الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

الصنعة ، ولطيف الحكمة ، وفى أنفسهم من عجائب خلق الإنسان التي أفادها علم التشريح وغيره ؛ ويشهد لهذا التأويل ـ قوله ـ عزوجل ـ : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) [الذاريات : ٢١] وهذه الآية لشدة إجمالها وكثرة احتمالها يستشهد بها المتكلمون والفلاسفة والصوفية ، كل على بعض مطالب علمه ، فلكل منها ورد وعنها صدر.

(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) [فصلت : ٥٤] فيه عموم العلم ، أحاط بكل شيء علما.

* * *

٥٦١

القول في سورة الشورى

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥) [الشورى : ٥] أي : لكثرة الملائكة ، ما فيها موضع قدم إلا فيه ملك قائم ، أو راكع ، أو ساجد. «أطت السماء ، وحق لها أن تئط» (١).

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (٣١) [المدثر : ٣١] وهذا يدل على جسمية الملائكة ، وأن لهم ثقلا تئط منه السماء حتى تكاد تتفطر ، وإذا جاز أن يكون في الملائكة ثقل ، جاز أن يكون في السماء والأفلاك / [٣٧٢ / ل] ؛ لأن الجميع عالم سماوي.

وزعم الفلاسفة أن الفلك لا ثقيل ولا خفيف ، لأنه غير متحرك عن الوسط كالنار. ولا إلى الوسط كالأرض ، وكل ما / [١٧٩ ب / م] كان كذلك ، فلا ثقل فيه ، وإلا لتحرك إلى الوسط ، ولا خفة وإلا لتحرك عن الوسط.

والجواب بمنع عموم الثانية ، فإن قولهم : كل ما كان كذلك ؛ إن أرادوا بطبعه فنعم ، وإن أرادوا بتسخير القادر المختار فممنوع ، لجواز أن يوجد جسم ثقيل أو خفيف ، ثم يتحرك بإرادة القادر المختار حركة دورية كرية لا إلى الوسط ، ولا عنه.

(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥) [الشورى : ٥] سبق القول على نظيره في سورة غافر.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد ح [٤١٩٠] [٢ / ١٤٠٢] ورواه أحمد في المسند [٥ / ١٧٣] والحاكم [٢ / ٥٥٤] ، [٤ / ٦٢٢] والبيهقي [٧ / ٥٢].

٥٦٢

لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٨) [الشورى : ٨] يحتج به الجمهور كما سبق من نظائره.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٩) [الشورى : ٩] ، فيه إثبات البعث إحالة على القدرة كما سبق ، وإثبات التوحيد ، ونظمه : أولياؤكم لا يحيون الموتى ولا يقدرون ، والإله الحق يحيي ويقدر ، فأولياؤكم لا شيء منهم بإله حق.

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١٠) [الشورى : ١٠] يحتج به الظاهرية في نفي القياس ؛ لأنه ليس هو الله حتى ترد إليه الأحكام ، ويجاب عنه بأن المراد : فحكمه إلى دين الله ، أو كتاب الله ، والقياس من دين الله وكتاب الله ، وهذا البعث الذي هو أهم أركان الإيمان يحتج عليه في القرآن بالقياس ، فما الظن بفروع مستندها الظن.

(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] هذه الآية أولها تنزيه وآخرها إثبات ، فمن جمع بينهما بأن أثبت لله ما أثبت ، ونزهه عما لا يليق به من مشابهة المخلوقات وأثبت غير ممثل ، ونزه غير معطل ؛ فقد أصاب ، ومن انحرف في التنزيه حتى عطل ، أو في الإثبات حتى شبه ومثل ، فقد أخطأ ، وتوفيقه عنها أبطأ ، ونظيرها في الجمع بين طرفين : قوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) [الأنعام : ١٤٩] إذ أولها اعتزال قدري وآخرها تفويض جبري ، فمن توسط بينهما فاعتقد أن لله في خلقه المشيئة الغالبة ، وعليهم الحجة البالغة ، فقد أصاب ، ومن انحرف فاعتزل أو ظلم ربا لم يزل ، فقد زل ، ومن أوج التوحيد نزل.

ثم هنا مسألتان : إحداهما في الكاف في : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] فقيل : زائدة أي : ليس مثله ، وقيل : على أصلها في التشبيه ، ومثل بمعنى هو أي : ليس كهو أو كذاته شيء ، أما أن الكاف ومثل على أصلهما فمحال ؛ إذ يبقى تقديره : ليس مثل مثله أو ليس يشبه مثله شيء ، وهو محال لوجهين :

أحدهما : إثبات مثل له ، والقديم / [٣٧٣ / ل] لا مثل له.

والثاني : أن له مثلا مع أن مثله لا مثل له [١٨٠ أ / م] فيكون مثله أكمل منه ، وإنه

٥٦٣

محال ، ويحتمل صحة ذلك على طريق الفرض والتقدير ، أي : لو فرض له مثل لكان ذلك المثل لا مثل له ، وإذا لم يكن لمثله الفرضي مثل فهو أولى ألا يكون له مثل.

