الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

القول في السورة السجدة

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) [السجدة : ٢] تضمنت أن الكتاب حق منزل ، ويحتج به على أنه غير مخلوق ، وفيه ما سبق مرارا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣) [السجدة : ٣] سبق الكلام عليه في القصص.

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) (١٠) [السجدة : ١٠] تضمنت حكاية إنكارهم للبعث ، وقد سبق غير مرة.

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١) [السجدة : ١١] فيه إثبات المعاد إلى الله ـ عزوجل ـ بعد الموت ، خلافا للتناسخية القائلين بانتقال الأرواح في الأجسام جسما بعد جسم ، فما كمل منها لحق بعالمه العلوي ، وما لم يكمل بقي مترددا في الأجسام أبدا ، وهو رأي خيالي لا مستند له يعتمد.

ثم قد ذكر هنا : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١١) [السجدة : ١١] وفى الأنعام : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١) [الأنعام : ٦١] وفى موضع آخر : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢) [الزمر : ٤٢] ووجه الجمع أنه ـ عزوجل ـ يتوفى الأنفس بقدرته بواسطة الملائكة وملك الموت بحق التقدم على ملائكة القبض والملائكة الأعوان بالمباشرة ، فيقال : إنهم يعالجون حتى تبلغ الفم فيقبضه ملك الموت بيده ، وهذا كما يقال : قتل السلطان فلانا ، ويكون ذلك بواسطة الوالي والنائب ، إمرة ثم بمباشرة الجند ، واختلف في البهائم ونحوها هل يقبضها ملك الموت أم لا؟ فقيل : لا ، لعدم السمع فيه ولخصوص يتوفاكم ، وقيل : بلى لعموم : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) / [١٥٩ ب / م]) [الأنعام : ٣٨] ولأنها تحشر للقصاص / [٣٣٤ ل] بينها ؛ فكان القابض

٥٠١

لها ملك الموت كالعقلاء ، ولعل الخلاف فيها مبني على أنها عاقلة مكلفة تكليفا خفيا عن البشر أم لا ، وفيه خلاف مشهور.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) [السجدة : ١٣] ، يحتج بها الجمهور على أن مشيئته هي المانعة لمن شاء هداه ، وقد سبق هو واعتراض القدرية عليه.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣) [السجدة : ١٣] ، أي فوجب تصديق قوله السابق بمنع الهدى الخاص من سبق أنه من أهل جهنم بحسب المشيئة وخلق الدواعي والصوارف ، هذه كله مع اعتقاد أن لله ـ عزوجل ـ في خلقه المشيئة النافذة ، وله عليهم الحجة البالغة.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : ٢٣] وقد سبق توجيه ذلك في مقدمة الكتاب.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢١) [السجدة : ٢١] زعم بعضهم أن العذاب الأدنى عذاب القبر ، والعذاب الأكبر عذاب النار ، وهو ضعيف بل باطل ، لأنه علل إذاقتهم العذاب الأدنى برجوعهم عن كفرهم بقوله : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢١) [السجدة : ٢١] وفى القبر استحال رجوعهم إلى الدنيا ، وإنما العذاب الأدنى يشبه أن يكون السنين التي أصابتهم على عهد النبوة المذكورة في سورة الدخان.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٨) [السجدة : ٢٨] هي في سياق : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧) [السجدة : ٢٧] يشير إلى دليل البعث المشهور وهو القياس على إحياء الأرض.

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠) [السجدة : ٣٠] وعيدي محكم.

* * *

٥٠٢

القول في سورة الأحزاب

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١) [الأحزاب : ١] أي استدم على ما أنت عليه من التقوى ، لأن التقوى لم تفارقه لعصمته حتى يؤمر بها أمر استئناف.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦) [الأحزاب : ٦] احتجت الشيعة بهذا مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كنت مولاه فعلي مولاه» قالوا : لأنه صدر هذا الحديث بالإشارة إلى هذه الآية فقال : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قالوا : بلى. قال : «فمن كنت مولاه فعلي مولاه» فاقتضى ذلك بموجب هذا السياق أنه جعل لعلي عليهم من الطاعة بعده ما جعله لنفسه.

والجمهور منعوا صحة هذا الحديث بالكلية ، ثم دلالته على ما قالوه ، والبحث فيه طويل.

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٦) [الأحزاب : ١٦] هذا كقوله ـ عزوجل ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) [النساء : ٧٨] و (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤) / [١٦٠ أ / م]) [آل عمران : ١٥٤] الآيتين على ما مر.

٥٠٣

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) [الأحزاب : ٢١] يحتج بها على التأسي به في أفعاله ، ثم اختلف في فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : يقتضي الوجوب / [٣٣٥ ل] ، وقيل : الندب ، وقيل : الإباحة ، والصحيح أن ما كان عاديا كالأكل والشرب والجماع فللإباحة ، وهيئاته للندب كالأكل مستوفزا غير متكئ ، والشرب في ثلاثة أنفاس ، وما كان وجه القربة ، فإن وقع بيانا لمجمل فحكمه حكم المبين ، وإن لم يقع بيانا فإن صرح بحكمه وجوبا أو ندبا أو غيره ، أو دل عليه قرينة فهو ذاك ، وإلا فالإباحة متيقنة ، والندب والوجوب في محل الإجمال موقوف على البيان.

