الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

[الأحقاف : ١٧] إنكار منه للبعث ، وجوابه قولهما له : (وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) [الأحقاف : ١٧] أي وقد وعد بالبعث.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٩) [الأحقاف : ١٩] يحتج به على أن للأعمال أثرا في تفاوت الدرجات ؛ فيقال : إنه يقال لأهل الجنة : ادخلوها برحمة الله واقتسموها بأعمالكم.

(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٥] قيل : وهو عام خص بالحس لمشاهدتنا السماوات والأرض لم تدمر ، والأشبه أنه عام أريد به الخاص ، وهو ما يختص بقوم عاد من المساكن والأموال والأنفس ونحوها ، بدليل : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) [الذاريات : ٤٢] فحصر ما دمرته بما أتت عليه ، وإنما أتت على أرض عاد.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (٢٩) [الأحقاف : ٢٩] إلى قولهم : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٣١) [الأحقاف : ٣١] يحتج به على وجود الجن ، وأن منهم مسلمين.

وقولهم : (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣٠) [الأحقاف : ٣٠] لعلهم كانوا على دين التوراة ، فلذلك خصوا بالذكر موسى دون عيسى.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣٣) [الأحقاف : ٣٣] استدلال / [١٨٥ ب / م] على منكري البعث وقد سبق في هذه السورة في قول القائل : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧) [الأحقاف : ١٧] وقد سبق تقرير هذا الدليل في «يس» وغيرها.

٥٨١

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) [الأحقاف : ٣٥] قيل : هم جميع الرسل ، وقيل : هم الخمسة المذكورون في قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧) [الأحزاب : ٧] ، وقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣].

ويحتمل أنهم المذكورة قصتهم في سورة هود ، وهم سبعة لقوله في آخرها : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠) [هود : ١٢٠] والأشبه الأول / [٣٨٦ / ل] ؛ لأنه في غالب القرآن إنما يؤسيه بعموم الرسل نحو : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤) [الأنعام : ٣٤].

* * *

٥٨٢

القول في سورة محمد

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٢) [محمد : ٢] عطف خاص على عام ، وهو يدل على أن الإيمان بالقرآن أخص وأفضل أنواع الإيمان ، وهو كذلك ؛ لأنه يشمل جميع أنواع الإيمان وغيرها من القصص والأخبار والأحكام.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) [محمد : ٤] يحتج به على جواز أسر الكفار إذا ظفر بهم في الحرب ، وعلى نسخها لآية الأنفال : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧) [الأنفال : ٦٧] أو أن هذه كان حكمها إلى غاية الإثخان ، وقد حصلت فلا يكون نسخا ، بل انقضاء حكم بانقضاء مدته كالإجازة.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) (٤) [محمد : ٤] يحتج بها المعتزلة ؛ لأنه لو كان خالقا لأفعالهم لعلم بما يكون منهم قبل ابتلاء بعضهم ببعض ، ولم يبق للابتلاء فائدة.

وأجيب بأنه خالق لأفعالهم ، عالم بما سيكون منهم ، غير أنه أراد أن يظهر ما في علمه ليكون أمارة على حكمه وعدله في حكمه.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) (١٥) [محمد : ١٥] يحتج بها على النعيم والعذاب الحسيين ، ومثل ذلك كثير ؛ خلافا للفلاسفة والنصارى.

٥٨٣

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (١٦) [محمد : ١٦] أي خلقا.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٧] يستدل به على قبول الإيمان والهدى والزيادة والنقصان.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (١٨) [محمد : ١٨] يستدل به على قربها ؛ لأن علامات الشيء ومقدماته تدل على قربه ، وقد سبق أن القرب والبعد أمران إضافيان.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩) [محمد : ١٩] يحتج به على تقديم / [١٨٦ أ / م] أصول الدين كالتوحيد على فروعه كالاستغفار وغيره ؛ لتقديمه التوحيد هاهنا ، ولأن رتبة الأصل قبل رتبة الفرع ، وعلى أن المعتبر في الأصول العلم لا غيره ؛ لقوله : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) (١٩) [محمد : ١٩] وهذا فيه تفصيل ، وهو أن ما كان من القضايا الأصولية بديهيّا استوى فيه العالم وغيره ، واعتبر فيه العلم ، وما كان نظريا فإن كان قريبا من البديهي جاز أن يكلف العامي بالنظر فيه ليعلم ، وإن لم يكن قريبا بعد أن يكلف به العامي لإفضائه إلى تعطيل معاشه خصوصا مع كثرة الشبه ودقتها ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقنع من عامة الناس بمجرد التصديق والانقياد / [٣٨٧ / ل] لما جاء به ، ولو وجب العلم النظري عليهم بينه لهم.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (٢٣) [محمد : ٢٢ ـ ٢٣] يحتج به على جواز لعن يزيد ، وقد اختلف فيها ؛ فمنهم من منعه حسما لمادة الترقي إلى من فوقه ، ومنهم من أجازه لفجوره وقطعه الرحم الواجب صلتها.

