقتضى سياق الامتنان ذكرها كما قال في الأنعام : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٧٩) [غافر : ٧٩] حتى عد لها خمس حكم ، ولما لم يذكر لخلق الخيل سوى حكمة واحدة ، صار كقوله : لا تنتفعوا من الخيل بغير الركوب ، وهو نص في المطلوب.

أما الشافعي وأحمد ـ رحمهما‌الله ـ ومن تابعهما ، فلما رأوا هذا الاستدلال لا يخرج عنه كونه بالمفهوم وهو لا يعارض المنطوق ، رجحوا عليه السّنّة الصحيحة من حديث جابر (١) وأسماء : «نحرنا فرسا على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكلناه» (٢) ومثل هذا ظاهر إن لم يكن

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المغازي [٧ / ٥٥٠ / رقم ٤٢١٩] ورواه مسلم في صحيحه كتاب الصيد والذبائح [١٣ / ١٤٠ ـ ١٤١ / ١٩٤١].

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الذبائح والصيد [٩ / ٥٥٦ / رقم ٥٥١٠] ومسلم في صحيحه كتاب الصيد والذبائح [١٣ / ١٤٢ / رقم ١٩٤٢].

٣٧١

قاطعا في أنه بلغه فأقر عليه ، وذلك حجة في إباحة لحم الفرس ، وربما علل المانعون بأن في إباحة لحم الخيل إغراء بها وتقليلا لآلة الجهاد ، وهو جيد ، غير أنه منتقض بالإبل كانت أكثر آلة جهادهم ، وقد أبيح أكلها باتفاق ، وليس لمانع أن يمنع كون الإبل من آلة الجهاد ، لقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٦) [الحشر : ٦].

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أي إرشاد قصد السبيل ، أي عليه أن يرشدكم إلى السبيل الأقصد والطريق الأقوم الأرشد ، وهذا وجوب منه لا عليه ، خلافا للمعتزلة بناء على وجوب رعاية مصالح التكليف واللطف بالمكلف على الله ـ عزوجل ـ عندهم ، وأنشد بعضهم في نحو ذلك :

يا من تمكن في علم ومعرفة

مفرقا بين صدق القول والكذب

هل جائز من كريم كل ذي كرم

عبد له من جميع العجم والعرب

يدعو إلى فضله قوما ويمنعهم

عند ابتداء بلا جرم ولا سبب

وتحدى صاحب هذه الأبيات بها جماعة من أهل العلم ، فوقفوا إلا عن قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : ٢٣].

وجواب ذلك لا يخرج عما قررناه في مقدمة هذا التعليق من رأي الجبرية ، وهو أنه يمنعهم لعلمه بأن لو فوض إليهم خلق أفعالهم / [١١٧ ب / م] لامتنعوا من الطاعة و [قارفوا] المعصية ، وكذلك من دعا إلى مأدبة قوما جاز أن يمنع بعضهم عنها بأسباب توجب منعه ، لعلمه لفساد نية أو خبث طوية ، أو لعلمه بأنه إنما أجاب كارها أو متثاقلا ، وأنه لو ترك وعزمه لم يجب. (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) [التوبة : ٤٦].

ثم قوله : هل جائز؟ إن أراد الجواز العقلي وهو الإمكان الخاص ، فلا شكل في جوازه كذلك ، وإن أراد هل حسن؟ فهو تحسين عقلي ، وهو ممنوع.

ثم إن سؤاله خارج عن / [٢٥١ / ل] محل النزاع ؛ لأن فرضه أنه دعاهم ثم منعهم ابتداء بلا موجب ، ومحل النزاع فيما إذا منعهم لموجب اختص هو بعلمه ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤].

٣٧٢

وهذا كما أشار إليه بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) [التوبة : ٤٦].

ثم بين سبب الكراهة بقوله : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٤٧) [التوبة : ٤٧].

وكما أشار إليه بقوله ـ عزوجل ـ (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [النجم : ٣٢].

