الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

قال [يحيى ؛ تبرئة وتنزيها لمريم عما رميت به من السوء ، وكان كلامه هذا معجزا خارقا] للعادة آمن به من آمن وكفر به من كفر.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥) [مريم : ٣٥] أي يمتنع ويستحيل عليه لما مر (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣٥) [مريم : ٣٥] إشارة إلى أن عيسى مخلوق له لا ولد ، وفى هذا إشارة / [١٣٣ ب / م] إلى أن الولادة تنافي الخالقية بحيث إن الوالد لا يخلق الولد ؛ لأنه نفى الولدية وأثبت الخالقية ، فلو جاز اجتماعهما لما قامت الحجة لاحتمال أنه ولده وخلقه (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦) [مريم : ٣٦] هذا حكاية قول المسيح ، وهو تصريح منه بالعبودية والمربوبية كما سبق.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٣٦) [مريم : ٣٦] يعني طريق التوحيد (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢) [مريم : ٤٢] يحتج به على إثبات السمع والبصر لله ـ عزوجل ـ لأنه أنكر على أبيه عبادة من لا يسمع ولا يبصر ، وعرض له بعبادة من يسمع ويبصر هو الله ـ عزوجل.

واعلم أن المثبت لله ـ عزوجل ـ صفتا السمع والبصر وأنه (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٦١) [الحج : ٦١] يسمع ويبصر لا إثبات الجارحة كالعين والأذن ، والإنسان إنما يسمع ويبصر بقوة السمع والبصر لا بالأذن والعين ، بل هما محل لتلك القوة ، فنظير تلك القوة في حق الله ـ عزوجل ـ نسميها صفة له ، وهي مجردة من غير جارحة.

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (٤٣) [مريم : ٤٣] فيه جواز بل وجوب تقليد العامي للعالم الثقة الأمين.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥) [مريم : ٤٥] جعل مس العذاب سببا لاتباع الشيطان ، والمراد أن سبق العلم باستحقاق العذاب موجب للضلال الذي يستحق به العذاب ، فعلى هذا إذا قيل : عصى فعذب ،

٤٢١

يقال : بل عذب فعصى ، ما سبق من قول القائل : وقع فلان فمات ، فقيل : بل مات فوقع.

ولعلك تنكر أن تعلق العلم بشيء موجب له فقد سبق أن الإرادة والقدرة لا يتعلقان إلا بما يتعلق / [٢٨٤ / ل] به العلم ، ومجموع هذه التعلقات موجبة لوقوع متعلقها.

(قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) (٤٧) [مريم : ٤٧] هذا وعد بالاستغفار وفى به في قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦] فلما أصر أبوه وتبين إبراهيم أنه عدو لله تبرأ منه كما سبق.

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣) [مريم : ٥٣] وسماه في موضع آخر وزيرا وفى موضع رسولا ، وكان جامعا للصفات الثلاث ، ولكن موسى كان في الدعوة أشهر منه.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨) [مريم : ٥٨] هل يجوز أن يكون هذا تفسيرا للمنعم عليهم من النبيين في سورة «النساء» في قوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٦٩) [النساء : ٦٩] أم هؤلاء أعم وأكثر لتناولهم جميع النبيين ، والذين في سورة مريم / [١٣٤ أ / م] جماعة منهم؟ فيه نظر.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (٦١) [مريم : ٦١] إشارة إلى أن النافع هو الإيمان بالغيب إذا العيان لا يكابر ، ألا تراه يقول : «عباده» وهو وصف مدح اقترن بالإيمان بالغيب اللازم عن وعده بالجنات وتصديقهم له وهو يقتضي تعليل مدحهم بإيمانهم الغيبي.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢) [مريم : ٦٢] استثناء منقطع ، إذا السّلام ليس من جنس اللغو ، والاستثناء أحد المخصصات للعموم ، وهو متصل ومنقطع ؛ فالمتصل ما كان من الجنس ، والمنقطع خلافه. هذا المتداول ، وله تفسير آخر يأتي إن شاء الله ـ عزوجل ـ ذكره في آخر الدخان.

٤٢٢

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢) [مريم : ٦٢] يحتج به من رأى أن في الجنة ليلا ونهارا ، ومن أنكره احتج بقوله ـ عزوجل ـ : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣) [الإنسان : ١٣] أي : ولا قمرا ، وهما المصححان لوجود الليل والنهار ، فإذا انتفيا انتفيا لانتفاء الشيء بانتفاء علته.

وتأول هذه على معنى : أن رزقهم يأتيهم عند حاجتهم إليه في وقت هو نظير البكرة والعشي في الدنيا.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤) [مريم : ٦٤] يحتج به الجمهور على إثبات زمن الحال ، إذا هو المراد ب (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤) [مريم : ٦٤] ويقول الشاعر :

وأعلم ما في اليوم والأمس قبله

ولكنني عن علم ما في غد عم

خلافا للفلاسفة ، فإنهم قالوا : الزمان إما منقض وهو الماضي ، أو غير منقض / [٢٨٥ / ل] وهو المستقبل ، ولا حال. ورد بأن غير المنقضي إما حاضر وهو الحال ، أو منتظر وهو المستقبل. وقالوا أيضا : الزمان إما منتظر وهو المستقبل أو لا وهو الماضي ، ورد بأن غير المنتظر إما حاضر وهو الحال ، أو منقض وهو الماضي ، وحجتهم المعتمدة أن الزمان حقيقة سيالة لا تستقر ، فكل ما ادعيتموه حالا ورد عليه التقسيم إلى ماض ومستقبل وحال ، ويلزم منه تسلسل الأحوال ، وانقسام الحال إلى الماضي والمستقبل ، وإنه محال.

