الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

أبين مما قبله ، ثم قال بعض الأصوليين : «إن البيان في ضمن المجمل حتى إن جميع ما وردت به السنة وقاله الفقهاء في تفاصيل الصلاة وأفعالها في ضمن قوله ـ عزوجل ـ : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) [البقرة : ٤٣] ووجهه أن البيان كاشف عما في ضمن المجمل ، كالبحث كاشف عما في ضمن الأرض من المعادن ، وكما أن المعادن تستخرج من الأرض بالبحث / [٣٩٨ / ل] ، كذلك المعاني والأحكام تستخرج من المجمل بالبيان.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٤١) [ق : ٤١] الآيات هي في نفخ إسرافيل في الصور وجمع الناس للحشر ، ونحوه من أحكام الآخرة.

* * *

٦٠١

القول في سورة الذاريات

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٢١) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢١] إشارة إلى النظر والاستدلال في آيات الله ـ عزوجل ـ وقد سبق أنه واجب ، وهو يفيد العلم أو الظن بحسب مواده ، إذا استكمل الشرائط.

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣٦) [الذاريات : ٣٥ ـ ٣٦] / [١٩٢ أ / م] يحتج به على أن الإيمان والإسلام واحد ؛ لأن المشار إليه بالمسلمين والمؤمنين واحد وهم آل لوط.

وأجيب بأن الإيمان أخص من الإسلام لغة ؛ إذ كل مصدق منقاد وليس كل منقاد مصدقا ، وبينهما عموم وخصوص شرعا ، وبعض الفاعل للأعمال الظاهرة مصدق بالأركان الخمسة ؛ ولما كان الأمر كذلك كان بين الإيمان والإسلام ارتباط ، وكانا مجتمعين في أهل هذا البيت المذكور ، فذكروا في كل واحد من الآيتين بأحد الوصفين نفيا للتكرار عن الفاصلتين ، وتنبيها على اجتماع الوصفين فيهم [لا] لأنهما شيء واحد.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) (٤٠) [الذاريات : ٤٠] يرد على من زعم أن فرعون مات مسلما ، وإلا لما وصف في هذه الحالة بأنه مليم أي : آت بما يلام عليه ، ولم تجر عادة الله ـ عزوجل ـ أن يذم عاصيا بعد توبته ، ولا كافرا بعد إسلامه.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٤٢) [الذاريات : ٤٢] هذا مخصص لقوله ـ عزوجل ـ : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٥] أي كل شيء أتت عليه ، وهي لم تأت على كل شيء على الإطلاق بل على ما كان لعاد كما سبق في «الأحقاف».

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) (٥٤) [الذاريات : ٥٤] وعيدي محكم أو منسوخ بآية السيف.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات : ٥٦] يحتمل وجهين :

أحدهما : أن هذه لام التكليف والتوظيف ، أي : ما خلقهم إلا مكلفين موظفا عليهم العبادة : ولا يلزم ذلك القيام بالوظيفة ، كما يقال : ما اشتريت هذا العبد إلا ليخدمني ، أي :

وظيفته ذلك ، وقد يعصي أو يأبق فلا يخدم.

٦٠٢

والثاني : أنها لام العلة [أو] العاقبة ، والجن والإنس عام أريد به الخاص ، وهم العابدون المطيعون منهم ، ثم العبادة هل المراد بها عمومها أو خصوص التوحيد؟ فيه خلاف.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) [الذاريات : ٥٨] عموم والحصر فيه يقتضي أن لا رازق للحلال والحرام إلا الله ـ عزوجل ـ خلافا للمعتزلة في الرزق الحرام ما سبق أول «البقرة» / [٣٩٩ / ل].

* * *

٦٠٣

القول في سورة الطور

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٩) [الطور : ٩] أي : تموج وتضطرب ، وذلك مستلزم لتحركها حركة مستقيمة ، خلافا للفلاسفة في أن الأفلاك لا تقبل الحركة المستقيمة ، اللهم إلا أن يدعوا أو يثبت في الهيئة أن السماء غير الفلك ، فلا يكون في هذه حجة عليهم ، لجواز أن تضطرب السماء بحركة مستقيمة دون الفلك.

(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦) [الطور : ١٦] هذا / [١٩٢ ب / م] أمر بمعنى التسوية ، وهو من أقسام ما وردت له صيغة «افعل».

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) (١٧) [الطور : ١٧] الآيات ، فيها إثبات النعيم والعذاب المحسوسين.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) (٢٩) [الطور : ٢٩] فيه الشهادة الإلهية بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن النبوة نعمة ، وأن الكهانة والجنون بلاء ، كأنه ـ عزوجل ـ يقول : ما أنت بنعمة ربك مصاب في دينك بالكهانة ولا في عقلك بالجنون.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٣٤) [الطور : ٣٣ ـ ٣٤] هذا من آيات التحدي [بالقرآن المصحح لكونه معجزا ، فلما لم يأتوا بمثله مع هذا التحدي] دل على عجزهم وأنه معجز ، ولو أن شخصا أتى بما يعجز عنه الجن والإنس وسائر العالم ولم يتحدهم به لم يسم ذلك معجزا شرعيا ، ولا الآتي به نبيا.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) (٣٥) [الطور : ٣٥] هذا من أدلة إثبات الصانع ، وتقريره : أن هؤلاء الكفار لا يخلو : إما أنهم خلقوا من غير خالق ، أو أنهم خلقوا أنفسهم ، أو خلقهم غيرهم ، والأول باطل ، إذ خلق بلا خالق تناقض ، ووجود معلول بلا علة وهو محال.

