الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

وأما عقلا : فلأن المعتزلة قالوا : لو خلق الله ـ عزوجل ـ معاصي خلقه ، ثم عاقبهم عليها ، لكان عن العدل خارجا ، وفي ساحة الجور والجفا. ولأن ما يخلقه الله ـ عزوجل ـ يجب وقوعه ؛ فتكليف العبد بعد ذلك بإيجاده تكليف بالواجب أو الممتنع ، وتحصيل للحاصل ، وهو محال. ولأنا ندرك بالحس أو الضرورة وقوع أفعالنا بأدواتنا على وفق دواعينا وقدرتنا وإرادتنا ، ونعلم بالوجدان أننا الموجدون المخترعون لها ؛ فلا نقبل بعد ذلك الحوالة على غائب لا ندركه ، وصار النزاع في ذلك من باب التشكيك في البديهات والسفسطة ؛ فلا يسمع.

وقالت المجبرة : لو كان العبد خالقا لأفعاله / [٥ ب / م] لكان مع الله ـ عزوجل ـ خالقون كثيرون ، وذلك ضرب من الشرك كالمجوسية ؛ ومن ثم ورد تشبيه القدرية بالمجوس (١) ، ولأن أخص صفات الله ـ عزوجل ـ كونه قديما مخترعا ، فلو كان معه مخترع غيره لكان ذلك المخترع منازعا في الإلهية أو مقاسما فيها ، وهو باطل ؛ ولأن فعل العبد ممكن ، وكل ممكن فإنه لا يخرج إلى الوجود إلا بمرجح ، ثم ذلك المرجح : إما من العبد ؛ فيلزم : إما الدور ، أو التسلسل. أو من الرب ـ عزوجل ـ فيكون هو الخالق ، وهو المطلوب.

وأما الكشف عن سره فذلك يظهر / [٨ / ل] بمقدمات :

الأولى : أن الله عزوجل ـ أحب أن يكون له في خلقه المشيئة النافذة.

الثانية : أنه ـ عزوجل ـ أحب أن يكون له عليهم الحجة البالغة.

الثالثة : أنه ـ عزوجل ـ علم ما سيكون منهم قبل أن يوجدهم ؛ فعلم مثلا من آدم وإبراهيم وموسى ومحمد ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ أنه سيكون منهم الطاعة ، وعلم من إبليس ونمرود وفرعون وأبي جهل وأبي لهب أنه ستكون منهم المعصية ، وعلم أنه لو ترك كلا واختياره وفوض إليه أفعاله لم يكن منهم إلا ما تعلق به علمه ؛ من طاعة أولئك ، ومعصية هؤلاء. وحينئذ استوت حالتا جبرهم على أعمالهم وتفويضها إليهم ، فلو فوّض إليهم أعمالهم والحالة هذه ، لضاعت فائدة التفويض ، ولم يبق فيه إلا مجرد مفسدة مشاركة المخلوق له في الاختراع ، فرغب سبحانه وتعالى ـ ببالغ حكمته عن هذه المفسدة المجردة ، وآثر التوحد في خلقه من غير مشارك ؛ صيانة لجانب الإلهية والملك عن وصمة المنازعة والشرك.

ثم إنه ـ عزوجل ـ لما علم أن في خلقه من يعترض عليه ويقول : إنك إذا أجبرتنا لم

__________________

(١) انظر الملل والنحل : [١ / ٤٣] وسير أعلام النبلاء [٤ / ١٨٥] والبداية والنهاية [٩ / ٣٦].

٢١

تعدل فينا ؛ ولو فوضت أعمالنا إلينا لقمنا من طاعتك بما علينا ـ أخفى عنهم طريق الجبر بلطيف حكمته ؛ ليقيم عليهم بالغ حجته ؛ وذلك بأن خلق فيهم أفعالهم بواسطة مشيئاتهم ، فظنوا أنهم لها خالقون ، وإنما هم بلطيف الحكمة وعظيم القدرة مجبورون غالطون ، وذلك اللبس عليهم من شؤم اعتراضهم ، ولو سلموا الأمر لرب الأمر ، لكشف لهم عن حقيقة الأمر.

وتقرير ذلك أنه ـ عزوجل ـ إذا شاء من عبده فعلا ، خلق له مشيئة ذلك الفعل ، ثم خلق ذلك الفعل على أدوات العبد ، موافقا لإرادته. وهذا مستفاد من قوله ـ عزوجل ـ : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) [التكوير : ٢٩] فمشيئة الله ـ عزوجل ـ سبب مؤثر أبعد ، ومشيئة العبد سبب مقارن أقرب.