المسألة الثانية : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] أي يدرك المسموعات والمبصرات ، وعند بعضهم : معناه سلب الصمم والعمى عنه ، والأول وهو الصواب ، وقد سبق جميع هذا.

واعلم أن لنا سمعا ومحله ومسموعا وسامعا وسميعا ، فالسمع القوة المدركة للمسموع ، وهي من الله ـ عزوجل ـ تسمى صفة قديمة ، ومحل السمع يسمى جارحة وأذنا ، والله ـ عزوجل ـ منزه عنها ، والمسموع هو الأصوات المدركة بقوة السمع ، والسامع هو المدرك للأصوات بالفعل والله ـ عزوجل ـ متصف بذلك من حين وجود الأصوات ، أما قبلها فمحال ، وإلا لزم قدمها أو وجودها حال عدمها وإنه محال ، والسميع من له صفة السمع ، والله ـ عزوجل ـ متصف بذلك في الأزل ؛ إذ لا يلزم من وجود الصفة وجود متعلقها ، وإلا للزم قدم المعلومات والمقدورات والمرادات لقدم الصفات المتعلقة هي بها ، وهى العلم والقدرة والإرادة ، وإنه محال ، والكلام في البصير على هذا التفصيل ، وهو تحقيق في هذا المكان.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣] ، يحتج بها على أن شرع من قبلنا شرع لنا ؛ لأنها تضمنت أن شرائع أولي العزم الخمسة واحدة.

ويعترض عليه بأن ذلك في أصول الدين كالتوحيد ونحوه ؛ بدليل قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣] وهذا تفسير لما شرعه لهم وأخبر أنه يكبر على المشركين ، وإنما كبر على المشركين التوحيد من الأصول لا من الفروع ؛ فإذن شرع من قبلنا شرع لنا في التوحيد ونحوه ، وأما في الفروع فهو محل خلاف ، ولا دليل في الآية عليه.

(يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) [الشورى : ١٣] يحتج به الجمهور [لتعليق الاجتباء] بالمشيئة.

(وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣] يحتج به الفريقان ؛ الجمهور لإضافة

٥٦٤

الهداية إليه ، والمعتزلة لترتيب الهداية على الإنابة المضافة إليهم.

وجوابه : أنها أضيفت إليهم كسبا وهي له خلق ، فإذن إنما يهدي إليه من جعله منيبا بخلق الإنابة فيه.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥) [الشورى : ١٥] فيه إيجاب الإيمان بجميع الكتب المنزلة لا المبدلة ؛ لأن ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحن مأمورون به إلا ما خصه دليل ، ولقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٣) [الأنعام : ١٥٣] ، (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣١) [آل عمران : ٣١] وقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) [الأحزاب : ٢١] ونحوه.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (١٥) [الشورى : ١٥] فيه إثبات البعث والحشر.

(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) (١٨) [الشورى : ١٨] فيه أن من أنكر القيامة ضال كافر ؛ لأنها من أركان الإيمان الخمسة ، وهذا إجماع حتى قال العلماء : لو قال لامرأته أو أمته : أنت طالق أو حرة إن قامت القيامة ، عالما بمقتضى حرف الشرط ـ كفر ؛ بخلاف : إذا قامت ـ فرقا بينهما بأن «إذا» تقتضي وجوب وقوع ما علق عليها «وإن» تقتضي الخاص الذي لا يقتضي وجوب الوقوع ولا امتناعه ، وذلك ينافي وجوب اعتقاد وجوب قيام القيامة ، فكان كفرا ، كما لو قال : أنت طالق إن كان الله موجودا ، أو محمد رسولا.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (١٩) [الشورى : ١٩]

٥٦٥

فيه إشارة إلى أن تخصيصه من يشاء بالرزق وقبضه وبسطه لطف منه بعباده ورعاية لمصالحهم ؛ لئلا يفسد الفقر منهم قوما والغنى آخرين ، وقد شرح ذلك في قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧) [الشورى : ٢٧] ، وأشار إليه في آخر العنكبوت في قوله : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٢) [العنكبوت : ٦٢] وأوضحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاية الإيضاح في الحديث الإلهي : «إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى» وبالعكس ، وكذلك ذكر في العافية والبلاء ثم قال : «إني أدبر عبادي بعلمي فيهم ، إني عليم خبير» (١).