احتج من قال بأن فعله للوجوب مطلقا بقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) [الأحزاب : ٢١] فإنه جار مجرى الوعيد على ترك التأسي به وذلك يقتضي وجوب التأسي به.

واعلم أن الاستدلال بهذه الآية على التأسي مبني على أن الآية في نفسها عامة ، ثم على أن الاعتبار في العام بعموم لفظه لا بخصوص سببه ؛ لأن هذه الآية إنما وردت على سبب خاص ، وهو اعتزال المنافقين القتال في غزوة الأحزاب مع مباشرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، فقيل لهم : هلا تأسيتم برسول الله في لقاء العدو ، فلقد كان لكم فيه أسوة ، ألا تراه يقول : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) [الأحزاب : ٢٠ ـ ٢١] وما قيل ذلك يدل على هذا من تقاعد المنافقين وأراجيفهم ، لكن الأصلان ممنوعان ، أما عموم الآية فلأن (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) مطلق لا عام ، إذ هي نكرة في سياق إثبات ، والمطلق تتأدى وظيفة العمل به في صورة ما ، وقد تأسى به الناس في الإيمان والإسلام وكثير من الأحكام ، فلم يبق في الآية ما يقتضي وجوب التأسي به في عموم الأفعال ، وأما اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ففيه من الخلاف مع المالكية وغيرهم ما قد عرف وسبقت إليه الإشارة.

٥٠٤

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] تتعلق به الشيعة [أخزاهم الله] على عائشة رضى الله عنها ، يقولون : أمرت أن تقر في بيتها فخالفت وخرجت إلى تفريق المؤمنين وقتال علي بالبصرة ، حتى قتل بسببها من قتل وهم نحو عشرين ألفا.

والجمهور أجابوا بأنها خرجت / [١٦٠ ب / م] مصلحة للفساد مطفئة للثائرة مجتهدة في ذلك ، فهي لا تنفك من أجر أصاب اجتهادها أو أخطأ.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] احتج بها الشيعة على أن أهل البيت معصومون ، ثم على أن إجماعهم حجة.

أما أنهم معصومون فلأنهم طهروا وأذهب الرجس عنهم ، وكل من كان كذلك فهو معصوم ، أما الأولى / [٣٣٦ ل] فلنص هذه الآية ، وأما الثانية فلأن الرجس اسم جامع لكل شر ونقص ، والخطأ وعدم العصمة بالجملة شر ونقص ، فيكون ذلك مندرجا تحت عموم الرجس الذاهب عنهم ، فتكون الإصابة في القول والفعل والاعتقاد والعصمة بالجملة ثابتا لهم.

وأيضا فلأن الله ـ عزوجل ـ طهرهم وأكد تطهيرهم بالمصدر حيث قال : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] أي : ويطهركم من الرجس وغيره تطهيرا ، وهو يقتضي عموم تطهيرهم من كل ما ينبغي التطهير منه عرفا أو عقلا أو شرعا ، والخطأ وعدم العصمة داخل تحت ذلك ، فيكونون مطهرين منه ، ويلزم من ذلك عموم إصابتهم وعصمتهم ، ثم أكدوا دليل عصمتهم من الكتاب بالسنة في علي وحده ، وفي فاطمة وحدها ، وفي جميعهم.

أما دليل العصمة [في علي] فيما ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أرسله إلى اليمن قاضيا قال : يا رسول الله ، كيف تبعثني قاضيا ولا علم لي بالقضاء؟ قال : «اذهب فإن الله سيهدي قلبك

٥٠٥

ويسدد لسانك» ثم ضرب صدره وقال : «اللهم اهد قلبه وسدد لسانه» (١) قالوا : قد دعا له بهداية القلب وسداد اللسان ، وأخبره بأن سيكونان له ، ودعاؤه مستجاب وخبره حق وصدق ، ونحن لا نعني بالعصمة إلا هداية القلب للحق ونطق اللسان بالصدق ، فمن كان عنده للعصمة معنى غير هذا أو ما يلازمه فليذكره.

وأما دليل العصمة في فاطمة ـ رضي الله عنها ـ فكقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها» (٢) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معصوم فبضعته أي جزؤه والقطعة منه يجب أن تكون معصومة.

وأما دليل العصمة في جميعهم ـ أعني عليا وفاطمة وولديهما فلقوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٣) رواه الترمذي ، ووجه دلالته أنه لازم / [١٦١ أ / م] بين أهل بيته والقرآن المعصوم ، وما لازم فهو معصوم ، قالوا : وإذا ثبت عصمة أهل البيت وجب أن يكون إجماعهم حجة لامتناع الخطأ والرجس عنهم بشهادة المعصوم ، وإلا لزم وقوع الخطأ فيه وإنه محال.

