الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

القول في سورة المنافقين

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : ١] أي في دعواهم اعتقاد رسالتك والشهادة بها ، لا في قولهم : إنك رسول الله. وقد سبق تقريره.

ويحتج به من يرى أن الكلام معنى قائم بالنفس ؛ لأن تكذيبهم راجع إلى أمر قام بنفوسهم ، لا إلى ما ظهر على ألسنتهم ، والتكذيب من لواحق الخبر الكلامي ، فدل على أن ما قام بنفوسهم كلام.

ويجاب بأنا لا نسلم أن التكذيب راجع إلى معنى قام بنفوسهم ، بل إلى دعواهم ظاهرا أو اعتقاد الرسالة باطنا ، فما رجع التكذيب إلا إلى خبر لساني لا نفساني.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٣) [المنافقون : ٣] قد يظن ظان أن الإيمان جزء علة الطبع على قلوبهم ، وليس كذلك ، بل كفرهم المستعقب لإيمانهم هو علة ذلك.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) (٧) [المنافقون : ٧] فيه إشارة إلى ترك ملاحظة الأسباب الظاهرة وتعلق الآمال بما في الغيب من الخزائن الإلهية ، لا أقول قطع الأسباب بل ترك الاعتماد عليها ، والناس إما متعاط للأسباب معتمد عليها محجوب بها عن المسبب ، وهم العامة ، أو لا متعاط لها ولا معتمد عليها ، بل حجب عنها برؤية مسببها ـ عزوجل ـ وهم الخاصة ، أو متعاط لها غير معتمد عليها وهو شبيه بمن قبله ، وربما سمي متوكلا ، أو معتمد عليها غير متعاط لها ، وهو الكسلان المتمني الأماني.

(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١) [المنافقون : ١١] فيه انحتام الآجال فلا تأثير فيها لغير الكبير المتعال ؛ خلافا لما مر عن أهل الاعتزال.

* * *

٦٤١

القول في سورة التغابن

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) [التغابن : ٢] / [٢٠٤ ب / م] يحتمل أن المراد : خلقكم متصفين بالكفر والإيمان ، فيحتج به الجمهور ؛ لأن خالق الموصوف هو خالق الصفة ، ويحتمل أن المراد : خلقكم ثم منكم من كفر ومنكم / [٤٢٣ / ل] من آمن ، فيتنازعها الفريقان : الجمهور والمعتزلة ، بناء على كسب الأفعال وخلقها على ما عرف.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦) [التغابن : ٦] هذه شبهتهم المعروفة في إنكار الرسل ، وقد سبقت.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) [التغابن : ٦] أي : بإنكار الرسالة (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦) [التغابن : ٦] أي : عنهم وعن معارفهم وعباداتهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (٦) [التغابن : ٦] لكماله وتنزهه عما يحتاج إليه غيره.

وقد سبقت المسألة.

(حَمِيدٌ) أي : محمود ليس كغيره من الأغنياء ، يفعل مع غناه ما يستحق به الذم ، بل الله ـ عزوجل ـ يسدي الجميل والمعروف العام والخاص ، فهو الذي يستحق الحمد.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) (٧) [التغابن : ٧] أي : ادعوا ذلك دعوى لا تحقق لها : (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧) [التغابن : ٧] أمر وأثبت وأقسم وأكد البعث باللام في أوله والنون في آخره ، (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧) [التغابن : ٧] أي : البعث (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧) [التغابن : ٧] وقد سبق برهانه وتوجيهه في عدة

٦٤٢

مواضع.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٩) [التغابن : ٩] أي : يغبن فيه أهل الجنة أهل النار بما يفوز به هؤلاء ، ويرث أهل الجنة أهل النار على ما سبق بيانه.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١) [التغابن : ١١] إن قيل : الإيمان إنما يترتب على هدى القلب ، فلو ترتب هدى القلب على الإيمان لزم الدور ، وإنه محال.

ويجاب عنه بأن المراد : من يؤمن بالله يزد قلبه هدى وبه ينقطع الدور.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٣) [التغابن : ١٣] فيه أن التوكل قرين التوحيد ونتيجته ، ومن أكبر مقاماته ، والتوكل هو التفويض إلى الله ـ عزوجل ـ مع ترك الاعتراض.

