الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

وبيانه أن الله ـ عزوجل ـ أراد إكرام الشهداء ، فعلق أرواحهم بأبدان طير يتنعمون / [٤١١ / ل] بواسطتها إلى حين البعث ، ثم تعاد أرواحهم إلى أجسادهم الأصلية ، وأنتم تثبتون تناسخكم أبدا معطلا للبعث والمعاد ، فأحد النسخين غير الآخر.

وعن الثاني بأن كتب الأولين وتاريخ المتأخرين لا يعتمد عليها في مثل هذه المطالب المهمة ، ولئن سلم فذلك في حق بختنصر مسخ لا نسخ ، مسخ في تلك الأطوار ليحدث له بذلك اعتبار ، والفرق بينهما أن المسخ قلب الصورة مع بقاء النفس والمادة بحالهما ، كقلب الإنسان قردا أو خنزيرا ، والنسخ نقل النفس عن هيكلها إلى هيكل آخر ، وهو فرق واضح ، والمسخ ثبت في الشرع في بني إسرائيل.

والنسخ لم يثبت إلا في أرواح الشهداء على ما زعمتم وألزمتم ، وهو أمدي لا أبدي.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢) [الواقعة : ٦٢] احتجاج على الإعادة بالإبداء كما سبق / [١٩٨ ب / م] آنفا.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦٣) [الواقعة : ٦٣] يحتمل على أنه احتجاج على البعث بقياس إحياء الأرض بالزرع ؛ لأن إنكار البعث قد تقدم من الكفار آنفا ، ويحتمل غير ذلك كالامتنان عليهم.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) (٨٣) [الواقعة : ٨٣] إلى (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) [الواقعة : ٨٥] يحتج به الاتحادية كما مر ، [ومعناه عند الجمهور] : نحن أقرب إليه منكم بقدرتنا ورسلنا وعلمنا ونحو ذلك.

* * *

٦٢١

القول في سورة الحديد

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) [الحديد : ١] هو ونظائره كقوله عزوجل : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤) [الإسراء : ٤٤] ، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) [النور : ٤١] ، (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) [الحديد : ٢] إسناد للإحياء والإماتة إلى القدرة ، وأما توجيهه عقلا ، فإن الروح عالم لطيف يقال : إن الملائكة لا ترى الروح كما أنّا نحن لا نرى الملائكة ، فذلك العالم اللطيف إذا شابك هذا العالم الجسماني الكثيف حركه وصرفه فعد حيا ، وإذا فارقه عد ميتا ، وإذا لم يحله ابتداء سمي مواتا ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٥) [الإسراء : ٨٥].

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣] أي هو الأزلي الأبدي ، فالأول هو الذي لم يسبق وجوده عدمه ، والآخر من لم يلحق وجوده عدمه.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣] هو عند الجمهور ظاهر آثاره الدالة عليه ، باطن بذاته إذ لا يصل الحسن ولا الوهم إليه ، وعند الاتحادية هو باطن ظاهر بحسب الأطوار والمظاهر ، فإذا تطور ظهر ، وإذا لم يتطور بطن ، أو هو ظاهر بحسب تحريكه للعالم ، باطن بحسب سريانه في الوجود سريان الماء في العود.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣) [الحديد : ٣] استدل به الجمهور على أن ظهوره / [٤١٢ / ل] وبطونه بحسب آثاره وعلمه.

والاتحادية على أنهما بحسب ذاته السارية في العالم ، ولذلك علم كل شيء لتخلله الأشياء بذاته ، وهكذا الخلاف في قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها

٦٢٢

وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) [الحديد : ٤] (وَهُوَ مَعَكُمْ) بذاته عندهم ، وبعلمه عند الجمهور.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠) [الحديد : ١٠] احتج بها الجمهور على أن أبا بكر أفضل من علي ؛ لأن أبا بكر كان موسرا مثريا ، فأنفق وقاتل قبل الفتح ، [وكان علي] فقيرا لا مال له ينفقه قبل الفتح ، وإنما حصل له القتال فقط. ففاز أبو بكر عليه بمجموع الوصفين ، ولم يحصل لعلي إلا أحدهما.