فالقدري نظر إلى المقارن لقربه ، والجبري نظر إلى المؤثر ، ولم يمنعه من ذلك بعده ، فكان نظره أسدّ. وعلى هذا ، فنسبة فعل العبد إلى الرب ـ عزوجل ـ شبيه بنسبة التالي إلى المقدم في الشرطية اللزومية ؛ نحو : «إن كانت الشمس طالعة فالعالم مضيء» ، ونسبته إلى العبد نسبة التالي إلى المقدم في / [٥ أ / م] الشرطية الاتفاقية ؛ نحو : «إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل».

إذ الله ـ عزوجل ـ مؤثر في الفعل على جهة الغلبة ، والعبد ليس له منه إلا وقوعه مقارنا له على جهة الاتفاق ؛ ولهذا تراه ربما أراد الفعل وسعى فيه فلا يقع ، وربما كرهه وتحرز منه فيقع ؛ فدل على أن المؤثر فيه غيره ، وإنما العبد واسطة / [٩ / ل] لإقامة الحجة عليه.

وأما ما احتج به المعتزلة ، فراجع [إما] إلى التحسين والتقبيح العقلي ، وهو ممنوع ، أو إلى دعوى الضرورة في غير موضعها ، وهو مكابرة.

وقد بقي الكلام بين الجبرية والكسبية :

فقالت المجبرة : اتفقنا وإياكم على أن الله ـ عزوجل ـ هو خالق فعل العبد ، وادعيتم أن هناك للعبد كسبا ، ونحن ننكره ، فعليكم إثباته ، ولا سبيل لكم إليه ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ إذا خلق في العبد فعلا وقضى عليه بأمر : فإما أن يكون للعبد قدرة على التخلص من ذلك الأمر بألا يقع منه ، أو لا يكون :

فإن كان له قدرة على ذلك كانت قدرته أغلب من قدرة الرب ـ عزوجل ـ ومشيئته أنفذ من مشيئته ؛ فيكون أولى بالربوبية ؛ وحينئذ يصير العبد ربا والرب عبدا ، وإنه محال.

وإن لم يكن له قدرة على ذلك كان الفعل منه واجبا بمجرد الخلق ولا أثر للكسب ؛ فسقط اعتباره ، ولأن الكسب الذي تدعونه : إما مخلوق للعبد ، وهو خلاف مذهبكم ؛ إذ

٢٢

العبد لا يخلق باتفاق أو للرب فيحتاج إلى كسب ، ثم القول فيه كالقول في الكسب الأول ؛ ويتسلسل ، وإنه محال.

وهذا مما يصعب موقعه على الكسبية ويتعذر عليهم التخلص منه.

قف على حجة أهل السّنّة : احتج الكسبية بوجهين :

أحدهما : أن القول بالقدر يقتضي الشرك ، والقول بالجبر يقتضي الجور أو سقوط التكليف وانقطاع حجة الله ـ عزوجل ـ عن خلقه ، والكل محال. فسلكنا طريق الكسب تخلصا من ذلك.

الوجه الثاني : أنا وجدنا القرآن تارة يضيف أفعال الخلق إليهم ، وتارة إلى الله ـ عزوجل ـ فقلنا بذلك ، وأضفناها إليه خلقا وإليهم كسبا ؛ جمعا بين الأدلة.

الجواب : أن هذا إقناعي اجتهادي ، وما ذكرناه قاطع عقلي ؛ فلا يعارضه ما ذكرتم.

لكنهم قالوا : إنا نرى الإنسان مؤثرا في أفعاله بالجملة عيانا ، لكن قام الدليل على أن تأثيره ليس بتام بحيث يكون خالقا ؛ فبقي أن يكون تأثيرا غير تام ، ونحن سمينا ذلك كسبا ، والقول بأن لا تأثير له في أفعاله بالكلية بهتان ومعاندة للعيان.

وهذا من الكسبية قوي ؛ لاستنادهم فيه إلى ظاهر العيان ، إلا أن جواب المجبرة عن هذا أنه إن صح لكم الاستدلال بظاهر العيان على أن تأثير الإنسان في فعله غير تام ، بحيث يكون كسبا ، صح للمعتزلة الاستدلال بظاهر العيان / [٥ ب / م] على تمام تأثيره ، بحيث يكون خلقا ، بل العيان معهم أقوى ، وهم به أسعد وأحظى.

وأيضا لو كان [له] فيه نوع تأثير لكان له فيه بقسط ذلك من الاختراع ، وصار ذلك قولا بمقدور بين قادرين ، وأنتم لا تقولون بذلك ؛ وحينئذ يسقط ما استندتم إليه من العيان ، ويبقى ما ذكرته المجبرة من واضح البرهان.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أن آيات الجبر في القرآن / [١٠ / ل] العزيز أكثر من آيات القدر ، فنحن إذا مررنا بآية من ذلك في أثناء هذا التعليق فإن كانت صريحة في بابها لا تقبل التأويل ، فليس لها إلا المعارضة إن وجد لها معارض.

وإن تطرق التأويل إليها] بينا كيف تقرير الدليل منها ، وكيف يتطرق التأويل إليها. وأنها في آخر الأمر لأي المذهبين ، وفي جانب أي الخصمين ، إن شاء الله ـ عزوجل.