(فَاتَّقُوا اللهَ) ناسخ لقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) [آل عمران : ١٠٢] أو مخصص له.

* * *

٦٤٣

القول في سورة الطلاق

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) [الطلاق : ٣] مثل : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١) [يوسف : ٢١] أي : إذا أراد أمرا بلغه بقدرته ولطيف حكمته وتصرفه في القلوب وغيرها ، وبالجملة بكمال قدرته على كل شيء.

ويحتج به الجمهور على أنه ـ عزوجل ـ إذا أراد شخصا للنار تصرف فيه بطريق الإجبار.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤) [الطلاق : ٤] يحتج به على أن الأقراء الحيض ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ؛ لأنها مأمورة أن تعتد بثلاثة قروء ، ثم جعلت الأشهر بدلا عن الحيض هاهنا ، فدل على ما قلنا.

وينتظم القياس هكذا : الأشهر بدل عن الحيض بهذه الآية ، والأشهر بدل عن الأقراء بالإجماع ، فالحيض هي الأقراء / [٢٠٥ أ / م] ، فالأقراء هي الحيض.

واحتج الشافعي ومالك على أنها الأطهار بقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) [الطلاق : ١] مع [قول النبي] صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مره فليراجعها / [٤٢٤ / ب] ثم ليدعها حتى تطهر ، ثم تحيض ، [ثم تطهر] ، ثم ليطلقها إن شاء ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء» (١) ، وتلك إشارة إلى الطهر ؛ لأنه الأقرب ذكرا ، وليس بالقوي ؛ لأن الإشارة إلى الحيضة المحتوشة بالطهر.

__________________

(١) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق [٩ / ٢٥٨ / ٥٢٥١] وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق [١٠ / ٨٨ / ١٤٧١].

٦٤٤

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) (٤) [الطلاق : ٤] خص به عموم العدة بالأقراء ، وبأربعة أشهر وعشرا.

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١) [الطلاق : ١٠ ، ١١] قيل : الذكر هو الرسول ؛ لتفسيره به بدلا منه. وقيل : الذكر القرآن ، والمعنى أنزل ذكرا وأرسل رسولا ، أو على حذف المضاف ، أي : ذا ذكر رسولا.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) [الطلاق : ١٢] قيل : المثيلة في عظمة الخلق وأثره القدرة. وقيل : في الكمية ، أي : ومن الأرض سبع مثلهن. والأشبه إرادة الأمرين ؛ لأن الأرضين عظيمة الخلق وهن سبع لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ظلم شبرا من أرض طوقه [يوم القيامة] من سبع أرضين ، أو خسف به إلى سبع أرضين» (١).

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) [الطلاق : ١٢] هذا تعليل لخلق السماوات والأرض بعلم المكلفين كمال قدرة الله ـ عزوجل ـ وعلمه ، أي خلق ذلك لتعلموا ، فإن يكن الأمر كذلك فتحته سر عجيب ، وإلا فاللام للعاقبة ، أو للأمر ، أي : اعلموا ذلك ، أو خلقهن لتكون عاقبتكم العلم بكمال القدرة بواسطة النظر ، والأشبه الأول.

__________________

(١) الرواية الأولى أخرجها البخاري في كتاب المظالم ح [٢٤٥٣] [٥ / ١٠٣] ومسلم في كتاب البيوع ح [١٤٢ / ١٦١٢] [١١ / ٧١] والرواية الثانية أخرجها البخاري في كتاب بدء الخلق [ح ٣١٩٦] [٦ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣].

٦٤٥

القول في سورة التحريم

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم : ٤] تعلقت الرافضة [لعنهم الله] بذلك على عائشة وحفصة ؛ لأنهما تظاهرتا على الرسول ، والتظاهر على الرسول حرام ، وبسبب هذا التظاهر وإفشاء سره غضب وآلى من نسائه شهرا معتزلا لهن ، وقيل : قد طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه.

