الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

ـ عزوجل ـ ليس بذاته داخلا تحت الكرة ؛ وهذا يقتضي قطعا أن ذاته متناهية من جهة داخل كرة العالم ؛ لأن كل ذات خلا منها مكان أو جهة فهي متناهية من جهة ذلك المكان ؛ أو تلك الجهة ، وكل جهة تناهت من بعض الجهات لزم تحيزها وانحصارها فيما سوى تلك الجهة التي تناهت منها ، وينتظم الدليل عليهم هكذا ، ذات الله متناهية من جهة كرة العالم ، وكل ذات متناهية من جهة ما فهي منحصرة فيما سوى تلك الجهة ، ينتج أن ذات الله ـ عزوجل ـ منحصرة فيما سوى كرة العالم ؛ فقد لزم هؤلاء من مذهبهم ما فروا من الاتحاد ، وإذا لزمهم المحذور مع التأويل فالتزامه مع عدم التأويل أولى لصيرورة التأويل عبثا بلا فائدة ، هذا أقصى ما أمكن الآن في تقرير شبهة الاتحادية.

والجواب عنها من وجهين : مجمل ، ومفصل ، أما المجمل ؛ فهو أن إجماع المسلمين قاطع بخلاف مذهب الاتحاد ؛ وهو يقتضي بطلانه.

وهذه الشبهة لا ثبوت لها مع الإجماع ، إذ أي شخص من أهل الإجماع تصدى لنقضها.

وأما الشبهة لا ثبوت لها مع الإجماع ، إذ أي شخص من أهل الإجماع تصدى لنقضها.

وأما المفصل ؛ فيطول هاهنا ، ويصرفنا عما نحن بصدده وقد استقصينا هذه المسألة سؤالا وجوابا في التعليق المسمى «بالباهر في أحكام الظاهر والباطن».

وإنما استقصينا شبهة الاتحادية هاهنا ؛ لئلا نحتاج إلى ذكرها في موضع آخر ، ثم كلما مررنا بآية يحتجون بها أحلنا بالكلام فيها على هذا الموضع.

(قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (١٠٤) [الأنعام : ١٠٤] عام مطرد.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٨٦) [هود : ٨٦] ونظائره محكم وعيدي أو منسوخ بآية السيف ، وكذلك (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤) [الحجر : ٩٤] والنسخ فيها أظهر / [١٧٥ / ل].

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٧) [الأنعام : ١٠٧] (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ

٢٦١

(١٣٧)) [الأنعام : ١٣٧] حجة على المعتزلة ، سبق تقريرها ، والاعتراض عليها عند (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) [الأنعام : ٣٥].

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) [الأنعام : ١٠٨] يحتج بها على سد الذرائع ، وحسم مواد الفساد ؛ إذ كان معنى الآية : لا تسبوا آلهتهم فيجعلوا ذلك وسيلة وذريعة إلى سب إلهكم.

ونظيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١٠٤) [البقرة : ١٠٤] كما سبق فيه ، وقاعدة سد الذرائع عظيمة ، وفروعها كثيرة ، قال بها مالك وأحمد ، ومن تابعهما ، خلافا لباقي العلماء ، إذ أجازوا الحيل ، وصنفوا فيها الكتب.

(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) [الأنعام : ١٠٨] سبق القول فيه.

(ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) [الأنعام : ١٠٨] فيه إثبات المعاد.

(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠) [الأنعام : ١١٠] يحتج به على أن الله ـ عزوجل ـ هو مقلب القلوب إلى الهدى أو الضلال ، ولذلك كان النبي [صلى‌الله‌عليه‌وسلم] / [٨٢ ب / م] يكثر أن يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك» (١) ، وذلك إنما هو بخلق الدواعي والصوارف وتصرف الله

__________________

(١) ورد هذا الحديث عن جمع من الصحابة منهم أنس رواه أحمد ح [٣ / ١١٢] وأبو يعلى [٣٦٨٧] ـ [٦ / ٣٥٩] والحاكم في المستدرك [٢ / ٢٨٨] والنواس رواه أحمد من [٤ / ١٨٢] ورواه النسائي [٩ / ٦١] برقم [١١٧١٥] وابن ماجة [١ / ٧٢] والحاكم [٢ / ٢٨٩] وعائشة رواه أحمد [٦ / ٩١] والنسائي [٤ / ٤١٤ / ٧٧٣٨] والترمذي وأم سلمة رواه أحمد [٦ / ٣١٥] وأبو داود ـ ـ [٤ / ٣٢ / ٣٩٨٣] والترمذي [٥ / ١٨٧ / ٢٩٣١ ، ٢٩٣٢] أبو يعلى في مسنده [١٢ / ٤٤٩ ، ٤٥٠ / ٧٠٢٠].

٢٦٢

ـ عزوجل ـ في خلقه إما بطرد العادات ، كطلوع الشمس من المشرق كل يوم أو بخرق العادات كانشقاق القمر ، وطلوع الشمس من المغرب أو بخلق الدواعي والصوارف ، وهو غريب بديع عجيب.