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢١) [الشورى : ٢١] يحتج بها الظاهرية على إبطال القياس ، لأنه شرع لما لم يأذن به الله ، وجوابه بالمنع ، والله ـ عزوجل ـ أذن فيه بالأمر باتباع الرسول ، وقد فعله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عدة قضايا ، والله ـ عزوجل ـ استعمله في أدلة التوحيد والمعاد كثيرا ، كما قررناه في مواضعه من هذا الكتاب وغيره. وقد شدد أبو محمد بن حزم النكير على القياسين حتى كاد يكفرهم ، معتلا بأنه شرعوا ما لم يأذن به الله ـ عزوجل ـ وذلك في كتاب : «إبطال الرأي» له ، ثم إنه زعم أن الله ـ عزوجل ـ قادر على أن يتخذ ولدا كما سبق في سورة الزمر ، وهذا من أعجب الأشياء وأشد الانحراف عن سنن الاعتدال ؛ إذ يكفر المسلمين في مسألة / [١٨١ أ / م] فرعية تتعلق بالعمل ، والتزم الكفر في مسألة أصولية تتعلق بالعلم ، فهو كما قيل : وحيث وجب أن تسجد بلت.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣) [الشورى : ٢٣] اختلف في القربى ؛ فقيل هي قربى كل مكلف أوصى بمودتها ، فهو كالوصية بصلة الرحم.

__________________

(١) أخرجه الخطيب في تاريخه [٦ / ١٥] ، وابن الجوزي في العلل المتناهية [١ / ٤٤] وابن حبان في المجروحين [٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧] وابن عدي في الكامل [٧ / ٢٦٧٣] والحكيم الترمذي في نوادر الأصول [٢ / ٢٣٢] وانظر جامع العلوم والحكم [١ / ٣٥٩].

٥٦٦

وقيل : هي قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم اختلف فيها ؛ فقيل : هي جميع بطون قريش ، كما فسره ابن عباس فيما رواه البخاري وغيره ، وقيل : هي قرابته الأدنون ، وهم أهل بيته : علي وفاطمة وولداهما أوصى بمودتهم ، وعند هذا استطالت الشيعة ، وزعموا أن الصحابة خالفوا هذا الأمر ، ونكثوا هذا العهد بأذاهم أهل البيت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه سأل مودتهم ، ونزلها منزلة الأجر على ما لا يجوز الأجر عليه ، وإلى هذه الآية أشار الكميت بن زيد الأسدي ، وكان شيعيا حيث قال :

وجدنا لكم في آل حم آية

تأولها منا تقي ومعرب

أي : المجاهر ومن تحت التقية جميعا تأولناها على أنكم المراد بها.

وأجاب الجمهور : بمنع أن القربى فيها من ذكرتموه ، ثم بمنع أن أحدا من الصحابة أذاهم أو نكث العهد فيهم.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) (٢٧) [الشورى : ٢٧] سبق القول فيها عند نظيرها قريبا.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) [الشورى : ٣٠] هو كقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٦٥) [آل عمران : ١٦٥] ، (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٧٩) [النساء : ٧٩] وقد سبق ، ونحوه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣] على ما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله عنه ـ أي مصائبكم جزاء بما كسبتم.

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤) [الشورى : ٤٤] يحتج به الجمهور على مذهبهم المشهور ، أي : فما له من ولي يهديه دونه ، وهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يهده الله فلا مضل له

٥٦٧

ومن يضلل فلا هادي له» (١) وهو أيضا متكرر في القرآن ، وكذلك : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٦) [الشورى : ٤٦] أي إلى الهدى ؛ لأنه إذا خلق الضلال في قلبه استحال أن يدخله الهدى حينئذ ؛ لامتناع اجتماع الضدين في محل واحد.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٥١) [الشورى : ٥١] يحتج به من يرى أن الله ـ عزوجل ـ يتكلم بحرف وصوت ؛ لأنه حصر تكليمه للبشر في ثلاثة أحوال :

أحدهما : الوحي ، وهو الإلهام وخلق الكلام / [١٨١ ب / م] في النفس ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن روح القدس نفث في روعي» (٢) الحديث.

والثاني : أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه كجبريل إلى الأنبياء.

الثالث : التكليم من وراء حجاب ، كما كلم موسى ولم يره موسى بل سأله الرؤية فقال : (لَنْ تَرانِي ،) وهذه الحال ليست وحيا ولا بواسطة رسول ؛ لأنها قسيم لهما فاستحال أن تكون إحداهما ، فهي حال ثالثة ، [وليس إلا التكليم بحرف وصوت.

وأجاب الخصم بأن الحرف والصوت لما دل الدليل على استحالتهما في حقه ـ عزوجل ـ وجب تأويل هذا على] أن المكلم [من وراء حجاب / [٣٧٦ / ل] أخذ عن حسه حتى سمع الكلام من غير صوت في الخارج كالنائم ونحوه ، أو على غير ذلك من التأويل.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

__________________

(١) رواه مسلم [٢ / ٥٩٣] [٨٦٧] ورواه النسائي [٣ / ١٨٨] ح [١٥٧٨] وأحمد [٣ / ٣٧١] ح [١٥٠٢٦] والبيهقي [٣ / ٢١٤] ورواه مسلم من حديث ابن عباس [٢ / ٥٩٣] [٨٦٨] والنسائي [٦ / ٨٩] [٣٢٧٨] وابن ماجة [١ / ٦١٠] ح [١٨٩٣] وأحمد [١ / ٣٥٠] ح [٣٢٧٥] ورواه أبو داود [١ / ٢٨٧] [١٠٩٧] والنسائي [٣ / ١٠٤] ح [١٤٠٤].