قوله عزوجل : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم : ٤] قيل : أبو بكر وعمر. وقيل : علي ، والصواب أنه أعم من ذلك ، وهو كل من جمع صفتي الإيمان والصلاح ، ومولاه ناصره بقرينة مقابلته ب (تَظاهَرا عَلَيْهِ) وترتيب هذه الآية يقتضي أن الأنبياء أفضل من خواص الملائكة ؛ لتقدم ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جبريل ، وخواص الملائكة كجبريل أفضل من عامة البشر ، وعامة البشر أفضل من عامة الملائكة ، غير أن العطف فيها الواو ، وهى لا تقتضي ترتيبا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) [التحريم : ٦] فيه / [٤٢٥ / ل] عصمة الملائكة كما مر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨) / [٢٠٥ ب / م] [التحريم : ٨] أي : خالصة لا رياء فيها لأحد. وقيل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا

٦٤٦

نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٨) [التحريم : ٨] لا معصية بعدها ، وفيه إيجاب التوبة ؛ لأنها بمنزلة التدارك والجبر لما أضيع من حق الرب ـ عزوجل.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١٠) [التحريم : ١٠] ، زعمت الرافضة [لعنهم الله] أنه تعرض بعائشة وحفصة ، وأنهما كامرأتي نوح ولوط في النار لتظاهرهما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذاهما له ، وزعموا [لعنهم الله] أن عائشة رضي الله تعالى عنها كان بينها وبين عثمان شيء ، فنزغ لها بهذه الآية معرضا بها ، فحقدت عليه ، ثم لم تزل تؤلب الناس عليه حتى قتلوه ، ثم إنها ندمت مع كراهتها إمرة علي ، فخرجت تطلب بثأره.

وأجاب الجمهور : بأن هذا كله لم يكن منه شيء وهو كذب مختلق ، وإجماع أهل الحق على أنهما زوجتاه في الجنة لا يعارضه شيء مما ذكروه.

* * *

٦٤٧

القول في سورة الملك

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (٢) [الملك : ٢] فيه تعليل الأفعال.

(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣) [الملك : ٣] أي : خلل واضطراب وخروج عن وجه الحكمة.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) [الملك : ٥] هاتان حكمتان لخلق النجوم : زينة وحراسة.

والثالثة : الهداية يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، كما قال الشاعر :

فيها معالم للهدى ومصابح

تجلو الدجى والأخريات رجوم

ولعل الإشارة بكونها مصابيح إلى اهتداء الخلق بها كما يهتدى بالمصباح ، فتكون الآية قد جمعت فوائد النجوم الثلاث.

(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) (٨) [الملك : ٨] ، احتج به المرجئة على أنه لا يدخل النار إلا كافر ، وأنه لا عذاب على أهل الإيمان طائع ولا عاص ، بناء على أن الإيمان حسنة لا تضر معها سيئة ، وعكسه ؛ لأنّ الله ـ عزوجل ـ أخبر أن كل فوج يلقى فيها يعترف بالكفر.

والجواب : أن المعنى : كلما ألقي فيها فوج من الكفار سئلوا فاعترفوا بالكفر بدليل ما قبله.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) [الملك : ٦] ثم استطرد ذلك في وصف حال الكفار.

(وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (١٠) [الملك : ١٠] الآيتين ، احتج به الفريقان ، أما الجمهور فلنفيهم عن أنفسهم السمع والعقل ، ما ذاك إلا لما خلق في قلوبهم من دواعي الكفر / [٤٢٦ / ل] والصوارف عن الإيمان ، فصاروا مجبورين جبرا عقليا.

وأما المعتزلة فلقوله ـ عزوجل ـ : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١)

٦٤٨

[الملك : ١١] / [٢٠٦ أ / م] ولو كان خالقا لأفعالهم أو جابرا لهم لما كان لهم ذنب.

وجوابه : بل الذنب لهم باعتبار كسبهم أو خلقهم على تقدير التفويض إليهم.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤] فيه تقديران : أحدهما : أن «من» فاعل أي ألا يعلم الخالق مخلوقه.

والثاني : أنها مفعول أي : [ألا يعلم هو من خلق ، أي :] ألا يعلم هو مخلوقه ، فالفاعل مضمر على هذا ، والمفعول محذوف على الأول.

ويحتج به على أمور :

أحدها : أن خلق الشيء يستلزم العلم به ، أي : أن العلم من لوازم الخلق ؛ لأن معنى الآية ، إن سركم وجهركم مخلوق لي فكيف لا أعلمه ، وهو يفيد ما قلنا ، ولأن خلق الشيء يستلزم القصد إليه ، والقصد إليه يستلزم العلم به وبغايته.