والمسألة مبنية على الجوهر الفرد ، من أثبته أثبت الحال ، ومن لا فلا ، ومن حجج النحاة أن العرب وضعت لفعل الحال صيغة ، كما وضعت لطرفيه ، ونصت على الحال بالآن ، كما أخلصت المستقبل بالسين ، وسوف ، وزعم بعضهم أن «يفعل» مشترك بين الحال والمستقبل ، وكل ذلك يدل على أنهم تصوروا الحال وعقلوا إمكانه بالضرورة ، حتى وضعوا له.

وأجيب بأن ذلك حال تقريبا لا تحقيقا ، واحتج / [١٣٤ ب / م] مثبتو الحال بأن منكر الحال حال إنكاره إما أن يكون في زمن ماض ، أو مستقبل وهو محال ، وإلا لزم عدمه بعد الماضي ، أو أنه لم يوجد بعد تبعا للمستقبل ، فتعين أنه في زمن بينهما وهو الحال ، وهذه قوية لا مخلص للفلاسفة منها.

٤٢٣

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) (٦٦) [مريم : ٦٦] هذا إنكار للبعث ، وجوابه : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧) [مريم : ٦٧] أي : كما ابتدأناه عن عدم نوجده ، ولو عن عدم ، وهو قياس الإعادة على الابتداء.

(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٧١) [مريم : ٧١] يعني النار يمر الناس على الصراط وهو كالجسر مقنطر عليها ؛ فالمتقي ناج ، وغيره هاو فيها.

(قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) (٧٥) [مريم : ٧٥] ، يحتج بها المعتزلة ، إذ نسب الكون في الضلالة إلى الضال ، ويجاب بأن الكون فيها أعم من أن يكون بفعله أو بخلق الله ـ عزوجل ـ وجبره إياه ، والعام لا يدل على الخاص ، وكذا الجواب عن قوله ـ عزوجل ـ : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) (٧٦) [مريم : ٧٦] ثم يحتج به من رأى الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ، لأن الهدى هو الإيمان.

(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٧٨) [مريم : ٧٨] استدلال بالسبر والتقسيم كما مر في (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩) [يونس : ٥٩]. (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (٩٢) [مريم : ٩٢] هذا وما قبله وبعده دال / [٢٨٦ / ل] على استحالة الولد لله ـ عزوجل ـ ومنافاة الولدية للملكية ، واستعظام هذا القول جدا ، وقد سبق جميع ذلك.

* * *

٤٢٤

القول في سورة طه

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) [طه : ٥] سبق القول فيه.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) [طه : ٨] ـ سبق أيضا.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (١٥) [طه : ١٥] أي : عن نفسي فكيف أظهرها للخلق ، وهو معنى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (١٨٧) [الأعراف : ١٨٧] (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤].

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧) [طه : ١٧] سؤال تأنيس ، (قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (١٨) [طه : ١٨] هذا جواب السؤال ، وباقي كلامه زائد على الجواب المطابق استئناسا من موسى ، ويستدل به على الجواب بأكثر مما سئل عنه لفائدة ، إما الاستئناس كما هاهنا ، أو زيادة فائدة وتمهيد قاعدة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سئل عن البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (١).

(فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠) [طه : ٢٠] الآيتين ، هذا من المعجزات النبوية ، وتوجيهه عن المتكلمين أنه يخلق الحياة فيها إذا شاء ويسلبها عنها إذا شاء ، وزعم بعضهم أنا العصا كانت من آس الجنة ، وفيها حياة كامنة ، إذا أريد انقلابها حية ظهرت الحياة وكمنت الجمادية ، وإذا أريد عودها عصا انعكس ذلك ، وهو بعيد ، ولعله / [١٣٥ أ / م] مأخوذ

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الطهارة (١٢) وأبو داود في الطهارة (٨٣) والترمذي في الطهارة (٦٩) والنسائي في الطهارة [١ / ٥٠] وفى التيمم [١ / ١٧٦] وابن ماجة في الطهارة وسننها [٣٨٦] وأحمد [٢ / ٢٣٧ ، ٣٦١ ، ٣٩٣] والدارمي [٧٣٥ ، ٢٠١٧] والبيهقي في السنن [١ / ٣] والدارقطني [١ / ٣٦] والبخاري في التاريخ الكبير [٣ / ٤٧٨].

٤٢٥

من قول أصحاب الكمون ، عند الاستدلال على حدوث الأعراض ، والفلاسفة ينكرون قلب العصي حية ، وصرح لي بعضهم بذلك ، وجعل يتعجب من تصديقي به.