والثاني باطل ؛ لأن خلقهم أنفسهم يستلزم اجتماع وجودهم وعدمهم معا حال الخلق ، وإنه محال ؛ لأن كونهم أثرا يقصد إخراجه إلى الوجود يقتضي عدمهم ، وكونهم مؤثرا يقتضي وجودهم ؛ فتعين الثالث ، وهو أن غيرهم خلقهم وهو الصانع القديم ، وهذه الآية التي لما سمعها جبير بن مطعم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلوها في صلاة المغرب قال : «كاد ينخلع لها

٦٠٤

قلبي» (١) أو كما قال ؛ لأنه فهم منها هذا الاستدلال ، وهو بالسبر والتقسيم.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (٣٦) [الطور : ٣٦] ، دليل آخر على ذلك ، وهو أن السماوات والأرض أثر فلا بد له من مؤثر ، ثم ذلك المؤثر إما هي أو هم أو غيرهما ، والأولان باطلان فتعين الثالث وهو الصانع القديم ، وهو أيضا سبري تقسيمي ، ولذلك جعلنا تأثيرهما في وجودهما داخلا في التقسيم ليكون تاما لا ناقصا ، ويقطع على أنه مراد من الآية لذلك ، إذ الله ـ عزوجل ـ لا يحتج بدليل [ناقص ولا فاسد].

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (٣٧) [الطور : ٣٧] هذا جواب عما تضمنه إنكارهم لنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم / [٤٠٠ ل] من إنكار اختصاصه عليهم بالنبوة ، وأنه لو اختص بها دونهم لزم الترجيح بلا مرجح ، فأجيب بأن المرجح فضل الله ـ عزوجل ـ ورحمته ، وليست خزائن الرحمة عندكم و [لا] بأيديكم حتى تتحجروا منها واسعا عن الخلق ، وهذا / [١٩٣ أ / م] السؤال وجوابه قد سبق في مواضع.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) (٣٩) [الطور : ٣٩] هذا إنكار لقول الكفار : «الملائكة بنات الله ـ عزوجل ـ» وقد تضمن الجواب : بأنكم استأثرتم بالأكمل ، وجعلتم لربكم ـ عزوجل ـ ما هو أنقص ، وهو خلاف الأدب والعدل ، فإذا لم يكن بد من سوء الاعتقاد فهلا تأدبتم وآثرتموه بالأكمل ، أو جعلتم له مثل ما جعلتم لكم.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٤٣) [الطور : ٤٣] هذا توحيد ، ودليله أن ما تشركون معه من الآلهة إما ناقص لا يملك ضرا ولا نفعا فهو لا يصلح للإلهية لنقصه ، أو كامل مساو للإله الح [ق : عزوجل] من كل وجه ، فيلزم فساد العالم بدليل التمانع أو تركيب القديم بدليل الحكماء ، وكلاهما باطل ؛ فإذن لا شريك له ـ عزوجل ـ لا كامل ولا ناقص ، والآية إنما دلت على تنزهه ـ عزوجل ـ عن الشريك ، فأما خصوصية هذا الاستدلال فشيء استحضرناه هاهنا ، فذكرناه.

__________________

(١) رواه مالك [١ / ٧٨] والشافعي [٢١٤] والدارمي [١ / ٩٦] وابن خزيمة [١ / ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٣ / ٤١] والطحاوي [١ / ٢١١ ـ ٢١٢] وابن حبان [٣ / ١٥٦ الحوت].

٦٠٥

القول في سورة النجم

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) [النجم : ١] قيل : هو قسم بالشهاب المنقض على مسترق السمع ، والمراد القسم بالقدرة الإلهية على ذلك ، وقيل : هو قسم بنجوم القرآن النازلة في أوقاتها ، والمراد القسم بالكلام الأزلي القديم ، [وزعمت الشيعة أن : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الخليفة بعدي من يهوي النجم الليلة في داره» ، فهوى النجم ـ أي : انقض ـ في دار علي ، ثم أقسم الله ـ عزوجل ـ به تعظيما له وتأكيدا لحقه ، وهذا لا يعرف إلا من جهتهم أو من يتأوّله عنهم ، وقد ذكره صاحب اللباب في خصائص أبي تراب وغيره منهم بأسانيد لا تثبت](١).

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (٢) [النجم : ٢] نفي للضلال والغي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستلزم إثبات الهداية له مراغمة للكفار.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) [النجم : ٣ ، ٤] يحتج به على أنه كان لا يحكم بالاجتهاد بل بالوحي ، وأن السنة الواردة عنه كانت توحى إليه كما قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، وإن جبريل يأتيني بالسنة كما يأتيني بالقرآن» ، وأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرضى والغضب والجد والمزاح حق ؛ لقوله عليه‌السلام : «إني لأمزح ولا أقول إلا حقا» (٢) ، وقوله لعبد الله بن عمرو : «اكتب فو الذي نفسي بيده ، ما خرج منه إلا حق» (٣) وأشار إلى لسانه.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٥) [النجم : ٥] قيل : جبريل ، وقيل : الله ـ عزوجل ـ لأنه ذو القوة المتين ، وقال ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣) [النساء : ١١٣] ، (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

__________________

(١) انظر المنهاج [٧ / ٥٩ ـ ٦٠].