فإن قيل : هذا ينتقض بالنحل والعنكبوت والنمل ونحوها يفعل أفعالا محكمة ، ولا قصد لها فلا علم لها.

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن الكلام في الخلق الاختراعي ، وهذه الأشياء لا خلق لها ، بل أفعالها وغيرها مخلوقة لله ـ عزوجل.

الثاني : أنها تقصد إلى فعلها وتعلم غايته بإلهام من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، ونعلم قطعا أن النحل لو لا علمها بمنفعة بيتها وأنه يصلح لسكناها إياه لما بنته.

الأمر الثاني : أنه ـ عزوجل ـ عالم بكليات الأشياء كالأجناس والأنواع والأصناف بالإجماع ، أما علمه بالجزئيات كالأعيان الشخصية فأثبته المتكلمون ، [ونفاه الفلاسفة].

[احتج المتكلمون] بأن الجزئيات مخلوقة له ـ عزوجل ـ وكل مخلوق معلوم ، أما الأولى فبالإجماع على أن لا خالق غير الله ـ عزوجل ـ وأما الثانية فلما مر من أن العلم بالشيء من لوازم خلقه ؛ ولأن المخلوق عالم بالجزئيات ، فلو لم يكن الخالق عالما بها لكان المخلوق أكمل منه ، وإنه محال.

احتج به الفلاسفة بأنه ـ عزوجل ـ لو علم الجزئيات للزم وقوع التغير في ذاته ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ؛ بيان الملازمة أن العلم حصول صورة المعلوم في ذات العالم ، والجزئيات تتغير وتنتقل أحوالها ، فلو علمها لحصل في ذاته بحسب كل حال من أحوال الجزء صورة غير صورته بحسب الحال الأخرى ، وذلك يقتضي تغاير صور الجزئيات على

٦٤٩

ذاته ، وأما بطلان اللازم فللإجماع والبرهان على أن ذاته ـ عزوجل ـ لا يلحقها التغير ؛ ولأنه إذا كان زيد في المسجد علمه كذلك ، فإذا خرج زيد فإن استمر علمه أنه في المسجد لزم انقلاب العلم الأزلي جهلا ، وإنه حال ، وإن / [٤٢٧ / ل] لم يستمر لزم التغير في / [٢٠٦ ب / م] ذاته وإنه محال ، وهذا بخلاف الكليات ، فإنها لا تتغير فلا يلزم من العلم بها التغير في ذاته ، عزوجل.

والجواب : أن هذا كله مبني على أن العلم حصول صورة المعلوم في ذات العالم وهو ممنوع عندنا ، وإنما العلم إضافة نسبية تعليقية بين العالم والمعلوم أعني : تعلق العلم بالمعلوم والإضافة أمر عدمي ؛ فالتغير الحاصل من العلم بالجزئيات واقع في تلك الإضافة العدمية ، لا في الذات الإلهية ، بمعنى أن تعلق العلم بكون زيد في المسجد غير تعلقه بكونه خرج منه ، أو نقول : إن العلم الأزلي تعلق بأحوال زيد المتغايرة في أوقاتها ، فتعلق بكونه في المسجد وقت كذا ، وبكونه خارجا عنه وقت كذا ، وبكل حال يندفع المحذور الذي ذكرتموه ، ولا يلزم ما ألزمتموه.

الأمر الثالث : أن المخلوق كالإنسان لا يخلق شيئا لا أفعاله ولا غيرها ؛ لأنه قد تقرر أن العالم بالشيء من لوازم خلقه ، فلو خلق الإنسان فعله مثلا لعلمه جملة وتفصيلا ، كما وكيفا وغاية ، لكن اللازم باطل ؛ إذ نرى الإنسان يتكلم كلاما لا يعلم عدد حروفه ولا كلماته ولا خواص تركيبه ومعانيه ، ويمشي مشيا لا يعلم عدد خطواته ، ولا ما تنتهي إليه غايته.