واعترض الجمهور بأن قالوا : لا نسلم أن أهل البيت في الآية هم من ذكرتم ، بل هم نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل سياقها وانتظام ما استدللتم به معه ، فإن الله ـ عزوجل ـ قال : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣٢) [الأحزاب : ٣٢] ، ثم استطردها إلى أن قال : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

__________________

(١) رواه أبو داود [٣ / ٣٠٠١] ح [٣٥٨٢] والنسائي في الكبرى [٥ / ١١٦] ح [٨٤١٩] وأحمد [١ / ٨٣ ، ٨٨ ، ١١١] وابن حبان [١١ / ٤٥١] ح [٥٠٦٥] والحاكم [٣ / ١٤٥] وأبو يعلى [١ / ٣٢٣].

(٢) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة [٣٧٦٧] ومسلم في كتاب فضائل الصحابة [١٦ / ٣ / ح ٢٤٤٩ [٩٤]] وأبو داود في كتاب النكاح [٢ / ٢٢٤ / ح ٢٠٧١] والنسائي في الكبرى في كتاب المناقب [٥ / ٩٧ / ٨٣٧٠] والترمذي في كتاب المناقب [٥ / ٦٥٥ / ح ٣٨٦٧] وابن ماجة في سننه في كتاب النكاح [١ / ٦٤٣ / ١٩٩٨].

(٣) أخرجه مسلم في كتاب فضائل الصحابة ح [٣٤٠٨] ، والترمذي في المناقب ح [٣٧٨٦].

٥٠٦

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤) / [٣٣٧ ل]) [الأحزاب : ٣٣ ـ ٣٤] ، فخطاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكتنفا لذكر أهل البيت قبله وبعده منتظما له ، فاقتضى أنهن المراد به ، وحينئذ لا يكون لكم في الآية متعلق أصلا ، ويسقط الاستدلال بها بالكلية ، سلمناه لكن لا نسلم أن المراد بالرجس ما ذكرتم ، بل المراد به رجس الكفر أو نحوه من المسميات الخاصة ، وأما ما أكدتم به عصمتهم من السنة فأخبار آحاد لا يقولون بها مع أن دلالتها ضعيفة.

وأجابت الشيعة بأن قالوا : الدليل على أن أهل البيت في الآية هم من ذكرنا النص والإجماع ، أما النص فما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه بقي بعد نزول هذه الآية ستة أشهر يمر وقت صلاة الفجر على بيت فاطمة فينادي : «الصلاة يا أهل البيت (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] رواه الترمذي وغيره ، (١) وهو تفسير منه لأهل البيت بفاطمة ومن في بيتها ، وهو نص ، وأنص منه حديث أم سلمة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل خلف فاطمة وعلي ولديهما ، فجاءوا فأدخلهم تحت الكساء ثم جعل يقول : «اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي ، اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي» (٢) وفي رواية : «حامتي ، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» قالت أم سلمة : فقلت : يا رسول [الله] ، ألست من أهل بيتك؟ قال : «أنت إلى خير» (٣) رواه أحمد وهو نص في أهل البيت وظاهر في أن نساءه «أنت إلى خير» [رواه أحمد] ولم يقل : بلى أنت منهم.

وأما الإجماع فلأن الأمة اتفقت على أن لفظ أهل البيت إذا أطلق إنما ينصرف إلى من ذكرناه دون النساء ، ولو لم يكن إلا شهرته فيهم كفى ، وإذا ثبت بما ذكرنا من النص

__________________

(١) رواه الترمذي [٥ / ٣٥٢] وأحمد [٣ / ٢٥٩ ، ٢٨٥] وفي الفضائل [٢ / ٧٦١] ورواه الحاكم [٣ / ١٧٢] وأبو يعلى [٧ / ٦٠] والطبراني [٢٢ / ٤٠٢] وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني [٥ / ٣٠٦].

(٢) رواه أحمد [٦ / ٢٩٦ ، ٣٠٤] وفي فضائل الصحابة [٢ / ٥٨٣] والطبراني [٢٣ / ٣٩٣].

(٣) رواه الترمذي [٥ / ٣٥١ ، ٦٦٣] ح [٣٢٠٥ ، ٣٧٨٧] ، والحاكم [٢ / ٤٥١] ورواه الطبراني [٣ / ٥٢ ، ٩ / ٢٥ ، ٢٣ / ٢٤٩ ، ٣٣٣] والبيهقي [٢ / ١٥٠].