(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (٣٢) [طه : ٢٩ ـ ٣٢] احتجت به الشيعة على أن عليا هو الإمام الحق بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرروه بأن هذا النص اقتضى أن هارون شريك موسى في أمره ، والحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» اقتضى إثبات المنازل الهارونية من موسى لعلي من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا النبوة ، ومن منازل هارون الشركة في أمر موسى ، فاقتضى مشاركة علي لمحمد في أمره ، ثم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت له النبوة والإمامة ، وقد استثنى النبوة عن مشاركة علي فيها ، فوجب أن يكون شريكه في الإمامة» ، لكن قام الدليل وانعقد الإجماع على أنه لم يكن شريكه فيها حال حياته ، فوجب أن يبقى مقتضى الحديث فيها بعد وفاته ؛ لزوال المانع ، ثم أكدوا ذلك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عليا مني وأنا منه ، وهو ولي كل مؤمن بعدي» رواه أحمد في المسند من حديث عمران بن / [٢٨٧ / ل] حصين ، وفى كتاب فضائل علي من حديث بريدة بن الحصيب «وهو وليكم بعدي».

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠) [طه : ٥٠] أي خلقته وبنيته (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠) [طه : ٥٠] إما بعقل كالعقلاء ، أو بإلهام كغيرهم ، كالنحل في بناء بيوتها ، والعنكبوت في نسجه ، وغيرهما.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) (٥١) [طه : ٥١] هذا إشارة من فرعون إلى إنكار البعث والقول بالدهر ، فأجابه موسى بإثبات البعث بقوله : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢) [مريم : ٥٢] أي : يعلم تلك القرون علم ضبط ، ثم إذا جاء وقت إعادتها أعادها ، وبدليل البعث وهو قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣) [طه : ٥٣] أي يخرجهم من الأرض كما يخرج منها النبات ، وهو الدليل العام على البعث في القرآن ، وقد سبق وسيأتي إن شاء الله عزوجل.

(قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٦٦)

٤٢٦

[طه : ٦٦] يحتج به من يرى السحر خيالا لا حقيقة له ، لقوله : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ،) المشهور والمشهور أن له حقيقة في الخارج ؛ لأنه يقتل ، ولا شيء مما يقتل بخيال ، أو لا حقيقة له ، وقد أوجب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي وأحمد القصاص في القتل بالسحر عمدا ، ولو لا أن له حقيقة لما فعلوا ، وقد يقال : إن الخيال / [١٣٥ ب / م] والوهم قد يغلبان فيقتلان ولا حقيقة لهما خارجية ، ويجاب بأن القتل أثر وجودي خارجي ، والأثر الوجودي استحال أن يكون مؤثره عدميا لاستحالة تأثير العدم في الوجود.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) [طه : ٦٧] قيل : خاف أن يفتتن الناظرون بذلك السحر ، ويلتبس الأمر عليهم فلا يتبين الحق أو لا يتمحض ، وقيل : لما أراد السحرة الإلقاء سمع موسى هاتفا يقول : ألقوا يا أولياء الله ، فخاف أن يكون ممكورا به ، وأن العناية [بخصمه] دونه ، وإنما سموا أولياء الله باعتبار مآل حالهم كما وقع.

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩) [طه : ٦٩] خبر وحكم عام بعدم فلاحه في الدنيا والآخرة ما لم يتب ، ومن ثم كان الساحر شبيها بالشيطان خاسئا [مذموما] مدحورا قبيح السمعة سيئ الحالة والقالة.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٧١) [طه : ٧١] قيل : أي : على جذوع النخل ، وقيل : هي ظرفية على أصلها لتمكن المصلوب على الجذع تمكن المظروف على الظرف.

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٧٧) [طه : ٧٧] وهو من معجزاته ، ضرب البحر بعصاه فامتنع ، فأوحي إليه أن أكنه ، فكناه ، وقال : انفلق أبا خالد ، وهى كنية البحر ، (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) (٦٣) [الشعراء : ٦٣] وظهرت أرض البحر يابسة ويعايا بها ، فيقال : ما أرض لم تر الشمس إلا مرة واحدة؟! وهي هذه.

٤٢٧

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨) [طه : ٧٨] هذه من الإشارات / [٢٨٨ / ل] جوامع الكلم.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩) [طه : ٧٩] بالكسب والتسبب ، عند الجمهور ، وبخلق الضلال عند المعتزلة ، و (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩) [طه : ٧٩] يحتمل أنه تأكيد لمعني (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) [طه : ٨٥] ، ويحتمل أن «أضل» لما كان في سياق الإثبات كان مطلقا لا عموم له ، يصدق بمرة واحدة بين إرادة العموم منه بعموم لازمه ، وهو سلب الهداية ، إذ الضلال يلزمه عدم الهدى.

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٨٤) [طه : ٨٤] يستفاد منه أن الأمر للفور ؛ لأن موسى كان مأمورا بالسعي لميقات ربه ، ثم إنه علل عجلته برضى ربه ، وجعلها سببا له ، وإذا كانت الفورية في امتثال الأمر سببا للرضى ، كان التراخي سببا للغضب عملا بموجب قياس العكس ، وغضب الله ـ عزوجل ـ واجب الاجتناب ، ورضاه واجب التحصيل ، وسببه فورية الامتثال ، وسبب الواجب واجب ، ففورية الامتثال واجبة ، وهو المطلوب.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) [طه : ٨٥] يحتج به الجمهور لإضافة الله ـ عزوجل ـ فتنتهم إلى نفسه ، وربما أجيب بأن الفتنة هاهنا الاختبار لا الضلال ، اختبرهم فلم يثبتوا على محك الامتحان.

