الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

وإذا لم يمكن بد من التعريف بهذا الحكم خشية أن يقع فيه أحد ، فليكن بعبارة لا توهم نقصا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غضا من منصبه ، مثل أن يقال : ما استأثر الله ـ عزوجل ـ بالقدرة عليه ، فلا يطلب من مخلوق / [٣٢٢ ل] على الإطلاق أو نحو هذا ولا يتعرض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلب الاستغاثة عنه مطلقا ولا مقيدا ، ولا يذكر إلا بالصلاة والسّلام عليه ، والرواية عنه ، ونحو ذلك.

هذا حاصل ما وقع في هذه المسألة ، سؤالا وجوابا ، ذكرته بمعناه وزيادات من عندي.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥) [القصص : ١٥] يحتج به المعتزلة في نسبة خلق الأفعال إلى المخلوق : لأن موسى نسب قتله القبطي إلى الشيطان بأنه من عمله.

وأجيب بأن معناه ، هذا من جنس عمل الشيطان ، أو مما وسوس به [وزينه] الشيطان ونحو ذلك ، وإلا فقتل القبطي مخلوق لموسى عندكم [على] الحقيقة ، وعندنا الله ـ عزوجل ـ فلم يبق للشيطان إلا التزيين والوسوسة ، ولموسى إلا الكسب عندنا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٦) [القصص : ١٦] أي بكسب القتل عندنا وبخلقه عندهم.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) (١٨) [القصص : ١٨] فسّر الاستغاثة السابقة بالاستنصار / [١٥٣ ب / م] والاستصراخ فدل على أنها مترادفة على معنى واحد ، كما سبق ذكره.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) [القصص : ٣٠] يحتج بها الصوتية لأن المنادي هاهنا هو الله ـ عزوجل ـ بنفسه ، بدليل (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) [القصص : ٣٠] والنداء لا يعقل إلا بحرف وصوت.

٤٨١

وأجاب الخصم باحتمال أن النداء بواسطة ملك حاك ؛ لقوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠) [القصص : ٣٠] أو يكون موسى غاب عن حسه فأدرك النداء بلا صوت ولا حرف في الخارج كما يدرك النائم الكلام كذلك ، ولو صح قول الصوتية للزم أن الله ـ عزوجل ـ جسم في ذاته أو أنه يتطور في الأجسام إذا شاء ويتخذها مظهرا له على رأي الحلولية أو الاتحادية ، وإنه باطل ؛ لأن الجسمية من لوازم الصوت قطعا.

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٣٢) [القصص : ٣٢] البرهان هو الحجة المركبة من مقدمتين قاطعتين ، وعصا موسى ويده البيضاء كذلك ؛ إذ يقال في كل واحدة منهما : هذا خارق للعادة ، وكل خارق للعادة معجز يدل على صدق صاحبه ، فهذا معجز يدل على صدق موسى.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤) [القصص : ٣٤] هذا مما تناقض به الشيعة [لعنهم الله] حيث قالوا : إن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» أثبت له المنازل الهارونية. فيقال له :

فيجب أن يكون علي أفصح منه ، كما كان هارون أفصح من موسى. فإن التزموا ذلك فهو خلاف الإجماع ، وخلاف قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أفصح من نطق الضاد» (١) وإن لم يلتزموه انقضت دعواهم ، اللهم إلا أن يمنعوا كون الفصاحة منزلة من المنازل ، أو يسلموا ذلك ويدعوا تخصيصها بدليل كالنبوة ، مع أن كثيرا منهم يزعم أن كلام علي في النهج وغيره أفصح الكلام بعد القرآن.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) / [٣٢٣ ل]) [القصص : ٣٨] يحتج بها أصحاب الجهة كما سبق.

__________________

(١) أورده ابن كثير في تفسيره [١ / ٢٨٨] وانظر كشف الخفا [١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١].

٤٨٢

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٤٠) [القصص : ٤٠] إلى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١) [القصص : ٤١] إلى قوله : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢)

[القصص : ٤٢] هذا كله يتناول بعمومه فرعون مع جنوده وهو قاطع في الرد على من زعم أنه مات مؤمنا إيمانا اختياريا نافعا.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤) [القصص : ٤٤] إلى (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) [القصص : ٤٦] هذا استدلال على صدق محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وتقريره كما سبق في (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٤٤) [آل عمران : ٤٤] أي أنت لم تشهد موسى حين أوحينا إليه ، ولا كتبت ولا دارست ولا أخبرت / [١٥٤ أ / م] ، فما قصصت خبره على وجهه إلا رحمة من ربك وهو الوحي.