٥٠٧

والإجماع أن أهل البيت علي وزوجته وولداه فما استدللتم به من سياق الآية ونظمه على خلافه لا يعارضه ؛ لأنه مجمل الأمرين / [١٦١ ب / م] ، وقصاراه أنه ظاهر فيما ادعيتم ؛ لكن الظاهر لا يعارض النص والإجماع ، ثم إن الكلام العربي يدخله الاستطراد والاعتراض وهو تخلل الجمل الأجنبية بين الكلام المنتظم المتناسب ، كقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) [النمل : ٣٤] فقوله : (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (٣٤) [النمل : ٣٤] جملة معترضة من جهة الله ـ عزوجل ـ / [٣٣٨ ل] بين كلام بلقيس ، وقوله ـ عزوجل : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : ٧٥ ـ ٧٧] أي فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم ، وما بينهما اعتراض على اعتراض ، وهو كثير في القرآن وغيره من الكلام العربي ، فلم لا يجوز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] جملة معترضة متخللة لخطاب نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذا النهج؟ وحينئذ يضعف اعتراضكم بمرة.

وأما الرجس فإنما يجوز حمله على الكفر أو على مسمى خاص لو كان له معهود ، لكن لا معهود له ، فوجب حمله على عمومه ، إذ هو اسم جنس معرف باللام وهو من أدوات العموم.

وأما ما ذكرناه من أخبار الآحاد فإنما أكدنا به دليل الكتاب ، ثم هي لازمة لكم فنحن أوردناها إلزاما لا استدلالا.

واعلم أن الآية ليست نصا ولا قاطعا في عصمة أهل البيت ، وإنما قصاراها أنها ظاهرة في ذلك بطريق الاستدلال الذي حكيناه عنهم.

قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ

٥٠٨

فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥) [الأحزاب : ٣٥] يحتج به على إن الإناث لا يدخلن في جمع المذكر السالم ، وإلا لكان والمسلمات تكرارا ، ولأنه حكي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله ، ما بال النساء لا يذكرن مع الرجال؟ أو كما قالت ، فنزلت هذه الآية ، ففهمت أم سلمة أن صيغة المذكر لا تتناول الإناث ، وأقرت على ذلك ووافقها التنزيل فدل على ما قلنا.

وتفصيل المسألة أن اللفظ المختص بأحد القبيلين لا يتناول غيره كالرجال والذكور وكالنساء والإناث ، واللفظ الموضوع لهما يتناولهما كلفظ من ، واختلف في نحو المؤمنين والمسلمين ، هل تتناول الإناث ما لم يدل على قرينة؟ على قولين ؛ أحدهما : لا ، لما ذكرنا ، وكما لا يتناول نحو المسلمات والمؤمنات الذكور.

والثاني نعم ، لأن أكثر خطاب القرآن بهذه الصيغة والحكم فيها يتناول النساء.

وأجيب عنه بأن ذلك إن ثبت فهو بطريق التغليب لا بالوضع ، والنزاع إنما هو فيه لا في دلالة القرائن ، وأما لفظ القوم فهل يختص الرجال أو يتناول القبيلين؟ فيه خلاف موضع ذكره / [١٦٢ أ / م] في سورة الحجرات ، إن شاء الله عزوجل.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٣٩) [الأحزاب : ٣٨ ـ ٣٩] قال بعضهم : هذا تعريض من الله ـ عزوجل ـ برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال له : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) / [٣٣٩ ل]) [الأحزاب : ٣٧] كأنه قال : لم تفعل ذلك ، وهلا تكون كهؤلاء الذين يبلغون ، ولا يخشون أحدا إلا الله.

وجوابه : أن المعلوم من هذا الكلام : أنه مدح لهؤلاء الرسل وثناء عليهم ، وأما كونه تضمن تعريضا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغير معلوم ، وبتقدير أن الأمر كذلك [لا يضر] ، إذ لا قدح بذلك في منصب ولا عصمة ، والله ـ عزوجل ـ له التصرف في عباده ، رسلا كانوا أو

٥٠٩

غيرهم ، بالفعل والقول ، تصريحا وتعريضا ، وإشارة وكناية وكيف شاء.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠) [الأحزاب : ٤٠] احتج به الحجاج على أن الحسن والحسين ليسا ابني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يرد عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن : «إن ابني هذا سيد» (١) ؛ لأن إثبات بنوته مجاز ، باعتبار أنه سبطه ومن ذريته ، وسلب الآية ثبوت بنين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كإبراهيم والقاسم والطيب ؛ لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ، والآية إنما سلبت أبوته عن الرجال ، وعند التحقيق فالآية ما سيقت لهذا ، إنما المراد منها نفي أبوته الحقيقية عن زيد بن حارثة ؛ لأنه لما تبناه ثم تزوج امرأته ، أرجف به المنافقون ، وقالوا : تزوج امرأة ابنه ، وذلك حرام في دينه ؛ فعرفوا أنه ليس ابنه لصلبه ، والمحرم إنما هي زوجة ابنه لصلبه ، كما صرح به في سورة النساء.

والدليل على أن الحسن من ذرية النبي نص القرآن على أن المسيح من ذرية إبراهيم ، مع أنه إنما ينتسب إليه من جهة أمه مريم في قوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤) [الأنعام : ٨٤] إلى قوله :

(وَعِيسى ،) ونسبة الحسن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسبة المسيح إلى إبراهيم فكان من ذريته.