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) [طه : ٨٥] يحتج به المعتزلة لإضافة الضلال / [١٣٦ أ / م] إلى السامري ، ويجاب عنه بأنه أضيف إليه باعتبار التسبب والكسب ، وقد سبق في «الأعراف» أن موسى قال : «يا رب هذا السامري صاغ العجل فمن أنطقه؟» قال : أنا ، قال : فما فتن قومي إلا أنت (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف : ١٥٥] ، قال : أحسنت يا حكيم الحكماء.

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨) [طه : ٨٨] يحتج به الاتحادية ؛ لأن العجل كان جمادا ؛ وإنما تحرك وخار لظهور الحق فيه ، واتخاذه مظهرا له كالصورة التي يظهر فيها للناس يوم القيامة ، ويؤكد ذلك أن

٤٢٨

جمعا كثيرا من بني إسرائيل أدركوا بفطرتهم أن هذا هو الإله وهم كانوا أهل التحقيق والمعرفة منهم.

وأجيب بأن قبل هذا وبعده ما يقطع ببطلانه ، وهو قوله ـ عزوجل ـ (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) [طه : ٨٥] فجعل ذلك فتنة ضلالا ، وهو قول هارون لهم (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠) [طه : ٩٠] وانتظم الدليل هكذا : الرحمن ربكم ، والعجل ليس بربكم ، ينتج أن الرحمن ليس هو العجل ، وأن العجل ليس هو الرحمن ، ولو صح ما زعمه الاتحادية لكان عبدة العجل المتوعدون بالغضب والذلة أعرف بالله ـ عزوجل ـ من موسى وهارون ، وأنه محال.

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩) [طه : ٨٩] يستدل به الصوفية على أن الله ـ عزوجل ـ متكلم بحرف وصوت ؛ لأن دل / [٢٨٩ / ل] من باب قياس العكس على أن الله ـ عزوجل ـ متصف بأنه يرجع إليهم القول لو شاء ، وحقيقة ذلك المتعارفة المتبادر إليها الفهم هو القول بحرف وصوت ، وأجاب الخصم بأن حاصل هذا أنه استدلال بالمفهوم ، وهو ضعيف وإنما سلب النطق والكلام عن العجل ، وذلك لا يقتضي إثباته لله ـ عزوجل ـ إلا بطريق المفهوم ، ودل على التوحيد بنفي الضر والنفع ، عن غير الله ـ عزوجل ـ ونظمه هكذا : الإله يملك الضر والنفع ، والعجل غيره لا يملك الضر والنفع ، فالإله ليس هو العجل ، فالعجل ليس هو الإله.

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠) [طه : ٩٠] فيه أن الطاعة موافقة الأمر (أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) [طه : ٩٣] يفيد أن المعصية مخالفة الأمر لا الإرادة ، خلافا لما يحكى عن المعتزلة.

وفيه أيضا أن الأمر على الوجوب والفور ، أما الأولى فلعقاب موسى لهارون بالأخذ بلحيته ورأسه على مخالفة أمره. وأما الثاني : فلقوله : (قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣) [طه : ٩٢ ، ٩٣] وإذ وقتية أي : ما منعك حين أو وقت ضلالهم من اتباعي لتخبرني ، أو من سلوك طريقي فيهم بالردع والمنع

٤٢٩

والجهاد ، فعاقبه على تأخير اتباعه عن وقت ضلالهم / [١٣٦ ب / م] ، وأخبر أنه بذلك عصى أمره.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) [طه : ٩٤] فيه جواز التصرف في الأحكام والسياسات بحسن رعاية المصالح ؛ لأن هارون حصل أعلى المصلحتين عنده ، وهو جمع بني إسرائيل وتأليفهم ، ودفع أعظم المفسدين ، وهو التفريق بينهم ، وإن استلزم ذلك مخالفة أمر أو ارتكاب نهي ، وأن المتصرف بحسب المصلحة مؤديا للنصيحة معذور ، وأشار هارون بقوله : (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) [طه : ٩٤] إلى قول موسى له (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١٤٢) [الأعراف : ١٤٢] وللشيعة هاهنا كلام ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل عليا منه منزلة هارون من موسى ، وعلي هو الإمام الحق بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقتضى استخلافه أن يسوس الأمة بالأصلح فالأصلح ، وأن يجمعها ولا يفرقها ، فلما خرج عليه ، وغدر به رأى الأصلح جمع الكلمة ، وعدمه الفرقة ، فلذلك لم يجاهدهم معتذرا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا لقيه يوم القيامة بما اعتذر به هارون إلى موسى ، وهو قوله : إني خشيت أن تقول : فرقت بين الأمة ولم ترقب مقتضى استخلافي لك اعتبار السياسة بالأصلح فالأصلح.