٢٣

مبحث العموم والخصوص

وأما العموم والخصوص ، فالنظر في لفظ العموم ، وحده ، وأدواته وحكمه.

أما لفظه فهو مصدر «عم يعم [عمّا و] عموما» نحو «شمل يشمل شمولا» وزنا ومعنى ؛ إذ معنى العموم هو الشمول ؛ يقال : «اللهم عمنا برحمتك» أي : اشملنا بها.

وأما حده فهو : استغراق اللفظ لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد.

والعام هو : اللفظ المستغرق لما يصلح له كذلك.

وقد يشتبه العام بالمطلق وهو اللفظ الدال على الماهية من حيث هي هي ، من غير اعتبار قيد زائد ؛ نحو «رجل» و «رقبة» و «دابة» بخلاف «الرجال» و «الرقاب» و «الدواب» ؛ فإنه عام ، وبخلاف «رجل مؤمن» و «رقبة كافرة» ، أو «صحيحة» و «دابة فارهة» ونحوه ؛ فإنه مقيد.

وأما أدواته ـ أعني ألفاظه وما يفيده ـ : فاعلم أن المفيد للعموم : إما أن يفيده لغة أو عرفا أو عقلا ، والذي يفيده لغة : إما أن يفيده على الجمع ، أو على البدل ، والذي يفيده على الجمع : إما أن يفيده وهو اسم موضوع له ، أو يفيده بمقارن أفاده. فالذي يفيده بالوضع : إما أن يكون موضوعا لذوي العلم فقط ، وهو «من» في الشرط والاستفهام ؛ نحو : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣].

و (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) (٦٣) [هود : ٦٣].

و «من عندك».

أو لذوي العلم وغيرهم : وهو «أي» شرطا أو استفهاما ؛ نحو : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) [الإسراء : ١١٠].

و (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٨١) [الأنعام : ٨١].

و «أي الرجال لقيت؟». و «كل» و «جميع» أيضا ؛ نحو : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا

٢٤

مُحْضَرُونَ) (٣٢) [يس : ٣٢] هو للقبيلين : ذوي العقول وغيرهم. أو لغير ذوي العلم فقط ، وهو : إما لجميعهم ، وهو «ما» غالبا ؛ نحو : «ما ركبت من الدواب» وقد يستعمل لذوي العلم قليلا ؛ نحو : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) (٥) [الشمس : ٥]. أو لبعضهم ، وهي «متى» للزمان و «أين» و «حيث» للمكان.

والذي يفيد العموم بمقارن أفاده : إما أن يكون في الثبوت ، وهو الإضافة ولام الجنس ؛ نحو «عبيدي» و «الرجال» ، أو في النفي ؛ كالنكرة ؛ نحو : «لا رجل في الدار».

والمفيد للعموم على البدل / [٦ أ / م] أسماء النكرات ؛ نحو : «اضرب رجلا» و «أعتق رقبة» فأي رجل ضربه وأي عبد أعتقه أجزأه ، حتى زعم بعضهم لذلك أنه عام على الجمع.

والمراد بعمومه على البدل : أن كل فرد من أفراد مدلوله يصح أن يكون بدلا عن الآخر ؛ كالرقبة المعتقة.

هذا كله / [١١ / ل] في المفيد للعموم لغة.

أما المفيد له عرفا فنحو : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣) [النساء : ٢٣] أي جميع وجوه الاستمتاع بهن.

والمفيد له عقلا له صور :

منها : العلة ، تفيد عموم الحكم في جميع مواردها ؛ أي : حيث وجدت وجد حكمها.

ومنها : ما ورد جواب سؤال ؛ نحو : «ما حكم من أفطر؟» فيقال : «يقضي أو يكفر» فيعم كل مفطر ، والعموم في التحقيق ل «من» مقدرة في الجواب.

ومنها : دليل الخطاب ؛ نحو : «في السائمة الزكاة» يفيد أن لا زكاة في عموم ما عداها.

هذه جوامع أدوات العموم ، وإن شذ عنها شيء ، فربما تعرضنا له في مواضعه ، إن شاء الله ، عزوجل.

وأما حكم العموم فاعتبار عمومه إلا ما خص منه بدليل ، ويبقى حجة فيما عدا محل التخصيص عند الأكثر ؛ نحو : «اقتلوا المشركين أو الكفار» ثم خصّ منه أهل الذمة والعهد

٢٥

والمستأمنون ونحوهم ، أو حيث دل الدليل على أن المراد بالعام الخاص ؛ نحو : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) [آل عمران : ١٧٣] يعني : عروة بن مسعود الثقفي لأبي سفيان.

وباقي أحكام العموم سنتعرض [لما نحتاج] إليه منها في مواضعه ، إن شاء الله ، عزوجل.