(٢) أخرجه الشافعي في مسنده [١ / ٢٣٣] ، وابن أبي شيبة في مصنفه [٧٩١٧] ح [٤٣٣٢] ومحمد بن راشد في الجامع [١١ / ١٢٥] ، والبزار في مسنده [٧ / ٣١٥] ح [٢٩١٤] والطبراني في الكبير [١٦٦١٨] ح [٧٦٩٤] والقضاعي في مسند الشهاب [٢ / ١٨٥] ح [١١٥١] والبيهقي في شعب الإيمان [٦٧١٢] ح [١١٨٥].

٥٦٨

(٥٢) [الشورى : ٥٢] سمى الوحي والقرآن روحا ؛ لأنه سبب الروح والرحمة ، ولأنه للقلوب كالروح تحيا به ، أو تسمية له باسم الروح الأمين النازل به.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) [الشورى : ٥٢] [زعم قوم أخذوا بظاهر هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل أن يوحى إليه غير مؤمن ، كما قال : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) (٧) [الضحى : ٧] وهذا صعب شديد أن يقال فيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم] ـ مع قوله : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» (١) وأنه حين ولد خرّ ساجدا مشيرا بأصعبه إلى السماء ، وأنه لم يزل كارها للأصنام مبغضا لها قبل النبوة ، لم يحلف بها ولا أكل مما ذبح لها ، وإجماع الناس على أن نبيا من الأنبياء لم يكفر بالله ولا خلا من الإيمان به طرفة عين.

[قالوا : يجب تأويل الآية على ما يزيل عنها هذا المحذور ، مثل] المراد : ما كنت تدري ما الكتاب ولا ماهية الإيمان وحقيقته ، ولا يلزم من كونه مؤمنا معرفة ذلك ، بدليل أن أكثر الناس هم كذلك. [أو : ما] كنت تدري ما الكتاب ولا كيفية الدعاء إلى الإيمان ؛ إذ كيفية دعاء الناس إلى الإيمان إنما يعلم بالوحي ، فقبل الوحي من أين يعلم ، ولا يلزم من كون الإنسان مؤمنا في نفسه أن يدري كيف يدعو أو إلى ما يدعو غيره ، لجواز أن يتعبد الله ـ عزوجل ـ كل إنسان بأمر غير ما يتعبد به الآخر ، كما اختص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخواص تعبد بها لم تكن لغيره.

(نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) (٥٢) [القيامة : ٥٢] يحتج به الجمهور لإضافة الهدى إليه ـ عزوجل ـ وتخصيصه بمن شاء ، وعند المعتزلة الهدى منسوب إلى الخلق يهدون أنفسهم.

(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٢) [الشورى : ٥٢] أي ترشد ، وهذا الهدى غير الهدى المسلوب في قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) [القصص : ٥٦] فلا يتناقض هذا الإيجاب مع ذلك السلب.

__________________

(١) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير [٧ / ٣٧٤] ، وابن سعد في الطبقات [١ / ١٤٨] وانظر تحفة الأحوزي [٥٦١٠] ، فيض القدير للمناوي [٥٤١٥].

٥٦٩

القول في سورة الزخرف

(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) [الزخرف : ٣] يحتج به جمهور من قال بخلق القرآن ؛ لأن كل مجعول مخلوق ، وقد سبق وجوابه.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥) [الزخرف : ٥] يحتج به على بطلان فساد الوضع في الأقيسة ، وهو ترتيب خلاف مقتضى العلة عليها.

وتقريره / [١٨٢ أ / م] أنه ـ عزوجل ـ أنكر ترتيب الإضراب والصفح عنهم على إسرافهم ، كأنه قال : إسرافكم يناسب أخذكم وتعذيبكم لا الإضراب والصفح عنكم ، وكذلك قوله عزوجل : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) (١٧) [التوبة : ١٧] أي : إن شركهم وشهادتهم على أنفسهم بالكفر لا يناسب عمارتهم للمسجد ؛ لأنهم رجس ، وإنما يناسب مجانبتهم المسجد تنزيها له عن رجسهم ونجسهم ، وكذلك لما قال / [٣٧٧ ل] فرعون لموسى (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) (١٨) [الشعراء : ١٨] قال له موسى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢) [الشعراء : ٢٢] أي : استعبدتهم ، واتخذتهم عبيدا ، وإنما ربيتني ولدا حين اتخذت قومي عبيدا ، فامتنانك عليّ بذلك غير مناسب ، وإنما المناسب أن تعتذر إليّ من ذلك.