(٢) رواه الطبراني في الكبير [١٢ / ٣٩١] ح [١٣٤٤٣] وفى الأوسط [١ / ٥٣٠] ح [٦٩٩] وفي الصغير [٢ / ٥٩] ح [٧٧٩] والمزي في تهذيب الكمال [١٩ / ٢٣].

(٣) رواه أبو داود [٣ / ٣١٨] ح [٣٦٤٦] وأحمد [٢ / ١٦٢ ، ١٩٢ ، ٢٠٧ ، ٢١٥] والحاكم [١ / ١٨٧] والطبراني في الأوسط [٢ / ٣٣٢] والدارمي [١ / ١٣٦] ح [٤٨٤].

٦٠٦

يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤) / [١٩٣ ب]) [طه : ١١٤] ، [ومن قال : إنه جبريل ، ربما استدل بأنه أفضل من الأنبياء الذين أوحى إليهم ؛ لأنه معلم وهم متعلمون ، وعورض بأنهم أفضل ؛ لأنه رسول وهم مرسل إليهم ، ونقض ذلك بالرسل مع الأمم ، وقد سبقت هذه المسألة.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) (٩) [النجم : ٨ ، ٩] يحتج به على إثبات الجهة ، إذ لا يتصور هذا التقدير إلا معها ، ولا يجوز حمله على جبريل وأن (قابَ قَوْسَيْنِ) كان بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قرب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأرض حتى تماست ركبهما ، وذلك أقرب من قاب قوسين ففي السماء ، فتعين حمله على أنه بينه وبين الله ـ عزوجل ـ ويلزم الجهة ، والخصم إنما يدفع هذا بما مر من لزوم التحيز والتجسيم].

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) [النجم : ١١] إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رأى ربه ـ عزوجل ـ بقلبه ، والفؤاد عين القلب ، كما أن البصر عين القالب.

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١٥) [النجم : ١٤ ـ ١٥] فيه إثبات الجنة موجودة قبل القيامة / [٤٠١ / ل] خلافا للمعتزلة كما سبق.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (١٧) [النجم : ١٧] إشارة إلى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه ـ عزوجل ـ ببصره الظاهر ، وقد اختلف في ذلك ، فحكي عن ابن عباس وجماعة : «[أنه رآه] ـ عزوجل ـ بعين رأسه لظاهر هذه الآية ، وحكي عن عائشة أنها أنكرت ذلك ؛ مستدلة بقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠٣] وحملت هذه الآية على أنه رأى جبريل مرتين في صورته الأصلية العظيمة الهائلة.

والأشبه الأول ، ويحكى عن أحمد أنه قيل له : بم ترد قول عائشة في إنكار الرؤية؟ فقال : بقول ابن عباس في إثباتها أو كما قال ، وحكى عن بعضهم أنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضع كل حديث عند أهله ، ويحدث الناس على قدر عقولهم ، وابن عباس رجل كامل فأفشى إليه هذا الحديث ، وعائشة إذ هي امرأة ليست كالرجال في الكمال لم يحدثها به.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١٩) [النجم : ١٩] قيل : اشتقوا اللات من اسم الله ـ عزوجل ـ والعزى من العزيز ، وقيل : إن رجلا كان يلت السويق للحاج فسمي اللات اسم فاعل من ذلك مشدد التاء ، ثم سموا به الصنم ، وخففوه.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) (٢١) [النجم : ٢١] سبق نظائره ، وهاهنا موضع إلقاء الشيطان في الوحي كما قيل وأشير إليه في سورة الحج» فألقى متصلا بهذا ، أعني :

٦٠٧

(وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢٠) [النجم : ٢٠] «تلك الغرانيق العلى إن شفاعتهم لترتجى» ، فقالت قريش : قد قاربنا محمد وأحسن القول في آلهتنا ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجدوا معه مقاربة له ، فلما نسخ ما ألقاه / [١٩٤ أ / م] الشيطان ، وعادوا إلى المباعدة والعداوة ، وقد اختلف الناس في هذا ، فمنهم من قدح في صحته ولم يثبته ، إذ لم يرد من طريق وثيق ، ومنهم من أثبته ثم اختلفوا في تأويله ، وأقرب ما قيل فيه : إن الشيطان تكلم بتلك الكلمات والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو فاشتبه [صوته بصوته] ، فظنوا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله ، فقاربوه معتقدين لذلك ، فلما نازعهم وأنكر أنه قاله عادوا إلى المباعدة ، وليست جرأة الشيطان في هذا بأضعف من جرأته عليه حين عرض له في الصلاة بشعلة نار ليقطع عليه صلاته ، والجميع بإذن الله ـ عزوجل ـ وإرادته وقضائه وقدره.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) [الحج : ٥٣] كما سبق.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (٢٢) [النجم : ٢٢] أي : جائرة ، والعدل إذا لم يكن بد أن تؤثروه بالبنين أو تساووه.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) [النجم : ٢٣] احتج به من منع بخبر الواحد والقياس ؛ لأنهما إنما يفيدان الظن ، واتباعه مذموم / [٤٠٢ / ل].