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (١١١) [الأنعام : ١١١] تدل على أنه هو المانع لهم عن الإيمان إلا أن يشاء ، وذلك بما يخلقه في نفوسهم من دواعي الكفر والصوارف عن الإيمان بما يخيل إليهم من أن تلك الخوارق سحر ، فلا يؤمنون بها كما قالوا في انشقاق القمر ، وغيره : إنه سحر مستمر.

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤) [الأنعام : ١١٤] سبق الكلام في مثله.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥) [الأنعام : ١١٥] يحتج به على قدم الكلام ؛ لأنه وصف بالتمام ، والحادث ليس بتام ؛ فكلام الله ـ عزوجل ـ ليس بحادث فهو قديم ، ثم يبقى النزاع في أن الكلام معنى ذاتي أو عبارة مسموعة ، [على ما] سبق.

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) (١٢٠) [الأنعام : ١٢٠] عام مطرد جامع.

(وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ) (١٢٤) [الأنعام : ١٢٤] يحتج بها على عصمة الملائكة والأنبياء ؛ لأنهم جميعا رسل الله وكل رسول معصوم. والحق أنها إنما تدل على صلاح الرسل ، أما العصمة فدليلها غير هذا.

٢٦٣

(فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢٥) [الأنعام : ١٢٥] من قواصم الظهر على المعتزلة ؛ لأنها دلت على أن المؤثر في الهدى والضلال إرادة الله ـ عزوجل ـ وفعله من شرح الصدر / [١٧٦ / ل] وتوسعته أو تضييقه وتحريجه.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠) [الأنعام : ١٣٠] يحتج بها على أن الجن أرسل فيهم رسل منهم كالإنس ، وهي ظاهرة في ذلك ، وهي مسألة خلاف.

فالمثبت لذلك احتج بهذا الظاهر ، والمانع تأول إضافة الرسل إلى الفريقين ، كإضافة اللؤلؤ والمرجان إلى البحرين ، في قوله عزوجل : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) (١٩) [الرحمن : ١٩] ، ثم قال : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) [الرحمن : ٢٢] وإنما هو خارج من أحدها ، وهو الملح ، وليس هذا بشيء ، بل هو خارج منهما بدليل قوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢) [فاطر : ١٢] والحلية هنا هي اللؤلؤ والمرجان هناك ، وقد أخبر أنها من كل واحد من البحرين ، وإنما اعتمد هذا القائل على قول الحكماء الطبيعيين مثل أرسطاطاليس في كتاب الآثار العلوية ، وكتاب الأحجار وغيره ، حيث زعموا أن اللؤلؤ والمرجان لا يتكون إلا في البحر المالح ، والله ـ عزوجل ـ [أخبر منهم] بمخلوقاته ، وعجائب مصنوعاته : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤] غير أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل إلى الجن والإنس ؛ لأنهم قصدوه وسمعوا / [٨٣ أ / م] منه القرآن ، وأخذوا عنه الشرائع ، ولو كان هناك نبي منهم ؛ لامتنع في العادة أن يتركوه ، ويقصدوا غير جنسهم ، وإذا ثبت أن الجن أرسل إليهم رسل منهم ، ثبت أنهم مكلفون مخاطبون كالإنس ، وفي كون كفارهم مخاطبين بفروع الدين ما في كفار الإنس من الخلاف ، وهذه مسألة

٢٦٤

وقعت فذكرناها.

(ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١٣١) [الأنعام : ١٣١] يحتج بها وبنظائرها المعتزلة ، ووجه احتجاجهم أن أفعالهم لو كانت مخلوقة لغيرهم ، لكان إهلاكهم بها ظلما لهم ، واللازم باطل بهذه الآيات ، فالملزوم كذلك ، وأجاب الكسبية بأنها مكسوبة لهم ، والجبرية بأنها لو فوضت إليهم لكانت معاصي يستحقون بها الهلاك ، فعاملهم على حسب علمه فيهم.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (١٣٢) [الأنعام : ١٣٢] وهذا يدل على ما ورد من أن دخول الجنة بفضل الله ـ عزوجل ـ واقتسام درجاتها بالأعمال.

(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (١٣٣) [الأنعام : ١٣٣] يستدل بها على استعمال القياس ؛ لأنه قاس إهلاكهم واستخلاف غيرهم بعدهم على إهلاك من قبلهم ، واستخلافهم بعدهم ، وتلخيصه : يستخلف بعدكم أبناءكم كما استخلفناكم بعد آبائكم ، وهو قياس تمثيل [١٧٧ / ل].

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١٤١) [الأنعام : ١٤١] يحتج به على جواز عطف الوجوب على الإباحة ؛ لأنه عطف إيتاء الحق الواجب على الأكل المباح ، وإذا جاز ذلك جاز عكسه ؛ نحو : (وَآتُوا حَقَّهُ) و (كُلُوا ؛) وكذلك عطف سائر الأحكام بعضها على بعض ؛ ويحتج به أيضا على جواز الخطاب بالمجمل ؛ لأن الحق المذكور مجمل ؛ وبينته السّنّة بنصف العشر أو كماله من خمسة أوسق فصاعدا ، ونحو ذلك من أحكامه.

(ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٤٣) [الأنعام : ١٤٣] يحتج بها على الاستدلال بالسبر والتقسيم.