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠) [الأحزاب : ٤٠] تضمنت هذه الجملة إثبات رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموضع تقريره سورة الفتح إن شاء الله ـ عزوجل ـ وأنه خاتم النبيين أي : لا نبي بعدي» (٢).

والدليل عليه هذا النص المعصوم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي» (٣).

فإن قيل : هذا إثبات الدعوى / [١٦٢ ب / م] بنفسها فهل من دليل عليها غير ذلك ، [فإن اليهود والنصارى كل واحد من الفريقين يدعي أن نبيه خاتم النبيين لا نبي بعده ، وقد ظهر كذبهم عندكم فبما تنفصلون أنتم عمن يلزمكم ما لزمهم ، وهؤلاء الفلاسفة يدعون قدم العالم ودوامه ، وأن النبوات لا تنقطع بل هي متصلة مستمرة بحسب الحاجة إليها في

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصلح [٢٧٠٤].

(٢) رواه أحمد في الفضائل [٢ / ٩٤١] والطبراني [٣ / ٥٧] ح [٢٦٧٥] ، [٦ / ٢٠٥].

(٣) رواه أحمد في الفضائل [٢ / ٩٤١] والطبراني [٣ / ٥٧] ح [٢٦٧٥] ، [٦ / ٢٠٥].

٥١٠

كل حين.

والجواب : أن معتمدنا في أن محمدا خاتم النبيين لا نبي بعده ، إنما هو السمع ؛ إذ العقل لا يمنع من ذلك ، غير] أن السمع الذي هو معتمدنا ، ينتهي إلى دليل العقل ، وتقريره : أن القرآن دل دليل النبوة ـ وهو المعجز النبوي ـ على أنه كلام الله ـ عزوجل ـ ، ودل السمع والعقل على أن كلام الله ـ عزوجل ـ حق وصدق ، لا يلحقه باطل ولا كذب / [٣٤٠ ل] ، وقد صرح بأنه خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ، فوجب القطع بصحته بهذا الدليل الذي بذاته السمع وغايته العقل ، [ولم يثبت لنا مثل هذا الدليل على ما ادعته اليهود والنصارى في أن لا نبي بعد نبيهم ، بل الواقع كذبهم بظهور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا بعد المسيح ، والمسيح بعد موسى ، وأما الفلاسفة فدعواهم مبنية على قدم العالم أو أبديته ، فإن كان صاحب هذا السؤال منهم ناظرناه في ذلك الأصل كما سبق ، وإن كان من غيرهم ؛ فقد اتفقنا وإياه على بطلان قولهم ، وزال السؤال واندفع الإشكال.

فإن قيل : قد اعترفتم أن العقل لا يمنع من تجدد النبوة ، ثم زعمتم أن دليلكم على عدم تجددها ينتهي إلى العقل ، فلزم أن العقل يمنع من تجددها ولا يمنع معا ، وهو تناقض.

قلنا : ليس تناقضا ، لأن الذي يمنعه وقوع النبوة فيما بعد ، والذي لا يمنعه جواز وقوعها ، ولا تناقض بينهما ، ولا يلزم من نفي الوقوع نفي الجواز].

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٤٤) [الأحزاب : ٤٤] يحتج به الجمهور على رؤية الله ـ عزوجل ـ في الآخرة ، بناء على أن اللقاء يقتضي الرؤية لغة أو عرفا ، وقد سبق.

(وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦) [الأحزاب : ٤٦] يحتمل أمرين : أحدهما : تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرسالة وأنه إنما دعا إلى الله ـ عزوجل ـ بإذن الله [لا فضوليا ولا متقولا] ، فيكون من باب إثبات الرسالة.

ويحتمل أن المراد : وداعيا إلى الله ، ثم لا يصل أحد إليه إلا بإذنه ، أو لا يهتدي بدعائك أحد إلا بإذنه ، كقوله : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦) [المائدة : ١٦] فيحتج به على القدرية في أن أحدا لا يستقل بالهداية بدون إذن الله ـ عزوجل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ

٥١١

غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣) [الأحزاب : ٥٣] أي غير منتظرين نضجه وفراغه ، وهذا أدل للمعتزلة على / [١٦٣ أ / م] مطلوبهم من قوله : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٣٥) [النمل : ٣٥] على ما ذكر هناك.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦) [الأحزاب : ٥٦] ، يحتج بها على استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا على ما سبق ، وجوابه في سورة الحج عند : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨) [الحج : ١٨].

وفى المسألة خلاف ، والأشبه الجواز إذا لم يورث لبسا أو خللا في الكلام يخل بالإفهام.

ويحتج بها أيضا على جواز ما يفعله بعض الناس عقب الصلاة من قوله : السّلام عليك يا رسول الله جهرا أو خفية ، مشيرا بإصبعه ، أو غير مشير ، لأن الله ـ عزوجل ـ عطف الأمر بالسلام عليه على الأمر بالصلاة عليه ، فكما كانت الصلاة عليه مشروعة في الأحوال المذكورة ، كذلك السّلام عليه ، خلافا لمن منع ذلك وأغلظ فيه.