وأجيب بأن ذلك في العقائد العلمية كالتوحيد ونحوه لا مطلقا ، وقد سبق الدليل على اعتبار خبر الواحد والقياس.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) [النجم : ٢٣] احتج به من أنكر الاستحسان في الشرع ؛ لأنه اتباع الهوى بغير مستند ، والصحيح اعتباره والفائز به أهل العراق من أصحاب أبي حنيفة ، وقد قرروه أحسن تقرير ، ولا نسلم أنه اتباع الهوى ، بل هو استماع القول واتباع أحسنه ، وحاصل الاستحسان أنه العمل بأقوى الدليلين أثرا أو نحو ذلك على ما قرره البزدوي وغيره ، ولا جرم أنه لما كان كذلك استعمله منكروه ، فتراهم كثيرا ما يقولون : يجوز استحسانا لا قياسا ، والاستحسان كذا ، وأشباه ذلك ، فإذن الاستحسان كما قيل في المثل : «الشعير يؤكل ويذم» وكذا الاستحسان يستعمل ثم ينكر.

٦٠٨

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦) [النجم : ٢٦] ، تقتضي أن للملائكة شفاعة ، بإذن الله ـ عزوجل ـ ، وأنها لا تغني شيئا ، ولا تنفع إلا بإذنه ـ عزوجل ـ وإرادته ورضاه ، وله نظائر نحو : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٢٣) [سبأ : ٢٣] ، (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥) [البقرة : ٢٥٥] وأشباه ذلك.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) (٢٧) [النجم : ٢٧] تبين بهذا أن قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩) [الزخرف : ١٩] معناه سموهم إناثا كما سبق.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) [النجم : ٢٨] هو لازم لقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) (١٩) [الزخرف : ١٩] إذ عدم علمهم بأنوثتهم من لوازم عدم شهادتهم خلقهم.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٢٨) / [١٩٤ ب / م]) [النجم : ٢٨] يحتج به من منع العمل بالأدلة الظنية كالقياس وخبر الواحد والاستحسان والاستصلاح وقول الصحابي وشرع من قبلنا والبراءة الأصلية ، ونحو ذلك. والجواب ما سبق آنفا.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) [النجم : ٢٩] وعيدي محكم ، أو منسوخ بآية السيف (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠] يقتضي تحقير الدنيا ، وتحقير علم

٦٠٩

يؤدي إلى الاقتصار على إرادتها ، وهو كقوله عزوجل : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) [الروم : ٧] ، إذ جعل علمهم بظاهر الحياة الدنيا كلا علم.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [النجم : ٣٢] يحتج به على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر ، وهو مذهب الجمهور كما سبق ، واقتضت الآية أن من اجتنب الكبائر والفواحش محسن ، وإن قارف الصغائر ؛ لأنه عزوجل ـ فسر : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣١) [النجم : ٣١] بهؤلاء المجتنبين للكبائر إلا اللمم ، وهو استثناء / [٤٠٣ / ل] منقطع ، أي : يجتنبون الكبائر لكن اللمم لا يسلمون منه.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (٣٢) [النجم : ٣٢] يعني عند خلق آدم ، (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [النجم : ٣٢] (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤] ويحتمل أن المراد : وهو أعلم بكم حيث خلقكم من الأرض الكثيفة [الثقيلة] المظلمة المقتضية المناسبة لصدور ظلمة المعاصي منكم ، والمراد هو أعلم بكم قبل وجودكم ، علم المتقي منكم من غيره.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) [النجم : ٣٩] واحتج به الشافعي ومن وافقه على أن من تطوع بقربة كقراءة أو صلاة ونحوه ، وأهدى ثوابها لميت مسلم لا تصله ، ولا ينتفع بها ، خلافا لأبي حنيفة وأحمد ، وعن مالك قولان ، وجه استدلاله أن هذا ليس من سعيه ، وما ليس من سعيه لا ينفعه لظاهر الآية.

حجة الآخرين : أن هذا من سعيه ، وما كان من سعيه كان له وانتفع به ، لمفهوم الآية بل لمنطوقها ، فإنها استثناء من نفي ، وهو عند الشافعي وأحمد إثبات ، أما أنه كسبه فلأن

٦١٠

كسبه يصدق على ما باشره أو نسب إليه ، وهذه الطاعة المهداة إليه مما تسبب إلى حصولها ، ولو لم يكن إلا بواسطة الإسلام المكتسب له فيهدي إليه الحي لكونه مسلما فضلا ، عن أنه قد يكون ملكا عادلا أو وزيرا أحسن السياسة أو عالما أو حاكما انتفع بعلمه ، أو غنيا شاكرا ، أو فقيرا صابرا ذا خلق حسن ، فيهدى إليه ثواب الطاعات بهذه الوسائط المكتسبة له ، وأما أن كسبه سعيه فواضح ، وأما أن سعيه يكون له وينفعه ؛ فلظاهر الآية كما بينا.

واحتجوا بأن الثواب المهدى للميت إما عمل له أو لا ، فإن كان عملا له فقد انقطع بموته / [١٩٥ أ / م] لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث» ، وإن لم يكن عملا له لم ينفعه لقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) [النجم : ٣٩].