ومثاله المشهور بين الأصوليين أن يقول الشافعي : لفظ الهبة ينعقد به غير النكاح ، فلا ينعقد به النكاح كالبيع ، فيقول الحنفي : هذا فاسد الوضع أو الاعتبار ، إذ انعقاد غير النكاح به يدل على قوته وتأثيره في العقود وتصرفه فيها ، فقد رتبت على العلة نقيض مقتضاها.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١١) [الزخرف : ١١] ، فيه الاستدلال على البعث بقياس إحياء الأرض كما عرف في مواضع.

(وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) (١٢) [الزخرف : ١٢] فيه استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه ؛ لأن ركوب الفلك مجاز ، وركوب الأنعام حقيقة ؛ لمبادرة الفهم إليه عند الإطلاق.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) (١٥) [الزخرف : ١٥] أي : ولدا حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وهو يدل على أن الولد جزء الوالد ، ويصحح

٥٧٠

تعليل الفقهاء في بعض أحكامهما بأن بينهما جزئية وبعضية ، وأكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فاطمة بضعة مني» أي : قطعة وجزء.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) (١٦) [الزخرف : ١٦] الآيتين ، سبق نظيره في النحل وسبحان.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (١٨) [الزخرف : ١٨] فيه إشارة إلى أمور :

أحدها : أن الزينة والترف والعي كالفطرة والغريزة للنساء ، إذ معنى الكلام : أتجعلون لله من شأنه هذه الصفات.

الثاني : أن البيان مقصود في الخصام ، وأن الغلبة في الجدال أعظم منها في الجلاد ، لأن الإنسان أكثر ما يصارع بجلاده ألفا ، وهو بجداله وحسن بيانه قد يصرع ألوفا بل أمما.

الثالث : مدح البيان والثناء على أهله ، وهو إفهام المعنى على الوجه التام بطريق سهل عام ، ومأخذ ذلك من قياس العكس ؛ لأنه لما ذم غير المبين دل على مدح المبين ، وإلا استوى النقيضان في الحكم ، وإنه محال.

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩) [الزخرف : ١٩] فيها إشارة إلى أمور :

أحدها : أن جعل يكون بمعنى سمى / [١٨٢ ب / م] واعتقد ، أي : سموا الملائكة واعتقدوهم إناثا ، [وقد نوقض على من احتج على خلق القرآن بقوله : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) [الزخرف : ٣] لأن المجعول مخلوق ؛ فقيل له يبطل بقوله :

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩) [الزخرف : ١٩] مع أنهم لم يخلقوهم ، ولا يصح هذا النقض ، وإنما يصح أن لو صح هذا المعنى في : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) [الزخرف : ٣] لكنه لا يصح أن يقال : إنا سميناه أو اعتقدنا قرآنا ، وإنما هو بمعنى : صيرناه قرآنا عربيا مع قدرتنا / [٣٧٨ ل] على أن نصيره عبرانيا أو سريانيا.

الثاني : أن الملائكة ذكور لوجهين :

أحدهما : أنه سماهم عباد الرحمن ، وواحد العباد عبد ، هو اسم للذكر العاقل في لسان العرب.

٥٧١

الثاني : أنه نفى عنهم الأنوثة ، فتعينت الذكورة لهم ، إذ لا واسطة بين القسمين في جنس الحي.

الثالث : (ستكتب شهادتهم) فسر الجعل بالشهادة ، كأنه قال : وشهدوا أن الملائكة إناث ، ثم قوله (ستكتب) تقتضي أنها لم تكتب بعد. وإنما ستكتب في المستقبل ، وقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) [ق : ١٨] ، (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١) [يونس : ٢١] يقتضي أنها كتبت حين الشهادة ، والإجماع على ذلك أن الحفظة يكتبون ما يصور عن الإنسان شيئا فشيئا ، وإن أخر كاتب الشمال شيئا فلحظة أو ساعة رجاء التدارك بالتوبة ، وحينئذ يلزم أن هذه الشهادة كتبت حين وقوعها ، ولم تكتب معا ، وإنه محال.

والجواب : أن (ستكتب) مجاز عن أنهم سيجزون بها ويعاقبون عليها ، لكن لما كان حفظ العمل بالكتابة سببا للجزاء عليه عبر عن المسبب بالسبب.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢٠) [الزخرف : ٢٠] يحتج بها المعتزلة بأنهم لما أضافوا عبادتهم للأوثان إلى مشيئة الله عزوجل جهلهم وكذبهم ، ولو كانت عبادتهم لها مشيئة لما كانت كذلك ، ويجاب عنه بنحو ما سبق في نظيره في آخر الأنعام ، وهو أنه لم يكذبهم في إضافة ذلك إلى مشيئته ، كيف وإنه يقول : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٣٧) [الأنعام : ١٣٧] وإنما أراد أن ما قالوه من إضافة عبادة الأصنام إلى مشيئته ، وإن كان حقا في نفس الأمر ، لكنهم لم يبلغوا من معرفة الله عزوجل إلى حيث يعلمون دوران الأشياء مع مشيئته وجودا وعدما ، وإنما يقولون خرصا أو تخمينا أو مناقضة للرسول وجدلا ؛ فهم وإن أصابوا بغير علم خطأ ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ» (١) وقال / [١٨٣ أ / م] الفقهاء : من اشتبهت عليه القبلة فصلى بغير اجتهاد فيها لزمته الإعادة وإن أصاب ؛ لتركه فرض الاجتهاد ، على خلاف فيه.