واعلم أن في التوراة : أن إسحاق أو يعقوب جرى له في سقي الغنم ولقاء المرأتين ، ونكاح امرأة ونحوه شبيها بما تضمنته هذه السورة مما جرى لموسى مع ابنتي شعيب. وليست قصة هذا السياق في التوراة ، فاليهود إذا سمعوا قراء المسلمين يقرءون سورة القصص تغامزوا بينهم ، أي انظروا كيف اشتبهت القصة على محمد أو على من لقنه فحرفها وبدلها ؛ لأنها عندهم قصة إسحاق أو يعقوب ، وأنا رأيتهم ينظر بعضهم إلى بعض [في بعض] الأسواق ، وقارئ ضرير يقرأ هذه القصة.

والجواب : أن ما ذكروه غير لازم ؛ لجواز أن القصة حرفت في التوراة عن موسى إلى غيره. والتوراة أولى بالتحريف لوجوه :

أحدها : تقادم عهدها.

الثاني : إحراق بخت نصر لها حتى لم يجدوها إلا عند عزيز ، فأملاها عن ظهر قلب ، فزعموا أنه ابن الله لذلك على ما قيل.

الثالث : أن أحبارهم حرفوا منها كثيرا من صفات محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحواله الدالة على نبوته

٤٨٣

استزلالا لعامتهم أن يؤمنوا ، واستدامة للرئاسة عليهم ، فلعلهم حرفوا هذه القصة إلى إسحاق لما سمعوها في القرآن مضافة إلى موسى إيقاعا للريبة في قلوب عوامهم.

وقد رأيت لأبي الفخر الإسكندري النصراني ـ وكان يهوديا فتنصر ـ أو لغيره جزءا جمع فيه ما حرفه اليهود من التوراة ، تحريف تبديل لا تحريف تأويل ، رأيت هذا الجزء عند أبي البشائر بن فرج الله النصراني الحكيم بقوص من بلاد الصعيد.

سلمنا أن القصة لم تحرف في التوراة ، لكن جاز أنها جرت لإسحاق وموسى جميعا ، فذكرت عن إسحاق في التوراة وعن موسى في القرآن دون التوراة ، على حسب اختيار المتكلم أو حكمته أو الداعي إلى ذلك.

ومع هذا الاحتمال لا يجوز القطع بالتحريف على أحد الموضعين.

كيف وإن عبد الله بسلام أعلم اليهود / [٣٢٤ ل] بالتوراة ومن تابعه منهم ـ مع علمهم بسورة القصص ـ لم يمتنعوا من الإسلام ، ولو صح عندهم ما قلتم لامتنعوا منه ، بل قامت عندهم براهين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة وغيرها من كتب الأولين : فأسلموا.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦) [القصص : ٤٦] احتج بها بعض أهل الذمة في كتاب له على أن محمدا إنما أرسل إلى العرب. لأنهم هم الذين ما أتاهم من نذير قبله ، أما / [١٥٤ ب / م] بنو إسرائيل فالنذر والرسل قبله فيهم كثير.

وجوابه من وجهين :

أحدهما : أن المراد ما أتاهم من نذير من قبلك في هذه الفترة التي بينك وبين المسيح ، فطال العهد وحرفت الكتب ودخلت الملل ، فاحتيج إلى رسول يرشد الناس إرشادا خالصا من الريب ، وإليه الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (٤٥) [القصص : ٤٥].

الوجه الثاني : هب أن المراد بالقوم الذين لم يأتهم نذير قبله هم العرب ، لكن ليس في الآية ما يقتضي تخصيص إرساله إليهم إلا بطريق مفهوم ضعيف ، لكن ذلك المفهوم لا يعارض نصوص القرآن في عموم الدعوة ، ثم إن من اعترف برسالته إلى العرب لزمه القول بعموم دعوته ؛ لأن مطلق رسالته ولو إلى قبيلة من العرب يستلزم صدقه ، وقد تواتر عنه أنه

٤٨٤

ادعى عموم الدعوة ، فيجب قبول ذلك منه لثبوت رسالته المطلقة ، أو مطلق رسالته.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) [القصص : ٤٧] سبق نظيرها في إقامة الحجة بإرسال الرسل في آخر «طه» و «النساء».

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) [القصص : ٥٦] سياق ما قبلها يقتضي أنها في أهل الكتاب ؛ لأنه قسمهم قسمين :

أحدهما : معاند للقرآن منكر له ، وهو المذكور في قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) [القصص : ٤٧] إلى (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١) [القصص : ٥١].