والجواب : أنا قد ندعي أنه عمل له ولم ينقطع بموته ، والحديث عام خص بالمحرم لا ينقطع إحرامه بموته ؛ ولذلك يجنب ما كان يتجنبه حيا ، ونقيس محل النزاع على محل التخصيص بدليلنا ، وقد ندعي أنه ليس عملا له ويصل إليه بطريق الهدية ، والآية محمولة على شرع إبراهيم ، لأنها مضافة إلى صحفه ، والنظر الصحيح يقتضي صحة قولنا ، لأن من عمل طاعة وتفضل الله ـ عزوجل ـ عليه بثواب بسببها صار حقّا له كماله الدنيوي ، وكما لا يمنع من الإيثار بماله من الإيثار بثواب أعماله ، ولو أهدى الحي ذلك لحي مسلم ففي نفعه إليه وجهان في مذهب أحمد ، الأشبه بالصحة أنه يصل وينفع.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) / [٤٠٤ / ل]) [النجم : ٤٥] يحتج به من لا يورث الخنثى ، لأن الإرث إنما ورد في الشرع لذكر أو أنثى ، وهذا ليس واحد منهما لاختصاصه باسم وخلقه دونهما.

والجواب : أنه قسم ثالث في الظاهر ، أما في نفس الأمر فهو [واحد من] القبيلين لا محالة.

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) [النجم : ٤٦ ـ ٤٧] احتجاج على الإعادة بقياس الإبداء.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (٦١) [النجم : ٦١] قيل : مغنون ، بلغة حمير ، فاستدل به على تحريم الغناء ، وفيه نظر.

* * *

٦١١

القول في سورة القمر

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١) [القمر : ١] فيه مسائل :

الأولى : اقتراب الساعة بأمارة انشقاق القمر عليها ، ثم قد بينا أن القرب أمر إضافي لا حد له ، ولا تقدير فيه.

الثانية : أن القمر يمكن انشقاقه ، لأنه جسم وكل جسم يمكن انشقاقه ، وما زعمه الفلاسفة من أن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ، وربما طردوا ذلك في جميع الأجرام العلوية ـ ضعيف ، وقد سبق القول فيه.

الثالثة : أن القمر انشق على عهد النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معجزا له ، وشاهد كفار مكة (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) [القمر : ٢] ثبت ذلك بهذا النص المتواتر وبالأخبار الصحيحة المستفيضة من حديث ابن مسعود (١) وابن عباس (٢) ومن عساه وافقهما.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) (١٤) [القمر : ١٤] وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (٤٨) [الطور : ٤٨] أي نحن نراها ونراك ، وقد تقرر أن الله ـ عزوجل ـ سميع بصير ، وربما تمسك بعض المشبهة بهذا على إثبات العين جارحة الله ـ عزوجل ـ وهو باطل ، أو صفة كاليد والوجه وفيه ما في نظائره من الكلام / [١٩٥ ب / م] وقد سبق.

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) (٢٥) [القمر : ٢٥] ، هي شبهتهم المعروفة التي يلزم منها الترجيح بلا مرجح على زعمهم ، وقد مر جوابها غير مرة.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (٤٢) [القمر : ٤٢] ظاهره أنه عام أريد به الخاص وهي الآيات التي جاء بها موسى ـ عليه‌السلام ـ ويحتمل أنها آيات الرسل أجمعين ؛ لاستلزام تكذيبهم بآيات موسى التكذيب بها.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب التفسير [٨ / ٦١٧] ح [٤٨٦٥] ومسلم في كتاب صفات المنافقين [١٧ / ٢٠٩] ح [٢٨٠٠].

(٢) رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير [٨ / ٦١٧] ح [٤٨٦٦] ومسلم في كتاب صفات المنافقين [١٧ / ٢١] ح [٢٨٠٣].

٦١٢

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٤٥) [القمر : ٤٥] هذا من إخباراته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بالغيوب ، قاله يوم بدر عن هذا الوحي قبل التحام الحرب ، والمشركون ظاهر حالهم الغلبة لكثرة عددهم ، ثم أنزل الله ـ عزوجل ـ نصره تصديقا لوحيه ونبيه.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) (٤٧) [القمر : ٤٧] إلى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [القمر : ٤٩] نزلت في مشركي مكة خاصموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر ، فنزلت هذه الآيات ، ومعناها إنا خلقنا كل شيء بقدر ، فتقتضي عموم الخلق للأشياء وأنها خلقت بقدر ، ويدخل / [٤٠٩ / ل] في ذلك أفعال العباد فهي مخلوقة لله ـ عزوجل ـ بقدر ، فيحتج بذلك الجمهور ، وفيه إشارة إلى وعيد القدرية وليس بقاطع لاحتمال أن الوعيد لأولئك القدرية الكفار الذين هم سبب نزول هذه الآيات ويرجع ذلك إلى أن الاعتبار بعموم اللفظ أو بخصوص السبب.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) (٥٢) [القمر : ٥٢] أي : في علم الله ـ عزوجل ـ وكتابه المبين الحفيظ الجامع لوقائع الوجود جزئيا وكليا ، ويحتج به الجمهور ؛ لأن أفعال الخلق إذا سبق بها العلم وتضمنها الكتاب الحفيظ تعلقت بها القدرة والإرادة على وفق تعلق العلم بها ؛ لاستحالة تناقض هذه الصفات في متعلقها ، وحينئذ يلزم الجبر ، وإلا لكانت الإرادة والقدرة الحادثان غالبتين للأزليتين ، وإنه محال.