واعترضت الشيعة بأن قالوا : لا نسلم أن أبا بكر كان موسرا ، والمنقول عندنا خلاف ذلك ، سلمناه لكن لا نسلم أنه أنفق شيئا لا قبل الفتح ولا بعده ، سلمناه لكن لا نسلم أن عليا فقيرا ، لأنه نهض في المغازي والحروب مع / [١٩٩ أ / م] النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوائل الناس ، ولم يزل يغنم ويفاء عليه وينفل ، وقال : كنت إذا سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطاني ، وإذا تركت ابتدأني ، وقد كان له سهم من تلك الغنائم والأنفال ، وهي كثيرة جدا وبدون ذلك يثرى المثري ، وكيف وقد روي عن علي أنه قال : إن زكاة مالي اليوم أربعون ألفا ، رواه أحمد في المسند ، وهذا يقتضي أن ماله بلغ ألف وستمائة ألف لا تنافي زهده في الدنيا ؛ لأن الزهد راجع إلى احتقار الدنيا وعدم الاكتراث والاحتفال وتعلق الهمة بها ، وكانا ملكين ، وملك سليمان الدنيا ، فمن زعم والحالة هذه أن عليا كان فقيرا ، قد كابر.

غاية ما في هذا الباب أنه كان يؤثر بماله ، فيمر عليه الوقت [بعد الوقت] ولا شيء له ، ثم يفتح عليه عن قريب ، وكانت ثروته بعد [تزوجه بفاطمة] فلا ينافيها دفعه لها درعه الحطيمة مهرا ، سلمنا أنه كان فقيرا فلم ينفق قبل الفتح لكن ما ذكرتموه يقتضي أن ما بعده في الفضيلة [عندكم من العشرة] وغيرهم ممن كان موسرا فأنفق وقاتل قبل الفتح أفضل منه كطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وغيرهم ، كلهم كانوا موسرين ، وكلهم أنفق وقاتل قبل الفتح ، فيلزمكم أنهم أفضل من علي لما عللتم به ، وهو خلاف مذهبكم ، ثم ذكرتموه لو دل لكان معارضا بقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ

٦٢٣

فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٩٥) [النساء : ٩٥] / [٤١٣ / ل] وهو يقتضي أن الأكثر جهادا أفضل ولا يشك منصف عالم أن عليا كان أكثر جهادا من أبي بكر وأحسن أثرا فيه ، وأشهر أياما ، وأكثر قتلى مشهورين وغيرهم ، فيكون أفضل بهذا الاعتبار.

والكلام في هذه المسألة من الطرفين طويل ، وهذا حظ هذه الآية منه.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧) [الحديد : ١٧] لعل هذا دليل على قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١٥٦) [آل عمران : ١٥٦] في أول السورة ، إذ لم يذكر دليله هناك ، وهو الدليل المشهور بالقياس على إحياء الأرض.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١) [الحديد : ٢١] يحتج به على أن الجنة موجودة قبل الساعة خلافا للمعتزلة ، وقد سبقت المسألة في أوائل البقرة.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢١) [الحديد : ٢١] يدل على أن دخول الجنة بالفضل المحض ، وهو على ضربين :

أحدهما : من يتفضل الله ـ عزوجل ـ عليه بدخولها بمجرد السابقة من غير عمل / [١٩٩ ب / م] أصلا.

والثاني : من يتفضل عليه بالتوفيق لعمل صالح ، ثم يرتب له على ذلك دخول الجنة ، وفى أيهما أفضل خلاف متجه ، وجه تفضيل الأول أنه فقير محض وضيف للكريم محض ، ليس له سبب يشركه مع كرم الكريم ، بخلاف صاحب العمل ؛ فإنه ربما عرض له عمله مع

٦٢٤

الكرم فيكون نقضا في الرتبة ؛ ولأن نسبة الأول إلى الثاني نسبة الضيف المحض إلى صاحب الهدية ، والكريم أشد عناية بضيفه المحض من غيره.

ووجه تفضيل الثاني انه امتثل الأوامر وقام في خدمة الآمر ، فكان أفضل من البطال القاعد والكسلان المتقاعد ، ولا نسلم أن مثل هذا يرى عمله مع الكرم ، لأن الحق سبحانه أول ما يوفق من يتفضل عليه للمعرفة والتبصير بآفات الأعمال ، فلا يرى غير كرم ذي الجلال ، وأما صاحب الهدية فهو ضيف خاص فهو أفضل من الضيف المجرد ، وأوفر حظا من العناية به.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢) [الحديد : ٢٢] إلى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (٢٣) [الحديد : ٢٣] هي عظيمة النفع لمن تأملها في التعزية عن المصائب ولحوق المكاره ، وتنبني على ذلك مقدمات :

الأولى : أنه ـ عزوجل ـ أزلي العلم.

الثانية : أنه ـ عزوجل ـ عام العلم بما كان وما يكون ، وما هو كائن من كليات العالم وجزئياته.