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ

٢٦٥

وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٤٥) [الأنعام : ١٤٥] حصر المحرمات في هذه الثلاثة ؛ فاقتضى إباحة ما عداها ، ثم خص من ذلك العام بالسنة كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ، وبالقرآن كل مستخبث ، ونقل عن مالك التمسك بهذه الآية في إباحة ما عداها.

(وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) [الأنعام : ١٤٦] عام مطرد في تحريم ذلك على اليهود.

(إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦) [الأنعام : ١٤٦] عام خص بالمستثنيات بعده.

(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (١٤٦) [الأنعام : ١٤٦] دل على أن تحريم الطيبات من العقوبات ، ثم قد يكون بدون عقاب محسوس كهذه الآية.

وقد يكون مع عقاب محسوس كاليهود وغيرهم من الكفار في / [٨٣ ب / م] الآخرة يحرمون الجنة الطيبة ، ويعاقبون بالنار المؤصدة ـ أعاذنا الله ـ عزوجل ـ وإياكم منها.

(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) [الأنعام : ١٤٨] قرئت (كذّب) بالتشديد فلا حجة فيها للمعتزلة ، وقرئت (كذب) بالتخفيف ، وحينئذ يحتجون بها ، وتقريره : أن كذبهم في إحالة شركهم على مشيئة الله ـ عزوجل ـ ولو كان شركهم بمشيئته لكانوا صادقين ولم يكذبهم ؛ فدل على أن الشرك ، وتحريم المباح وغير ذلك من المعاصي ليس بمشيئة الله ـ عزوجل ـ وإنما هو بمشيئة فاعليه وخلقهم ، وهذا من عمدهم في المسألة.

وأجاب الجمهور عنها بأن تكذيبهم ليس راجعا إلى قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (١٤٨) [الأنعام : ١٤٨] وإنما هو راجع إلى ما تضمنه من إخبارهم باعتقاد ذلك ؛ كأنه قال : كذبتم في إخباركم / ب ١٧٨ / ب] بأنكم تعتقدون نفوذ مشيئة الله بإشراككم وذلك لأن قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) [الأنعام :

٢٦٦

١٤٨] خرج منهم مخرج الاستهزاء والتهكم والإلزام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أخبر بذلك ، وهذا كما حكي عنهم في قوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧) [يس : ٤٧] وشبيه بقوله ـ عزوجل ـ في المنافقين حين قالوا : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون : ١] فإنه لم يكذبهم في أن محمدا رسول الله ، إذ ذاك حق نص عليه في سورة الفتح ، وإنما كذبهم في دعواهم الشهادة بالرسالة إذا الشهادة قول مطابق للاعتقاد ، وهم إنما قالوا ذلك قولا يخالفهم اعتقادهم ؛ كذلك هاهنا كذبهم في دعواهم أنهم يعتقدون أن لو شاء الله ما أشركوا لا في نفس هذه القضية ، لأنه قد نص عليها قبل هذا بآيات.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٠٧] (وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [الأنعام : ١٠٧] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٤٨) [الأنعام : ١٤٨] يقتضي أن الظن خلاف العلم ؛ لأنه نفى أحدهما وأثبت الآخر لكن الظن في اللغة يشمل الاحتمال الراجح من غير جزم والاحتمال المتساوي. وعند الأصوليين الأول : ظن ، والثاني : شك.

(قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١٥٠) [الأنعام : ١٥٠] يستدل به على أن العالم بشهود الزور يحرم عليه موافقتهم حاكما كان أو شاهدا أو مشهودا له أو عليه ، أو غيرهم ، خلافا للمسألة المشهورة عن أبي حنيفة : في أن شاهدي زور لو شهدا أن فلانا مات ، جاز لآخر أن يتزوج امرأته مع علمه بكذبهما ، وحل له وطؤها ؛ لأن عنده الحاكم منشئ للأحكام لا مثبت لها على وفق الواقع.

(أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ

٢٦٧

لَغافِلِينَ) (١٥٦) / [٨٤ أ / م]) [الأنعام : ١٥٦] هذا خطاب للعرب ، ومعناه أنزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا ما جاءنا من كتاب نتبعه ، وإنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، وهم اليهود والنصارى ، ونحن غير عارفين بما عندهم ، وهذا من باب تقرير الحجة عليهم نحو : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) [النساء : ١٦٥] ، وفيه أن المجوس لم يأتهم كتاب لأنه ـ عزوجل ـ أخبر أن العرب لو احتجوا بأن الكتاب لم ينزل إلا على اليهود والنصارى لكانوا صادقين ، وحجتهم قائمة وعذرهم واضح ، وبالجملة فهذا تقرير من الله ـ عزوجل ـ لهم على / [١٧٩ / ل] حصر الكتاب في الطائفتين ، على تقدير أنهم يحصرونه فيهما ، والله ـ عزوجل ـ لا يقر إلا على حق ، وهذه مسألة خلاف هل كان للمجوس كتاب ورفع ، أو لم يكن لهم كتاب أصلا؟ وهو ظاهر هذه الآية؟ أما المجوس فزعموا أن نبيهم زرادشت جاءهم بكتاب فيه تفصيل ما كان وما يكون ، وأنه جلد اثنتي عشرة ألف جلدة على ما حكاه ابن أبي الأصبغ في تاريخ الأطباء ، والظاهر أن هذا اختلاق منهم أو عليهم ، إذ مثل هذا لا يكتم ، فلو كان حقا لتواتر ، والمشهور أن زرادشت [هذا] ليس بمحترم حرمة النبيين ولا الصديقين ، ولا الشهداء ولا الصالحين ، ولا له في أحكام الرقيق نصيب ، ولا هو من المختلف في نبوتهم ، بل مقطوع بعدم نبوته ، وهو من طبقة ماني ومزدك لا شيء في سبه ولعنه.