ويجاب عن هذا بأن هذا القياس لا يصح ؛ لأن موسى كان / [٢٩٠ / ل] منتظر العودة ، فأخر هارون الجهاد والإنكار حتى يعود فيرى رأيه ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير منتظر العودة إلى الدنيا ، فقد كان الواجب على علي إن كان هو الإمام الحق ، كما زعمتم أن يجاهد بمن أطاعه ، وإن قل من عصاه ، وإن كثروا إن كانوا كفارا أو بغاة كما قاتل الخوارج وأصحاب صفين والجمل ، وإلا لكان تاركا لواجب الجهاد ، وهاهنا بحث من الطرفين يطول.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) [طه : ٩٥ ، ٩٦] ، فيه أن الاطلاع على أسرار القدرة والكشف عن غرائب الحكمة يختص به قوم دون قوم ، وأن

٤٣٠

الاختصاص بذلك قد يكون معجزا وكرامة لنبي أو ولي ، وقد يكون فتنة واستدراجا كما في السامري ، وبلعام الذي قال فيه تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) [الأعراف : ١٧٥] فلا ينبغي لأحد أن يغتر بما كوشف به من الأسرار والحقائق لما ذكرنا ، بل ينظر في حال نفسه ، فإن كان موافقا للشرع رجا خيرا وخشي المكر الخفي ، وسوء العاقبة وإن كان مخالفا للشرع ، فليحذر وليرتدع وليعلم أنه ممكور به ، ثم لا ييأس من اللطف والتدارك / [١٣٧ أ / م] (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧) [يوسف : ٨٧] والذي بصر به السامري هو أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ كان يوم أغرق فرعون وقومه على حجرة تسمى الحياة مهما وطأت شيئا تحرك حيا تحت حافرها ، فألهم أن تراب حافرها يفيد الجمادات حياة فلما صاغ العجل ، وقد كان أخذ من ذلك التراب شيئا ألقاه عليه فتحرك وخار ، وصار عجلا جسدا له خوار ، فذلك معنى قوله : (قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) (٩٦) [طه : ٩٦] أي : من أثر حافر فرس الرسول (فَنَبَذْتُها) [طه : ٩٦] أي : على العجل لما صغته (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦) [طه : ٩٦] أي : ألهمت أو خطر لي ، فكان ذلك التراب إكسير الحياة (كإكسير) الذهب ، ويحتج بهذا أصحاب الكيمياء ، لأن الجماد إذا جاز أن ينتقل إلى الحيوان بجوهر يضاف إليه ، فانتقاله إلى رتبة أخرى من رتب الجماد بجوهر يضاف إليه أولى بالجواز.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧) [طه : ٩٧] ، إنما سمى العجل إلها باعتبار اعتقاد السامري وتهكما به ، وأحرقه ونسفه في البحر تحقيقا لما سبق من أنه لا يملك ضرا ولا نفعا لنفسه فكيف لغيره؟! ويلزم ذلك أنه ليس بإله لما مر.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩) [طه : ٩٩] أي : كتابا وقرآنا ، (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) (١٠٠)

٤٣١

[طه : ١٠٠] ، فيه إيجاب الإيمان بالقرآن واتباعه بدليل الوعيد على الإعراض عنه ، وفيه / [٢٩١ / ل] وفيما بعده إثبات القيامة والصور والمحشر ونحوه من أحكام اليوم الآخر.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) (١١٣) [طه : ١١٣] يحتج به من رأى أن لا معرب في القرآن ، وهو ما أصله أعجمي ثم عرب ، وإلا لما كان جميع القرآن عربيا ، وهو خلاف ظاهر الآية.

وأجيب بأن الآية عام مخصوص بما ثبت تعريبه : كالسجيل والقسطاس والمشكاة ونحوه ، أو عام أريد به الخاص ، وهو أكثره ، أي : وكذلك جعلنا أكثر القرآن عربيا ، أو لأن المعرب فيه استولى عليه لسان العرب فصار عربيا حقيقة أو حكما ، كما أن إبليس وإن كان من الجن غلب عليه حكم الملائكة ، حتى تناوله أمرهم بالسجود لآدم ، والشيء قد ينتقل عن حكمه الأصلي بالغلبة الطارئة عليه.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) [طه : ١١٤] دليل على شرف العلم ، وأنه إنما يحصل بتعليم الله ـ عزوجل ـ كشفا أو إلهاما أو توفيقا لأسباب التعلم ، وهذا من خواص العلم على المال ؛ إن العلم تحمد الزيادة منه.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) [طه : ١١٥] أي : ترك العهد ، وقيل : هو نسيان حقيقي ، ورد بأنه لو كان كذلك لما عصي ، ولا عوقب لرفع حكم النسيان في موجب العدل.

(وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (١١٥) [طه : ١١٥] أي : على رعاية العهد ، وحفظه ، كقوله : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) [الأعراف : ١٠٢].

(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) (١١٧) [طه : ١١٧] إشارة إلى تحمل الرجل مئونة المرأة ، لتخصيصه بالشفاء دونها ، ولم يقل : فتشقيا ، وهذا شبيه بدلالة المفهوم وهو اختصاص الشيء بالحكم لتخصيصه بالذكر.

(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى) (١١٨) [طه : ١١٨] قرن بينهما ؛ لأن الجوع عري الباطن وخلوه ، كما أن عدم الثياب عري الظاهر.