الثالثة : أن ما سواه ـ عزوجل ـ ممكن لذاته.

الرابعة : أن الممكن لذاته قد يكون حالا لغيره ، بأن يتعلق العلم الأزلي بوقوعه ، فيجب أو بعدمه فيمتنع.

إذا ثبتت هذه المقدمات فالعارف بها يعلم أن مصائبه واجبة الوقوع ، وكل واجب الوقوع لا ينبغي أن يحزن لوقوعه كالممتنعات ، ألا ترى أن العاقل لا يحزن لكون الجبل لم ينقلب له ذهبا ، أو ماء البحر لبنا أو عسلا ، أو أحجار الجبال كتبا نافعة ونحو ذلك لعلمه بامتناع ذلك عادة ، فكذلك ينبغي ألا يحزن / [٤١٤ / ل] لمصيبة أو مكروه لحقه ، لأن عدم وقوع ذلك كان ممتنعا.

واعلم أن الإنسان بين خير يرجوه أو شر يتوقعه ، وكل واحد منهما إما أن يحصل أو يفوت ، فهي أربعة ، فما كان من ذلك واجب الحصول فهو ممتنع الفوات ، وما كان ممتنع الحصول فهو واجب الفوات ، والممتنع لا ينبغي أن يحزن على فواته ، والواجب لا يفرح بحصوله ، إذ لا بد منه ، فالحزن أو الفرح المتعلق به تحصيل الحاصل ، وما كان ممكن الحصول والفوات لذاته فهو يرجع إلى أن يكون واجب الحصول أو ممتنعه لغيره ، فتخلص

٦٢٥

أن الإنسان دائر بين أمر واجب الحصول من خير أو شر ، وأمر ممتنع الحصول من خير أو شر ، وكلاهما لا يليق الحزن عليه ولا / [٢٠٠ أ / م] الفرح به ، اللهم إلا أن يتعلق بالحزن أو الفرح استدعاء شرعي فيكون ذلك من باب القربة التكليفية ، وعند هذا يظهر سر قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «لا يؤمن أحدكم» أو «لا يكمل إيمانه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» (١).

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) [الحديد : ٢٥] إشارة إلى أن كتاب الشريعة ، وسيف السياسة رضيعا لبان وفرسا رهان ، لا يستغني أحدهما عن الآخر ، فكتاب بلا سيف كال ، وسيف بلا كتاب ضال ، ويستدل على نفوذ أحكام البغاة والخوارج والأئمة الفجرة ونحوهم ، لأن الحكم الشرعي المرشد والسيف السياسي المنفذ إذا اجتمعا وجب نفوذ الحكم في طريقه ، فلا وجه لتعويقه.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧) [الحديد : ٢٧] احتج به أبو حنيفة على أن النفل يلزم بالشروع ؛ لأنه ـ عزوجل ـ ذم أتباع المسيح على تركهم رعاية ما شرعوا فيه مما لم يكتب عليهم ، وهو عين لزوم النفل بالشروع.

وهذا استنباط حسن ، ولذلك ذكرناه وإن لم يكن [من موضوع] هذا التعليق ، لكن إنما يتم الاستدلال به بعد ثبوت مقدمتين :

إحداهما : أن الاستثناء في (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما

__________________

(١) رواه أبو داود [٤ / ٢٢٥] [٤٧٠٠] ورواه الترمذي [٤ / ٤٥١] [٢١٤٤] ورواه الطبراني في الأوسط [٢ / ٥٦٩] [١٩٧٦] وفي الكبير [٦ / ٢٢] [٦٠٦٠] والقضاعي في مسند الشهاب [٢ / ٦٤].

٦٢٦

كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٧) [الحديد : ٢٧] منقطع وهو خلاف الأصل ، وإذا ثبت أنه متصل ، اقتضى أنها بعد ابتداعهم إياها عقدا كتبت ابتغاء رضوان الله ـ عزوجل ـ ثم شرعوا فيها فعلا ، وحينئذ يكون ذمهم على ترك رعايتها ذما على ترك واجب شرعوا فيه ثم أهملوه ، لا على نفل شرعوا فيه كذلك.

الثانية : أن شرع من قبلنا شرع لنا ؛ لأن ما ذكره تقريع على ذلك ، فإن لم تثبت هذه المقدمة جاز أن يكون ذلك حكم شرعهم دون شرعنا ، فلا يلزمنا حكم شرعهم ، ولا التأسي بهم.