وقد حكي عن أحمد أنه سئل عن لعن يزيد ؛ فقال : ألا يجوز لعن من لعنه الله في كتابه؟ ثم تلا هذه الآية. فقيل له : [لم لا] تلعنه أنت؟ فقال : ومن لعنت أنا حتى ألعن يزيد. فمن الناس من اقتدى بفعل أحمد في الترك ، ومنهم من اقتدى بفتياه في اللعن.

٥٨٤

ويحتمل أن يقال : من غلبت عليه الحمية لله ورسوله وإنكار المنكر جاز أن يلعنه ، ومن غلبت عليه عصبية الرافضة لم يجز له ذلك ؛ فليتفقد الإنسان نيته وقصده ، فإنما الأعمال بالنيات (١).

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) (٣١) [محمد : ٣١] علم الله على ضربين : خاص به ، وعام يشركه فيه خلقه ، وهو الذي يقوم به الحجة عليهم ، وهو المراد هاهنا ، أي : حتى نعلم المجاهدين وغيرهم علما مشتركا تقوم به الحجة ، وأظن هذا قد سبق.

__________________

(١) منهاج السنة [٤ / ٥٧٣].

٥٨٥

القول في سورة الفتح

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) [الفتح : ٢] قيل : ما تقدم من ذنب أبيك آدم ، وما تأخر من ذنب أمتك.

وقيل : على ظاهره في جواز وقوع الصغائر من الأنبياء. ويدل على ضعف الأول مخالفته للظاهر ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام حتى تورمت قدماه فقيل : أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا» (١) فدل على اختصاص الآية به دون غيره.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٤) [الفتح : ٤] يحتج به على قبول الإيمان الزيادة والنقصان / [١٨٦ م / ب].

قوله ـ عزوجل ـ (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٦) [الفتح : ١٦] احتج بها الجمهور على صحة خلافة أبي بكر ـ رضوان الله عليه ـ وتقريره : المخلفين من الأعراب أمروا بطاعته أو بطاعة مستخلفه ، وكل من كان كذلك فهو صحيح الخلافة ؛ فأبو بكر صحيح الخلافة.

أما الأولى فلأن المراد بالمخلفين هم الذين تخلفوا عن تبوك ، وقد أخبر الله ـ عزوجل ـ أنهم سيدعون إلى قتال قوم أولي بأس شديد ، وأن الداعي لهم إلى ذلك واجب الطاعة ؛ لتوعدهم على مخالفته والتولي عنه ، وهذا الداعي إما أبو بكر فيحصل المقصود أو عمر ، وهو خليفة أبي بكر وفرع عليه ، وإذا وجبت طاعة عمر ـ رضي الله عنه ـ صحت خلافته ، ويلزم صحة خلافة مستخلفه أبي بكر / [٣٨٨ / ل] ، وإنما قلنا : إن هذا الداعي أحد الرجلين ؛ لأن القوم أولي البأس الشديد إما بنو حنيفة والمجاهد لهم أبو بكر ، أو فارس والروم والمجاهد لهم عمر.

وأما الثانية : فلأن من لا يكون صحيح الخلافة لا تجب طاعته ، أو نقول : لأنهم توعدوا على مخالفته بالعذاب الأليم ، ووعدوا على طاعته بالأجر الحسن ؛ وكل من كان كذلك كان صحيح الخلافة ؛ إذ لا نعني بصحيح الخلافة إلا من وجبت طاعته وحرمت مخالفته.

__________________

(١) رواه البخاري [١ / ٣٨٠ ، ٤ / ١٨٣٠ ، ٥ / ٢٣٧٥] ح [١٠٧٨ ، ٤٥٥٦ ، ٦١٠٦] ومسلم [٤ / ٢١٧١] ح [٢٨١٩].

٥٨٦

واعترض الشيعة [لعنهم الله] على هذا بأن قالوا : لا نسلم أن المخلفين أمروا بطاعته ، قوله : المخلفون هم الذين تخلفوا عن تبوك ، قلنا : لا نسلم ، وإنما هم المخلفون عن الحديبية ، وقد تخلف عنها جماعة من المنافقين كما ذكره المفسرون ، والذي يدل على أن هؤلاء المخلفين غير أولئك اختلافهم في علة التخلف ، فهؤلاء مخلفو الحديبية قالوا : (شغلتنا أموالنا وأهلونا). وأولئك مخلفو تبوك ؛ قالوا : (لا تنفروا في الحر) ، ومنهم من قال : (ائذن لي ولا تفتني) ، يعني بنساء الروم اذا غزاهم افتتن بهن. وإنما وقع الاشتباه من اشتراك لفظ المخلفين بين مخلفي الحديبية وتبوك.

قوله : وهذا الداعي إما أبو بكر أو عمر ، قلنا : لا نسلم ، وإنما يصح هذا أن لو ثبت أن المخلفين بين مخلفي الحديبية وتبوك.

قوله : القوم أولو البأس الشديد إما بنو حنيفة أو فارس ؛ قلنا : لا نسلم ، وإنما هذا بناء منكم على أن الداعي أبو بكر أو عمر ، وهو ممنوع على ما سبق ، وإنما أولو البأس الشديد هوازن ، والداعي إلى قتالهم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مفترض الطاعة بلا خلاف (١).