وظاهر كلام القاضي عياض في آخر كتاب «الشفا» أن من سبه عذر وعوقب ، وجعله في ذلك كالخضر ونحوه ، وأظنه ـ والله عزوجل أعلم ـ وهما منه فإن لم يكن وهما فهو نقل غريب جدا فتأمله.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) [الأنعام : ١٥٨] هو إشارة إلى أن الشمس تطلع من مغربها بين يدي الساعة ، ثم يغلق باب التوبة ، وهي من جهة المغرب سعتها مسيرة أربعين سنة ، وزعم بعض العلماء أن طلوع الشمس من مغربها تكذيب للمنجمين والفلاسفة ، ورد عليهم ؛ لأنهم لما سمعوا في القرآن قول إبراهيم لنمرود : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي

٢٦٨

حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨] قالوا : هذا من إبراهيم يتضمن قدرة الله تعالى على أن يأتي بها من المغرب وليس كذلك ، إذ هو محال لا يدخل تحت المقدورية ، فأكذبوا بإخراجها من المغرب في آخر الوقت. وإن ثبت أنها ردت لعلي ـ رضي الله عنه ـ كما حكاه القاضي عياض في الشفاء ، فقد تقدم إكذابهم من حينئذ.

(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩) [الأنعام : ١٥٩] / [٨٤ ب / م] يحتج به من أنكر الخلاف بين الأئمة في الفروع فضلا عن الأصول ؛ لأن ذلك تفريق للدين ، وهو مذموم.

وأجيب بأنه محمول على التفرق في أصول الدين لا في فروعه للإجماع على جوازه.

(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٦٢) [الأنعام : ١٦٢] احتج به أبو حنيفة على وجوب الأضحية ، لأن الإشارة إلى ما سبق من الصلاة ، والنسك ، والأضحية من النسك ، والآية اقتضت أنها مأمور بها والأمر للوجوب.

وأجيب بأن المخاطب / [١٨٠ / ل] بالأمر بها هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان الأمر به على الوجوب فهو خاص به لا يتعدى إلى الأمة.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤) [الأنعام : ١٦٤] قيل المراد : إلا لها ، بدليل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦) [البقرة : ٢٨٦] ، واستعملت على بمعنى اللام ، وقيل : المعنى إلا عليها في الشر ولها في الخير ، فاكتفى بأحدهما كقوله : عزوجل (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣)

٢٦٩

[الأنعام : ١٣] (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) (٨١) [النحل : ٨١] ونحوه.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) فيه إثبات المعاد (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤) [الأنعام : ١٦٤] فيه أن كشف الحقائق وارتفاع الخلاف إنما يكون في عالم الآخرة ، وأوله عقيب الموت بل حال الموت وعيان الملك وهذه في النحل ، أوضح منها هاهنا.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٦٥) [الأنعام : ١٦٥] يحتج به على تعليل أفعاله ـ عزوجل ـ أي فاضل بينكم ليختبر ما عندكم من الطاعة والشكر.

* * *

٢٧٠

القول في سورة الأعراف

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) [الأعراف : ٢] ثم قال ـ عزوجل ـ : (لِتُنْذِرَ بِهِ) [الأعراف : ٢] وتعليل الإنزال بالإنذار وهو من باب ما سبق آنفا.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) [الأعراف : ٣] إن أريد باتباعه تصديقه فهو عام مطرد ؛ لأن تصديق الجميع واجب بمعنى الاعتقاد أنه حق من حق ، وإن أريد به الامتثال التكليفي فهو عام أريد به الخاص وهو الأوامر والنواهي.

(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) [الأعراف : ٤] أي : أهلكناها في الحكم ، فجاءها بأسنا في التنفيذ الواقع ، وهذا كما حكي : أن شخصا وقع من علو فمات ؛ فقيل وقع فلان فمات ؛ فقال بعض العارفين : بل مات فوقع ، أي لما حكم بموته ، جعل وقوعه سببا لتنفيذ ما حكم به.

وقيل : المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا ، وهو قريب من الأول ، وقيل : هو من باب التقديم والتأخير ، أي جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهذه من باب حروف المعاني في أصول الفقه.

(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٨) [الأعراف : ٨] الآيتين يحتج به ونظيريه في (المؤمنون) ، و (القارعة) على وزن أعمال العباد ، ثم اختلف فيه :

فالجمهور على أنه وزن حقيقي بميزان ذات كفتين ولسان ، وأن الموزون صحائف الأعمال أو اعتمادات تساوي حركات الأعمال ، أو يخلق الله ـ عزوجل ـ فيهما ثقلا وخفة تكون أمارة على ما يراد / [٨٥ أ / م] بالعبد من سعادة أو غيرها ، والمعتزلة على أنه وزن مجاز / [١٨١ / ل] بمعنى إقامة العدل بحيث لا بخس ولا ظلم بدليل : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء : ٤٧] أبدل القسط من الموازين ، والمقصود هو البدل لا المبدل منه كما [اقتضته العربية] كأنه قال : ونضع القسط ، وأجيب بأن وضع القسط لا ينافي نصب الموازين لجواز أن سبب القسط هو الميزان.