* * *

٦٢٧

القول في سورة المجادلة

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (١) [المجادلة : ١] فيه إثبات صفة السمع ووقوعه بالفعل من الله ـ عزوجل ـ وقد سبق.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٦) [المجادلة : ٦] فيه ضبط الأعمال وحفظها والمقابلة عليها.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧) [المجادلة : ٧] ، معناه بعلمه لاكتناف ذكر العلم ما قبل ذلك وبعده ، [وبذاته السارية في الوجود عند الاتحادية / [٢٠٠ ب].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١) [المجادلة : ١١] قد يحتج به على استواء الإيمان والعلم في حصول الدرجات ؛ لترتب حصولها على كل واحد منهما ، وذلك فيما إذا فرض مؤمن ضعيف العلم ، وعالم ضعيف الإيمان بعد اشتراكهما في أصل الإيمان ، فيكونان متساويين ، وفيه نظر. أما مؤمن غير عالم ، وعالم غير مؤمن أصلا ، فلا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، والمؤمن ناج والعالم هاهنا هالك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢) [المجادلة : ١٢] نسخت بالتي بعدها إلى غير بدل ، ويحتج به على أن النسخ ليس من شرطه المنسوخ إليه وهو البدل ، وهو قد سبق تعلق الشيعة بها في أنه لم يعمل بهذه الآية إلا علي ، وأنه دليل على أنه كان أشدهم طلبا للعلم ، وأكثرهم تحصيلا منه.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ

٦٢٨

الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩) [المجادلة : ١٩] أي : بوسوسته ، وخالق النسيان فيهم هو الله ـ عزوجل ـ وهم كاسبوه.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢] فيه أن مودة العصاة حرام ، ثم إن كانت مودة فاسق لفسقه فهي فسق أو كافر لكفره فهي كفر ، أما ودهما لسبب آخر دنيوي أو صفة أو خلق حسن كعلم يكتسب منهما ، أو سخاء أو شجاعة فيهما فيرجى عفو الله ـ عزوجل ـ عن ذلك ، وأن لا يؤاخذ ، ويكون عموم الآية مخصوصا بهذا.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢] أي : أثبته ورسمه في قلوبهم ثبوت الكتابة ورسمها في المكتوب فيه ، ويحتمل أن المراد : أوجبت في قلوبهم خلق الإيمان ، وكتب يكون بمعنى أوجب نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣) [البقرة : ١٨٣] ونحوه ، والمعنى أن قوة إيمانهم أوجبت لهم إيثار الله ـ عزوجل ـ على غيره حتى أقرب أقاربهم ، فأبغضوا في الله ـ عزوجل ـ وأحبوا في الله ـ عزوجل ـ ومن فعل ذلك فقد استكمل الإيمان.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢] أي قواهم بإعانة وعناية منه ، وقيل : الأرواح أربعة : روح الحياة مشتركة بين جميع الحيوان ، وروح الإيمان يختص به المؤمن على الكافر ، وروح الولاية ، وروح النبوة كل مختص بروح ومؤيديه ، ومنه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧) [البقرة : ٨٧] فإذا زنى المؤمن أو سرق خرج منه روح الإيمان ، فكان عليه كالظلة ، فإذا / [٤١٦ / ل] أقلع عاد

٦٢٩

إليه ، وهو معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» (١) الحديث ؛ لأن بخروج روح الإيمان عنه / [٢٠١ أ / م] خرج عن وصف الإيمان الكامل ، فيرجع حاصله إلى أنه لا يزني وهو كامل الإيمان ، وإلا فلو قتله حال الزنا أفضل المؤمنين أقيد به ، ولو خرج بالزنا عن الإيمان بالكلية لما كان كذلك.

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه كتاب المظالم ح [٢٤٧٥] ومسلم في كتاب الإيمان ح [٥٧].

٦٣٠

القول في سورة الحشر

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) [الحشر : ٢] أي : أتاهم بأسه وأمره ، عند الجمهور ، وأتاهم بذاته عند الاتحادية ؛ لأنه سار فيهم بذاته ، فلما غضب عليهم ظهر لهم بمظهر البأس والغضب فأهلكهم ، والصواب أنه حرك عليهم جنده بخلق دواعي الجهاد في قلوبهم فأهلكوهم ، وقذف في قلوبهم الرعب ما خلق فيها من الأسباب الموجبة لذلك.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) [الحشر : ٢] احتج مثبتو القياس بهذه الآية ، وتقريره أن الاعتبار مأمور به والقياس اعتبار ، فالقياس مأمور به ، أما الأولى فلهذه الآية (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) [الحشر : ٢] وأما الثانية : [فإن القياس عبور] بالحكم من الأصل إلى الفرع ، كما أن الاعتبار عبور بالنظر من حال الحاضر إلى حال الغائب ، فصح أن القياس اعتبار وثبت أن القياس مأمور به ، وإن شئت قلت : القياس اعتبار ، والاعتبار مأمور به ، والتقرير كما سبق. وهذا أجود ؛ لأنه من الشكل الأول ، واعترض عليه بوجوه :