وقد ذهب جماعة من جلة / [١٨٧ أ / م] المفسرين إلى أنهم هوازن ، وقد ثبت أن الداعي إلى قتالهم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجدير بهوازن أن يكونوا أولي بأس شديد ، والله ـ عزوجل ـ يقول للمؤمنين : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢٥) [التوبة : ٢٥] وحسبك منهم قوم لم ينتصف منهم إلا بالمعجز الإلهي النبوي حيث رماهم بقبضة تراب ، فقال الله ـ عزوجل ـ : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٧) [الأنفال : ١٧] قالوا : فثبت أن هذه الآية في مخلفي الحديبية ورسول الله وهوازن ، لا في مخلفي تبوك وأبي بكر وفارس أو بني حنيفة.

واعلم أن الخلاف في هذه الآية وهذه المسألة مبني على أولي البأس الشديد من هم؟ وقد اختلف فيه المفسرون ـ كما ذكره ابن عطية وغيره ـ ومع الخلاف لا يمكن الجزم بشيء.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ

__________________

(١) انظر منهاج السنة [٨ / ٥٠٤ ـ ٥١٩].

٥٨٧

مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) [الفتح : ٢٩] خلافا لليهود والنصارى.

لنا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [٣٨٩ / ل] ادعى النبوة وأتى بالمعجز ، وكل من فعل ذلك فهو رسول الله ؛ فمحمد رسول الله ، وجميع هذه المقامات قد سبق تقريرها على اليهود في إثبات المسيح إلا كونه أتى بالمعجز ، والدليل عليه من وجوه :

أحدها : أنه أتى بالقرآن ، وهو غير كاتب ولا قارئ ولا مدارس بالعلوم ؛ فتحدى به العرب الفصحاء ؛ فأعجزهم أن يعارضوه ، وذلك بعد كل شك وسؤال يورد يقتضي أنه معجز ، وقد تقرر هذا في مواضع من هذا التعليق.

الثاني : أن القمر انشق له معجزا استفاض ذلك في السنة بعد أن تواتر في القرآن.

الثالث : تسليم الحجر عليه.

الرابع : نبع الماء من بين أصابعه حتى سقى جيشا وتطهروا منه.

الخامس : أنه أشبع جيشا عشرين ألفا وزودهم حتى ملئوا أوعيتهم من نحو سبعة أو ثمانية آصع.

السادس : تسليم الشجر عليه.

السابع : إخباره بالغائبات فلم يخرج شيء منها.

الثامن : إخباره عن قصص الماضين ، فوافق ما عند أهل الكتاب.

التاسع : تظليل الغمام له [وميل ظل] الشجرة عليه لتظله.

العاشر : أنه رمى هوازن ـ هم عشرون ألفا ـ بكف تراب فملأ أعينهم جميعهم فانكسروا.

وهذا قليل من كثير من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن وفق علم بالضرورة صحتها لتواترها عند المسلمين على كثرتهم تواترا لفظيا أو معنويا ، ثم علم بالضرورة أن من ظهر ذلك على يده نبي صادق.

وأيضا فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إما أن يكون نبيا صادقا أو ملكا ما حقا ، فالثاني باطل ، فالأول حق ، أما الحصر فلأنه لا / [١٨٧ ب / م] قائل بثالث ؛ لأن المسلمين يقولون : هو نبي صادق ، والخصم ممن ينكر نبوته يقول : هو ملك ما حق ، أعطي نصرة وسعادة حتى قهر أعداءه ومحقهم ، ثم استولى على دعوى النبوة.

وأما بطلان كونه ملكا كما زعموا فلأن العادة المطردة والاستقراء التام استمر

٥٨٨

بانقراض دول الملوك وسياساتهم بموتهم ، ودولة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باقية مستمرة نحو ألف سنة ، وهي في زيادة وقوة ، وذلك يدل على أنه ليس بملك كما زعموا ، وينتظم الدليل هكذا : لا شيء من دول الملوك بباق بعدهم ، ودولة محمد باقية بعده ؛ وذلك ينتج المطلوب. وإذا انتفى كونه ملكا ما حقا تعين أنه نبي صادق ؛ ضرورة انحصار الحكم في أحد القسمين عند انتفائه عن الآخر ، وقد بسطت هذا غير هاهنا.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) [الفتح : ٢٩] يحتج به الجمهور على كفر الرافضة المبغضين للصحابة ، وتقريره أن من أبغضهم فقد غاظوه ، وكل من / [٣٩٠ / ل] غاظوه فهو كافر ، فمن أبغضهم فهو كافر [ينضم إليها صغرى : الرافضة يبغضونهم وكل من أبغضهم فهو كافر] ، فالرافضة كفار ، والمقدمات واضحة.