* * *

٦١٣

القول في سورة الرحمن

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ) (٣) [الرحمن : ١ ـ ٣] يحتج به من يرى القرآن المسموع قديما ؛ لأنه ـ عزوجل ـ لما خص الإنسان بالخلق والقرآن بالتعليم دل على ذلك ؛ وإلا لقال : خلق القرآن.

وأجاب الخصم بأن هذا لا يلزم ؛ لأن الإخبار إنما تعلق بتعليم القرآن لا بخلقه ، والتعليم قد يتعلق بالمخلوق ، بل ربما اختص تعلقه بالمخلوق نحو : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣) [النساء : ١١٣] كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وبالجملة فالاستدلال هاهنا بالمفهوم أو نحوه ، وهو دليل لين.

(عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (٤) [الرحمن : ٤] اعلم أن البيان قد قيل في حده : إنه إخراج المعنى من حيز الخفاء إلى حيز التجلي ، وقيل فيه غير ذلك ، وأجود ما يقال فيه : إنه / [١٩٦ أ / م] إيضاح المعنى الخطابي ، أو ما قام مقامه بحيث لا يخلق سامعه لبس ، ولا يحتاج في فهمه إلى تخمين وحدث ، وربما استغنى عن هذا الأخير وهو لا يحتاج إلى آخره.

وقولنا : ما قام مقامه يعني : كالكتابة ، فإنها تقوم مقام الخطاب في البيان ، وكذا الإشارة ونحوها.

ويحتج به النحاة والمنطقيون على شرف علمهم ؛ لأن كل واحد من النحو والمنطق بيان ، والبيان ممدوح في القرآن ، فالنحو والمنطق ممدوحان في القرآن.

أما الأولى : فلأنه لا يشك من له أدنى فهم أن النحو والمنطق آلتان لإيضاح المعاني.

ومن ثم سمي النحو علم «الإعراب» ؛ لأن الإعراب البيان والمنطق آلة لبيان صحيح الأدلة من فاسدها ، ويوضح الحق من الباطل.

وأما الثانية : فلهذه الآية ، إذ دلت على الامتنان على الإنسان بتعليم البيان ، ولا يقع الامتنان إلا بنعمة ، وبما هو شريف ممدوح ، وقد بسطت القول في هذا / [٤٠١٧ / ل] في كتاب «رفع الملام عن أهل المنطق والكلام».

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) (١٥)

٦١٤

[الرحمن : ١٤ ـ ١٥] قد سبق نظيره في «الحجر» ، وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الملائكة من نور ، وخلق الجان من نار ، وخلق آدم مما قص عليكم» (١) أي : من تراب ، ثم هو طين لازب ثم حمأ مسنون ، ثم صلصال كالفخار ، كأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار بعموم قوله : «ما قص عليكم» إلى هذه الأطوار ، ولو قال : من تراب أو طين لما استوعبها.

واعلم أن أكثر الفلاسفة والأطباء أنكروا وجود الجن على ما ورد به الشرع ، لأنه ورد بأنهم خلقوا من نار ، والنار عنصر واحد ، والجسم إنما يتقوم من العناصر الأربعة بتفاعل كيفياتها بعضها في بعض ، وذلك لا يمكن في العنصر الواحد.

ورد عليهم بوجهين :

أحدهما : بما نبه الله ـ عزوجل ـ عليه في هذه الآية ، وهو أنهم خلقوا من مارج من نار ، وهو النار المختلفة بالدخان كأنهما مزجا ، أي : خلط أحدهما بالآخر ، وأنت ترى بين آخر لهيب النار وأول الدخان شيئا يجمع بين الحمرة والسواد ولطافة النار وكثافة الدخان ، كأنه مركب منهما ، فذلك هو المارج ، وليس ذلك نارا صرفا بل خالطه لطيف العناصر الأربعة ؛ لأن الدخان لطيف الوقود والوقود جسم طبيعي مؤلف من العناصر الأربعة ، فالدخان لطيف العناصر ، وذلك يمكن تأليف الجسم منه وإن كان لطيفا للطف مادته ، ومن ثم كان للجن قوة النفوذ في بعض الكثائف والطيران في الهواء والتشكيل / [١٩٦ ب / م] بالأشكال المختلفة ؛ لأن الدخان كذلك ، ألا تراه يخرج من مسام الجدران ويرتفع في الهواء شبيها بالغمام ، ويتشكل بالأشكال ، تارة مستديرا ، وتارة مستطيلا ، وتارة مربعا ، ومن ثم كانوا أصبر على النار ، وأقوى على علاجها وسياستها من البشر ؛ لأنها والدخان الذي هو من آثارها مادتهم ، ألا ترى أن البشر لما غلبت عليهم الطينية والمائية كانوا أصبر على الماء منهم على النار للمناسبة بينهما ، وقياس العكس يقتضي أن الجن أصبر على النار منهم على الماء للمضادة بينهما.

الوجه الثاني : أنهم من العناصر ، غير أن الجزء الناري لما غلب عليهم ، قيل : خلقوا من نار ؛ تغليبا له في الذكر تبعا للواقع في الحقيقة ، كما قيل للإنسان : خلق من تراب لغلبته عليه ، وإن كان مخلوقا من العناصر.

[والشيخ علاء الدين بن النفيس من متأخري الفلاسفة رد في كتابه : «الشاهد» على

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق [ح ٢٩٩٦].

٦١٥

من أنكر وجود الجن].