أحدها : لا نسلم أن القياس اعتبار ؛ لأنه إن أريد ذلك لغة فالقياس في اللغة إنما هو التقدير نحو : قست الثوب بالذراع ، أي : قدرته ، وإن أريد اصطلاحا فهو في الاصطلاح :

حمل معلوم على معلوم ، أو إلحاق غير المنصوص به بجامع مشترك ، ولقائل أن يقول : الحلم والإلحاق هو معنى الاعتبار.

الثاني : قولكم : الاعتبار مأمور به ، إن عنيتم بعض الاعتبار صارت كبرى قياسكم جزئية

٦٣١

فلم تنتج وهو ظاهر ، وإن عنيتم أن كل اعتبار مأمور به لم نسلم هذه الكلية ؛ لأن قوله ـ عزوجل ـ (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) [الحشر : ٢] ليس بعام ، بل هو مطلق لا عموم له ، فلا يقتضي عموم الأمر بالاعتبار ، إنما يقتضي الأمر باعتبار ما ، وذلك لا يلزم منه الأمر بالقياس.

الثالث : أن سياق الآية لا يقتضي إثبات القياس ؛ إذ قوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) (٢) [الحشر : ٢] لا يناسب : فقيسوا السمسم على البر في منع التفاضل في البيع ، وإذ لم يكن الكلام منتظما لم يجز نسبته إلى القرآن.

الرابع : لو دلت هذه الآية على القياس / [٤١٧ / ل] ، [٢٠١ ب / م] لدل قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (١٣) [آل عمران : ١٣] عليه وما في معناه ، وهو بعيد لتوغله في العموم ، فلا يدل على القياس إلا على بعد.

الخامس : ما ذكرتموه من الدليل لو دل لكان عندنا ما يعارضه ، وهو أن القياس إنما يفيد الظن ، والظن لا يجوز اتباعه في أحكام الله ـ عزوجل ـ ولأنا مأمورون عند التنازع والاختلاف بالرجوع إلى الله ـ عزوجل ـ ورسوله ، والقياس ليس كذلك ، وقد سبقت هذه المعارضة وجوابها.

واعلم أن القياس في الفروع دليل قوي جيد ، غير أن هذه الآية لا تدل عليه إلا دلالة ضعيفة من وراء وراء.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ

٦٣٢

فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) [الحشر : ٧] هذا عام مطرد إلا ما خص منه بنسخ أو غيره ، وهو أصل كبير وقاعدته كلية في استخراج الأحكام من الكتاب بواسطة السنة ، وهو مقدمة كبرى في كل قياس حكم أردنا إثباته بأن نقول : هذا الحكم آتاناه الرسول ، وكل ما كان كذلك لزمنا الأخذ به ، أو هذا الحكم نهانا عنه الرسول ، وكل ما كان كذلك لزمنا اجتنابه ، ومتى ثبتت الصغرى بالسنة أو نحوها فالكبرى ثابتة بهذه الآية ، مثاله أن نقول : إفراد الإقامة ، وصحة الصوم مع الأكل ناسيا ، وجواز الخروج من النوافل بعد الشروع فيها ـ أحكام آتاناها الرسول ؛ وكل ما آتاناه الرسول نحن مأمورون بالأخذ به ، فهذه الأحكام نحن مأمورون بالأخذ به ، وكذلك نقول : بيع الغرور وبيع الكلب والسنور نهانا عنه الرسول [وكل ما نهانا عنه الرسول] لزمنا الانتهاء عنه ، فهذه البيوع يلزمنا الانتهاء عنها ، وتقرير الصغرى بالأحاديث الواردة فيها ، وقد اعتمد السلف على هذه القاعدة في استخراج الأحكام ، فلما لعن ابن مسعود النامصة نحوها ، أنكرت عليه أم يعقوب ـ امرأة من الأنصار ـ وقالت : «قد قرأت ما بين الدفتين فلم أجد لعنة من لعنت ، فقال : إن كنت قرأته فقد وجدته ، ألم تسمعي قول الله ـ عزوجل ـ : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) [الحشر : ٧]؟ ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلعن النامصة والمتنمصة [والواشرة والمستوشرة] المغيرات لخلق الله ـ عزوجل ـ أو كما قال ، ونظم قياسه هكذا : لعن هذه جاء به الرسول ، وكل ما جاء به الرسول شرع الأخذ به ، فلعن هذه شرع الأخذ به ، وكذلك حكي عن الشافعي ـ رضي الله عنه ـ أنه جلس في المسجد / [٢٠٢ أ / م] يفتي وقال : لا تسألونني عن شيء إلا جئتكم / [٤١٨ / ل] به من كتاب الله ـ عزوجل؟ فقال الشافعي [: قال الله عزوجل] : (وَما آتاكُمُ) [الحشر : ٧] ، ثم روى بإسناده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» (١) منها الحية والعقرب ، والزنبور مثلهما فيقتل ولا شيء فيه ، وهذا دليل مركب من نص كتاب وسنة وقياس ، وشبيه بهذا الدليل في كليته وعمومه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه كتاب جزاء الصيد [٤ / ٤٢ / رقم ١٨٢٩] ومسلم في صحيحه بشرح النووي [٨ / ١٦٦ / رقم ٦٨ ـ ١١٩٨].