ويحتج بها على أن الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واجبة للأمر بها المقتضي للوجوب ، ثم هل وجوبها على العين أو الكفاية فيه نظر ، والأشبه على الأعيان ؛ لأن الصلاة عليه جرت مجرى العظيم له والتوقير ، وذلك فرض العين ، ثم إذا وجبت على العين خرج تكرارها على أن الأمر يقتضي التكرار أم لا؟ ، والأشبه أنه لا يقتضيه ؛ فيخرج المكلف عن عهدة وجوبها عليه بالصلاة عليه مرة في عمره.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً

٥١٢

مُهِيناً) (٥٧) [الأحزاب : ٥٧] هاهنا كلام للشيعة نرغب عن ذكره لصعوبته.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) (٦٠) [الأحزاب : ٦٠] يحتمل أن يكون ذلك الإغراء بالأمر التكليفي ، ويحتمل أن يكون بالأمر التكويني ، وهو خلق دواعي حربهم في قلبه ، فيجليهم عن المدينة.

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢) [الأحزاب : ٦٢] يحتج به على اطراد العادات ، لأن السنة هي الطريقة والعادة ، وقد نفى أن تتبدل ، وهو المراد من اطرادها.

(وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) (٦٧) [الأحزاب : ٦٧] أي / [٣٤١ ل] بالإغواء والكسب عند الجمهور ، وبالخلق عند المعتزلة.

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) [الأحزاب : ٧٢] قيل : كان إشارة إلى أن الظلم والجهل غريزة في طبيعة الإنسان كالشيء المتقادم في معدنه [وكذلك هي في صفات الله ـ عزوجل ـ نحو (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣) [الأحزاب : ٧٣] إشارة إلى أنها في معاني قديمة ، لم تفارق ذاته].

* * *

٥١٣

القول في سورة سبأ

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) [سبأ : ٣] ، فيه إنكار البعث من الكفار ، وإثباته عليهم بقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ) [سبأ : ٣].

وبيانه : أنه عالم بكل شيء ، فهو يعلم أجزاء الموتى المنحلة إليها أجسادهم ، ثم إذا أراد بعثهم / [١٦٣ ب / م] ضم تلك الأجزاء بعضها إلى بعض ، فعادوا كما كانوا أول مرة.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) [سبأ : ٤] بيان لغاية البعث وعلته الحكيمة ، وحكمته العلية ، فإذا مبنى البعث على العلم لجمع الأجزاء والقدرة لنظمها وتأليفها كما كانت.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٧) [سبأ : ٧] هذا إنكار آخر منهم استغنى عن جوابه بجواب الأول.

(أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) (٨) [سبأ : ٨] احتج به الجاحظ على أن بين الصدق والكذب واسطة ، وهى الجنة التي ادعوها ، إذ ليست صدقا قطعا ولا كذبا لمقابلتها الكذب ، فلزم أنها واسطة بينهما لا صدقا ولا كذبا ، وقد اختلف في الصدق والكذب ؛ فقيل : هما الخبر المطابق واللامطابق مطلقا فعلى هذا لا واسطة بينهما ؛ لأن الخبر إن طابق فصدق ، وإلا فكذب ، وقيل : إن طابق فصدق وإن لم يطابق ، فإن علم المتكلم بعدم مطابقته فكذب ، وإن لم يعلم فخطأ لا كذب ، وهذا الاصطلاح وعليه الآية ، لأنهم نسبوه إلى أنه أخطأ في إخباره عن البعث عن غير عمد للكذب فصار في خطئه كذي الجنة ، لا يدري ما يقول.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) (١٠) [سبأ : ١٠] أي سبحي معه (وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (١٠) [سبأ : ١٠] هذه خوارق معجزات ووجهها أن يخلق في الجبال حياة تسبح بها والطير أقرب إلى ذلك لحيوانيتها ، وإلانة الحديد بأن يخلق فيه لينا

٥١٤

ابتداء ، أو بنار كامنة فيه ، أو بتغليب الجزء المائي عليه ونحوه والكل ممكن.

[وعند الاتحادية أنه سرى بذاته في الجبال والطير ، وسبح منها نفسه كما مر].

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٣) [سبأ : ١٣] يحتج به على أن الشكر بالعمل والحمد بالقول بدليل : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣) [النمل : ٩٣] وقيل : الشكر الاعتراف بالنعمة ، وضده الكفر. والحمد : الثناء على الحي بأوصافه الجميلة وضده الذم.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٠) [سبأ : ٢٠] يعني قوله : (قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (٦٢) [الإسراء : ٦٢] ودلت هذه الآية على أنه قال ذلك ظنا وحسدا ، وهو شأنه وشأن كل مخلوق ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله ـ عزوجل / [٣٤٢ ل].