وأما الخصوص فالنظر في : لفظه ، وحده ، وأدواته ، وحكمه :

أما لفظه : فهو مصدر «خص يخص خصوصا» وهو مقابل العموم.

وأما حده : فالخصوص : تعيين فرد أفراد بحكم ؛ نحو : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) (٢٩) [الفتح : ٢٩].

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) [الأحزاب : ٣٧].

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠٠) [التوبة : ١٠٠].

وقد يكون الخاص عاما بالنسبة إلى جهة أخرى ؛ نحو : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢٩) [الفتح : ٢٩] خصوص بالنسبة إلى صحبته ومعيته ، وعموم النسبة إلى مجموع أفرادهم.

والخاص : ما عين بحكم وأفرد به دون غيره.

٢٦

والتخصيص لغة : هو ذلك التعيين ، وهو مرادف للخصوص ؛ كالتعميم المرادف للعموم ؛ فهما مصدران أو شبيه بهما.

واصطلاحا : هو بيان المراد باللفظ العام ؛ كما إذا قال : «أكرم الرجال» ثم قال : «تكرم زيدا» تبين أن مراده بالرجال من عدا زيدا.

وقيل : هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ ، أو بيان ما صح أن يتناوله.

وأما أدوات التخصيص ـ أي ما يخص به العام ـ فهو : متصل ، ومنفصل ، وبناء عام على خاص. فالمتصل : استثناء ، وشرط ، وغاية ، وصفة.

فالاستثناء : إخراج بعض الجملة بلفظ «إلا» أو ما في معناها ؛ نحو : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤) [العنكبوت : ١٤].

والشرط : نحو : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) (٦) [الطلاق : ٦] وأنت طالق إن دخلت الدار / [٦ / ب / م].

والغاية : نحو [قوله تعالى] : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠) [البقرة : ٢٣٠].

و (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) [البقرة : ٢٢٢].

و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ

٢٧

لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) [المائدة : ٦].

والصفة : نحو : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [١٢ / ل] ... [التوبة : ١١٢].

و «أكرم الرجال العلماء الشرفاء الفضلاء».

والمنفصل : عقل ، وحس ، وسمع.

فالعقل : نحو : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) [الزمر : ٦٢] خص بالعقل ذاته عزوجل ـ وصفاته القائمة بها.

والحس : نحو : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٢٥) [الأحقاف : ٢٥].

و (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣) [النمل : ٢٣] مع أن هناك أشياء محسوسة لم تدخل في هذا العموم ؛ كالسماوات والأرضين وملك سليمان.

والسمع : كتخصيص الكتاب والسّنّة بمثليهما على تفصيل فيه ؛ نحو :

(وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢٤) [النساء : ٢٤] خص بقوله عليه الصلاة والسّلام : «لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» (١).

وبناء العام على الخاص : هو أن يتعارض دليلان ، فيعمل بالخاص في خصوصه ، وبالعام فيما عدا صورة التخصيص ؛ نحو : «فيما سقت السماء العشر» (٢) خص منه ما دون خمسة

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه كتاب النكاح [٩ / ٦٤ رقم : ٥١٠٩ ، ٥١١٠] ومسلم في صحيحه كتاب النكاح [٩ / ٢٧١ / ١٤٠٨].

(٢) رواه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة [٣ / ٤٠٧ / ١٤٨٣] ورواه مسلم في صحيحه كتاب ـ ـ الزكاة [٧ / ٥٤] وأبو داود كتاب الزكاة [٢ / ١٠٨ / ١٥٩٦] والنسائي كتاب الزكاة [٥ / ٤١ / ٢٤٨٨] وابن حبان [٥ / ١٢٠ ، ١٢١ / ٣٢٧٤] وابن الجارود ص [١٤٦ / ٣٤٨].

٢٨

أوسق بالحديث الآخر ، وتجب الزكاة فيما زاد على ذلك ؛ لأن الخاص أقوى دلالة ، فالعمل به وبالعام فيما عداه استعمال للدليلين ، وإلغاء الخاص ترك لأقوى الدليلين ، وهو غير جائز. فالأول متعين.

وفي هذا المقام تفصيل وخلاف مذكور في أصول الفقه ، نذكر منه إن شاء الله ـ عزوجل ـ ما نحتاج إليه في مواضعه.

وأما حكم الخصوص : فهو ما ذكرناه من العمل به مقدما على العام ، إلا حيث دل الدليل على أن المراد بالخاص العام.

وقد ذكر بعض العلماء أن كلام العرب لا يخلو من أربعة أقسام : إما عام يراد به العام ؛ نحو : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩) [البقرة : ٢٩].

أو خاص يراد به الخاص ؛ نحو (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٣٣) [البقرة : ٣٣].

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) (٤٦) [مريم : ٤٦].

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) [الأحزاب : ٣٧] ونحوه.