وعند هذا التحقيق سقط ما قاله هذا القائل من التلفيق ، والله ولي التوفيق.

(ومنها) أي ومن السبل (جائر) أي مائل عن القصد ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣) [الأنعام : ١٥٣].

(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٩) [النحل : ٩]. يحتج به الجمهور كما سبق.

(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١١) [النحل : ١١].

هذا عطف عام على خاص ، ومثله : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٣٤) [إبراهيم : ٣٤].

مع ما قبله و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧) [الحج : ٧٧].

عطف عام على خاص ، ثم على أخص ؛ إذ العبادة أعم مما قبلها ، وفعل الخير أعم من العبادة ، وكلام العرب إما عطف خاص على عام نحو : وملائكته وجبريل ، أو عام على خاص كما ذكر هاهنا ، أو عام على عام نحو الإنس والبشر ، أو خاص على خاص ، نحو : محمد وأحمد.

٣٧٣

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (١٧) [النحل : ١٧] هذا من أدلة التوحيد ، وقد سبق تقريره.

(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢٧) [النحل : ٢٧] لا ينبغي لعالم أن يغفل عن هذه ، فإنها قاطعة بأن لأهل العلم مقالا بين يدي الله ـ عزوجل ـ يوم القيامة ، وأنه ربما حكم بقولهم هناك إكراما لهم كما أجرى أحكامه على ألسنتهم في الدنيا.

(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ) (٣٠) [النحل : ٣٠] هو عام في المحسنين مطلق في الحسنة ، فكل محسن لا بد له في الدنيا من حسنة جزاء كثيرا أو قليلا ، ولو وصف الإحسان.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ) (٣١) [النحل : ٣١] عام مطرد ، لا يقال : لو شاءوا الظلم أو الزنا لم يكن لهم فيها ، لأنا نقول : يصرفون عنه فلا يشاءونه / [١١٨ أ / م] لغناهم عنه بخير منه ، أو لمجرد الصرف عنه.

(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٣٥) [النحل : ٣٥] سبق القول على نظيرها في الأنعام.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣٦) [النحل : ٣٦] عام أريد بها الخاص ، أي في كل أمة من البشر ونحوهم ، وربما زعم قوم أنها مطردة في أمم الحيوان كالطيور والسباع والأنعام بناء على أنهم عقلاء ، وفيه خلاف / [٢٥٢ / ل] مشهور ، ويحتج له بنحو : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا

٣٧٤

طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) [الأنعام : ٣٨] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) [النور : ٤١] ، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤) [الإسراء : ٤٤] ونحو ذلك.

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣٦) [النحل : ٣٦] هو مثل (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) [الأعراف : ٣٠].

(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٣٧) [النحل : ٣٧] يحتج به الجمهور على تقدير أن فاعل يضل هو الله ـ عزوجل ـ والمعتزلة على تقدير أن فاعله راجع إلى «من» لنسبة الضلال إلى المكلف ، ويحمله الجمهور على أن معناه يضل بالكسب ، أو على تقدير التفويض على ما عرف ، وعلى تقدير يضل غير مسمى الفاعل يحتج به الفريقان لتردد فاعل الضلال بين الله ـ عزوجل ـ وغيره كالشيطان نحو (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) [الأنعام : ١٠٨]. (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤) [النمل : ٢٤].

(أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) [الأنعام : ١٢٢] ونحوه.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٨) [النحل : ٣٨] فيه إثبات البعث على منكريه ، وتعليله

٣٧٥

بأمرين أحدهما بيان ما يختلفون فيه ، والثاني تكذيب الكفار في دعاويهم الباطلة كإنكار البعث ونحوه ، وقد دلت هذه على أن كشف الحقائق المختلف فيها إنما يكون في الآخرة ، لأن هذه الدار كما أنها دار تكليف لا جزاء كذلك هي دار خلف لا كشف.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) [هود : ١١٩] (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) [ق : ٢٢]. وشبهتهم في إنكار البعث : أن الأجسام إذا انحل تركيبها تلاشت وصارت عدما محضا ونفيا صرفا ، وإعادة ما ذلك شأنه محال.