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا

٢٧١

إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (١١) [الأعراف : ١١] يحتمل أن الخلق والتصوير لآدم ، وأضيفا إلى المخاطبين لتضمن صلب آدم لهم ، فالترتيب والتراخي يتم على أصله ، ويحتمل أنهما للمخاطبين فيكون الجواب على نحو ما مر في (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤) [الأعراف : ٤] أي خلقناكم في علمنا ، أو أردنا خلقكم ثم قلنا أو قلنا (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣٤) [البقرة : ٣٤] ثم خلقناكم.

(قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) [الأعراف : ١٢] فيه اقتضاء الأمر الوجوب والفور لأنه لامه على تأخير السجود عن وقت أمره به ؛ لأن «إذ» للوقت تقديره : ما منعك أن تسجد وقت أمري لك بالسجود ، وفيهما خلاف ، و «لا» في «أن لا تسجد» زائدة ، وإلا لاقتضى أن إبليس سجد ثم ليم على السجود الذي هو طاعة ، وأنه محال ، ونظيره في زيادة «لا» قول الراجز :

فما ألوم البيض أن لا تسخرا

لما رأين الشمط القفندرا

أي أن تسخر.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (١٢) [الأعراف : ١٢] تضمن هذا من إبليس مخالفة وعنادا واستكبارا واعتراضا وقدحا في الحكمة وجهلا بالحقائق وغلطا في الفلسفة ؛ لأن النار خفيفة طائشة محرقة شريرة ، والطين رزين ثابت متواضع ، ولا جرم رجع كل منهما إلى أصله ، فإبليس مذموم وآدم مرحوم.

وبالجملة فإبليس استعمل الفلسفة ؛ فوقع في السفه ، ولو أعطى الفلسفة حقها ؛ لأعطى الطاعة مستحقها.

(قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣) [الأعراف : ١٣] الضمير إما للسماء أو للجنة وعلى التقديرين يدل على أن الجنة دار تواضع وأدب لا كبر فيها ، وعلى القول بأن الضمير للجنة ، وهو الظاهر يقتضي ظاهرا :

أن آدم ومن سجد له وإبليس جميعا كانوا في تلك الحال في الجنة ، فما امتنع إبليس من الطاعة على الفور ، عوقب بالخروج من الجنة على الفور.

(قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) [الأعراف : ١٦] يحتج

٢٧٢

به الجمهور على أن الهادي والمضل والمغوي هو الله ـ عزوجل ـ / [٨٥ ب / م] ؛ لأنه أقر إبليس على نسبة الإغواء إليه ، ولو لا أن / [١٨٢ / ل] الأمر كذلك لما أقره بل كان يقول له : ويحك أمعصية وبهتا ؛ أتعصيني وتبهتني؟! فلما أقره على ذلك دل على صحته.

والجمهور إذا تمسكوا بهذا قال لهم المعتزلة : أنتم تلاميذ إبليس ، تشنيعا عليهم ، وليس احتجاج الجمهور بقول إبليس ، وإنما هو بإقرار الله ـ عزوجل ـ عليه.

(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (٢٠) [الأعراف : ٢٠] أي وسوس لهما ليعصيا ؛ فتبدو سوآتهما ، فذكر الغاية البعدى لاستلزامها القربى ، إذا كانت أثرا لهما.

(وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠] أي لئلا تكونا ملكين ، أو تكونا من الخالدين. يحتج بهذا من يرى الملائكة أفضل من البشر حتى آدم.

وتقريره أن هذا يدل على أن ذلك كان مشهورا متقررا عند آدم وحواء حتى جعله إبليس سببا لإغرائهما واستذلالهما ، وإلا لما قبلاه منه مسارعين إليه ، وأيضا لما أقدما على المخالفة حرصا على رتبة الملائكة دل على ما قلناه ؛ لأن العاقل إنما يحصر على ما يعتقده كمالا له ، وأيضا [لما قرن كونهما ملكين بكونهما من الخالدين ، دل على أن الملك أفضل من البشر] كما أن الخالد أفضل من الزائل.

(فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢) [الأعراف : ٢٢] يحتج به مثبتو الحرف والصوت في كلام الله ـ عزوجل ـ أعني نفس تكلمه ؛ لأن النداء لا يعقل إلا كذلك ، ومثله : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) ونحوه.

وأجاب الآخرون بأنه ناداهما بواسطة [الملك : أو سمى إفهامهما] بكلامه الذاتي نداء بجامع الإفهام.

قوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً

٢٧٣

وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) [الأعراف : ٢٦] تضمنت هذه الآية المجاز بمراتب ، وذلك لأن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس إنما هو الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس ، وصار ذلك كقول الراجز :

الحمد لله العظيم المنان

صار الثريد في رءوس العيدان

سمى السنبل في رءوس العصف الذي تحته ثريدا ، وإنما يصير ثريدا بعد أن يحصد ، ثم يدرس ، ثم يصفى ، ثم يطحن ، ثم يخبز ، ثم يثرد ، سمى ابن السيد البطليوسي (١) هذا وأمثاله [مجاز المراتب] ، وهو من غرائب مسائل المجاز.