وعلى هذا النمط جميع أفعاله لا يعلم تفاصيلها ؛ فدل على أنه غير خالق ، وإنما غايته أن يكون كاسبا ، ومن هذا أن الأبوين لا يخلقان الولد لعدم علمهما بذاته وغايته جملة وتفصيلا.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) [الملك : ١٥] دل على أن لا رازق سواه ، والخصم يمنع ذلك ويقول : بل أمرهم أن يأكلوا من رزقه ، وهو الحلال ، لا من رزق غيره وهو الحرام الذي يرزقونه أنفسهم بالأسباب الباطلة والأكساب الخبيثة ، وقد سبق القول في ذلك.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥) [الملك : ١٥] أي : المرجع ، وهو إثبات الحشر والمعاد.

٦٥٠

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) (١٦) [الملك : ١٦] الآيتين ، يحتج بهما من أثبت الجهة ؛ لأنه إنما توعدهم بفعله ، وقد أخبر أنه في السماء.

وأجاب الخصم بأنه لا يلزم من توعدهم بفعله أن يكون في السماء لجواز أن يكون الفعل له بأمره والمباشرة له ملائكة السماء كما يقال في الشاهد ، لمن جنى جناية : أأمنت من في القلعة أن يعاقبك ، وقد يكون الذي في القلعة نائب السلطان أو بعض جنده ، والسلطان لعله حينئذ في البر أو البحر ، أو لا يدرى أين هو.

واعلم أن ظاهر الآية مع مثبتي الجهة ، وإنما الخصم / [٢٠٧ أ / م] يعارضهم بالدليل القاطع عنده فيحتاج إلى تأويلها.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (١٩) [الملك : ١٩] ، اختلف في كيفية إمساك الطير فوقهم ، فعند المتكلمين : لأنه ـ عزوجل ـ خلق له آلة التماسك في الهواء أو القوة عليه.

وعند الفلاسفة : لأنه ـ عزوجل ـ غلب فيه الاسطقص أي : العنصر الهوائي فخف بخفة الهواء فتماسك ، كما غلب في البهائم الجزء الترابي ؛ فثقلت فرسبت ولزمت الأرض.

وعند الاتحادية : أنه سرى فيها بذاته فحملها في الهواء ، فحركتها تابعة لحركته ، فهي في الحركة تابعة لا مستقلة ، وإليه الإشارة بقوله عزوجل / (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦) [هود : ٥٦] كما صرح به ابن العربي في «الفصوص».

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (٢١) [الملك : ٢١] ، تدل على أن لا رازق سواه ـ عزوجل ـ لأنها تضمنت أنه ـ عزوجل ـ إن رزق فلا ممسك ، وإن أمسك فلا رازق ، وهو دليل الاستبداد بالرزق ، وليس لأهل الاعتزال إلا أن يتأولوه على أن أمسك رزقه الحلال ، وهو تمحل ومحال.

* * *

٦٥١

القول في سورة (ن)

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) (١) [القلم : ١] يعني الملائكة الكرام الكاتبين والسفرة الكرام البررة.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧) [القلم : ٧] لأنه الذي خلق ضلالهم وهداهم ، ألا يعلم من خلق.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (١٧) [القلم : ١٧] الآيات يحتج بهذه القصة على ما يذكره الفقهاء من المعاقبة بنقيض القصد ، كالقاتل مورثه يمنع الإرث ، والمطلق زوجته في مرض موته تورث منه ، والفار من الزكاة بحيلة لا تسقط عنه ؛ لأن أصحاب الجنة قصدوا حرمان المساكين فحرموا.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) (٤٢) [القلم : ٤٢] اختلف في الساق ؛ فعند المحدثين ومن تابعهم : هي صفة لله ـ عزوجل ـ يكشف عنها يوم القيامة ، فيسجد لها المؤمنون. وجاء في الحديث : «فيكشف عن ساقه فيخرون سجدا» (١) وعند غيرهم أن ذلك تجسيم ، فتأولوه على شده الأمر ذلك اليوم ، كما يقال : كشفت الحرب عن ساقها ، وقامت الحرب بنا على ساق.

 ...

وإن شمرت يوما له الحرب شمرا

[قالوا : وما ذهب إليه / [٢٠٧ ب / م] المحدثون لا يستقيم إلا على رأي الاتحادية ، وهو أن الله ـ عزوجل ـ يظهر بمظاهر الأجسام ، فحينئذ يصح أن يكون له ساق يكشفها].