٤٣٢

(وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) [طه : ١١٩] لأن الضحى هو البروز للشمس ظمأ الظاهر ، والظمأ ضحى الباطن ، بجامع لحوق الحرارة لهما.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١٢١) [طه : ١٢١] يحتج به من رأى أن الأنبياء غير معصومين من الكبائر ؛ لأن هذه كانت كبيرة من آدم ، ولذلك سميت غيّا ، وهو الضلال ، وعوقب عليها بالإخراج من الجنة.

وأجيب بأن آدم حينئذ لم يكن نبيا ، فهو في ذلك كبني يعقوب ، فيما فعلوا ، وحينئذ الآية خارجة عن محل النزاع].

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) (١٢٤) [طه : ١٢٤] يحتج به على عذاب القبر ، وتقريره أن للإنسان ثلاثة أحوال : معاشه في الدنيا ، ومعاده يوم الحشر ، وما بينهما ، وهو البرزخ وفى القبر ، وليس المراد بالمعيشة الضنك المعاش في الدنيا / [٢٩٢ / ل] ؛ لئلا يخالف الخبر المخبر ؛ إذ أكثر المعرضين عن الإيمان ، والذكر في أوسع معيشة ولا معاده يوم الحشر ؛ لتعقيب المعيشة الضنك به ، وهو دليل التغاير ، فتعين أن المراد ما بينهما ، وهو في حاله القبر وسماه معيشة ؛ لأنه لا يدرك عذاب القبر إلا وهو حي ، فهو يعيش عيشا نكدا فيه.

(قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (١٢٦) [طه : ١٢٦] أي : فتركتها ، وأعرضت عن الإيمان بها ، هذا معناه لأن الكلام فيمن أعرض عن الذكر المقابل لمن اتبع الهدى ، وقد يستدل به على تحريم ترك القرآن ووجوب دراسته وحفظه ، ولعمري إنه [واجب غير أنه] ليس مراد الآية ، إلا أن تحمل على حقيقتها في النسيان ، ومجازها في الترك والإعراض عن الإيمان ، فيصح ، وفيه من الخلاف ما ذكر في (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) (٤٣) [النساء : ٤٣] إلى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا

٤٣٣

بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٣١) [طه : ١٣١] فيه تعليل تمتعهم بفتنتهم ، وهو تعليل للفعل الإلهي ، وإضافة الفتن إلى الله ـ عزوجل ـ وقد سبق.

(وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (١٣٣) [طه : ١٣٣] يعني أن ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكتب القديمة : أنه نبي آية واضحة على نبوته كافية يعلمها أهل الكتاب ، فيلزمهم بها الحجة ، ويخبرون بها المشركين فيحصل لهم العلم بذلك ، فيلزمهم الحجة ـ أيضا ـ لكن أهل الكتاب عاندوا وكتموا فلهذا كانوا / [١٣٨ أ / م] أشد جرما ، وأعظم دركا.

(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١٣٤) [طه : ١٣٤] وهو نظير (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) [النساء : ١٦٥] ونظيرها في القصص.

* * *

٤٣٤

القول في سورة الأنبياء

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١) [الأنبياء : ١] هو كقوله : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) (٥١) [الإسراء : ٥١] ، في أنه لا تحديد ولا تقدير فيه لمدة الساعة ، بل هو تقريب إضافي.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) [الأنبياء : ٢] يحتج به من رأى خلق القرآن ، لأن الذكر هاهنا هو القرآن بدليل (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) [الأنبياء : ٢] وقد وصفه بالحدوث وأجيب بأنا لا نسلم أن الذكر هو القرآن بل هو الرسل بدليل (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) [الأنبياء : ٣] (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) (١١) [الطلاق : ١٠ ، ١١] و (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢) [الأنبياء : ٢] أي / [٢٩٣ / ل] : سمعوه أو استمعوا إليه ، يقال : سمعت زيدا ، استمعت إليه.

سلمنا أنه القرآن ، لكن لا نسلم أنه وصفه بحدوث الوجود بل بحدوث النزول ، فهو محدث النزول قديم الوجود ، وقد سبق فيه كلام من الطرفين.

(ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) (٦) [الأنبياء : ٦] أي : أنا نريد هلاكهم فلا يؤمنون ، كما لم يؤمن قبلهم الأمم الهالكة ، وهذا حكم منه بأنهم لا يؤمنون ، وما ذاك إلا لما يعلم أن سيخلقه فيهم من الصوارف عن الإيمان ، ويحتج به الجبرية كما عرف من مذهبهم ، واستدلالهم.

٤٣٥

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) [الأنبياء : ٧] هذا جواب لقولهم : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) (٣) [الأنبياء : ٣] أي : فإرساله إليكم دون العكس ، ترجيح بلا مرجح ، وقد سبق القول فيه.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) [الأنبياء : ١٩] يحتج بظاهره من يرى أن الله ـ عزوجل ـ ليس في السماوات ولا في الأرض ، وإلا لكان (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) [الأنبياء : ١٩] تكرارا.

ويجاب : بأنه من باب عطف الخاص على العام ، أو يريد ومن عنده في الملأ الأعلى بين يدي العرش ، وذلك فوق السماوات لا فيها ولا في الأرض ، والإشارة ب (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩) [الأنبياء : ١٩] إلى الملائكة المقربين.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠) [الأنبياء : ٢٠] يقتضي أنهم لا ينامون لاستغراق التسبيح زمانهم ويقتضي أنهم زمانيون أي : يعمهم حقيقة الزمان ، وإذ جعل الليل والنهار ظرفا لتسبيحهم ، وأنهم معصومون ، إذ من لا يفتر عنه الطاعة متى يتفرغ للمعصية.