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧) [الأعراف : ٢٧] أضاف الفتنة إلى الشيطان مع قول موسى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥) [الأعراف : ١٥٥] وقوله ـ عزوجل ـ (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) [الأنعام : ٥٣] وتحقيقه ما سبق من أن فتنة / الشيطان بالوسوسة ، وفتنة الله ـ عزوجل ـ / [٨٦ أ / م] بالتقدير ، وخلق الدواعي والصوارف.

(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ) / [١٨٣ / ل] (مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) هذا من جملة الابتلاء والمحنة ، وعظيم الفتنة ، إذ لو رآهم بنو آدم لاحترزوا منهم كما يحترز بعضهم من بعض ، ولكن صاروا كما قيل :

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى

فكيف بمن يرمي وليس برامي

والسبب في أنهم يروننا ولا نراهم مادتهم نارية لطيفة ، ومادتنا طينية كثيفة ، والكثيف

__________________

(١) وهو الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد النحوي المعروف بابن السيد البطليوسي توفي سنة ٥٢١ ه‍ انظر البداية والنهاية [١٢ / ١٩٨].

٢٧٤

لا يرى اللطيف.

فإن قيل : فنحن نرى النار التي هي مادتهم فما بالنا لا نراهم؟!

قلنا : التخليق يلطف المادة ، ألا ترى أن البشر ألطف من الطين الذي هو مادته ، وكذلك كل فرع هو ألطف من أصله كالزيت من الزيتون ، والعصير من العنب ، والدبس من الرطب ، ونحو ذلك.

(وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) [الأعراف : ٢٨] يحتج بها المعتزلة ، ووجه احتجاجهم أنه كما لا يأمر بالفحشاء لا يريدها.

وقال الجمهور : بل هو يريدها ويقدرها بتقدير أسبابها ، وخلق دواعيها والصوارف عنها وإن لم يأمر بها ، ولعل أصل الخلاف أن المعصية خلاف الأمر عند الجمهور ، فلا ينافيه موافقة الإرادة في المعصية ، وعند المعتزلة هي مخالفة الإرادة ، فلو كان مريدا للمعصية لكان المكلف عاصيا من حيث هو مطيع ، وأنه محال.

ومذهب الجمهور في أن الطاعة والمعصية دائران مع الأمر والنهي أشبه باللغة والنظر ، وهو الصواب.

ويحكى أن الشيخ أبا إسحاق الأسفرائيني دخل على الصاحب بن عباد ، وعنده القاضي عبد الجبار الهمذاني ، فلما رآه القاضي قال تعريضا به : سبحان المنزه عن الفحشاء ، فقال الشيخ أبو إسحاق : سبحان من يفعل ما يشاء ، فاستوفى كل واحد منهما حجته في خمس كلمات ، واعلم أن هؤلاء الذين قالوا في فاحشتهم : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢٨) [الأعراف : ٢٨] صدقوا في تقليد آبائهم وكذبوا على ربهم.

(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) [الأعراف : ٢٩] يحتمل أمرين : أحدهما : إثبات المعاد ، أي كما بدأكم أي : ابتداء خلقكم بعد العدم الأصلي ، كذلك يعيدكم بعد العدم الطارئ على وجودكم ، وهو أيسر ، ولا فرق غير أن الإنسان في ابتداء نشأته يتدرج في الأطوار السبعة. نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخرها ، وفي إعادته لا يتدرج في الأطوار ، غير أن هذا ليس مؤثرا في حكم القدرة التامة ، وقد قيل : إن عند إرادة البعث تمطر السماء أربعين يوما ماء كمني

٢٧٥

الرجال ، فلعل الأرض تجعل فيها حرارة كحرارة الرحم ، ثم يتطور العالم في بطنها كتطوره في بطون الأمهات / [١٨٤ / ل] ، والأرض تسمى أما ، فلعله لذلك أو له ولغيره / [٨٦ ب / م] ، وبالجملة فالقدرة صالحة للتأثير بواسطة التطوير ودون التطوير.

الثاني : إثبات القدر أولا وآخرا ، أي كما بدأ خلقكم مؤمنا وكافرا ، ومهتديا وضالا ، كذلك يعيدكم كما بدأكم ، يشهد لذلك قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) [التغابن : ٢] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ؛ فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث كل إنسان على ما مات عليه» (٢) أي من هدى وضلال وكفر وإيمان ؛ دل على هذا الاحتمال قوله عزوجل : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) [الأعراف : ٢٩ ـ ٣٠] ، إشارة إلى افتراقهم في الهدى والضلال من البدء ، ثم يعادون على ما بدئوا عليه من ذلك ، وانظر إلى لطيف حكمته عزوجل في قوله : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) [الأعراف : ٣٠] نسب الهدى إليه ، إذ لا محذور فيه ، ولم يقل : وفريقا أضل ، بل قال : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٠) [الأعراف : ٣٠] فأحال بضلالهم على علته الكسبية من جهتهم ، وأشار إلى علتهم القدرية من جهته ؛ فتحرر من ذلك أن علة ضلالهم مركبة من تقديره الجازم المتقادم ، وكسبهم الآخر المتراخي ، ولو شاء الله ما فعلوه ، وإنما ألزموه شبهة في

__________________

(١) رواه أحمد في مسنده [٢ / ١٩٧] ورواه الطيالسي ٥٧ ـ [١ / ٣١] والحاكم [١ / ٣٠ ـ ٣١] ورواه ابن حبان في صحيحه [١٨١٢] والترمذي في السنن برقم [٢٦٤٤].