والثاني : مؤمن بالقرآن. وهم مؤمنو أهل الكتاب ، وهو المراد بقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) [القصص : ٥٢] إلى (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٥٤) [القصص : ٥٤] إلى (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥) [القصص : ٥٥] وهؤلاء كعبد الله بن سلام وأصحابه ، ثم جاءت هذه الآية مشتركة بين القسمين فقوله ـ عزوجل ـ (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] إشارة إلى القسم الأول الضال منهم ، وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) [القصص : ٥٦] إشارة إلى القسم الثاني المهتدي منهم ، فهذا كلام متجه بشهادة ظاهر الكتاب ، غير أن الحديث الصحيح ورد بأن هذه نزلت في أبي طالب حين أحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاه إلى الإسلام عند موته ، فالمشهور أنه امتنع ومات على ملة عبد المطلب.

وحكى ابن إسحاق أنه نطق / [٣٢٥ ل] بكلمة الشهادة قبل خروج روحه والعباس عنده فسمعه ، فقال العباس : إنه قد أسلم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما سمعت شيئا» فلما اختلف النقل في ذلك اختلف [أهل] السنة والشيعة في ذلك ، فقال الجمهور : إنه مات كافرا ،

٤٨٥

واحتجوا بوجوه :

أحدها : هذه الآية نزلت بسببه ، وهى تقتضي عدمه إسلامه / [١٥٥ أ / م] لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب إسلامه ، والآية تضمنت أنه لا يهدي من أحب.

الثاني : الحديث الصحيح أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قيل له : إن أبا طالب كان يحوطك ، فهل تنفعه بشيء؟ قال «نعم ، هو في ضحضاح من النار ، ولو لا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» (١) وفي حديث آخر : «في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه» (٢).

الثالث : ما جاء في بعض الآثار أن أبا طالب لما جاء علي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال : «فاذهب فواره» (٣) ثم أمر عليا بعد ذلك بالغسل ، ولو لا أنه مات كافرا لما سماه ابنه علي ضالا ، ولا أقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، ولا تخلف عن شهود أمره ولا أمر عليا بالاغتسال من غسله.

الرابع : أنه روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رفع سرير أبي طالب عارضه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «وصلتك رحم يا عم» (٤) ولم يتبعه ، ولو مات مسلما لكان أحق وأفضل من تبعه لما كان يحوطه وينصره ويشفق عليه ، وقالت الشيعة : إنه مات مسلما ، واحتجوا بوجوه :

أحدها : قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١٥٧) [الأعراف : ١٥٧] قالوا : ولا يقدر أحد يدعي أن أحدا نصر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقره نصرة أبي طالب له حين لا ناصر من الخلق سواه ، حتى حارب قريشا بأسرها

__________________

(١) رواه البخاري [٣ / ١٤٠٨ ، ٥ / ٣٣٩٣] ح [٣٦٧٠ ، ٥٨٥٥] ومسلم [١ / ١٩٤] ح [٣٠٩].

(٢) رواه أحمد [١ / ٢٩٥] [٢٦٩٠].

(٣) رواه أبو داود في الجنائز [٣ / ٢١٤] ح [٣٤١٢] والنسائي في الجنائز [١ / ١١٠] ح [١٩٠] وفى الكبرى [١ / ١٠٧] ح [١٩٥] وأحمد [١ / ٩٧ ، ١٠٣ ، ١٢٩ ، ١٣١] ح [٧٥٩ ، ٨٧٧ ، ١٠٧٤ ، ١٠٣٩] والبيهقي [١ / ٣٠٤] وأبو يعلى [١ / ٣٣٤] والطيالسي [١٩] ح [١٢٠] وابن الجارود [١٤٣] ح [٥٥٠].

(٤) رواه ابن عدي في الكامل [١ / ٢٦٠].

٤٨٦

في نصرته ، وقد فصل في السير المعتبرة من ذلك ما لا نطيل بذكره ، ولم ينصره هذه النصرة وقطع فيه رحم قومه إلا وهو مؤمن به ، ولكنه أخفى إيمانه تقية ؛ لأن تدبير الحرب والمكيدة في نصرة الله ورسوله اقتضت ذلك ، ولو أظهر خلافهم في الدين لتمالئوا عليه ، ثم لم يثبت لهم ، فلما أيقن بالموت أظهر إسلامه كما رواه عنه العباس فيما رواه ابن إسحاق ؛ لأنه لم ييأس من نفسه وحرب قومه إلا ذلك الوقت.

الثاني : أن أبا طالب كفل يتيما ، وكل من كفل يتيما فهو في الجنة ، أما الأولى فلأن أبا طالب كفل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيما وهو أفضل الأيتام وغيره. وأما الثانية فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» (١) وأشار بإصبعيه ، فإذن أبو طالب في الجنة ، وذلك يستلزم / [٣٢٦ ل] إيمانه.