قوله ـ عزوجل ـ : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) (٢١) [الأنبياء : ٢١] أي : يبعثون الموتى ، وهو استدلال على نفي الشريك ، بأن الإله الحق هو الذي ينشر الموتى ، وسائر ما اتخذا إلها لا ينشر الموتى ، فالإله الحق ليس هو سائر ما اتخذ إلها ، فما اتخذ إلها ليس هو الإله الحق.

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) [الأنبياء : ٢٢] هذا هو والدليل المشهور على التوحيد ، ويسمى / [١٣٨ ب / م] دليل التمانع ، وتقريره من وجهين :

أحدهما : لو كان مع الله إله غيره لفسد العالم ، واللازم باطل فالملزوم كذلك ، بيان الملازمة : أنه لو كان معه غيره ، فليفرض أنهما اختلفا في الإرادة بأن أراد أحدهما تحريك جسم أو

٤٣٦

إحياؤه ، والآخر تسكينه أو إماتته ، فإن تم مرادهما ، اجتمع النقيضان أو انتفى مرادهما ، ارتفع النقيضان ، أو تم مراد أحدهما فقط فهو الإله الحق دون العاجز ، فالإله الحق واحد.

فإن قيل : فرض اختلافهما محال ، والمحال جاز أن / [٢٩٤ / ل] يلزمه المحال ، ونحن إنما نثبتهما قديمين حكيمين لا يختلفان ولا يتناقضان ولا تتعلق إرادة أحدهما بنقيض ولا ضد ما تتعلق به إرادة الآخر ، فلا يلزم ما ذكرتم من المحال.

قلنا : إن كان اتفاقهما في الإرادة على جهة المصانعة من كل منهما لصاحبه ، واتقاء الخلاف والمنافرة له ، فهما عاجزان ؛ إذ هذا شأن المصانع المداري ، وإن كان اتفاقهما لقدم إرادتهما بحيث لا تتعلق إرادة أحدهما بغير ما تعلق به إرادة الآخر لزم إذا تعلقت إرادتهما بتحريك جسم في وقت بعينه أن تتعلق قدرتهما أيضا بتحريكه لئلا تتناقض الإرادة والقدرة في متعلقهما ، وهو محال ، وحينئذ يلزم توارد القدرتين القديمتين على مقدور واحد ، والعلتان المستقلتان على معلول واحد وأنه محال ، وإنما قلنا : إن توارد مؤثرين مستقلين على أثر واحد محال ؛ لأن وجوده بكل واحد منهما يقتضي استغناءه عن الآخر ، فلو وجد [بهما جميعا] لاستغنى عنهما جميعا ، فيكون موجودا بكل واحد منهما غير موجود بواحد منهما وأنه محال.

الوجه الثاني : أنه لو كان ثم إلهان لكانا مشتركين في خلق العالم وللزم العالم طاعتهما ، فلو أمر أحدهما بشيء ونهى الآخر عنه ، لم تتصور طاعتهما من الجميع ، وإن أطاع كل واحد بعض العالم دون بعض ، أوشك أن يعاقب من عصاه وأطاع الآخر ، وأوشك الآخر أن يدافع عمن أطاعه ، فيقع الحرب بينهما كسلطانين كل منهما يدافع عن رعيته ، وذلك يفضي إلى فساد العالم لاختلافهما كما تفسد الرعية عند اختلاف ملوكها ، واللازم باطل بما نراه من انتظام العالم ، و [هذا تقرير الشيخ محيي الدين بن العربي في بعض كتبه المختصرة].

وأما الفلاسفة فاحتجوا على التوحيد بأنه لو كان في الوجود إلهان لكانا قديمين ، ولو كانا قديمين لاشتركا في وجوب الوجود ، وامتاز كل منهما [بعين ماهيته وبعينه وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فيلزم أن يكون كل منهما] مركبا مما به / [١٣٩ أ / م] الاشتراك والامتياز ، وهما الوجوب والتعين فيلزم أن يكون القديم الواجب مركبا وأنه محال ، واعترض عليه بجواز أن يكون تعينهما أمرا عدميا وهو كون عين كل واحد منهما ليست غيرها والعدم لا يتركب مع الوجود ، فلا يلزم التركيب المنافي للوجوب ، وهو سؤال قوي على دليلهم فتبين أن الطريقة الجيدة الثابتة على محل النظر هي طريقة القرآن (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : ٢٣] أي هو تام الحكمة

٤٣٧

والتصرف في خلقه فلا يعترض عليه وهذه / [٢٩٥ / ل] عمدة الجمهور في القدر وإليها يرجعون ويسمونها آية الدبوس.

وعند النظر فيما قررناه من سر القدر يتبين أن الأمر واضح بالمعقول لا بالدبوس.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) [الأنبياء : ٢٤] أي : طالبهم بالدليل على إلهية آلهتهم فسيعجزون عن إقامته ثم قل : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٤) [الأنبياء : ٢٤] أي احتج عليهم بإجماع الأنبياء المتقدمين على التوحيد ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) (٤٥) [الزخرف : ٤٥] وتقريره : أن التوحيد مجمع عليه بين الرسل وكل مجمع عليه بين الرسل ، فهو حق فالتوحيد حق بيان الأولى قوله ـ عزوجل ـ بعد : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥) [الأنبياء : ٢٥].