(٢) رواه مسلم في كتاب الجنة [١٧ / ٣٠٥] ح ٨٣ ـ [٢٨٧٨] وابن ماجة في كتاب الزهد ح [٤٢٣٠] ورواه أحمد [٣ / ٣٣١] والحاكم ١ / ٤٩٠.

٢٧٦

استحقاق الذم وغير الإرادة الإلهية.

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) [الأعراف : ٣١] هذا من أصول الطب ، وتدبير الأبدان ، وهو الاقتصاد في المأكل والمشرب.

ويحكى أن جبرائيل بن بختيشوع الطبيب دخل على هارون الرشيد ، وعنده قارئ ؛ فقرأ هذه الآية ؛ فقال الحكيم : يا أمير المؤمنين ، ما ترك كتابكم شيئا من الطب إلا استوفاه في هذه الكلمات.

ووجه ذلك أن المقصود من الطعام والشراب إنما هو بقاء النفس بما يستحيل منه من الدم ويتجوهر منه من الروح الحاس والمدرك ، فإذا اقتصد فيه ، قويت المعدة على هضمه ، فانصرف أكثره إلى المقصود ، وبقي باقية تدفعه الطبيعة [ثفلا] فيبقى البدن خالصا من الفضول بعده كما كان قبله ، وإذا أسرف فيه باقية الزائد على المقصود فضولا وأخلاطا في البدن خصوصا إن ضعفت المعدة عن هضمه ، فتكون تلك الأخلاط غليظة ثم تتعفن تلك الأخلاط ، فتولد أمراضا يكون منها العطب.

ويحكى عن جالينوس أنه قال : أنا أحب أن آكل لأعيش ، وهؤلاء يحبون أن يعيشوا [١٨٥ / ل] ليأكلوا ، يعني أن الحكمة تقتضي أن تكون الحياة غاية الأكل والأكل وسيلة لها ، والعامة عكسوا ذلك فجعلوا الأكل غاية الحياة ، والحياة وسيلة له وهو دأب البهائم / [٨٧ أ / م].

وقال ابن الرومي :

عدوك من صديقك مستفاد

فلا تستكثرن من الصحاب

فإن الداء أكثر ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [الأعراف : ٣١] أمر إباحة (وَلا تُسْرِفُوا) [الأعراف : ٣١] يحتمل أنه نهي إرشاد ، ويحتمل الكراهة.

(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٣٣] هذا جامع لكل محرم ، والخصال الأربع المذكورة ، بعدة معطوفة عليه عطف الخاص على العام.

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٣) [الأعراف :

٢٧٧

٣٣] يحتج به من زعم أن خبر الواحد يفيد العلم ؛ لأنا إنما نقبل خبر العدل ، والعدل قد حرم عليه أن يقول ما لا يعلم ، فوجب أن لا يقول إلا ما يعلم ، وذلك يفيد العلم ، وهو ضعيف ومقدمته الأخيرة ظنية ؛ لجواز أن يخالف لداع أو صارف ؛ فيقول ما لا يعلم ، ثم لو أفادت الآحاد العلم لما احتيج إلى العدد في البينات ، وما تفاوتت في العدد ولما كان للاستفاضة والتواتر مزية على الآحاد واللوازم باطلة ؛ فالملزوم كذلك ؛ ولأنا نجد أنفسنا غير عالمة بموجب خبر الواحد فالقول بإفادته العلم مصادم لهذا العلم الوجداني الضروري ؛ فلا يلتفت إليه ، وربما احتج بقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٣٢) [الأعراف : ٣٢] من يرى إباحة الطرب وسماع الملاهي ، لأن الآية اقتضت إباحة عموم الطيبات من الرزق وهذه الأشياء من طيبات رزق السمع ؛ فكانت مباحة كطيبات رزق الذوق والشم والبصر واللمس ، وهذه والتي قبلها ـ أعني إفادة خبر الواحد العلم ـ يعزيان إلى مذهب الظاهرية ، والأشبه أن سماع الملاهي إن دعا إلى حرام ، أو أشغل عن واجب فهو حرام ، وإن دعا إلى مكروه أو صد عن مندوب فهو مكروه ، وإلا فهو مباح ، وحيث يحرم يخرج جواز التداوي به من الماليخوليا ونحوه من الأمراض ، على الخلاف في التداوي / [١٨٦ / ل] بالمسكر.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤) [الأعراف : ٣٤] ونظائرها حجة للجمهور على أن المقتول هلك بأجله لم يكن ليستأخر عن ذلك ولا يستقدم ، ولو لم يقتله القاتل [لهلك في وقت القتل بسبب غيره ، خلافا للمعتزلة فيما حكي عنهم من أن القاتل] قطع عليه أجله ، ولو لم يقتله لاستمر حيا إلى آخر أجله ؛ استصحابا لحال حياته ، والأشبه الأول ؛ لأن تفويت هذه الحياة المعينة في هذا الوقت المعين بالسبب المعين معلوم لله ـ عزوجل ـ وكل ما كان معلوما لله ـ عزوجل ـ استحال تغيره بتقدم أو تأخر ، وما قاله المعتزلة تخيل ذهني لا وقوع له في الخارج أصلا.