والرافضة لما رأوا قوة هذا الدليل فزعوا إلى التأويل ، فتارة حملوا (وَالَّذِينَ مَعَهُ) على أهل البيت وأتباعهم ومن أحبهم ، دون من تحامل عليهم ونكث عهدهم ، وجعلوه من باب العام المخصوص ، أو المراد به الخاص ، وتارة حملوا الكلام في الكفار على العهد ، لا الاستغراق ، أي ليغيظ بهم الكفار المعهودين في عصرهم ، أو من أبغضهم عنادا بغير حق ، أما من أبغضهم بتأويل واجتهاد مستندا إلى حجة أو شبهة ، فلا نسلم دخوله تحت هذا الوعيد ، وربما منعوا المقدمة القائلة : كل من غاظوه فهو كافر ؛ لأن القرآن إنما دل على أن كل كافر يغتاظ من الصحابة بالضرورة ، وإنما تنعكس هذه إلى أن بعض من يغتاظ منهم كافر بالإطلاق ، لا إلى كل من يغتاظ منهم كافر ، وحينئذ يكون كبرى القياس جزئية ، فلا ينتج ، وهذا المنع أجود من تأويلهم.

* * *

٥٨٩

القول في سورة الحجرات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١) [الحجرات : ١] أي لا تسبقوه بالرأي والكلام ، وسبب الآية يدل عليه ، وهو تنازع أبي بكر وعمر [كرم الله وجوههما] في تولية الأقرع بن حابس أو القعقاع بن عمرو.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢) [الحجرات : ٢] ، فيه احترام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وحبوط العمل بالتفريط في حسن الأدب معه / [١٨٨ أ / م] ، وهذا مستمر بعد موته كحال حياته ، بلغ أبلغ.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٦) [الحجرات : ٦] اعلم أن الناس إما معلوم العدالة فيقبل خبره ، أو معلوم الفسق فلا يقبل خبره ، أو مجهول الحال فيقبل خبره ، أبو حنيفة دون الشافعي ، ظاهر هذه الآية مع أبي حنيفة ؛ لأنه أمر بالتبيين والتثبت عند خبر الفاسق. ومفهومه أن عند غيره لا يجب ذلك بل يقبل ، وذلك يتناول القسمين الآخرين كأنه قال : إن أخبركم فاسق فتبينوا وإلا فاقبلوا. ولعل مأخذ الخلاف أن شرط قبول الخبر العلم بعدالة الراوي ، فلا يقبل خبر [المجهول لعدم العلم بعدالته ، أو عدم العلم بفسقه فيقبل خبر المجهول] إذ ليس معلوم الفسق ، وهو ظاهر الآية كما قلنا ، ثم يتفرع على هذا قبول المرسل : وهو ما سقط من إسناده راو تابعي عند المحدثين ومطلق عند غيرهم ؛ لأن الراوي الذي سقط ذكره مجهول والخلاف والأحوط أن لا يقبل.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٧) [الحجرات : ٧] فيه إثبات تصرف الله ـ عزوجل ـ في القلوب وتقليبها ، وأنه يحبب إليها ما يشاء فتحبه / [٣٩١ / ل] فتقبل عليه ، ويكره إليها ما يشاء فتكرهه فتعرض عنه ، ويترتب على ذلك خلق الأفعال ، ومذهب [الجمهور في الكسب] والجبر.

٥٩٠

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) [الحجرات : ٩] احتج به من رأى أقل الجمع اثنين ، وتقريره أنه رد ضمير الجمع إلى الطائفتين ، ولو لا أنهما جمع لما حسن ذلك ، وبوجوه أخر :

أحدها : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) [الحج : ١٩].

وثانيها : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٧٨) [الأنبياء : ٧٨].

وثالثها : قول يوسف عليه‌السلام : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) [يوسف : ٣٩] ثم قال : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠) [يوسف : ٤٠].

ورابعها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اثنان فما فوقهما جماعة» (١) فأخبر بالجماعة عن اثنين.

وخامسها : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم : ٤].

وسادسها : أن الجمع ضم شيء إلى غيره ، وهو موجود في الاثنين.

واحتج به الآخرون بوجوه :

أحدها : قول ابن عباس لعثمان : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، فلم ينازعه في

__________________

(١) رواه ابن ماجة ، كتاب إقامة الصلاة [١ / ٣١٢] ٩٧٢] والحاكم [٤ / ٣٣٤] ورواه البيهقي [٣ / ٦٩] والدارقطني [٣ / ٢٨١] ورواه أحمد [٥ / ٢٥٤] والطبراني في المعجم الكبير [٨ / ٢٤٨ / ٧٩٧٤] والبخاري في صحيحه في ترجمة بابل [٢ / ١٦٦ / ٦٥٨].

٥٩١

ذلك ، وإنما احتج بالإجماع وذلك في حجب الأم بالأخوين.

الثاني : لو كان الاثنان أقل الجمع لصح أن يقال : رأيت رجلين ثلاثة أو ثلاثة رجلين ، أو رأيت الرجلين كلهم أو الرجال كلاهما ، وليس كذلك بإجماع.

الثالث : أن أهل اللغة وضعوا لكل واحد من التثنية والجمع بابا [وصيغة غير] ما وضعوا للآخر ، فقالوا : مسلمان ومسلمون ، ورجلان ورجال ، فدل على التغاير.