وأجاب المحدثون : بأن هذا إنما يلزمنا أن لو أثبتنا الساق جارحة جسمانية ، ونحن إنما تثبتها صفة لله ـ عزوجل ـ على ما يليق به ، ولا يلزمه منه نقص بوجه ، وهكذا قولهم في سائر نصوص الصفات ، كما سبق.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨) [القلم : ٤٨] الآيتين ، يعني ذا النون ، وهو يونس بن متى ـ عليه‌السلام ـ فيقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية ؛ قال : «لا تفضلوني على يونس ؛ من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد

__________________

(١) رواه مسلم [١ / ١٦٧] ح [١٨٣] وأصله عند البخاري [٥ / ٢٤٠٣].

٦٥٢

كذب» خشية أن يطمع طامع بهذه الآية فيغض من منصب يونس ، فحسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه المادة.

وقيل : إنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه خير من يونس وغيره. وقيل : قال ذلك في مقام التواضع ، والإنسان له مقامان مقام تواضع يهضم فيه حق نفسه كهذا المقام ، ومقام افتخار يستوفي حق نفسه أو بعضه فيه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (١) وعلى نحو هذا تأولت الشيعة [لعنهم الله] قول علي ـ رضي الله عنه ـ : «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ، ولو شئت سميت الثالث» وقوله لابن الحنفية في نحو هذا : ما أبوك إلا رجل من المسلمين.

(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (٤٩) [القلم : ٤٩] قد علم أن لو لا تقتضي امتناع الشيء لوجود غيره ، والذي امتنع هاهنا لوجود النعمة هو نبذه بالعراء مذموما لا مجرد نبذه بالعراء وهو الصحراء ، لأنه قد وجد بدليل : (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥) [الصافات : ١٤٥] فدل على أنه نبذ بالعراء مجردا عن صفة الذم ، بدليل : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٥٠) [القلم : ٥٠] ومن يكون مجتبي صالحا لا يكون مذموما ، وسقط بهذا [التعلق عن] يونس عليه الصلاة والسّلام.

__________________

(١) أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (٣) [٢٢٧٨] وأبو داود في كتاب السنة [٤٦٧٣].

٦٥٣

القول في سورة الحاقة

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) (١٣) [الحاقة : ١٣] هذه نفخة البعث في وقتها الخاص ، بدليل تنزيل الملائكة وظهور عرش الرحمن ـ جل جلاله ـ وإلا فقد سبق أن النفخات ثلاث : نفخة الفزع ، والصعق ، والبعث.

(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (١٧) [الحاقة : ١٧] هاهنا اسم جنس ، والحملة : يومئذ ثمانية وقبله أربعة كما ورد ، ويستدل به على أن العرش السرير لا الملك لاستغنائه عن حاصل ، ولا تظنن أن الله ـ عزوجل ـ يحتاج إلى من يحمله ، بل الله ـ عزوجل ـ يحمل بقدرته العرض وحملته ، وإنما حملهم للعرض كأنه على جهة التعبد والخدمة والتعظيم ، على أن / [٢٠٨ أ / م] إنما تضمنت حملهم للعرش لا للرب عزوجل ، فيحتاج إلى إثبات أن الرب ـ عزوجل ـ حينئذ فوق العرش بذاته ، حتى يلزم أنه محمول بواسطة حمل العرش ، لكن ذلك محمل نزاع قد سبق غير مرة.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (١٩) [الحاقة : ١٩] الآيات فيها إثبات أخذ الكتب باليمين والشمال وهو علامة الفوز ، والهلاك.

وفيها إثبات العرض والحساب على العموم ، وحساب الكفار على الخصوص ، خلافا لأكثر الحنابلة في أنهم لا يحاسبون.

لنا : قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) (٢٥) [الحاقة : ٢٥] إلى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) (٣٠) [الحاقة : ٣٠] إلى (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٣٣) [الحاقة : ٣٣] وهو قاطع في حساب الكفار لقوله : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) (٢٦) [الحاقة : ٢٥ ـ ٢٦] وكذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (١٣) [الإسراء : ١٣] إلى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) [الإسراء : ١٤] وكذلك : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

٦٥٤

[الكهف : ٤٩] الآيات ونحوها تدل على حساب الكافر ، ولأن المقصود بالحساب تحقيق العدل ، وهو بالكافر أولى كشفا لشبهته وإزالة لتهمته.