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) [الرحمن : ١٧] اختلف في أي الجهتين أشرف المشرق أو المغرب.

احتج المشارقة بوجوه :

أحدها : أن الله ـ عزوجل ـ لم يذكر الجهتين في موضع إلا قدم ذكر / [٤٠٨ / ل] المشرق نحو : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧) [الرحمن : ١٧] ، و (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ) (٤٠) [المعارج : ٤٠] ، (قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) [الشعراء : ٢٨] ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨] الأهم والأفضل وبدايتهم بالأشرف.

الوجه الثاني : أن الفضاء يكون مظلما بوجود الليل ، فلا يضيء إلا بطلوع الشمس من المشرق.

الوجه الثالث : أن أئمة الفقه الأربعة من المشرق ؛ وأئمة الحديث الستة من المشرق ، وأئمة العربية والقراءات من أهل المصرين من المشرق.

الوجه الرابع : أن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ، والأرضين الثلاث التي بورك فيها بنص القرآن وهى أرض مصر والشام وأرض الجزيرة كما بيناه في سورة (قد أفلح) كل ذلك في أرض المشرق ؛ لأن الناس اتفقوا على أن أرض مصر حد ما بين المشرق والمغرب. فما كان من مصر إلى جهة مطلع الشمس فهو مشرق يتناول اليمن والحجاز والشام والعراقين وما بعدها ، والمصر في اللغة : الحد ، ولما ذكرنا سميت مصر مصرا ، قال الشاعر :

وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به

بين النهار وبين الليل قد فصلا

أي : حدا بينهما / [١٩٧ أ / م].

واحتج المغاربة بوجوه :

٦١٦

أحدها : أن الله ـ عزوجل ـ بدأ بالمغرب في سيرة ذي القرنين فقال ـ عزوجل ـ : (فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (٨٦) [الكهف : ٨٥ ـ ٨٦] ثم ذكر بعده المشرق.

وأجيب : بأن ذلك تبع للواقع ، وهو أن ذا القرنين أول ما افتتح وغزا جهة المغرب فوقع الخبر على وفق ذلك ، ولا دلالة له على الشرف والفضيلة.

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (١) ، وفي رواية : «لا يزال أهل المغرب ظاهرين» وهو يقتضي تفضيل المغرب.

وأجيب بأن الصحيح في ذلك في كتاب البخاري من رواية مالك بن يخامر السكسكي عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وهم بالشام» (٢) وهي من حساب المشرق ، وأما لفظ الغرب فلا يثبت ، وإن ثبت فهو محمول على العرب وهم أهل الغرب ، أي : الدلو التي تسقى بها الإبل ، وأكثرهم باليمن والشام ونجد ونحوها.

الثالث : أن المغرب اختص بظهور الأهلة منه التي جعلت مواقيت للناس والحج ، وترمقها أبصار الناس دون المشرق ؛ كما قال الفرزدق :

ترى الغر الجحاجح من قريش

إذا ما الخطب في الحدثان غالا

قياما ينظرون إلى سعيد

كأنهم يرون به هلالا

وأجيب بأنه معارض بأن القمر يبدو من المغرب ممحوقا لا يرى إلا بالمضارة ، وإنما يكمل / [٤٠٩ / ل] بدرا بالمشرق حين يقابل الشمس ، وبأن باب التوبة سعتها أربعين عاما ، ثم إنها تغلق بالمغرب.

الرابع : أن المهدي الذي يملأ الأرض عدلا يظهر من المغرب.

وأجيب بأن المشهور ظهوره من مكة أو اليمن أو العراق ، ونسبة ظهوره إلى المغرب ضعيفة جدا.

قالت المغاربة : نحن لا يظهر الدجال من عندنا ، ولا يأجوج ومأجوج ولا سائر الفتن ،

__________________

(١) أخرجه البخاري كتاب المناقب [رقم ٢٨] [ح ٣٦٤١] ومسلم كتاب الإمارة [١٧٤ ، ١٧٥] [١٠٣٧] انظر الصحيحة للألباني [١ / ٢٧٠] [٤ / ١٩٥٥ ، ١٠٦٢].

(٢) البخاري [٣ / ١٣٣١] ح [٣٤٤٢].

٦١٧

ولا أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بلدنا وقال : «الفتنة من هاهنا» (١).

أجابت المشارقة بأن هذا عدول عن تقرير المناقب إلى التعريض بالمثالب فإن لم يكن الأمر كذلك فيكفيكم أن الشمس التي هي آية النهار ، إنما تغرب عندكم فتظلم الأقطار ، وتغلق باب التوبة من جهتكم فلا ينفع بعد ذلك توبة ولا استغفار ، (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) [الأنعام : ١٥٨].

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) [الرحمن : ٢٢] / [١٩٧] قيل : من الملح منهما دون الحلو ، وقد بينا أن الصواب خلاف ذلك في فاطر.

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) [الرحمن : ٢٧] قيل : ذاته ، وقيل : صفة له ، وقد سبق القول فيه في آخر الزمر.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) [الرحمن : ٢٩] ينبغي ألا يغفل عن هذه الموحدون ، فلا يطلبون من غير الله ـ عزوجل ـ ولا يسألون ، ومن يسأله الملوك كيف يعرض عن سؤاله الصعلوك.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢٩) [الرحمن : ٢٩] ليس هذا على جهة البداء ، بل هو على جهة التصرف الأحق على وفق التقدير السابق.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) (٣٧) [الرحمن : ٣٧] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١) [الانشقاق : ١] ونحوه يدل على أن الأجرام العلوية تقبل الخرق والالتئام ، خلافا للفلاسفة كما سبق.