(فَمَنِ) / [٨٧ ب / م] (اتَّقى وَأَصْلَحَ) أي اتقى الكفر وأصلح العمل فهو في قوة (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقد سبق القول فيه.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

٢٧٨

(٣٦) [الأعراف : ٣٦] لم يشترط مع الكفر نفي العمل الصالح كما اشترط مع الإيمان وجوده ، والفرق أن العمل الصالح لا يتصور مع الكفر ، إذ الكفر مانع من وجوده فلم يحتج إلى اشتراط نفيه ؛ لأنه منفي لوجود مانعه أو انتفاء شرطه ، وهو الإيمان بخلاف الإيمان ، فإن انتفاء العمل الصالح يصح معه ؛ فلذلك اشترط وجوده في تمام الجزاء عليه.

وهذا يقتضي أن الكفر في بابه أعظم من الإيمان في بابه ، وكذلك النواهي والمعاصي أعظم من الأوامر والطاعات في بابها ، وسبب ذلك ، عظمة الجناب الإلهي عن الجرأة عليه بالمعاصي واستغناؤه عن الطاعات فالمعاصي تغضبه ، والطاعات لا تنفعه إنما هي إحسان من المطيع إلى نفسه ، ألا ترى أن السلطان إذا خرج عن طاعته خارجي جهز إليه العساكر ، وقام له وقعد ، ولو أهدى له ملك الأرض لم يحتفل له بعض ذلك الاحتفال.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (٣٧) [الأعراف : ٣٧] يحتمل أن المراد نصيبهم من الشقاوة السابقة [لهم في الكتاب] ويحتمل أن المراد نصيبهم من الرزق المقسوم لهم في الكتاب ، ويحتمل إرادة الأمرين ، والنكتة المقصودة قوله ـ عزوجل ـ : (يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ) [الأعراف : ٣٧] ولم يقل ينالون نصيبهم ، إشارة إلى أن ما سبق في الكتاب من شقاوة وسعادة ورزق هو أشد طلبا للإنسان حتى يناله من الإنسان له حتى يدركه ، ولو لم يكن لأهل التفويض والتوكل غير هذه لكفتهم إذا فهموها.

(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ) (٤٠) [الأعراف : ٤٠] يعني لأرواحهم عقيب الموت / [١٨٧ / ل] بل ترد فتخر من السماء تهوي بها الريح في مكان سحيق أي بعيد ، وهو سجين بخلاف المؤمنين ، فإن أبواب السماء تفتح لأرواحهم حتى تنتهي إلى العرش إكراما لها ثم تعاد إلى القبر للسؤال.

وتفصيل هذا في حديث البراء بن عازب ، وهذه من متعلقات اليوم الآخر.

(حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] هو من باب تعليق الشيء المحال ، نحو حتى يعود اللبن في الضرع ، حتى يشيب الغراب ويبيض القار.

٢٧٩

وحتى يئوب القارظان كلاهما وينشر في القتلى كليب لوائل ونحو ذلك.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) [الأعراف : ٤٣] يعني كان في الدنيا ، وقد يستبعد ذلك وليس ببعيد ، أما إن نسب إلى القدرة الإلهية فظاهر ، وأما إن نسب إلى الواقع ، فكثيرا ما طابت / [٨٨ أ / م] النفوس عن خبث ، واصطلح الناس عن غضب ، وتنازلوا عن غل وإحن.

وقد حكي في كتاب عجائب المخلوقات أن في البحر سمكة إذا أكلها المتضاغنان زال ما في نفوسهما وعادا أصدقاء.

وبالجملة فهذا أمر ممكن ، وكل ممكن مقدور ، وكل مقدور أخبر الصادق بوقوعه فهو واقع لا محالة.

(وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) [الأعراف : ٤٣] لعلهم يقولون هذا لما يرون من صعوبة الطريق ووعورة المسلك ، فيعلمون أنهم عاجزون عن قطعه لو لا إعانة الله ـ عزوجل ـ لهم فيحمدونه على نعمه ، ويعترفون بالحمد والحق لأهله.

ويحتج به الجمهور على أن الهدى من الله ، ويطردون حكمه في مقابله وهو الضلال بقضائه وقدره.

(لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٤٣] عرفوا ذلك عيانا بعد أن كانوا يعرفونه في دار التكليف نظرا وبرهانا وتلك المعرفة أتم.

(وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] يعني أن الجنة كانت للكفار ، بتقدير أن لو آمنوا والنار للمؤمنين أن لو كفروا ، فإذا دخل المؤمنون الجنة ؛ فكأنهم ورثوا ما كان للكفار لو آمنوا ، وذلك هو التغابن يغبن أهل الجنة أهل النار بفوزهم وهلاك أولئك.

(وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ

٢٨٠