وجوابه : لا نسلم أنها إذا انحلت صارت عدما محضا بل تنحل إلى جواهر مفردة قارة الحقائق حافظة لمواد الأجسام ، والإعادة بجمع تلك الجواهر وتأليفها ثانيا كما كانت أولا ، ومثاله عقد انقطع سلكه فتفرق حبه ، فإعادته عقدا بجمعه ونظمه ، سلمنا أنها تصير عدما محضا. لكنها مع ذلك يجوز إعادتها عن عدم ، كما جاز ابتداؤها عن عدم ، وتمام القول في هذا يأتي إن شاء الله ـ عزوجل ـ :

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النحل : ٤٠] هذا بيان لوقوع البعث ومستند صحته ، وهو صلاحية القدرة الأزلية لفعل / [١١٨ ب / م] كل ممكن ، فإن قيل : لا نسلم أن إعادة المعدوم وبعث الموتى ممكن حتى يدخل تحت عموم المقدورية ، قلنا : بيان إمكانه من وجهين : أحدهما أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته.

الثاني : أن كل حقيقة وماهية من جسم وغيره فوجودها من حيث هو إما ممكن أو ممتنع ، فإن كان ممكنا حصل المقصود وجاز إيجادها ثانيا كإيجادها أولا ، وإن كان ممتنعا فامتناعه إما / [٢٥٣ / ل] لذات تلك الماهية ، أو لبعض لوازمها ، أو لأمر خارج عنها ، فإن كان لذاتها أو للازمها لزم ألا توجد ابتداء ، وإنه باطل ، لأنها قد وجدت ابتداء فتعين أن امتناع وجودها لأمر خارج عن حقيقتها وعارض من عوارضها ، وذلك العارض يجوز انفكاكه عنها ومفارقته لها ، فيزول امتناع وجودها لزوال سببه ، وحينئذ يبقى وجودها جائزا ، وهو المطلوب ، أو نقول : يكون وجودها معلقا على أمر ممكن ؛ وهو انفكاك ذلك الأمر العارض عنها ، والمعلق على الممكن ممكن ، فكل ماهية إعادتها ممكنة ، وهو المطلوب ، ويورد على هذه الآية سؤال ، وهو أن الشيء المراد كونه متى يقال له : كن ، أفي حال وجوده ، أو في حال عدمه؟

٣٧٦

إن كان الأول ، فتكوينه تحصيل الحاصل ، وإن كان الثاني ، فليس حينئذ شيئا حتى يقال له : كن ، والآية تضمنت أن الذي يقال له : كن شيء ، والشيء في اللغة الموجود ، وهو نقيض المعدوم.

والجواب : على رأي المعتزلة سهل ؛ لأن عندهم بين الموجود والمعدوم واسطة تسمى الثابت ، وهو لا موجود ولا معدوم ، فعلى هذا معنى الآية : إذا أردنا إخراج بعض هذه الأفراد الثابتة إلى الوجود ، قلنا له : كن موجودا أو كن خارجا عن حال الثبوت إلى الوجود ، فيخرج.

أما على رأي الجمهور النفاة لهذه الواسطة ؛ فنقول : إن للحقائق بالنسبة إلينا وجودا خارجيا وذهنيا ولسانيا وبنانيا ، أي : بالكتابة بالبنان ، والوجود الذهني صورة [في الذهن] مطابقة للخارجي ، وإذا عرف هذا فنحن نثبت الحقائق بالنسبة إلى الله ـ عزوجل ـ وجودا علميا على وزان وجودها الذهني بالنسبة إلينا ، وحينئذ معنى الآية : إذا أردنا إيجاد شيء من الموجودات العلمية إلى الخارج ، قلنا له : كن فيكون ، فباعتبار وجوده في العلم صح تسميته شيئا وموجودا وباعتبار عدم وجوده في الخارج صح إيجاده وقبوله لتأثير المؤثر.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٣) [النحل : ٤٣].