بيان الثانية : أن الأنبياء معصومون جماعة وفرادى فلا يقولون إلا صدقا ، ولا يعتقدون إلا حقا.

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) [الأنبياء : ٢٦] يعنى قولهم : الملائكة بنات الله سبحانه : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٢٦) [الأنبياء : ٢٦] أي : هم عباد مكرمون ؛ فعباد ، رد على من تألههم ، ومكرمون : رد على من تنقصهم ، كاليهود حين استعدوا جبريل.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) [الأنبياء : ٢٧] رد على من زعم أن لهم تصرفا في العالم بالاستقلال فبين أنهم لا يفعلون شيئا إلا بإذنه ـ عزوجل ـ وفيه من الأدب أن العبد والتلميذ والرعية والولد وكل ذي رتبة دنيا لا يسابق من فوقه بالقول ، بل يكون تبعا له في كلامه.

(لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) [الأنبياء : ٢٧] رد على من

٤٣٨

قدح في عصمتهم بمخالفة ونحوها.

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨) [الأنبياء : ٢٨] أي : ما قبلهم وبعدهم إشارة إلى أن لوجودهم ابتداء وانتهاء ردا على من اعتقد قدمهم ، وأنهم أزليون أبديون (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨) [الأنبياء : ٢٨] فيه إثبات الشفاعة لبعض الناس ، وأن الملائكة تشفع لهم بإذن الله ـ عزوجل ـ ، وهم من خشيته مشفقون إشارة إلى أدبهم ، وكمال خشيتهم التي هي سبب عصمتهم ؛ إذ العصمة هي اجتناب المعصية / [١٣٩ ب / م] لكمال المعرفة ، وكمال المعرفة توجب الخشية ، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨) [فاطر : ٢٨].

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩) [الأنبياء : ٢٩] تحتمل وجوها : أن على تقدير أن يقول ذلك منهم قائل نعذبه ، إشارة إلى تعظيم الشرك قبحا ، وأنه ـ عزوجل ـ لا يحابي فيه أحدا حتى أكرم الخلق عنده ، وإن كان ذلك لا يقع منه لعصمتهم ، لكنه مفروض.

الثاني : أن ذلك إشارة إلى / [٢٩٦ / ل] إبليس على القول بأنه من الملائكة ، وأنه هم في نفسه بالمنازعة بالإلهية ؛ فجوزي الخزي واللعنة.

الثالث : التنبيه على أن هذا القول جائز الوقوع منهم إشارة إلى أن عصمتهم من وقوع المعصية ، والكفر لا من جوازهما كما سبق في الأنبياء.

قوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠) [الأنبياء : ٣٠] إلى (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) [الأنبياء : ٣١ ـ ٣٣] آيات عظيمة تدل على الصانع وقدرته وعظمته ووحدانيته تنبيها للكفار على النظر والاستدلال ،

٤٣٩

أو تقريعا لهم على ترك ذلك وتقريره : أن هذه آيات وآثار عظيمة تدل على مؤثر عظيم كامل ، ومن عظمته وكماله أن لا يكون معه شريك ؛ إذا الوحدانية كمال والشرك نقص بالضرورة ؛ إذ ما يكون للواحد وحدة يكون له مع الشريك نصفه.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) [الأنبياء : ٣٣] وهو مما يقرأ بالانعكاس مثل ساكب كأس ، وهو من محاسن وأنواع البديع.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥) [الأنبياء : ٣٥] يحتج به الجمهور في أن الشر والخير من عند الله ـ عزوجل ـ عدلا وفضلا.

(وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء : ٤٧] تمسك الجمهور بلفظ الموازين في إثبات الميزان والوزن حقيقة وتأوله المعتزلة على إقامة العدل ؛ لأنه أبدل القسط من الموازين والمقصود في الجملة البدلية هو البدل لا المبدل منه كأنه قال : ونضع القسط ، أي العدل.

(قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥٤) [الأنبياء : ٥٣ ، ٥٤] فيه ذم التقليد وبطلانه خصوصا إذا قابله النظري القاطع ونحوه : (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٥٦) [الأنبياء : ٥٦] هذا استدلال من إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ عليهم أو تنبيه لهم على صانعهما كما عرف في غير موضع وفطرهن : أنشأهن.

(قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣) [الأنبياء : ٦٣] هذه إحدى الكذبات المنسوبة إليه في الحديث الصحيح ، والأخريان قوله : (فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩) [الصافات : ٨٩] وقوله لسارة : هي أختي ، والتحقيق أن هذه معاريض ، وإنما سماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبات مجازا وتعظيما لشأن / [١٤٠ أ / م] إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ بحيث إن مثله يسمى تعريضه كذبا لارتفاعه عنه شبيه بقولهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) (٦٦) [الأنبياء : ٦٦] استدلال على نفي إلهية الأصنام بعدم ضرها ونفعها وقد سبق مرارا.

٤٤٠