٦٣٣

عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١) إذ هو مقدمة كبرى في كل حكم أردنا إبطاله ، بأن يقال : هذا الفعل أو هذا الحكم عمل ليس عليه أمر الشرع ، وكل ما ليس عليه أمر الشرع فهو مردود ، فهذا الفعل مردود. ومثاله الوضوء غير المنوي ، والنكاح بلا ولي ، وبيع الغائب والفضولي ، كل واحد منها ليس عليه حكم الشرع فيكون مردودا ، ويحتاج أيضا إلى تقرير الصغرى بدليلها ، والكبرى ثابتة بهذا الحديث ، ثم الحديث راجع إلى مادة الآية المذكورة ؛ إذ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، «ما أتيتكم فخذوه وما نهيتكم عنه فاجتنبوه» كما صرح به في حديث آخر.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) [الحشر : ٨] إلى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠) [الحشر : ١٠] استدل به مالك على كفر الرافضة ، ووجه أن (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) [الحشر : ٨] متعلق بقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) [الحشر : ٧] ثم قال ـ عزوجل ـ (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) [الحشر : ٨] وعطف عليهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) [الحشر : ٩] وهم الأنصار ، ثم عطف (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه كتاب الصلح ح [٢٦٩٧] ورواه مسلم كتاب الأقضية [١٧١٨].

٦٣٤

بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠) [الحشر : ١٠] بشرط أن يستغفروا لمن قبلهم من إخوانهم السابقين لهم بالإيمان ، والرافضة خارجون عن الأصناف الثلاثة ، فليس القوم مهاجرين ولا أنصارا ولا مستغفرين لمن سبقهم بالإيمان ، بل يسبون السلف ويبغضونهم ، فإذن لا حظ لهم في الفيء ، وكل من لا حظ له في الفيء كافر ، إذ الفيء حق المسلمين ، فمن لا حق له فيه ليس بمسلم ، وأجابت الشيعة [لعنهم الله] بأن (للفقراء) لو كان متعلقا بما أفاء الله لكان بدلا منه ، ولو كان بدلا منه لزم صرف الفيء عن الجهات الست المنصوص عليها في المبدل منه إلى عموم الثلاث المذكورة في البدل ، وهم المهاجرون والأنصار / [٢٠٢ ب / م] والتابعون لهم لا غير ، وإنه باطل ، إذ فيه إسقاط خصوص تلك الجهات الست فيبقي ذكرها / [٤١٩ ل] لغوا ، ولأن ظاهر الآيات يختص بقوم ماضين وهم : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٠) [الحشر : ٨ ـ ١٠] فلا يتناول من يتجدد ، ثم حاصل نظم الدليل المذكور أن المذكور أن الرافضة لا حظ لهم في الفيء ، وكل من لا حظ له في الفيء كافر ، والأولى ممنوعة ، لأن الله ـ عزوجل ـ أضاف الفيء إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وهو يتناول الرافضة كغيرهم ، فهذه الدعوى على خلاف القرآن ، فلا تسمع.