__________________

(١) رواه أبو داود في العلم [٣٦٥٢] والترمذي في التفسير [٢٩٥٣] والنسائي في الكبرى [٨٠٨٦].

٥٧٢

(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) (٢٢) [الزخرف : ٢٢] الآيات دلت على ذم التقليد ، والمشهور المطابق لهذه الآية أنه متابعة الغير في قول أو فعل من غير دليل ، بل لحسن ظن به ، أو غلبة عادة وإلف.

وقيل : هو قبول قول القائل ، وأنت لا تعلم مأخذه ومستنده ، فعلى الأول لا يسمى قبول قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [٣٧٩ ل] تقليدا ؛ لأن قوله عين الدليل والحجة ، فلا يصح أن يقال :

تابعناه وقبلنا قوله بغير حجة أو دليل.

وعلى الثاني في تسمية قبول قوله تقليدا وجهان :

أحدهما : يسمى تقليدا ؛ لأنا لا نحيط بعلمه ومأخذه ومستنده الوحي ، بدليل : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) [النجم : ٤].

وأصل الوجهين أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل كان يجتهد في الأحكام بالنظر ونحوه ، فيسمى قبول قوله تقليدا لخفاء مأخذه أم لا ، بل يقتصر على الوحي فلا يسمى تقليدا لعلمنا بمغزاه ومأخذه.

ذكر هذه النبذة الشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه المسمى ب «المسلسل» في الفقه. وقد اختصرناه.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٣٣) [الزخرف : ٣٣] ، فيه تعليل أفعاله عزوجل بالمصالح وامتناعها للمفاسد.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (٣٦) [الزخرف : ٣٦] ، يحتج بها المعتزلة ؛ لأنه أضاف الإعراض عن الذكر إليهم ، وصدهم عن السبيل إلى الشياطين ، وجعل تقييض القرناء لهم عقوبة على إعراضهم.

وأجاب الجمهور بأن ذلك كله باعتبار الكسب ، وأما الخلق فلمن له الخلق والأمر ، وقد دلت النصوص والبراهين على ذلك.

(وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٩) [الزخرف : ٣٩] فيه أن معارضة الفاسد بالفاسد لا ينفع ؛ لأنهم لما سمعوا قوله عزوجل : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) (٣٣) [الصافات : ٣٣] تأسى البعض بالبعض ، فبين لهم فساد ذلك التأسي ، وأنه غير نافع ؛ إذ ألم الغير لا يخفف ألم النفس ، وهكذا فساد حجة أحد الخصمين لا يقتضي صحة حجة الآخر ، وإنما تنفع الحجة ويصح المعنى فيها [بصحتها] لا معنى في غيرها

٥٧٣

يفسدها ، نعم قد تستعمل معارضة الفاسد بالفاسد في الجدل ؛ دفعا لشر الخصم وتسلطه.

وفى الآية سؤال ، وهو أن إذ للزمن الماضي ؛ فكيف يصح وقوع النفع اليوم / [١٨٣ ب / م] فيه؟ إذ يصير تقديره : لن ينفعكم اليوم اشتراككم وقت ظلمكم منذ ألف سنة ، أو لا ينفعكم اشتراككم اليوم وقت ظلمكم أمس؟

وجوابه : أن «إذ» هنا التعليل ، وخرجت عن الظرفية ، فتقديره لن ينفعكم اشتراككم اليوم لعلة ظلمكم أمس.

(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) [الزخرف : ٤٥] ، إن قيل : قد ماتوا قبله بدهور فأين هم حتى يسألهم؟

فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن المراد : سل كتبهم ومن بقي من أصحابهم ، وما حكاه القرآن عنهم.

والثاني : / [٣٨٠ ل] أنهم بعثوا له ليلة الإسراء في بيت المقدس أو في السماء فسألهم ، وفيها إجماع الأنبياء وأديانهم على التوحيد ، ويكفي في ذلك أن النصارى مع شركهم الظاهر يدعون التوحيد ، ويصرحون بأن آلهة كل واحد منهم إله كامل ، ثم يقولون : هم إله واحد ، ويفتتحون كتبهم بقولهم : باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد. فلو كان للشرك أصل في ملة من الملل لتعلقت به النصارى احتجاجا واستئناسا ، ولا نعلم النور والظلمة إلهين. وقد سبق الكلام معهم.