الثالث : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقره على نكاح زوجته فاطمة بنت أسد أم علي ، ولو لا أنه مؤمن لما أقره ، إذ ليس من دينه نكاح الكافر المسلمة.

الرابع : أن الحديث الصحيح ورد بأن المرء مع من أحب ، ولا يشك أحد أن أبا طالب كان / [١٥٥ ل / م] يحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إن كان ليؤثره على أولاده ، فليكن معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عملا بموجب الحديث ، وذلك مستلزم لإيمانه.

الخامس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحب أبا طالب ؛ لأنه كافله وناصره ومربيه وعمه صنو أبيه لأبويه ، لا يشك أحد في ذلك ، وكل من أحبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى بذلك ، وإن شك شاك في حب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي طالب فلينظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها» (٢) ولا أحد أحسن إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحسان أبي طالب ؛ فوجب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحبه.

السادس : أن أبا طالب جاهد في الله ، وكل من جاهد في الله مؤمن ، أما الأولى فلأنه نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكل من نصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مجاهد في الله ، ومن تأمل السيرة علم أن جهاد أبي طالب في نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإقامة دينه وذبه عنه ، وحياطته له أفضل الجهاد حين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، وقصارى من اتبعه أن يفروا بدينهم إلى الحبشة وغيرها ، وقريش بأسرها وأحابيشها وأتباعها ترميه عن قوس واحدة ، وأبو طالب يلقى عنه بنحره ، هذا مما لا ينكره منصف.

__________________

(١) رواه البخاري [٥ / ٢٠٣٢] ح [٤٩٩٨] وأبو داود في كتاب الأدب ح [٥١٥٠] [٤ / ٣٣٨].

(٢) رواه القضاعي في مسند الشهاب [١ / ٣٥٠ ، ٣٥١] ح [٥٩٩ ، ٦٠٠] وأورده الحافظ في لسان الميزان [١ / ٤٤٦] والبيهقي في شعب الإيمان [١ / ٣٨١] ح [٤٦٦] والديلمي في مسند الفردوس [٢ / ١١١] ح [٢٥٨٨ / الفردوس] وانظر نوادر الأصول [١ / ١٤٩].

٤٨٧

وأما الثانية فلقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩) [العنكبوت : ٦٩] وحسبك به وعدا يقتضي هداية من جاهد في الله.

السابع : أن أشعار أبي طالب في ديوانه تنادي بإيمانه ، كقوله في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

إن اقتضى سياقه أنه مدح فيه ولا أحقق ذلك والظاهر خلافه ، وليس هذا بالمقصود ، إنما المقصود مثل قوله :

ولقد علمت بأن دين محمد

من خير أديان البرية دينا

وفى رواية :

وعرضت دينا لا محالة أنه

من خير أديان البرية دينا

وقوله :

فاصدع بأمرك ما عليك خصاصة

وافرح وقر بذاك منك عيونا

فهذا مدح لدينه وتصديق له ، وأمر له بإظهاره والصدع به ، ولا إيمان فوق ذلك ، وأشعاره في المعنى كثيرة لم نستحضرها. فهذا ما نحفظه ونستحضره الآن من حجج الأخرى يطول فلنقتصر / [١٥٦ أ / م].

وقد رأيت لبعض الشيعة كتابا مستقلا في إسلام أبي طالب ، والذي ذكرته لهم جل ما فيه ـ إن لم يكن كله ـ فاعلم ذلك.

ثم إن قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦) [القصص : ٥٦] يحتج بها الجمهور في أن الهداية إلى الله ـ عزوجل ـ فكذا الضلال مقابل لها هو بقدره خلافا للمعتزلة.

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) (٥٩) [القصص : ٥٩] سبق نظيرها في الأنعام وهود.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨) [القصص : ٦٨] يحتج به على أن الصانع فاعل بالاختيار لا الإيجاب ، خلافا للفلاسفة ، وعلى رأي الجبرية في أن لا اختيار للعبد في فعله ، بل هو مجبر لا مخير ،

٤٨٨

يدل عليه : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠) [القصص : ٧٠] أي فيهما ، وإذا كان له الحكم في الدنيا على العموم والإطلاق ، فلا حكم لأحد معه ، ولا اختيار ، وذلك حقيقة الإجبار.

(وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥) [القصص : ٧٥] فيه أن المستدل إذا طولب بالدليل على دعواه فلم يذكره أو لم ينهض بتقريره أنه يكون منقطعا ؛ لأن هؤلاء ادعوا الشركاء فإذا طولبوا بالبرهان لم يجدوه.