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) [سبأ : ٢١] أي من قوة وتصرف يجبرهم به على المعصية ، إنما كان يدعوهم ويوسوس لهم ، وهو موافق لقوله :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٢) [إبراهيم : ٢٢] ، (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) [سبأ : ٢١] أي لنعلم العلم [العام] المشترك بيننا وبينهم ، الذي تلزمهم به الحجة في ظاهرة العدل ، وإلا فالله ـ عزوجل ـ لم يزل عالما بالمؤمن من غيره قبل خلقهم / [١٦٤ أ / م] لكن علما اختص به لا تلزمهم به الحجة في

٥١٥

ظاهر العدل ، وإن لزمتهم به في باطن العدل ، كما قالته الجبرية ، إذا الله ـ عزوجل ـ غير متهم على خلقه.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (٢١) [سبأ : ٢١] اعلم أن المكلف إما مصدق بالآخرة جازم أو مكذب بها جازم أو شاك فيها متردد ، وهو ملحق بالمكذب ، لأن الإيمان هو التصديق الجازم والشك والتردد ينافي الجزم.

(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٥) [سبأ : ٢٥] هذا وعيدي محكم.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٨) [سبأ : ٢٨] قيل : معناه للناس كافة ، ففيه التصريح بعموم الدعوة وقيل : كافا لهم عن الشرك والشر ، والتاء للمبالغة مثلها في : علامة ونسابة وداهية.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (٤٠) [سبأ : ٤٠] ، تقتضي أن الجن ليسوا من الملائكة ، وإلا كان ذلك ضعفا في حجة الملائكة ، إذ ينفون المعبودية عنهم ويضيفونها إلى طائفة منهم ، ويتبع هذا أن إبليس من الجن ، لا من الملائكة كما سبق.

* * *

٥١٦

القول في سورة الملائكة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١] دليل على عصمتهم إذ لا يؤمن على الوحي يبلغه إلا معصوم.

(أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١] هذا خرق لعادة الناس ، فبين أن ذلك زيادة في الخلق ، وأنه إلى اختياره ومشيئته ، فقال : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١].

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣) [فاطر : ٣] من أدلة التوحيد كما سبق.

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) [فاطر : ٨] يحتج به الجمهور كما سبق ودل على أنه هو الذي يزين للمجرم سوء عمله ، في قوله ـ عزوجل ـ (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨) [فاطر : ٨] إلى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) (٩) [فاطر : ٩] إثبات للبعث والمعاد بالقياس على إحياء الأرض بالمطر والنبات.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠) [فاطر : ١٠] يحتج به أصحاب الجهة ؛ لأن حقيقة الصعود إلى فوق ، وقد بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم الحديث ، وينتظم الدليل هكذا الأعمال تصعد إلى [الله ، والأعمال تصعد إلى] فوق ، فالله في جهة فوق. وأجيب / [٣٤٣ ل] عنه بما سبق من أن الصعود والفوقية معنويان لا حسيان ، وإلا لزم التحيز والجسمية.

٥١٧

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١١) [فاطر : ١١] احتج به المعتزلة على أن القاتل يقطع حياة المقتول ، وينقص من عمره ، وقد دلت هذه الآية على جوازه وإليه وإلى نحوه الإشارة بها كالطبيب يسيء تدبير مزاج المريض ، فيقتله ونحو ذلك.

وجوابه أن الأجل / [١٦٤ ب / م] والعمر لا ينقص عما في علم الله ـ عزوجل ـ لما مر من النصوص عليه نحو : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩) [يونس : ٤٩] ، ومعنى هذه الآية ، ما يعمر من معمر ، ولا ينقص غيره عن عمره بأن يعيش المعمر مائة سنة ، وينقص آخر من عمر ذلك المعمر فيعيش خمسين ، وقيل : ينقص الإنسان من عمره بالنسبة إلى بنيته الصالحة لتعميره أكثر من ذلك مثل أن يعيش خمسين وبنيته وتركيبه يصلح لتعمير مائة ، وقيل غير ذلك ، وبالجملة ليست نصا فيما قالوه ، فلا تعارض النصوص فيما قلناه.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢) [فاطر : ٣٢] إن قيل : كيف يكون المصطفى ظالما؟ قيل : إنما يمتنع ذلك في شخص واحد من وجه واحد ، والمصطفى هاهنا أمة متعددة الأفراد ، فاصطفاؤها من حيث جملتها وظلمها من جهة أفرادها ، وذلك لا يمتنع.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢) [فاطر : ٣٢] ، أي : بإرادته ، ويحتج به الجمهور في أن إذن الله وإرادته وعلمه وقدرته هي المؤثرة في السبق والظلم والاقتصاد والشقوة والسعادة ، وأن الإنسان لا يستقل بشيء من ذلك.

(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥) [فاطر : ٣٥] يحتج به على أن دخول الجنة بفضل من الله ـ عزوجل ـ لا عوض عن الطاعات.