أو عام يراد به الخاص ؛ نحو : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣) [آل عمران : ١٧٣].

٢٩

أو خاص يراد به العام ؛ نحو : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (٢٣) [الإسراء : ٢٣] ؛ إذ ليس المراد النهي عن خصوص التأفيف لا غير ، بل وعن جميع أنواع أذاهما.

وتعرف هذه الأقسام بالدليل ، وهذه قاعدة نفيسة عامة تجب مراعاتها ، وإذ قد فرغنا من قاعدة العموم والخصوص ، فنحن ـ إن شاء الله ، عزوجل ـ كلما مررنا بلفظ عام وجهنا عمومه إن احتاج إلى ذلك ، ثم بينا أنه باق على عمومه ، أو خص بشيء ، وبما ذا خص ، وفيم خص ، وفي ذلك فوائد جمة ، كل ذلك بحسب الإمكان ، إن شاء الله عزوجل ، وهو المستعان.

وكذلك كلما مررت بمسألة أصولية بينت أنها من أي أقسام ذلك الفن هي ؛ إن كانت من أصول الدين بينت أنها من مسائل الإيمان بالله ـ عزوجل ـ / [٧ أ / م] ، أو ملائكته أو كتبه ، أو رسله ، أو اليوم الآخر ، أو القدر. وإن كانت من أصول الفقه بينت أنها من مسائل الكتاب أو السّنّة أو الإجماع أو القياس أو غيرها. ومهما استوفيت الكلام على مسألة ثم تكررت أحلت بها على ما مضى ، إلا أن يتضمن التكرار فائدة / [١٣ / ل] زائدة ، فأذكرها إن شاء الله عزوجل.

وإنما رتبت هذا التعليق على ترتيب القرآن العزيز لوجوه :

أحدها : التبرك بترتيبه.

الثاني : أنه أضبط وأجدر بالإتيان على جميع المطالب المذكورة من القرآن.

الثالث : أن ذلك أنشط للناظر فيه ؛ إذ يخرج من فن إلى غيره ومن مسألة إلى غيرها ، فهو شبيه بما قصده الحريري (١) في مقاماته من الإحماض حيث قال : «وما قصدت بالإحماض فيه ، إلا تنشيط قارئيه». وإن كمل هذا التعليق ـ إن شاء الله عزوجل ـ رجوت أن يكون دستورا نافعا ، ولجملة صالحة من المطالب النفسية جامعا ، إن شاء الله عزوجل. هذا آخر المقدمة.

* * *

__________________

(١) هو الرئيس أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري عالم أديب لغوي ولد سنة ٤٤٦ ه‍ وتوفي سنة ٥١٦ ه‍ انظر شذرات الذهب [٤ / ٥٥] ، وفيات الأعيان [٢ / ١٥٧].

٣٠

القول في الفاتحة

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) [الفاتحة : ٢].

الرب : قيل : هو المالك.

وقيل : السيد.

وقيل : المربي والمصلح.

ويجوز أن يكون الخالق ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢) [الزمر : ٦٢] خالق كل شيء ففسر «الرب» في موضع ، بالخالق في آخر.

والعالمون : جمع عالم ، وهو ما سوى الله ـ عزوجل ـ إن اشتققناه من العلامة إذ هو علامة على جود صانعه ، ومختص بذوي العلم كالملائكة والجن والإنس ، إن اشتققناه من العلم.

ويقال : إن لله ـ عزوجل ـ تسعين ألف عالم كل عالم كالدنيا وما فيها.

وقيل : ألف عالم ، أربعمائة منها في البر ، وستمائة في البحر. وإضافة «رب» إلى العالمين إشارة إلى أمور :

أحدها : كمال نعمته التي استحق بها الحمد ؛ إذ [العالمون] جزء من نعمته ، كما قال :

له أياد إليّ سابقة

أعد منها ولا أعددها

الثاني : إشارة إلى كمال قدرته ؛ لأن العالمين خلق عظيم ، فالقدرة الموجدة لهم أعظم بالضرورة.

الثالث : إشارة إلى أنه خالق العالم وصانعه القديم ، وهذا هو المقصود من هذه الآية ، وهي مسألة وجود الصانع ، وهي من مسائل أصول الدين ، والاستدلال فيها بوجود الأثر على المؤثر.

وتقريره : أن العالم حقيقة موجودة بالحس ، فالمؤثر في وجوده : إما جملته ، أو ما هو داخل فيها ، أو ما هو خارج عنها ، والأول والثاني باطلان فتعين الثالث ، أما بطلان الأول فلاستحالة إيجاد الشيء نفسه ؛ لأنه من حيث هو مؤثر يقتضي أنه موجود ؛ إذا المعدوم لا تأثير له ، ومن حيث هو أثر يقتضي أنه معدوم ؛ إذ الموجود لا يقبل الوجود ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل. فلو كان العالم موجدا لنفسه لزم أن يكون موجودا معدوما في حالة / [٨ ب / م] واحدة وإنه محال.