وقد حكم بانقطاعهم ولزوم الحجة لهم.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) [القصص : ٧٨] قيل : هو الكيمياء ، وقد سبق القول فيها غير مرة ، وذكر في السير أن موسى لما أمر ببناء قبة الزمان بالذهب بنى بما مع بني إسرائيل من الذهب الذي كانوا خرجوا به من مصر ، فلم يكف ، فشكا موسى ذلك إلى ربه فنزل جبريل فعلمه الكيمياء : فعمل منها ما كمل به بناء القبة ، ثم تركها ، ثم إنه علمها أخته وأخاه هارون ، فسأله قارون أن يعلمه إياها ، فقال : لا خير لك فيها ، فألح عليه حتى علمه فكنز منها الكنوز. ثم كانت سبب هلاكه دنيا وأخرى.

قيل : ومن ثم كان أكثر ما يوجد الكيمياء والزغل في ولد هارون من اليهود.

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (٧٨) [القصص : ٧٨] أي بعد إقامة الحجة عليهم ، إذ لا فائدة في سؤالهم بعد ذلك.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨) [القصص : ٨٨] قيل : ذاته ، وقيل : صفة تسمى وجها ، وقيل : إلا ما أريد به جهة التقرب إليه.

* * *

٤٨٩

القول في سورة العنكبوت

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) [العنكبوت : ١٤] يحتج به على استثناء الأقل.

(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) [العنكبوت : ١٧] يحتج به القدرية لتصريحه إضافة خلق الإفك إليهم.

وجوابه : أن معناه : وتكذبون كذبا ، أو وتكسبون إفكا ، والخلق مشترك بين الاختراع والكذب وغيرهما ، ومنه / [٣٢٨ ل] : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٧) [ص : ٧] (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (١٣٧) [الشعراء : ١٣٧] (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١٧) / [١٥٦ ب / م]) [العنكبوت : ١٧] احتجاج على التوحيد ، ونفي الشرك بأن الشريك لا يملك الرزق ، وقد سبق هو أو نحوه.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (١٩) [العنكبوت : ١٩] أي ثم هو يعيده ، وهو احتجاج على الإعادة بالقياس على الابتداء ، وكذا (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠) [العنكبوت : ٢٠] (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢٤) [العنكبوت : ٢٤] لأنه قطعهم وأفحمهم في الجدال والاحتجاج على عادته في حسن النظر والتأييد بالحجة.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩) [العنكبوت : ٢٩] إشارة إلى حكمة تحريم اللواط ، وذلك من وجهين :

٤٩٠

أحدهما : أن ذلك يضعف رجوليتهم وهمتهم ، والحاجة داعية إليهم للجهاد ، فإذا وجد شجاع أو مجاهد منجب ممن فعل به ذلك لم تنتقض هذه العلة ؛ لأنه لو لم يفعل به لكان أشجع وأنجب ، والزيادة في ذلك مطلوبة.

والثاني : قطع سبيل النسل ؛ إذ ليس في محل الحرث.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) (٣١) [العنكبوت : ٣١] مع قول إبراهيم : (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) [العنكبوت : ٣٢] وقول الملائكة : (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) (٣٢) [العنكبوت : ٣٢] يحتج به على أن للعموم صيغة ؛ لأن إبراهيم فهمه من صيغة أهل هذه القرية حتى عرض بتخصيص لوط.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) [العنكبوت : ٣٨] أي بإغوائه ووسوسته.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٣٨) [العنكبوت : ٣٨] إشارة إلى غلبة القدرة والإرادة ، وانقهار العقول تحت مجاري الأقدار بحيث لا ينفع الاستبصار ، وربما حمله القدرية على أنهم عاندوا الحق مع استبصارهم به تقريرا للحجة عليهم.

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) [العنكبوت : ٤٠] يحتج به المعتزلة ؛ إذا كان الله ـ عزوجل ـ خالقا لأفعالهم لكان قد ظلمهم ولم يكن آخذا لهم بذنبهم.

وجوابه ؛ على ما عرف على أصل الكسبية والجبرية.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١) [العنكبوت : ٤١] أنكروا على الحريري قوله : فأدخلني بيتا أضيق من التابوت وأوهن من بيت العنكبوت ، وليس بمنكر ؛ لأن البيت الذي ذكره الحريري مفتعل لا وجود له في الخارج ، إنما هو

٤٩١

متصور في الذهن لا غير.

وبيت العنكبوت موجود في الخارج منه ألوف من البيوت ، وما لا وجود له أصلا أوهن مما له وجود على كل حال.