احتجوا بأن فائدة الحساب المقاصة ، بحيث إن من فضل له أثيب ، ومن فضل عليه عوقب ، وهذا منتف في حق الكافر ؛ إذ مع الكفر لا شيء له يفضل فالنار متعينة له بغير حساب ورووا عن ابن عمر حديثا مرفوعا يشير إلى ذلك.

والجواب : لا نسلم أن فائدة الحساب ما ذكرتم ، بل تحقيق العدل كما قلناه ، وهو يقتضي حسابه ، وأما حديث ابن عمر فلو كان نصا فيما ادعوه لما عارض ما ذكرناه من الدليل ، فكيف وليس بنص ، وفى الآيات المذكورة إثبات السلسلة ، وهو من أحكام اليوم الآخر.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ) (٣٩) [الحاقة : ٣٨ ـ ٣٩] فيه إثبات عالم الغيب والشهادة كما سبق تفصيله في الأنعام.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٤٠) [الحاقة : ٤٠] يحتج به من قال بخلق القرآن لإضافته إلى الرسول [صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه] قوله ، وعورض بما بعده : / [٤٣٠ / ل] (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٣) [الحاقة : ٤٣] وإنما أضيف إلى الرسول باعتبار أنه مبلغ له لا منشئ مبتدئ.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (٤٤) [الحاقة : ٤٤] الآيات فيه تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به ونفي الكذب عنه ، وأنه لو كان متقولا لما أقر ، ولا أهمل ولا أمهل.

* * *

٦٥٥

القول في سورة المعراج

(مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (٣) [المعارج : ٣] تدل على علو وارتفاع ، ثم هل هو حسي أو عقلي؟ على الخلاف بين مثبتي الجهة ونفاتها ؛ فيحتج مثبتوها بقوله ـ عزوجل ـ / [٢٠٨ ب / م] : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) [المعارج : ٤].

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٤١) [المعارج : ٤٠ ، ٤١] أي : خلقا ننشئه نحو : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٩) [إبراهيم : ١٩] والتناسخية حملوه على نظيره في سورة الواقعة.

واحتجوا به وقد سبق القول عليهم].

* * *

٦٥٦

القول في سورة نوح

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) (١٨) [نوح : ١٧ ـ ١٨] هذا من أدلة البعث ، وهو أحسن ما مر بنا ؛ إذ فيه استواء الأصل والفرع في النبات ، أي هو ـ عزوجل أنبتكم من الأرض أولا ، وكذلك ينبتكم منها آخرا ، ومعنى الإنبات الإنشاء وهو أنشأكم من الأرض مبدئا كذلك ينشئكم منها معيدا.

(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) (٢٤) [نوح : ٢٤] هذا من نوح كقول موسى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) [يونس : ٨٨] لعله كان بوحي أو إذن.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) (٢٥). [نوح : ٢٥] يحتج به على ما مرّ منه عرضهم على النار غدوا وعشيا ، وعذاب البرزخ ؛ لتعقيب إغراقهم بإدخالهم النار فهم الآن فيها ، وهو لا في الدنيا ولا في الآخرة بعد القيامة ، فهم في الواسطة بينهما وهي البرزخ.

* * *

٦٥٧

القول في سورة الجن

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ٢] يدل على أن في الجن مسلمين مؤمنين بالقرآن موحدين ؛ لقولهم : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) (٢) [الجن : ٢].

(وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (٧) [الجن : ٧] يشير إلى أن في الجن من ينكر البعث كالكفار من الإنس.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (٨) [الجن : ٨] ظاهرها أنهم في استراق السمع يبلغون السماء مباشرين لها بأجسامهم لمسا ونحوه ، ويحتمل أن المراد كشفنا طريق السماء فوجدناه قد سد على مسترقي السمع ، وفيه أن الحرس غير الشهب ؛ لأن عطف أحدهما على الآخر يقتضي ذلك ، فالحرس ملائكة والشهب نجوم ، فيشبه أن الملك يرمي الشهاب رمي الجندي بالنشاب. وفيه حكاية مأثورة تقتضي ذلك.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) (١١) [الجن : ١١] يقتضي انقسام الجن إلى صالح وأصلح ، أو إلى صالح وطالح كالإنس.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (١٥) [الجن : ١٥] يحتج بها الشيعة [أبعدهم الله من رحمته] على معاوية ومن شايعه على قتال علي ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره بقتال المارقين وهم الخوارج ، والناكثين وهم أهل الجمل ، والقاسطين وهم معاوية وأصحابه ، فإذن هؤلاء القاسطون بالحديث / [٤٣١ / ل] ، والقاسطون حطب جهنم بالآية ، فهؤلاء حطب جهنم.