(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٤) [الزخرف : ٥٤] [فيه أن الفاسق سريع القبول للباطل ؛ لأن هذا تعليل لطاعتهم إياه بفسقهم] ، كما سبق أن «إن» للتعليل ، وسبب ذلك أن الفسق والباطل من واد واحد لخروجها عن الاعتدال ودخولهما في حيز الضلال ، والجنس ميال إلى الجنس.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٥٨) [الزخرف : ٥٨] فيه ذم الجدل بالباطل ، وأن من الجدل ما يقصد به غلبة الخصم لا تحقيق الحق.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) [الزخرف : ٥٩] هذا رد على النصارى في تألههم إياه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) [الزخرف : ٥٩] رد على اليهود في تكذيبه وبهته وأمه.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) [الزخرف : ٨١] فيه وجهان :

٥٧٤

أحدهما : فأنا أول الجاحدين للولد ، أو الآنفين من إثباته.

ومنه قول الفرزدق :

وأعبد أن تهجى كليب بدارم

أي : آنف من ذلك ولا أرضى به لعدم مكافأتهم لنا.

والثاني : أنا أول العابدين لله على تقدير ثبوت الولد ؛ إذ مقصودي اتباع الحق وطاعة الله ـ عزوجل ـ [على أي حال] أو تقدير كان من التقادير الحقة. وهذا هو الصحيح ، والأول ضعيف ؛ إذ فيه جحد الولد على تقدير ثبوته ، وهو تناقض وعناد ، اللهم إلا أن يحمل / [١٨٤ أ / م] على معنى : إن كان له ولد عندكم وفي اعتقادكم فأنا أول الجاحدين له على اعتقادي ، وإنما أعبد الله وحده منزها عن ولد وغيره مما لا يليق به ، فهذا يصح ويستقيم.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (٨٤) [الزخرف : ٨٤] اختلف في هذا ؛ فقيل : هو فيهما بذاته ، وهو قول القائلين : إنه في كل مكان بذاته.

وقيل : ليس في واحد منهما بذاته ، وإلا لزم التحيز والتجسيم ، وهو قول الأشعرية ومن وافقهم.

وقيل : هو في السماء فوق العرش بذاته وفى الأرض بعلمه وحكمه ؛ كما يقال : فلان في مصر سلطان ، وفى الشام هو سلطان ، أي : في إحداهما بنفسه وفى الأخرى بحكمه. وهو قول أهل الحديث من الحنابلة وغيرهم.

[وأما الاتحادية فربما احتجوا بهذا على رأيهم في سريانه في جميع العالم].

قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) [الزخرف : ٨٧].

أي كيف [وإلى أين] ينصرفون عن عبادة خالقهم إلى عبادة غيره؟ وهو من أدلة التوحيد.

ونظمه : لا شيء من آلهتكم بخالق لكم ، والله خالق لكم ، فلا شىء من آلهتكم / [٣٨٣ / ل] بإله وقد سبق في مواضع.

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٨٩) [الزخرف : ٨٩] وعيدي محكم ، أو منسوخ بآية السيف.

* * *

٥٧٥

القول في سورة الدخان

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (٣) [الدخان : ٣] أي أنزلناه يعني القرآن.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٥) [الدخان : ٥] يحتج به على قدم القرآن المسموع ؛ لأنه أمر الله والأمر قديم ، وقد سبق القول فيه.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) (٢١) [الدخان : ٢١] احتج بعض المعتزلة على شرف طائفتهم بأن اسمهم مشتق من عزل والاعتزال ، ولم تذكر هذه المادة في القرآن إلا في سياق الخير ، نحو : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨) [مريم : ٤٨] ، (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) (٤٩) [مريم : ٤٩] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) [البقرة : ٢٢٢] ونحوه ، فينتقض عليهم بهذه الآية ؛ فإن فيها اعتزال الكفار عن الرسول والهدى ، وهو [شر ، و] بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذ سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي» (١) وإنما الاعتزال الانفراد بمعزل ، وهو قد يكون في الخير ، وقد يكون في الشر ، فلا حجة فيه [ولا استشهاد].

وإن ساغ ذلك لهم ساغ للخوارج أن يقولوا : اسمنا مشتق من الخروج (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧) [البقرة : ٢٥٧] [وللجبرية أن يقولوا] : اسمنا مشتق من الجبر ضد الكسر ، وللشيعة أن يقولوا : اسمنا مشتق من مشايعة الحق ، ومن قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (٨٣) [الصافات : ٨٣] وللأشعرية أن يقولوا : اسمنا مشتق من الشعور ، وهو

__________________

(١) رواه مسلم [١ / ٨٧] ح [٨١] وابن ماجة [١ / ٣٣٤] ح [١٠٥٤] وابن خزيمة [١ / ٢٧٦] ح [٥٤٩] وابن حبان [٦ / ٤٦٥] ح [٢٧٥٩] والبيهقي [٢ / ٣١٢].

٥٧٦

العلم ، أو من الأشعريين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والكرامية مشتق من الكرم ، بل لليهود أن يقولوا : نحن من قوله : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١٥٦) [الأعراف : ١٥٦] أي تبنا.