وإنما ذكرت هذا لأن الإنكار المذكور لو لزم الحريري لاقتضى كفره ، لتضمنه الرد على الله ـ عزوجل ـ فيما بالغ فيه ، والتكفير ونحوه من مسائل أصول الدين.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) [العنكبوت : ٤٦] فيه مشروعية جدال أهل الكتاب إذا أثاروا شبهة فكشف ؛ لئلا يظن أن معهم حقا ، ثم إن كانوا ذمة أو مستأمنين وجب / [٣٢٩ ل] الرفق بهم / [١٥٧ أ / م] ، ولا يعنف عليهم ؛ لئلا يظن أنهم استبقوا حجة لم يقدروا على إظهارها ، ورعاية لعهد الذمة.

وإن كانوا حربا فحكمهم واضح ؛ إذ قتالهم جائز ، ومن كان عندهم بدار الحرب ، فإن أمن على نفسه كرسول المسلمين جاز أن يصدعهم بالحجة ، ويغلظ لهم إعزازا للكلمة ، وإن لم يأمن كالأسير والمستأمن إليهم من المسلمين ففيه الخلاف بمن أكره على الكفر ، أيهما أفضل له؟ الإجابة أو الامتناع؟

إن قلنا : الإجابة ، فهناك الأفضل الرفق في الجدال. وإن قلنا : الامتناع فهناك الأفضل الغلظة.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) [العنكبوت : ٤٨] هذا احتجاج على صدقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي إنك جئت بكتاب خارق للعادة عظيم الوقع ، مع أنك لم تكن قبله قارئا ولا كاتبا ، وكل من أتى بكتاب على هذا الوجه فهو نبي آت بمعجز ، فأنت نبي آت بمعجز.

أما الأولى فلأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بالقرآن ، وحسبك به كتاب عجز عن معارضة أيسره فصحاء العرب ، وأما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن كاتبا ولا قارئا فواضح ، وخصومه من الكفار سلموا ذلك ، حتى إنهم لما اتهموه ، [إنما اتهموه] بأنه يستملي ذلك ممن يقرأ ويكتب ، ولو كان قارئا كاتبا لما احتاجوا إلى ذلك ، بل قالوا : أنت قارئ كاتب ، فلا يستكثر لك هذا القرآن ، وإليه الإشارة بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) (٤٨) [العنكبوت : ٤٨].

٤٩٢

وأما الثانية : فلأن من أتى بكتاب على هذا الوجه بهذا الوصف كان خارقا للعادة ، كما لو أن راعي غنم لم يكتب قط ولا فارق الصحراء ، ولم يجتمع بكاتب قط فكتب خطّا أعجز فيه ابن مقلة وابن البواب وأضرابهم من مبرزي الكتاب ـ كان خارقا للعادة قطعا.

وكل خارق للعادة من التحدي وعدم المعارضة فهو نبي آت بمعجز ، فهذا برهان واضح.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤٩) [العنكبوت : ٤٩] يحتج به من قال : إن حقيقة القرآن الذي هو كتاب الله ـ عزوجل ـ وكلامه في الصدور لظاهر الآية مع القول بقدمه ، والآخرون قالوا : هذا يوجب حلول القديم في الحادث ، وهو قول بالحلول وهو محال ، بل إما أن يقولوا بخلقه ليكون حلول مخلوق في مخلوق ، أو بقدمه قائما بذات الله ـ عزوجل ـ والحاصل منه في الصدور مثال مطابق له أو ذكره وحفظه ، كما أن الله ـ عزوجل ـ مذكور باللسان والقلب محفوظ فيه ، وليست ذاته حالة في شيء.

وقد بالغ بعضهم في التشنيع على من قال بقدم القرآن وحلوله في الصدور ، حتى قال :

هؤلاء أكفر من النصارى / [١٥٧ ب / م] ؛ إذ النصارى إنما قالوا بحلول القديم في ذات المسيح / [٣٣٠ ل] لا غير ، وهؤلاء يلزمهم حلول القديم في كل شخص حفظ القرآن أو بعضه ولو آية.

واختلف القائلون بظاهر الآية ؛ هل حقيقة القرآن في الصدور كالمظروف في الظرف؟

أو أنه كظهور الوجه في المرآة؟ أو كظهور نقش الخاتم في الشمع؟ على أقوال.