والجواب عن حجة الأولين / [١٨٨ ب / م] أما عن الأول : فإن الطائفة تصدق على الواحد والجماعة ، والطائفتان جماعة ، فرد إليهما ضمير الجمع باعتبار أفرادهما ، ثم عاد إلى ضمير التثنية في : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) [الحجرات : ٩] إلى آخره ، باعتبار الفريقين ، فحاصله أن في الطائفتين جهتي تثنية وجمع فرد إليهما ضمير الجمع والتثنية بالاعتبارين ، وكذا القول في : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) (١٩) [الحج : ١٩] ، (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٢١) [ص : ٢١] على ما مر في موضعه.

وعن الثالث : أن الضمير في (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٧٨) [الأنبياء : ٧٨] عائد إلى سليمان وداود المتحاكمين إليهما وهم جماعة.

وعن الرابع : أن المراد صاحبا السجن وقومهما.

وعن الخامس : أن الاثنين جماعة في حكم الصلاة ، وحصول أصل فضيلة الجماعة ، لا أنهما جماعة في اللغة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بعث لبيان أحكام الشرع لا اللغة.

وعن السادس : أن : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم : ٤] كناية عن إرادتكما التي مبدؤها القلب ، أو تثنية لفظية لئلا يجمع بين تثنيتين لو قال : قلباكما.

٥٩٢

وعن السابع : أن الجمع أخص مما ذكرتم ، وهو ضم شيء إلى أكثر منه ، وهو غير موجود في التثنية.

وقد أورد على هذه / [٣٩٢ / ل] المسألة ، إشكال وهو أنه إن أريد أن الاثنين أقل جمع الكثرة فأقله أحد عشر على ما صرح به أهل العربية : أن جمع القلة ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وجمع الكثرة ما فوق ذلك. وإن أريد أقل جمع القلة فمقتضى كلامهم أعم من ذلك ؛ لأنهم جعلوا من جمع القلة الجمع السالم ، نحو مسلمين ومسلمات ، (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) (٣٧) [سبأ : ٣٧].

ويمكن أن يجاب عنه بأن الجمع ضم شيء إلى غيره ، وهو من حيث هو أعم من جمع القلة والكثرة لانقسامه إليهما ، فجاز أن يراد به أن الاثنين أقل الجمع المطلق من حيث هو ، وهو ما صح أن يرد إليه ضمير الجمع.

واستدل بالآية على أن الفاسق لا يخرج عن وصف الإيمان ؛ لأن البغي فسق والباغي فاسق ، وقد أطلق عليه وصف الإيمان في قوله ـ عزوجل ـ (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) [الحجرات : ٩] فسمى الجميع مؤمنين ، وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن : «إن ابني هذا سيد ولعل الله [يصلح] به بين فئتين [عظيمتين] من المسلمين» (١) يعني أهل العراق وبغاة الشام ، وفى الاستدلال بهذا الحديث [نظر].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١١) [الحجرات : ١١] احتج به من يرى أن القوم خاص بالرجال ؛ لأنه قابله بالنساء فيكون قسيما للقوم ، وقسيم الشيء استحال أن يدخل تحته ويكون قسما منه / [١٨٩ أ / م] ولقول الشاعر :

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصلح [٢٧٠٤].

٥٩٣

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

والاستدلال به كما سبق ، ولأن القوم مشتق من القيام بالأمور ، وهو وصف الرجال لا النساء ، والرجال قوامون على النساء ، ولأن العرب تقول : يا لقومي ، وإنما يستغاث ويستنجد بالرجال لا النساء.

واعترض على الأولين بأنه إنما اختص القوم فيهما بالرجال لقرينة المقابلة والتقسيم ؛ فلعله لو لا ذلك لما دل.

وعلى الثالث بأن النساء لهن حظ في القيام بالأمور : كخدمة المنازل وتربية الأولاد ونحوه.

وعن الرابع بأنه معارض بقولهم : هذه امرأة من قومي ، ولو لا صدق القوم على النساء لما صح ذلك.

واحتج الآخرون بوجوه :

أحدها : قوله ـ عزوجل ـ : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (١٠٥) [الشعراء : ١٠٥] ونحوه ، وهو يتناول النساء.

الثاني : ما سبق من قولهم : هذه امرأة من قومي.

الثالث : لو وصى لقومه دخل النساء.

الرابع : أن الرجال والنساء كل منهما يتقوم بالآخر في التناسل والوجود ، فمعنى القوم موجود فيهما / [٣٩٣ / ل].

واعترض على الأولين بدخول النساء في القوم تبعا لتغليب الرجال.

وعلى الثالث بأنهن دخلن بقرينة الوصية ، وأن مقصودها البر وصلة الرحم.

وعلى الرابع بأن القوم راجح في الرجال ، ولذلك كان النسب شرفا ودناءة مختصا بهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١٣) [الحجرات : ١٣] هذا في مشروعية علم النسب وتفاصيله في الكتب.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤) [الحجرات : ١٤] يحتج به على أن الإيمان غير الإسلام ؛ لأنه سلب الإيمان وأثبت

٥٩٤

الإسلام فاقتضى التغاير ، وهو كذلك لغة وشرعا ومركبا منهما.