وأجاب الجمهور : بأنا لا نسلم صحة الحديث ، ولا أن معاوية كان من / [٢٠٩ أ / م] القاسطين ، ولو سلمناه ، لم نسلم عموم الآية في كل قاسط ، بل هي لقاسطين معهودين من الجن أو غيرهم.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (١٧) [الجن : ١٦ ، ١٧] يدل على أن النعمة قد تكون سبب الفتنة ، وأن الله ـ عزوجل ـ يقصد الفتنة بالنعمة ، وهو الاستدراج [كما سبق].

٦٥٨

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (١٩) [الجن : ١٩] فيها فوائد :

منها : أن بعضهم ذهب إلى أن عبد الله اسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصحيح أنه إضافة له بالعبودية لا اسم علم.

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الجن تلا عليهم القرآن ، وأنهم سمعوا ذلك ، وازدحموا عليه حتى كاد يتلبد بعضهم على بعض.

ومنها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف بالعبودية في أشرف مقاماته وهى مقامه هذا في تبليغ القرآن ، ومقامه في إثبات نبوته بمعجز القرآن في قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [البقرة : ٢٣] ومقامه في الإسراء والوحي إليه في السماء في (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١) [الإسراء : ١] ، (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١٠) [النجم : ١٠].

وفى نحو هذا يقول القائل :

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أشرف أسمائي

وفي ذلك يقول علي ـ رضي الله عنه ـ : حسبي عزا أن تكون لي ربا ، وحسبي فخرا أن أكون لك عبدا.

(إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢٣) [الجن : ٢٣] مع ما سبق من قول موسى عليه‌السلام : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) [طه : ٩٣] ينتظم قياسا هكذا : مخالف الأمر عاص والعاصي معاقب ، فمخالف الأمر معاقب ، وهو يقتضي أن الأمر للوجوب.

(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً) (٢٦) [الجن : ٢٦] دلت هذه الآية على أن بعض الرسل يظهر على بعض الغيوب ، ودل غيرها على أن غير الرسل قد يكاشف بشيء من ذلك ، كأهل الرياضة والخلوة والكهان مثل سطيح وشق وكأهل ضرب الرمل

٦٥٩

والمنجمين في بعض الأحيان وأصحاب الرؤيا والزجر والفأل ومسترقي السمع ، وأشباههم ؛ جميع هؤلاء يظهرهم الله عزوجل على بعض غيبه ، بدليل : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥) [البقرة : ٢٥٥].

(إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨) [الجن : ٢٧ ، ٢٨] [ظاهره أن الرصد ملائكة بين يدي النبي وخلفه يرفعون عنه أنه قد أبلغ الرسالة ، وأنه ـ عزوجل ـ لا يعلم ذلك بدون هذا الرصد ، لكن هذا الظاهر متروك بالإجماع ، والبرهان على أنه ـ عزوجل ـ ليس يعزب عن علمه شيء في الأرض / [٢٠٩ ب / م] ولا في السماء ، فيجب تأويل هذا الظاهر على] أن هذا الرصد من الملائكة معقبات يحفظونه عن أعدائه من باب :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٦٧) [المائدة : ٦٧]

ومعنى : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢٨) [الجن : ٢٨] أي : ليجازيهم على إبلاغهم الرسالات ، ويجزي أممهم على الطاعة ثوابا ، وعلى المعصية عقابا ، فيصير نظم المعنى هكذا : إلا من ارتضى من رسول ، وأنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا يحرسونه ، وليجزيهم على الإبلاغ وأممهم على القبول ، أو الرد بما يستحقونه ، أو على غير هذا التأويل.

* * *

٦٦٠