* * *

٥١٨

القول في سورة يس

(إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٣) [يس : ٣] إثبات لرسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرهانها يأتي إن شاء الله ـ عزوجل ـ.

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (٦) [يس : ٦] احتج بها بعض النصارى على اختصاص رسالة محمد بالعرب ؛ لأنهم هم الذين لم ينذر آباؤهم ، أما بنو إسرائيل من اليهود والنصارى فقد أنذر آباؤهم بالرسل والكتب ، فليس هو مرسلا إليهم.

والجواب أن المراد ما أنذر آباؤهم [بالرسل والكتب] في الفترة ، وهى ما بين عيسى ومحمد ؛ فيعم الأمم كلها ثم هذا [الاستدلال] بمفهوم ضعيف ؛ فلا يعارض النصوص على عموم دعوته ، وأيضا من سلم أنه رسول إلى العرب لزمه تصديقه في دعوى عموم الرسالة والدعوة.

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧) [يس : ٧] يعني القول المذكورين / [٣٤٤ ل] في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) (١٣) [يس : ١٢ ، ١٣] ، ولما حق القول القديم عليهم بذلك وجب تحقيقه عند وجودهم بإجبارهم على المراد منهم بخلق الدواعي والصوارف في قلوبهم الموجبة لذلك ، وإليها الإشارة بالأغلال في أعناقهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم ومن أراد أن ينظر إلى عظمة الله ـ عزوجل ـ / [١٦٥ أ / م] فلينظر إلى هذا حيث جبر خلقه على ما يريد منهم ، بحيث لا خروج لهم عنه ولا خلاص لهم منه ، ثم هو يحاكمهم إلى عقولهم فتقضي عقولهم عليهم ، ما ذاك إلا لأن الخلق عبيده والعقول خلقه وجنوده ، فلم يجعل في فطرها إلا ما عليه فطرها ، وهو القضاء على ذويها بحكم كسبها الظاهر ، وعدم إقامة عذرهم بالجبر الإلهي الباطن ، فلله فيهم الإرادة الغالبة وعليهم الحجة البالغة.

(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) (٢٣) [يس : ٢٣] استدلال على التوحيد ، وتقريره هكذا : لا شيء من الآلهة بنافذ الإرادة ، والإله الحق نافذ الإرادة ، فلا شيء من الآلهة بإله حق.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢) [يس : ٣٢] هذا إثبات للبعث.

٥١٩

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) [يس : ٣٧] إشارة إلى دليل البعث المذكور قبلها ، وهو الدليل المشهور في قياس البعث على إحياء الأرض.

وكذلك (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧) [يس : ٣٧] حجة على البعث ؛ لأن الليل مظلم كثيف كالعظام البالية مظلمة ، لعدم الحياة ، كثيفة لتمحض طبيعة الأرض فيها ، ثم إن النهار مشرق لطيف ، كالجسم الحي مشرق بنور الحياة ، لطيف بما فيه من العنصر المائي اللطيف ثم لما كان سلخ النهار من الليل ممكنا ، فكذلك إخراج الأجساد الحية من العظام البالية ، ثم ذكر مع هاتين الحجتين على البعث حججا أخر على وجود الصانع لمن ينكره ، وهي جريان الشمس لمستقر لها ، وتقدير القمر منازل ، وحمل الناس في الفلك المشحون وتقريره : أن هذه أفعال وآثار عظيمة ؛ فتستدعي مؤثرا قطعا ، ثم يستدل على قدمه ووحدانيته كما سبق.

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٤٩) [يس : ٤٩] الآيات فيهن إثبات البعث ونفخ الصور ونحوه. من أحكام الآخرة.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٦٠) [يس : ٦٠] أي تطيعوه ، وفيه إشارة إلى أن العبادة هي الطاعة ، وهى كذلك ، غير أنها في العرف العام هي الطاعة على جهة الذل والخضوع.

(وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢) [يس : ٦٢] يعني بالإغواء والوسوسة ، إذ لم يكن له عليهم سلطان إلا أن دعاهم فاستجابوا له ، فبقيت الأفعال مترددة بين الله ـ عزوجل ـ بالخلق ، والعباد بالكسب.

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥) [يس : ٦٥] / [٣٤٥ ل] هذا من خوارق العادات في الآخرة ؛ لأن العادة اطردت اليوم بظهور الكلام من فم وشفتين ولسان ومخارج وأسنان ، فإذا سمع العقل بصدور كلام على غير هذه الصفة استغربه ، وحقيقة الكلام إنما [هي صوت] مفهم خارج من / [١٦٥ ب / م] جسم ، وهو من اليد والرجل وسائر الأعضاء ممكن ، قريب بأن يخلق فيها الصوت المفهم ، وقد يمكن أن ينقل الفم إلى اليد ؛ فتنطق به ، وهل اختصاص الفم بالوجه إلا عادة اطردت ، وإلا فنسبته من حيث هو إلى سائر الأعضاء واحدة.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) (٦٦) [يس :

٥٢٠