هذا / [١١٩ أ / م] جواب من قال : (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٢٤) [القمر : ٢٤].

أو جواب من قال : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٢١) [الفرقان : ٢١].

أو (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) [الأنعام : ٨] ونحوه ، وتقرير شبهتهم : أن هذا رجل مثلنا ، فاختصاصه بالرسالة دوننا ترجيح بلا مرجح ، فأجيبوا ، بأنا قد أرسلنا قبله رسلا رجالا إلى أممهم السالفة ، وقد سلمتم ذلك ، فإن لزم المحال من إرسال محمد إليكم ، فيلزم من إرسال الرجال إلى من قبلكم ، وهذا واف في إبطال شبهتهم ، أما بيان عدم لزوم الترجيح بلا مرجح ، فقد سبق في سورة إبراهيم ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده.

٣٧٧

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي عن الرسل / [٢٥٤ / ل] المتقدمين ، هل كانوا رجالا أم لا ، اسألوا عنهم أهل الكتاب إن أنكرتم أو جهلتم ذلك ، فهذا الأمر الخاص هو سبب هذا الكلام.

ثم احتج العلماء بعموم لفظه على جواز تقليد العامي للعالم ، وبمفهومه على أن العالم [لا يقلد العالم] وفي هذه أقوال ثالثها : يقلده لنفسه لا لغيره ، ورابعها : يقلده إن ضاق الوقت ولم يجد الحكم في حاصله ، واستدلالهم بهذه الآية على هذا الحكم بناء على أن النص الوارد على سبب خاص يعتبر عموم لفظه لا خصوص سببه ؛ خلافا لمالك في ذلك وفيه عندهم تفصيل ، وهو أن اللفظ إن استقل دون سببه اعتبر عمومه ، وإن لم يستقل دونه اختص به.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤) [النحل : ٤٤] هذا متعلق «بأرسلنا» لا ب «تعلمون» أي : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٣) [النحل : ٤٣] بالبينات أي أرسلناهم (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤) [النحل : ٤٤] ، [هذا متعلق] وليس معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون البينات والزبر ، وإنما نبهت على هذا ؛ لأن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي في تعليقته في أصول الفقه تأول الآية على هذا ، وعلق الباء ب «تعلمون» ، وليس الأمر كذلك ، والوجه ما ذكرناه.

(بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤) [النحل : ٤٤] أي : كما أرسلنا الرسل قبلك بالبينات والزبر أرسلناك بالقرآن.

وأنزلناه إليك (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وفي هذا مسائل :

الأولى : أن في الكتاب ما يحتاج إلى البيان ، وإلا لم يكن للتعليل المذكور وبيان الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فائدة.

الثانية : جواز التكلم بالمجمل لاستلزام الحاجة إلى [بيان ذلك].

الثالثة : ما نزل إليهم ، إن كانت «ما» نكرة موصوفة ، فالتقدير : لتبين للناس شيئا أو

٣٧٨

كلاما نزل إليهم فلا عموم فيها ، وإن كانت بمعنى الذي فهو عام أريد به الخاص وهو المجمل / [١١٩ / ب / م] الكتابي ؛ إذ فيه كثير مما هو بيّن بذاته ، لا يحتاج إلى بيان.

الرابعة : أن بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن إذا وجد كان مقدما على غيره ؛ لأنه المخصوص ببيان الكتاب.

الخامسة : وجوب العمل بخبر الواحد ؛ لأن بيان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقرآن واجب القبول ، والتواتر فيه نادر ، فلو لم تقبل الآحاد لتعطل أكثر البيان.

السادسة : جواز بيان المتواتر بالآحاد بخلاف النسخ ؛ لأنه رفع والبيان كشف ، والأقوى يكشف الأضعف ، ولا يرفع به.