٣١

[والثاني باطل ؛ لأن] الموجد للعالم لو كان جزؤه الداخل في حقيقته لكان ذلك الجزء موجدا لنفسه ، ويلزم المحال / [١٤ / ل] بعينه.

وإذا تعين أن الموجد للعالم خارج عن حقيقته ، فذلك الخارج : إما قديم ، [وإما] حادث ، فإن كان قديما فهو المطلوب ، وإن كان حادثا فالموجد له إن كان هو العالم لزم الدور ؛ لتوقف كل واحد منهما على الآخر. وإن كان غير العالم : فإن انتهى إلى قديم فهو المطلوب ، وإلا لزم التسلسل ، وهو محال.

وهذه مسألة انتظمت الدلالة على وجود الصانع وقدمه ، ولها مواقع أخر ربما تذكر فيها ، إن شاء الله عزوجل.

قوله ـ عزوجل ـ : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣) [الفاتحة : ٣] : اعلم أن الكلام في الله ـ عزوجل ـ في أصول الدين : إما في ذاته أو صفاته ، أو أفعاله ، والكلام هاهنا من قبيل الكلام في الصفات ، ف (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣) [الفاتحة : ٣] مشتق من الرحمة ، وقد اختلف فيها : فقيل : هي صفة فعلية بمعنى الإحسان إلى الخلق ، والإحسان مخلوق لا يقوم بذاته ـ عزوجل ـ لاستحالة قيام الحادث بالقديم ؛ يقال : رحم الطبيب المريض : إذا عالجه ؛ لأن علاجه له إحسان إليه.

وقيل : الرحمة صفة ذاتية ؛ أي : معنى قائم بذاته ـ عزوجل ـ كالعلم.

وقد اختلف الناس في هذا ، وأن الله عزوجل ـ هل يجوز أن يقوم به صفات زائدة على مفهوم ذاته ، وللكلام في ذلك موطن هو أليق به من هذا ، والمقصود فيه أصرح.

ثم اختلف في أيهما أبلغ : فقيل : الرحمن ؛ لأن بناء «فعلان» للمبالغة ؛ نحو : غضبان للممتلئ غضبا ، ونحوه.

وقيل : الرحيم ؛ لأنه عدل به عن «فاعل» إلى «فعيل» وهو عدول عن صيغة الفاعل إلى بناء المفعول ؛ فكان أبلغ ، كما عدلوا عن عالم وقادر إلى عليم وقدير ، وعن خاطب إلى خطيب ، وعن قول بالغ إلى بليغ.

ولأن العرب إذا أرادت المبالغة عدلت بالشيء إلى ضده ، تنبيها على شدة التفاوت بين المعدول والمعدول عنه ؛ كما عدلوا في «عالم» إلى «علّامة» بلفظ المؤنث ، وفي «امرأة صابرة» إلى «صبور» بإسقاط علامة التأنيث وقالوا للغراب : أعور ؛ لحدة بصره ، و «رحم» إنما اسم الفاعل منه «راحم» فالعدول به إلى «رحيم» على «فعيل» الذي أصله للمفعول يدل على ما ذكرناه من المبالغة.

٣٢

وهذا ونحوه وإن كان خارجا عن الأصول ، إلا أنها فوائد مستطردة ، فلا تنكرنها.

قوله ـ عزوجل ـ : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة : ٤] هذا من مسائل اليوم الآخر ؛ إذ معناه : مالك يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، وفيه مباحث تؤخر إلى الموضع الأليق بها ، إن شاء الله ، عزوجل.

قوله ـ عزوجل ـ : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة : ٥] البحث في هذا يتعلق بالقدر ، وهاهنا سؤال ؛ وهو أن قولهم : «نعبد» يقتضي / [١٥ / ل] [٩ أ / م] تمكنهم من فعل العبادة ؛ لإضافتهم إياه إلى أنفسهم بصيغة «نفعل».

وقولهم : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] يقتضي عجزهم عنه بدون إعانته لهم ، وذلك ينافي تمكنهم واستقلالهم به ، المستفاد من قولهم : «نعبد» وهو تناقض؟!

والجواب : أما على رأي الكسبية فالمراد : إياك نعبد كسبا ، وإياك نستعين على العبادة خلقا لها منك فينا.

وأما على رأي المعتزلة فالمراد : إياك نعبد بخلقنا لأفعال العبادة ، وإياك نستعين بأن تمدنا بألطافك من خلق دواعي العبادة ، ونفي الصوارف عنها.

وعلى رأي المجبرة : إياك نعبد بظاهر حركاتنا ، وإياك نستعين بإجبارك لنا عليها وخلقك لها فينا.

قوله ـ عزوجل ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) [الفاتحة : ٦].

إن قيل : إن كانوا مهتدين فسؤالهم الهداية تحصيل الحاصل ، وإن كانوا غير مهتدين كان ذلك مناقضا لقولهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة : ٥].