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) (٥٦) [الرحمن : ٥٦] فيه أن الجن يطمثون النساء ، وربما أشعر هذا بأن مؤمنيهم في الجنة ، وليست دلالته بالقوية

__________________

(١) رواه البخاري [٣ / ١١٣٠ ، ١٢٩٣ ، ٤ / ١٥٩٥ ، ٥ / ٢٠٢٩ ، ٦ / ٢٥٩٨] ح [٢٩٣٧ ، ٣٣٢٠ ، ٤١٢٨ ، ٤٩٩٠ ، ٦٦٧٩ ، ٦٦٨٠] ورواه مسلم [٤ / ٢٢٢٨ ، ٢٢٢٩] ح [٢٩٠٥] وأحمد [٢ / ٢٢] ح [٤٧٥٤].

٦١٨

على ذلك ، والنصوص وردت بأن عصاتهم في النار ، أما أن مؤمنيهم في الجنة فاختلف فيه ؛ فقيل ، نعم بالقياس على مؤمني الإنس بجامع الإيمان والطاعة ، وقيل : لا لعدم النص فيه ، ومثله لا يثبت بالقياس ، فعلى هذا قيل : يصيرون ترابا أو يفنون بوجه من وجوه الفناء كالبهائم ، وهو بعيد ، والأشبه مشاركتهم في الرضوان لمشاركتهم في الإيمان.

(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) (٦٨) [الرحمن : ٦٨] يحتج به على جواز عطف الخاص على العام ، وهو المثال المشهور فيه.

وقال بعض الفضلاء : ليس هذا من أمثلة ذلك ؛ لأن شرطه أن يكون المعطوف عليه عاما يتناول المعطوف بعمومه ثم يعطف بعد ذلك ، تخصيصا له بالذكر كجبريل وميكائيل عطف على عموم ملائكته ، وليس هذا كذلك ؛ لأن فاكهة نكرة في سياق إثبات ، فهي مطلق لا عام ، فلم يتناول النخل والرمان / [٤١٠ / ل] حتى يكون عطفهما عليها عطف خاص على عام ، وهذا كلام صحيح وتحقيق جيد ، غفل عنه أكثر الناس ، بل كل من رأينا كلامه فيه ، وإنما نبه عليه الشيخ الإمام العالم الفاضل شهاب الدين القرافي المالكي في بعض كتبه.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) [الرحمن : ٧٨] يحتج به من رأى أن الاسم هو المسمى لأن التسبيح له لا لاسمه ، فحيث أوقع التسبيح والتنزيه على الاسم دل على أنه المسمى وقد سبق جوابه ، ويحتمل أنه عبر عن المسمى باسمه مجازا للعلاقة بينهما.

* * *

٦١٩

القول في سورة الواقعة

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٤٧) [الواقعة : ٤٧] هذا إنكار منهم للبعث ، وقد سبقت أدلته ، والله ـ عزوجل ـ أجاب بإثباته مراغمة لهم بقوله / [١٩٨ أ / م] ـ عزوجل (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠] ثم برهن عليه بقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩) [الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩] وهو احتجاج على الإعادة بالإبداء ، أي : كما خلقكم نطفا ثم ما بعدها من الأطوار حتى سواكم بشرا كذلك يعيدكم ثانيا ، وفيه دليل على أن الخالق للولد هو الله ـ عزوجل ـ لا أبواه ، خلافا لمن ظن ذلك ، ومما يدل عليه أن الأبوين قد يريدان الولد فلا يوجد ، وقد يكرهانه فيوجد ، وكذلك صفاته تخالف [إرادتهما] ، ولو خلقاه لكان بحسب [إرادتهما] وجودا وصفة.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦١] يحتج به التناسخية على رأيهم في تنقل أرواح الحيوان بعضها في بعض لتكمل ثم تلحق بعالمها ، واحتجوا بوجهين :

أحدهما : أن القرآن ورد بأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وصحت السنة المبينة للقرآن أن «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر ، تعلق من شجر الجنة ، وتأوي إلى قناديل تحت العرش» (١) قالوا : ولا نعني بالتناسخ إلا هذا ولا زدنا عليه ، وهو انتقال روح حيوان إلى حيوان آخر.

الثاني : أن كتب كالكتب الاثني عشر وتواريخ المتأخرين كتاريخ ابن عساكر تضمنت أن بختنصر البابلي بقي منتقلا في أنواع الحيوان سبعا ثم فرسا ثم جارحا وغير ذلك سبع سنين ثم أعيد إنسانا ، وكان يخلفه في الملك في مدة نسخ روحه دانيال النبي ، وكان من جملة أسراه الذين أسرهم من بيت المقدس ، قالوا : وهذا حقيقة النسخ.

وأجيب عن الأول بأنه نسخ أمد والذي تدعونه أنتم نسخ أبد.

__________________

(١) رواه مسلم كتاب الإمارة [١٢١] [١٨٨٧] والترمذي كتاب تفسير القرآن [٣٠١١] وابن ماجة كتاب الجهاد [٢٠٨١].

٦٢٠