أما لغة : فالإيمان التصديق ومحله القلب ، والإسلام الانقياد ومحله القلب والبدن جميعا ، فهو أعم ، والتغاير حاصل ، وهذا وهو المراد بالآية ، أي : لم تؤمنوا بقلوبكم ، وإنما أسلمتم ، أي : انقدتم بظواهركم.

وأما شرعا : فلأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر الإيمان في حديث جبريل بالتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، وهي الشهادتان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج ، والتغاير أيضا حاصل ؛ لأن عمل القلب غير عمل البدن ، وما تعلق بالباطن غير ما تعلق بالظاهر.

وأما مركبا منهما : فالإيمان لغة : التصديق ، والإسلام شرعا ما ذكر من الأعمال الظاهرة وهما متغايران ، وإن كان العمل الظاهر قد [يلزم التصديق] / [١٨٩ ب / م] ، والتصديق قد يترتب عليه العمل الظاهر ، والإسلام لغة : الانقياد بالباطن أو الظاهر أو بهما ، والإيمان شرعا : التصديق بالله ـ عزوجل ـ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (١) ، وهما متغايران ، وإن كان التصديق بهذه الأركان قد يترتب عليه الانقياد الظاهر ، والانقياد بالظاهر قد يلزمه التصديق بهذه الأركان ، أما التصديق بهما والانقياد بالباطن فهما واحد أو متلازمان.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) [الحجرات : ١٥] إن قيل : هذا تعريف الشيء نفسه.

قلنا : ليس كذلك ، بل هو تعريف الإيمان الشرعي باللغوي ، أي : إنما المؤمنون شرعا الذين آمنوا لغة ، أي : صدقوا بالله ورسوله ، وهو كقوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لجبريل حين سأله عن الإيمان : «الإيمان أن تؤمن بالله» إلى آخره.

__________________

(١) انظر شرح البيجوري على الجوهرة [ص / ٤٣].

٥٩٥

القول في سورة ق

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) (٢) [ق : ٢] سبق القول في أول سورة يس وغيرها.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) (٣) [ق : ٣] هذه شبهة منكري البعث من الكفار وتقريرها : أننا بالموت نصير / [٣٩٤ / ل] ترابا ، والتراب استحال أن يرجع بشرا سويا ، فنحن نستحيل أن نرجع بعد الموت بشرا كما كنا.

والجواب : ما أشار الله ـ عزوجل ـ إليه بقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (٤) [ق : ٤] وتقريره أن يقال : أما قولكم : إنا نصير بالموت ترابا ؛ فصحيح ، وأما قولكم : التراب استحال أن يرجع بشرا سويا ؛ فباطل ممنوع ، بل هو ممكن ، وبيان إمكانه أن الإنسان ينحل بدنه بعد ما تنقص الأرض والبلى منه إلى جواهر حافظة لصورها باقية ، ونحن نعلم أعيان تلك الجواهر وأماكنها من الأرض ومن بدن الإنسان ، فنحن نؤلف تلك الأجزاء بعضها إلى بعض بعلمنا وقدرتنا ، ثم ننشئ عوضا عما نقصت الأرض منه ، ثم نعيده بشرا سويا ، وهذا أمر ممكن لا ينكره العقل ولا يقصر عن إدراكه ، وإنما ضل هؤلاء من حيث الجهل ، إذ نزلوا الممكن البعيد عنهم منزلة المستحيل في نفسه ، فاختلط عليهم الحق بالباطل والصواب بالخطإ.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥) [ق : ٥] أي : مختلط ، وينتظم الدليل هكذا : الجسم ينحل إلى جواهر معلومة المحال ، وكل ما كان كذلك أمكن إعادته ، فالجسم أمكن إعادته ، والأولى ثابتة بهذه الآية ، والثانية واضحة على ما قررنا ، ولنضرب لبعث الأجساد أمثلة تقربه :

أحدها : أن الأرواح كطيور فارقت أبراجها وأقفاصها وانهدم البرج بعد مفارقتها ، فإذا أريد عودها إليه أعيد عامرا ثم عادت إليه.

الثاني : / [١٩٠ أ / م] أن الناس في حياتهم وموتهم وبعثهم كقوم تجردوا عن ثيابهم ثم صاح بهم صائح لأمر مهم ، فبادر كل منهم إلى ثوبه فدخل فيه ثم أجاب ، والجسد كالثوب ، وقد بينا إمكان إعادته وأنه سيعود.

الثالث : أن الجسم كعقد انقطع سلكه ، فإذا أريد إعادته منظوما التقط حبه من مواضعه ثم نظم في سلكه.

٥٩٦

الرابع : أن شبكة العنكبوت قد تنخرق وتنقطع فيتجرد عنها ثم تعود فيعود إليها.

الخامس : السيف يجرد من غمده ثم يرث الغمد ويخلق ، ثم يجدد وإليه يعاد السيف فيغمد.