والجواب : أنهم لم يسألوا أصل الهداية بل الدوام والاستمرار عليها ، فهو من باب : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) [الأحزاب : ١] أي : دم على تقواه ، و «أنا مؤمن إن شاء الله» أي : أدوم على الإيمان إن شاء الله ، عزوجل.

ثم قولهم : (اهدنا) يقتضي أن لا هادي إلا الله ـ عزوجل ـ ، ويحتج بها على القدرية ، وهي قوية عليهم ، وهم يجيبون عنها بأن المراد : أعنا على أن نهدي أنفسنا بإمدادك لنا باللطف ، وهو أمر من أمر الله ـ عزوجل ـ إذا فعله بالعبد كان أقرب إلى الهدى ، وإذا منعه إياه كان أقرب إلى الضلال.

أما حقيقة الهدى والضلال فالعبد يفعلهما لنفسه عندهم ، وتأويلهم للآية بعيد ؛ فهي

٣٣

إذن عليهم لا لهم.

أما الكلام في اللطف فموضعه غير هاهنا إن شاء الله ؛ عزوجل.

قوله عزوجل : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧] متردد بين الفريقين ؛ لأن الجمهور يقولون : أنعمت عليهم بخلق الهداية فيهم.

والقدرية يقولون : أنعمت عليهم بإمدادهم بالألطاف حتى اهتدوا بأنفسهم.

والمختار أن المعنى : أنعمت عليهم برضاك فوفقتهم لهداك ، بدليل مقابلة (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] ب (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة : ٧] والرضا يقابل الغضب.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧] يتمسك به القدرية على أن الكافر والعاصي هو يضل نفسه ، لأنه نسب الضلال إليهم بصيغة اسم الفاعل الذي تصريفه : ضل يضل ، فهو ضال.

وجواب الجمهور عنه : إنما نسب إليهم لأنهم كسبوه ، أو لأنه ظهر على أدواتهم ظاهرا ، وإن جبروا عليه باطنا ، أو لأنهم لو فوض إليهم وتركوا واختيارهم لفعلوه.

هذا كله يتعلق بمسائل القدر.

* * *

٣٤

القول في سورة البقرة

قوله عزوجل : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ٢ ، ٣].

[١٦ / ل] يتمسك به القدرية على عكس تمسكهم ب (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) [الفاتحة : ٧] وهو أنه نسب التقوى والإيمان إليهم نسبة الفعل إلى الفاعل / [٨ ب / م] فاقتضى أن لا جبر.

ويجاب عنه بنحو ما سبق ؛ من أنه أضيف إليهم ؛ لأنه كسبهم ، أو هم محل ظهوره ، أو لأنه لو فوض إليهم لفعلوه ، على ما سبق في قاعدته ، وهذا سؤال وجواب عامان في كل فعل نسب إلى المخلوقين ، فاعرفه فتكراره في كل مواطنه يصعب ، وربما حادثناك به المرة بعد المرة تذكرة بهذه القاعدة.

قوله ـ عزوجل ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ٣] هذه من مسائل الأرزاق والآجال ، وهو تابع لباب القدر.

واحتج بها المعتزلة على أن الحرام ليس من رزق الله ـ عزوجل ـ بل العبد يرزقه نفسه.

وتقريره : أن المنفق من رزق الله عزوجل ـ ممدوح بهذه الآية ، والمنفق من الحرام ليس بممدوح بالإجماع ؛ ولأن الحرام لا يملك ، فالمنفق منه فضولي في إنفاقه ، والفضولي مذموم ؛ ينتج أن المنفق من رزق الله ليس بمنفق من الحرام ، وينعكس كليا أو جزئيا : المنفق من الحرام ليس بمنفق من رزق الله عزوجل وهو يستلزم المطلوب.

ويمكن تقريره بأبين من هذا ؛ وهو أن المنفق من الحرام : إما ممدوح ، وهو خلاف الإجماع ، أو مذموم ؛ فهو غير منفق من رزق الله ـ عزوجل ـ إذ هذا ممدوح وذاك مذموم ؛ فهذا غير ذاك.

والجواب : أن المنفق من الحرام مذموم من جهة اكتساب الحرام ، ممدوح من جهة الإنفاق والبذل ، وحينئذ إن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة كسب الحرام ، سلمناه ولكن لا ينتج قياسكم لعدم اتحاد الأوسط فيه ، وإن أردتم أنه ليس بممدوح من جهة الإنفاق ، منعنا ذلك ؛ فلا يتم دليلكم. وأما كونه فضوليا مذموما ، فإنما ذلك من جهة تصرفه في ملك الغير بالإنفاق ، لا من جهة نفس الإنفاق.

٣٥

وحجة الجمهور على أن الحرام من رزق الله ـ عزوجل ـ كالحلال ـ عموم الآيات ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) [هود ٦].