والثانية : باطلة بعبيد المسلمين ، إذ لا حظ لهم في الفيء وليسوا كفارا ، وإذا تقرر هذا الجواب ، وجب حمل قوله ـ عزوجل ـ : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) الآيات ، على مدح مستن أنف لهذه الفرق غير متعلق بما قبله ، نحو : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) صفة الصدق بدليل آخر الآية ، أو غيره من التأويل (١).

__________________

(١) انظر مجموع الفتاوى [٣٢ / ٦١].

٦٣٥

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٣) [الحشر : ١٣] ، تدل على أن من خاف غير الله ـ عزوجل ـ فليس بفقيه بل هو جاهل ؛ لأن الخوف إنما يكون من شر أو ضرر يلحق والله ـ عزوجل ـ هو خالق كل شيء ، شر وخير ونفع وضرّ ، لا يكون شيء من ذلك إلا بإذنه ، فمن خاف معه غيره فتوحيده مدخول ، وإنما يطرأ ذلك على الإنسان لنقص في توحيده أو غلبة من طبعه عليه.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠) [الحشر : ٢٠] ذهب قوم إلى أن هذا يقتضي عموم نفي المساواة بين الفريقين من كل وجه ، حتى أدرجه تحته أن الذمي لا يكافئ المسلم ليقتل به. وذهب آخرون إلى أنه لا يقتضي العموم ، وقد انتفت المساواة بينهما في أحكام كثيرة ، ولا دليل على عدم التساوي بين المسلم والذمي في القصاص حتى تندرج تحت نفي التسوية المستفاد من الآية ، فيقتل المسلم بالذمي لثبوت المكافأة بينهما بدليل منفصل ، وهو ما سبق في البقرة.

حاصل الأمر أن نفي التسوية في هذه الآية عام ، فيتناول نفي التسوية بينهما في القصاص ، أو مطلق فلا يتناول ، والظاهر أنه عام ؛ لأن قولنا : لا يستوي فلان وفلان ، معناه : لا استواء بينهما ؛ إذ الفعل يدل على المصدر ، وهو الاستواء ، فهو نكرة في سياق نفي فتعم ، والخصم يقول : إن قولنا : لا يستوي فلان وفلان ـ أعم من أن يكون من كل جهة ، أو من جهة خاصة ، بدليل قبوله للاستفسار والتقسيم / [٢٠٣ أ / م] بأن يقال : هل هما لا يستويان مطلقا أو من بعض الجهات ، وان يقال : إذا كانا لا يستويان فلا يخلو إما ألا يستويا من كل جهة أو من بعض الجهات دون بعض؟ ولو اقتضى عموم نفي المساواة بينهما لما قيل ذلك.

وقد رجع / [٤٢٠ / ل] الخلاف إلى أن صيغة لا يستويان هل تقتضي عموم نفي التسوية أو نفي عموم التسوية ، والفرق واضح بين عموم السلب وسلب العموم ، فعموم سلب الحقيقة يمنع ثبوت شيء من أفرادها ، وسلب عموم الحقيقة لا يمنع ثبوت بعض أفرادها ، وقد ظهر ذلك في قوله :

قد أصبحت أم الخيار تدعي

عليّ ذنبا كله لم أصنع

برفع كله على عموم السلب وبنصبه على سلب العموم ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث ذي اليدين : «كل ذلك لم يكن» (١) برفع كل لا غير على عموم السلب ؛ لأنه أراد نفي

__________________

(١) مسلم [١ / ٤٠٤] [٥٧٣] ، رواه البخاري [١ / ٢٥٢ ، ٤١١ ، ٤١٢] [٦٨٢ ، ١١٦٩ ، ١١٧٠].

٦٣٦

النسيان وقصر الصلاة جميعا ، وقول الشاعر :

 ...

وما كل من وافى منى وأنا عارف

على سلب العموم ، والفرق بينهما من جهة التركيب أن العموم والسلب أيهما تقدم لفظه أضفته إلى الآخر ، فإن تقدم لفظ العموم على أداة السلب ، فهو عموم السلب كما في الحديث ، وإن تقدم لفظ السلب فهو سلب العموم كالبيت الأخير ، وأما البيت الأول فيحتلهما ، بناء على أن تقديره : كله لم أصنعه أو لم أصنع كله ؛ فعلى الأول : هو عموم سلب الصنع ، وعلى الثاني : هو سلب عموم الصنع وعلى هذا التقدير ربما ظن أن لا يستوي كذا وكذا من باب سلب العموم لتقدم حرف السلب ، وليس كذلك ، والفرق بينهما أن سلب العموم شرطه أن يدخل حرف السلب على لفظ عام تحته متعدد ، فإذا سلب عمومه بقي الحكم في بعض أفراده ، نحو : لم أضرب كل الرجال بخلاف لا يستويان ؛ فطن حرف السلب دخل في المعنى على ماهية الاستواء فنفاها ، الماهية من حيث هي هي لا تعدد فيها ولا اتحاد فلم يبق بعد سلبها شيء يثبت له الحكم ، فلهذا قلنا : إن صيغة لا يستوي كذا وكذا ، من باب عموم السلب لا سلب العموم ، وهذا بحث استطردناه بديهة فلك النظر فيه.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) [الحشر : ٢١] هذا خرج مخرج المبالغة في تعظيم القرآن وغفلة الكفار عنه ، أي أن هذا القرآن عظيم تتصدع لسماعه الجبال ، وأنتم عنه غافلون ، فهو كقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) (٦٨) [ص : ٦٨].