السادس : النحل يفارق بيته الذي بناه فربما خرب ثم يعاد فيعاوده ، ونظائره كثيرة ما بين قريب في التمثيل وبعيد ومتوسط ، وأقربها التمثيل بالطير والقفص ، إذ الروح كطائر في قفص مربوط في رجله خيط طويل فهو يطير ما بين اليوم والليلة مرة أو مرارا ثم يجذب بذلك الخيط فيعود ، فإذا انفلت من ذلك الخيط طارت وطالت / [٣٩٥ / ل] غيبته وتكسر القفص ، فإذا كان وقت عوده جدد القفص كما كان وعاد الطير إليه كما كان [وهكذا حال النفس مع البدن ، تفارق في حال النوم وتعاود لارتباطها بالبدن ، وبالموت ينحل رباطها إلى البعث ثم يعاد الجسم بعد بلائه فتعاود سكناه.

وربما ضحك الفيلسوف ومنكر البعث من هذا التقريب ، وهو أحق أن يضحك من عقله ، إذ لا يشك عاقل في إمكان ما ادعيناه وتسهيل تصور البعث بما قربناه.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) (٦) [ق : ٦] يعني السماء لا فرج فيها ، وهو لا ينفي قبولها للخرق والالتئام كما سبق ، كالثوب الصحيح يقبل الانقطاع.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) (٩) [ق : ٩] إلى (رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) [ق : ١١] هذه حجة أخرى على إمكان البعث ووقوعه ، أما وقوعه فمستنده السمع المعصوم المستند إلى دليل المعجز المعقول ، وأما إمكانه فبالقياس على إحياء الأرض بعد موتها وقد سبق غير مرة ، وتوجيهه أن أجزاء الجسم القارة في الأرض كحب الزرع في الأرض وإخراجه حيّا من الأرض كإخراج الحب نباتا منها ، وكيفية ذلك ما سبق ، والمقوم له قدرة الفاعل وقابلية القابل والحكمة اللطيفة الرابطة بين تأثير الفاعل في القابل ، فالحب / [١٩٠ ب / م] في الأرض أصل ، وأجزاء الجسم فيها فرع ، [والحكم إخراجها] نباتا وحبا ، والعلة الإمكان وتمام القدرة ولطيف الحكمة ، وربما كان ذلك بواسطة ما تمطره السماء كمني الرجال تنبت فيه الأجسام كما تنبت الحبة في حميل السيل ، وبعد هذا البيان لا ينكر البعث إلا جاهل أو معاند للبرهان.

ثم من العجب قولهم : إن التراب استحال أن يعود بشرا سويا ، مع تسليمهم أو أكثرهم

٥٩٧

أن آدم خلق من تراب فكان بشرا سويا.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) [ق : ١٥] هذا دليل آخر على البعث والمعاد بالقياس على ابتداء الخلق كما مرّ في سورة «الروم» وتقريره : لو امتنعت الإعادة لوجب أن نعيا ، أي : نعجز عن الابتداء ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ؛ بيان الملازمة أن الإعادة أهون من الابتداء كما تقرر وعرف ، ولو امتنعت الإعادة لعجزنا عنها ، ولو عجزنا عنها لكنا عن الابتداء الذي هو أصعب منها أعجز ، فلو امتنعت الإعادة لعجزنا عن الخلق الأول.

وأما بطلان اللازم ؛ فلأن الخلق الأول قد وجد منا ، ويلزم ذلك أنا لم نعجز عنه ، وإلا لما وجد ، وأما بطلان الملزوم فلاستحالة وجوده مع انتفاء اللازم ، وثم معنى الآية : أننا ما عيينا عن الخلق الأول حتى نعيا عن الثاني.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) [ق : ١٥] يعني :

الكفار (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٥) [ق : ١٥] أي : في شك واختلاط ، وهل : قوله : (خلق) ، مصدر / [٣٩٦ / ل] أو مفعول بمعنى مخلوق جديد؟ كلاهما محتمل ، فإن صح أن المراد مخلوق جديد أمكن أن يصح قول من زعم أن المعاد ليست هذه الأجسام بعينها بل غيرها مثلها ؛ إذ الجسم ليس مقصودا لذاته بل هو آلة لنعم الروح أو عذابها ، وإن كان المراد بالخلق المصدر وهو الظاهر لا يلزم ذلك ؛ لأن الإنشاء الثاني وإن كان غير الأول لكن المنشأ هو الأول بعينه كجدار ينهدم ثم يعاد بآلته بعينها ، فالبناء الثاني غير الأول والمبنى واحد.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) [ق : ١٦] ، يحتج بها الاتحادية على ما سبق.

وجوابه : أن قربه منه بالعلم والقدرة ، وعلمه بوسوسة النفس لتعلق علمه بجميع المعلومات مع مباينة ذاته لسائر الذوات ، لا لسريانه بذاته في الموجودات ، كما زعموا.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) [ق : ١٧] الآيتين ، فيه الحفظة وكتابهم ما يصدر عن المكلف ، يكتبون عليه بسيط اللفظ ومركبه من كلمة / [١٩١ أ / م] وكلم وكلام ، إذا القول يشمل ذلك كله.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) [ق : ٢٠] الآيات ، في أحكام اليوم