والنصارى من نصرة المسيح ، ونحوه كثير لا صيور له إلا النقض على من استند إلى مثله.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) (٢٥) / [١٨٤ ب / م] [الدخان : ٢٥] إلى قوله : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٢٨) [الدخان : ٢٨] يعني بني إسرائيل ، كما صرح به في الشعراء ، وهو دليل على أنهم ورثوا أهل مصر من آل فرعون ، على ما حكيناه في الأعراف.

قوله ـ عزوجل ـ : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٥٦) [الدخان : ٥٦] استثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى قد سبق ذوقهم لها وانقطع.

وقد اختلف في الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع ؛ فقيل : المتصل ما كان من الجنس ، نحو : قام القوم إلا زيدا. والمنقطع ما يقابله ، نحو : قام القوم إلا حمارا ، وقيل في بطلان هذا : إنه لو قال في قوم ليس فيهم زيد : قام القوم إلا زيدا ، كان استثناء منقطعا مع أنه من الجنس ، فعلى هذا : المتصل هو المخرج مما قبله بإلّا أو نحوها ، والمنقطع هو المذكور بعد إلا أو نحوها غير داخل فيما قبلها. وقال الشيخ شهاب الدين القرافي : المتصل / [٣٨٤ / ل] هو الحكم على جنس ما حكمت عليه أولا بنقيض ما حكمت به ثانيا ، والمنقطع ما اختل فيه أحد هذين القيدين ، وهو أن تحكم على غير جنس ما حكمت عليه أولا ، أو بغير نقيض ما حكمت به أولا.

قلت : مثال الأول : جاء القوم إلا الفرس ، ومثال الثاني : [جاء القوم] إلا أن زيدا آكل أو شارب ، أو نحو ذلك.

* * *

٥٧٧

القول في سورة الجاثية

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١٥) [الجاثية : ١٥] وقد سبق احتجاج المعتزلة به وجوابه.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) [الجاثية : ٢٣] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ هو يضل من يشاء ، وتأوله الخصم على منع اللطف ، وقد عرف جوابه.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) [الجاثية : ٢٣] يحتج به الجمهور أيضا ، وقد سبق القول أول البقرة.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) [الجاثية : ٢٣] هو نحو :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) (٤٤) [الشورى : ٤٤].

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢٤) [الجاثية : ٢٤] شبهتهم على إنكار البعث ، وأسندوها بقولهم : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٥) [الجاثية : ٢٥].

وجوابه : (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢٦) [الجاثية : ٢٦] ولم يبرهن عليه هاهنا لوجهين :

أحدهما : أنهم يلزمهم تصديق قوله في البعث ، لقيام دليل صدقه على أيدي الرسل.

وبالنظر في آيات الوجود سواء برهن أو لم يبرهن.

الثاني : اكتفاء بما قرره من براهين البعث في مواضعه ، وقد يحتمل أنه ترك البرهان هاهنا

٥٧٨

على البعث إشارة إلى وضوحه وعناد الخصم وعدم قبوله للحق ، فالإعراض عنه وترك مكالمته أولى ، وهو حكم الخصم المعاند المشاغب.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٩) [الجاثية : ٢٩] يستدل به على أن النسخ حقيقة في النقل ؛ لأن استنساخ الكتاب نقله من أصل إلى فرع. وفيه أقوال ؛ أحدها هذا.

والثاني : أنه حقيقة في الإزالة لقولهم : نسخت الشمس الظل. أي : أزالته.

والثالث : / [١٨٥ أ / م] أنه مشترك بينهما ، والإزالة أعم من النقل ؛ لأنها قد تكون بالنقل وغيره ، كإعدام الجوهر من مكانه من غير نقل ، فهي أشبه أن يفسر بها النسخ ؛ لأنها القدر المشترك.

(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٣٢) [الجاثية : ٣٢] فيه الفرق بين الظن واليقين ؛ لإثبات أحدهما ونفي الآخر ، وقد سبق الفرق بينهما.

* * *

٥٧٩

القول في سورة الأحقاف

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٣) [الأحقاف : ٣] ، يحتج بها على انقراض العالم عند بلوغ أجله المسمى ، خلافا للفلاسفة في قولهم : هو أبدي / [٣٨٥ / ل] لا يزال. والخلاف معهم مبني على قدمه ، وقد سبق.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) [الأحقاف : ٤] دليل على التوحيد ، وتقريره هكذا : لا شيء من آلهتكم خالق في الأرض ، ولا ذو ملك في السماوات ، والإله الحق خالق في الأرض ذو ملك في السماوات ؛ فلا شيء من آلهتكم بالإله الحق. وهما واضحتان.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤) [الأحقاف : ٤] قيل : معناه حدثني أبي عن جدي ، فيحتج به المحدثون على شرف علم الحديث والإسناد. وقيل : هو ضرب الرمل ، فيحتج به الرمالون.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١٥) [الأحقاف : ١٥] مع قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) [لقمان : ١٤] يحتج به على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو نوع من أنواع كيفية الاستدلال بالخطاب على الحكم مذكور في أصول الفقه.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (١٧)

٥٨٠