السابعة : (للناس) عام مخصوص بمن ليس بمكلف ، إذ لا حاجة له إلى البيان ، وبالكفار لأن البيان فرع الكتاب ، وهم ينازعون في الأصل فلا يفيدهم البيان ، وإنما يدعون أولا إلى الإيمان بالأصل ثم يبين لهم.

الثامنة : قوله ـ عزوجل ـ : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٤) [النحل : ٤٤].

أي : أنزلناه إليك مبلغا ، نزل إليهم مكلفين به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [٢٥٥ / ل] من حيث هو مكلف بأحكام الكتاب داخل في عموم الناس في التكليف ، أو تقديره : أنزلناه إليك لتبلغه ، وتعمل به ، ونزل إليهم ليعملوا به.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٤٩) [النحل : ٤٩] ليس هذا من باب عطف الخاص على العام ، إذ الملائكة ليسوا دواب وإنما هو من باب : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) [النساء : ١٧٢] في كون كل واحد من المعطوفين أفضل مما قبله.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠) [النحل : ٥٠] يحتج به مثبتو جهة العلو ، حملا للفوقية على المحسوسة خصوصا ، وقد أضيفت إلى الملائكة الذين هم غالبا في السماء ، وفوقيتهم محسوسة ، وحملها الخصم على الفوقية المعقولة بالربوبية والمالكية والقدرة والعظمة ونحوها.

(وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠) [النحل : ٥٠] يحتج به على عصمتهم ، إذ لا معنى

٣٧٩

للمعصوم إلا المحفوظ من المعاصي ، وهؤلاء إذا فعلوا ما يؤمرون لزم أنهم لا يعصون ، لأن الأمر إما بفعل أو كفّ عن فعل فيدخل في فعلهم ما يؤمرون فعل المأمورات وترك المحظورات ، ولا شيء من المعصية ينسب إلى من كان كذلك.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٥١) [النحل : ٥١] هذا نهي عن الشرك ، وإثبات للتوحيد يتضمن الأمر به.

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) (٥٢) [النحل : ٥٢] إشارة إلى برهان التوحيد السابق إثباته ، وتقريره : أن كل ما يدعى إلها مع الله ـ عزوجل ـ مملوك له وكل مملوك له ليس بإله معه / [١٢٠ / م] فكل ما يدعى [إلها] معه ليس في الحقيقة إلها معه.

بيان الأولى : بالآية إذ تضمنت : أن له ما في السماوات والأرض وما كان له ، فهو مملوك له.

بيان الثانية : أن الإله مالك ، والمملوك من حيث هو مملوك لا يكون مالكا ، فالإله ليس بمملوك ، فالمملوك من حيث هو لا يكون إلها ، وإن شئت قلت : لو كان مع الله إله غيره لكان مملوكا له ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ، بيان الشرطية أن ذلك الغير مما في السماوات والأرض ، وكل ما في السماوات والأرض مملوك له ، فذلك الغير مملوك له بيان انتفاء اللازم استحالة اجتماع المملوكية مع الإلهية بما سبق.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (٥٥) [النحل : ٥٥] هذا أمر تهديد مثل : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤٠) [فصلت : ٤٠].

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) [النحل : ٥٧] هذا حكاية مذهب الكفار ، زعموا أن الملائكة بنات الله ؛ لأنهم أشخاص شريفة ، ولا بد لهم أن يصدروا / [٢٥٦ / ل] بالولادة من غيرهم ، ولا أشرف من الله يصدرون بالولادة عنه ، ثم هم ليسوا بذكور ، فكانوا إناثا بنات الله ، وهذا تلفيق بحسب عقولهم وما ألفوه ، والملائكة صادرون عن الله ـ عزوجل ـ بالخلق والاختراع ، لا بالولادة ، ثم رد الله عليهم بوجهين :

أحدهما : التنزيه الحقيقي العقلي ، فقال عزوجل : (سُبْحانَهُ) أي تنزه عن اتخاذ

٣٨٠