٥٩٨

الآخر والوعد والوعيد والجنة والنار ونحوه.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) [ق : ٢٢] هذا كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٤٧) [الزمر : ٤٧] ونحوه ، واختلف في هذا الغطاء الذي إذا كشف صار البصر حديدا ، فعند الصوفية : هو تجرد النفس عن علائق الأوهام والخيالات ؛ ولهذا يستعملون الرياضة والخلوة والمجاهدة في إزالة الوهميات والخيالات ، فمن صح له ذلك أشرف على كشوفات عظيمة ، قال لي بعضهم : «ارتضت حتى رأيتني أدور بدوران الفلك في مجاري النجوم والشمس والقمر ، أطلع إذا طلعت ، وأغرب إذا غربت ، وأتوسط إذا توسطت» وقال لي بعض الفضلاء منهم ببيت المقدس : «ارتضت حتى رأيتني والعالم كرتين إذا استغرقت فنيت كرته ، وبقيت كرتي ، وإذا عدت إلى عالم الحس كان بالعكس» وإذا أردت أن ترى العجب العجاب من ذلك فانظر في مرأى الشيخ أبي ثابت محمد بن عبد الملك الديلمي الهمذاني في كتاب «مرآة الأرواح» له.

وعند الاتحادية : هو تعلق ذات الحق بهذا الطور البشري ، فبعد إدراك العقل له لشدة قربه ، فإذا فارق مظهره البشري وصدر انكشف الغطاء عنه وظهر ، وشبهوه بالقمر كلما قرب من الشمس استتر وانمحق ، وكلما بعد عنها وقرب من مقابلتها استنار وأشرق.

وعن الفلاسفة : هو ملابسة النفس والروح اللطيف / [٣٩٧ / ل] للجسم الكثيف ، فكان عليه كالغطاء مانعا له من إشراق النور العلوي عليه والضياء ؛ فإذا تزايلا كشف الغطاء وتبين من الخير والشر جنس العطاء ، ألا ترى أن الأدهان اللطيفة ما دامت سارية في محلها لا تؤثر آثارها المستعدة هي لها كالزيت في الزيتون والشيرج في السمسم ودهن اللوز فيه ونحوه ، فإذا استخرجت منه وفارقها كثيفها أثرت تلك الآثار وانكشف عن وجه فعلها الغطاء فاستنار ، وكذلك الماء للطافته يصف ما وراءه ، والهواء كذلك لا يمنع نفوذ أشعة الإبصار فيرى الحيوان على بعد إزاءه فإذا خالطا الأرض الكثيفة المظلمة محقت ظلمتها تلك الأنوار ، واحتجت لطافتهما وراء تلك الأستار وإذا أردت مشاهدة ذلك عيانا فانظر إلى لطافة الماء وصفائه ، كيف يستهلكها التراب إذا جمع بينهما / [١٩٠ ب / م] فصار طينا؟! فلو فرض تخليص الماء من الطين على صفته لعاد إلى فعله بموجب لطافته.

٥٩٩

وعند المتكلمين : فهو أن الإنسان بين غطاء التكليف وكشف الجزاء ، فإذا كشف هذا الغطاء ظهر ذلك الكشف ، ولو ظهر ذلك الكشف في زمن التكليف لصار الإيمان ضروريا وبطل التكليف لبطلان حكمته.

[فهذا ما استحضرناه من أقوال الناس في الغطاء نقلا عنه أو قياسا على مقتضى قولهم]

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) (٣٥) [ق : ٣٥] قيل : هو الزيادة في قوله ـ عزوجل ـ : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦) [يونس : ٢٦] فيستدل به على الرؤية كما سبق.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) (٣٩) [ق : ٣٩] وفي «طه» : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى) (١٣٠) [طه : ١٣٠] وفي «الروم» (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧) [الروم : ١٧] وفى «سبحان» (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨) [الإسراء : ٧٨] الآيات ، يحتج بها على مواقيت الصلاة ، وبعضها أبين من بعض ، ثم جاءت السنة فأمعنت في بيانها ؛ كحديث ابن عباس وجابر وأبي موسى وغيرهم ، وبقي بعض الإجمال ، فجاء الفقهاء فأزالوه ، فبلغت أحكام الآيات المذكورة بهذا التبيين غايتها من البيان ، وكذلك سائر النصوص المجملة بلغت بالتبيين غايتها من البيان ، وظهر بهذا أن المجمل والمبين على مراتب في الجلاء والخفاء ، (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (١) ثم «صلوا كما رأيتموني أصلي» (٢) ، ثم حديث المسيء في صلاته ، مترتبة في الإجمال ، كل واحد منها أشد إجمالا مما بعده ، وهي في البيان على العكس كل واحد منها

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الأذان [٢ / ١٣١ ، ١١٢ / ٦٣١] ومسلم في كتاب المساجد [٥ / ٢٤٤ / ٦٧٤].

(٢) رواه مسلم في كتاب الصلاة [٤ / ١٤٢ / رقم ٤٦ ـ ٣٩٧] وأحمد [٢ / ٤٣٧] وابن حبان [٣ / ١٨٣ / رقم ١٨٨٧] والبيهقي [٢ / ٣٧] ورواه أبو داود في كتاب الصلاة [١ / ٢٧٧ / رقم ٨٥٨] وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود [٧٦٤ / ٨٥٨].

٦٠٠