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٤) / [٢٠٣ ب / م]) [البقرة : ٧٤] هذا مع إمكان خشوع الجبال وتصدعها من خشية الله ـ عزوجل ـ إذا اقترنت بها إرادة ذلك ، ويشهد لذلك وقوعه (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) [الأعراف : ١٤٣].

* * *

٦٣٧

القول في سورة الممتحنة

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧) [الممتحنة : ٧] هذا بتقليب القلوب بما يخلق فيها من دواعي الصلح والمودة والصوارف عن البغضاء والعداوة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الممتحنة : ١٠] يحتج به على أن الظن نوع علم ؛ لأن الامتحان إنما يفيد الظن وقد سمي علما بدليل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠) [الممتحنة : ١٠].

وجوابه أنه ـ عزوجل ـ أطلق العلم على الظن مجازا ، وقد سبق نظيراه في «سبحان» و «يوسف».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣) [الممتحنة : ١٣] ، فيه النهي عن موالاة الكفار وكل مغضوب عليه ، وأن الكفار آيسون من الآخرة لا حظ لهم فيها ، وأنهم آيسون من الموتى لإنكارهم البعث ، بخلاف المؤمنين فإنهم يرجون التلاقي في الآخرة ، كما حكي عن الشيخ أبي الوفاء بن عقيل البغدادي أنه مات له ولد فوجد عليه ، فقال في أثناء وجده عليه : لو لا رجاء التلاقي في الآخرة لتصدّعت قلوب المحبين عند فراق أحبتهم ، أو كما قال.

* * *

٦٣٨

القول في سورة الصف

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) [الصف : ٣] فيه أن خلف الوعد ونقض العهد والتفريط فيما التزم من حقوق الإيمان من الكبائر ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ جعل ذلك مقتا كبيرا والمقت أشد البغض ، وقد نزل ذلك منزل نكاح زوجة الأب ، والجدال في آيات الله ـ عزوجل ـ بغير سلطان ، إذ وصفهما بالمقت.

(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٦) [الصف : ٦] فيه إثبات رسالة المسيح وشهادته وبشراه برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا موجود في فصل الفارقليط من إنجيل يوحنا ، ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفاته [على ما قررناه هناك].

* * *

٦٣٩

القول في سورة الجمعة

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢) [الجمعة : ٢] الأمي الذي لا يحسن الكتابة ، نسب إلى الحالة التي ولدته عليها أمه ، وقيل : إلى غالب أمة الناس ، لأنهم كذلك ، وفيه شهادة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه كان أميا تحقيقا لمعجزة الفرقان ، ردا على من يتوهم أنه كان كاتبا ، وإنما / [٢٠٤ أ / م] كتم أمره ، وقد أكد ذلك تسليم أعدائه كونه أميا ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب» (١).

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) / [٤٢٢ / ل] [الجمعة : ٥] أي : لم يقوموا بما فيها تكلفا (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) [الجمعة : ٥] يدل على أن مقصود العلم العمل ، وأن العلم بلا عمل بلادة وجهل.

(وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (٧) [الجمعة : ٧] سبق في البقرة.

(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨) [الجمعة : ٨] أي : لا محيص لكم عنه ، ولات حين مناص منه ؛ لأنه إما طبيعي يضعف القوة عن إخلاف ما يتحلل من البدن ، أو عرضي بقتل أو غرق أو هدم أو طاعون ونحوه من الأسباب ، فمن تخطاه العرضي تلقاه الطبيعي ، والجميع بتقدير العزيز العليم سبحانه وتعالى.

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الصوم ح [١٩١٣] ومسلم في كتاب الصيام [١٠٨٠].

٦٤٠