وقال قوم : للقرآن أربع وجودات : وجود عيني ، وهو تقرر حقيقته في الخارج ، إما بذات الله ـ عزوجل ـ أو غيره على الخلاف في حدوثه وقدمه ، ووجود ذهني ، هو حصول صورة في الذهن مطابقة له وحفظه هو ذلك مع إمكان استحضاره لفظا ونظما بحسب الاختيار ، ووجود لساني وهو تلاوته ، وبناني وهو كتابته بالبنان.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠) [العنكبوت : ٥٠] إلى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١) [العنكبوت : ٥١] فيه أن القرآن معجز تام وحجة كاملة لا يحتاج معها على النبوة إلى دليل ؛ لأنه أنكر عليهم

٤٩٣

عدم الاكتفاء بها ، فدل على أنه كاف شاف ، وقد تبين وجه كونه معجزا.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) [العنكبوت : ٦٠] يحتج به على أن عموم الرزق من الله ـ عزوجل ـ حلالا وحراما ، وقد سبق عليه ما هو أدل من هذا.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦٣) [العنكبوت : ٦٣] إلى (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) [العنكبوت : ٦٤] إشارة إلى دليل البعث بقياس إحياء الأرض بالنبات ، وليس صريحا فيه كغيره.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦) [العنكبوت : ٦٦] أمر تهديد ووعيد كنظيره في النحل.

* * *

٤٩٤

القول في سورة الروم

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (٤) [الروم : ٤] يحتج به القائلون بقدم القرآن بناء على أن الأمر هو القرآن. ومعنى (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (٤) [الروم : ٤] أي : من قبل كل شيء وبعد كل شيء ، فانتظم الدليل هكذا : القرآن هو الأمر والأمر ثابت لله ـ عزوجل ـ قبل كل شيء وبعده ، فالقرآن ثابت لله قبل كل شيء وبعده.

واعترض عليه بأن الأمر لفظ مشترك ، والمراد به هاهنا الحكم والتصرف الذي به غلبت الروم وغلبت ، نحو (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) (٣٣) [النمل : ٣٣] أي التصرف ، سلمناه لكن المراد بمن قبل أي : من قبل غلبهم وبعده ، وذلك لا يدل على القدم.

وهب أن المراد قبل كل شيء ، لكن ذلك ليس هو الأزل ؛ لأن العالم حادث ، وقبل حدوثه بلحظة يصدق أنه قبل كل شيء ، اللهم إلا أن يعتقدوا قدم العالم فيكون الأمر المذكور قبله بالذات لا بالزمان كما زعمت الفلاسفة في قدم الصانع على العالم ، لكنهم لا يقولون بذلك.

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١) [الروم : ١١] فيها الإخبار بالبعث ودليله [بعده بيسير] يذكر إن / [١٥٨ أ / م] شاء الله ـ عزوجل.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) (١٢) [الروم : ١٢] هاهنا وفى آخر السورة إخبار بقيامها وذكر بعض أحكامها مما ذكر ، وسيذكر إن شاء الله ، عزوجل.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (١٩) [الروم : ١٩] فيه دليلان على إمكان البعث والمعاد ؛ أحدهما قياس إخراج الموتى من الأرض على إخراج الحي من الميت ، ونظمه هكذا : البعث إخراج حي من ميت ، وهو ممكن ، وكل ممكن مقدور فالبعث مقدور.

أما أن البعث إخراج حي من ميت فلأن الأرض والرمم موات يخرج منها الناس أحياء ، وإنما قلنا : إن ذلك ممكن لأنه لا يلزم منه محال لذاته ، وقياسا على إخراج الحيوان الحي من حيوان ميت ، وهو كثير مشاهد في بني آدم وغيرهم.

٤٩٥

وأما أن كل (ممكن) مقدور فواضح.

الثاني : قياس البعث على إحياء الأرض بالمطر بعد موتها.

وقد سبق تقريره في الأعراف وغيرها ، فهذا دليل إمكانه ، أما وقوعه فإخبار الصادق به.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢) [الروم : ٢٢] يحتج به على أن اللغات توقيفية ؛ لأن الألسنة هي اللغات ، وقد أضاف اختلافها إليه ، وذلك ظاهر في التوقيف ، مع احتمال أنه خلق فيهم دواعي الاصطلاح وأقدرهم عليه ، فيكون وضعها اصطلاحيا وخلقه منسوبا إليه؟

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) (٢٥) [الروم : ٢٥] ذكره عقيب قوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٤) [الروم : ٢٤] فهو ما سبق من قياس الإعادة على إحياء الأرض.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧) [الروم : ٢٧] أي عندكم ، أو هو أهون بمعنى هين ، وهذا استدلال على الإعادة بقياسها على البدء بجامع الإمكان والمقدورية ، وكونها أهون ضروري ؛ إذ إعادة الجدار المستهدم بآلاته أهون على بانيه من ابتدائه أول مرة قطعا. وكذلك قدمنا أن الجسم ينحل إلى جواهر مفردة ، كإنقاض الجدار ، ثم الله ـ عزوجل ـ يجمع تلك الجواهر ويؤلف منها الجسم فيعود كما كان. وهذا في أول سورة (ق) أبين منه هاهنا ، وسيأتي إن شاء الله ـ عزوجل.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٨) [الروم : ٢٨] من أدلة التوحيد شبيهة بآية النحل (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٧١) [النحل : ٧١].

٤٩٦

وتقرير هذه : إن آلهتكم مملوكة لله ـ عزوجل ـ وكما أن عبيدكم وما ملكت أيمانكم لا يشاركونكم في أرزاقكم وأموالكم كذلك الله ـ عزوجل ـ لا تشاركه الآلهة المملوكة له في عبادته وخلقه / [١٥٨ ب / م] وهو مقياس جلي وكذلك كما لا تخافون عبيدكم فالله ـ عزوجل ـ لا يخاف الآلهة المملوكة له.

ولو كانت آلهة حقا لكان يخافها ؛ إذ كانت تكون مثله ، فتبغي إلى ذي العرش سبيلا فيخاف غائلتها ، والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

فهذان برهانان في هذه الآية.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩) [الروم : ٢٩] صريح في مذهب الجمهور ؛ لأنه أضاف إضلالهم إليه ، وهو موجب لضلالهم فيكون سهم القدرة مصيبا ، وإلا كان مخطئا وإنه باطل.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠) [الروم : ٤٠] فيه إشارة إلى انحتام الرزق كالخلق والموت والبعث لاقتران الرزق بالثلاثة وسرد الجميع في قرن.

وهذا مما يقوي عزائم الفقراء ونحوهم ، ولعل بعض الناس من هاهنا أخذ قوله : «الرزق كالأجل يطلبك وأنت [عنه غافل]».

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٠) [الروم : ٤٠] دليل على التوحيد ونفي الشريك.

ونظمه هكذا : آلهتكم لا تفعل شيئا من هذه الأربعة ، والإله الحق يفعل هذه الأربعة ، فآلهتكم ليست هي الإله الحق.

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٨) [الروم : ٤٨] إلى قوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠) [الروم : ٥٠] تضمنت الدليل المشهور على الإعادة بقياسها على إحياء الأرض بالمطر ، ونبه

٤٩٧

على الجامع وهو الإمكان والقدرة بقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥٠) [الروم : ٥٠] والإمكان من لوازم المقدورية.

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٥٩) [الروم : ٥٩] أي يختم عليها ، وقد سبق معناه.

فإن قيل : أي فائدة في الطبع على قلب من لا يعلم؟ وهل هو إلا تحصيل الحاصل ، أو شبيه به؟

والجواب : أن المراد يطبع على قلب من لا يستعمل العلم بالنظر في آيات الحق ، فعبر بالعلم عن استعماله ، ألا ترى أن هذا وقع عقيب قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) (٥٨) [الروم : ٥٨] أي : يبادرون بالإنكار والعناد ، ولا ينظرون في أدلة الحق ليعرفوه.

* * *

٤٩٨

القول في سورة لقمان

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٦) [لقمان : ٦] يحتج بها الفقهاء على تحريم السماع ، وليست نصا فيه ، ولأهل السماع فيه تفاصيل ، ثم هو معارض بقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٨) [الزمر : ١٨] فلو كان في السماع قول وعظي فاتبعه السامع لدخل تحت هذه الآية.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١) [لقمان : ١١] استدلال على عدم إلهيتهم بعدم كونهن خالقين ، وتقريره هكذا / [٣٣٣ / ل] : آلهتكم لا تخلق ، أو لا شيء من آلهتكم بخالق ، والإله / [١٥٩ أ / م] الحق خالق ، فلا شيء من آلهتكم بإله حق ، وهذا يقتضي أن الخلق والإبداع من لوازم الإله وخواصه.

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢) [لقمان : ١٢] قد سبق الخلاف في نبوته والمشهور أنه ليس نبيا بل حكيم صالح.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤) [لقمان : ١٤] أي اشكر لي على خلقي ورزقي لك ، واشكر لهما على كسبها لك وكونهما سبب وجودك ، وهذا يدل على أن الأكساب والأسباب ليس مطرحة الاعتبار كما هو المشهور.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٧) [لقمان : ١٧]. يحتمل أن الصبر جملة مستقلة أمرا بالصبر على الإطلاق ، ويحتمل ارتباطها بما قبلها ؛ أي : اصبر على ما أصابك من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن هذا مراد على التقديرين لدخول هذا الصبر الخاص في الصبر على الإطلاق.

٤٩٩

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤) [لقمان : ٣٤] تضمنت مفاتح الغيب الخمس المذكورة في الحديث الصحيح (١).

__________________

(١) رواه البخاري ، كتاب التفسير [٤٦٢٧] وأخرجه أحمد [٢ / ١٢٢] والنسائي في الكبرى [٤ / ٧٧٢٨].

٥٠٠