و (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) [العنكبوت : ٦٠].

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥٨) [الذاريات : ٥٨].

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) (١٥) [سبأ : ١٥] مع قضاء العادة بأنهم لم يسلموا من أكل الحرام ؛ أعني : قوم سبأ ، مع كثرتهم وكفرهم. ولأن الحلال لو كان شرطا في رزق الله ـ عزوجل ـ لما كانت البهائم في رزقه ، إذ لا حلال في حقها ولا ملك لها.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) [البقرة : ٤] هذه من مسائل الكتب ، وهي تقتضي صحة الكتب المنزلة على الأنبياء لا الكتب المحرفة المبدلة ؛ كالتوراة التي بأيدي اليهود ، والإنجيل الذي بأيدي النصارى ؛ إذ الإيمان بما ليس بصحيح لا يمدح أهله. ولم يرد الأمر قط إلا بالمنزل ؛ لأنه سالم عن التحريف. / [١٧ / ل] و (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦) [العنكبوت : ٤٦].

وتقتضي أيضا أن كلام الله ـ عزوجل ـ وكتبه المنزلة متساوية في الإيمان بها ، وإن تفاوتت في الأحكام والشرائع ، ويتعلق بهذا بحث وكلام يذكر بعد ، إن شاء الله عزوجل.

قوله سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (٤) [البقرة : ٤] يتعلق بأحكام اليوم الآخر. وهو يقتضي مدح المؤمن به ، وله تفاصيل. [٩ أ / م].

قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) [البقرة : ٥] هذه من مسائل القدر ، يحتج به الجمهور على أن هدى المهتدين من الله ؛ أي : بفضله وخلقه.

٣٦

ويجيب القدرية بأن معنى كون الهدى من ربهم أنه بسبب إلطافه بهم وتوفيقهم ، لا أنه خلقه فيهم ، وهو خلاف الظاهر.

قوله ـ عزوجل ـ : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) هو عند الجمهور بخلق الكفر فيها فتبقى كالوعاء المختوم لا يدخلها الإيمان.

وقيل : القلب جسم مجوف ، ونور العقل والمعرفة ينزل عليه من الدماغ ما دام مفتوحا ، فإذا طبع عليه بما شاء الله ـ عزوجل ـ امتنع نور المعرفة من الدخول فيه ، فأظلم وضل.

والختم عند المعتزلة [إما بمنع] اللطف أو بتسمية العبد مختوما على قلبه. وهو بعيد جدا لا يعول على مثله.

والختم على القلب ألا يعقل فيؤمن ، وعلى السمع ألا يسمع فيعقل ، وعلى البصر ألا ينظر في آيات الله ـ عزوجل ـ وعجائب الملكوت فيعتبر.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) اختلف في الأعمال طاعة ومعصية ؛ هل هي علة للجزاء : ثوابا وعقابا ، أو سبب لا علة موجبة؟.

قالت المعتزلة بالأول ، والجمهور بالثاني ، والآية محتملة لهما ؛ لأن قولك : «عذبت زيدا بكذبه ، وضربته بسوء أدبه» يحتمل العلية والسببية ، والفرق بينهما أن العلة موجبة لمعلولها بخلاف السبب لمسببه فهو كالأمارة عليه.

ومن هاهنا اختلف في الحج عن الغير لعذر ، هل يصح أم لا؟ فمن رأى العمل علة قال : لا يصح ؛ لأن عمل زيد لا يكون علة لبراءة ذمة عمرو ، أو لحصول الثواب له. ومن رآه سببا قال : يصحّ ؛ لأن عمل زيد جاز أن يكون سببا لبراءة ذمة عمرو ، وعلما على حصول الأجر له.

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (٢١) [البقرة : ٢١] ، قيل : هذا إشارة إلى حدوث العالم وقدم الصانع ، وتقريره : أن هؤلاء الكفار قد سلموا أنهم مخلوقون ؛ لقوله عزوجل : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٨٧) [الزخرف : ٨٧] فالخالق لهم : إما أنفسهم ، وهو محال ؛ لما مر ، أو غيرهم. وذلك الغير : إما من قبلهم من الأمم ، أو غيرهم ، والأول باطل ؛ لأن الخالق لمن قبلهم إن كان هؤلاء المخاطبين لزم الدور ، أو غيرهم من الأمم ذاهبا إلى غير النهاية لزم التسلسل.

٣٧

والثاني : وهو أن الخالق لهم غير الأمم قبلهم ـ فذلك الغير : / [١٨ / ل] إما قديم وهو المطلوب ، أو حادث : فإن أثر فيه بعض مخلوقاته لزم الدور ، أو مؤثر آخر لزم التسلسل.

وحاصله : أنكم ومن قبلكم مخلوقون ، فلا بد لكم من خالق قديم : «فالخالق» : احتراز من التعطيل ، و «القديم» احتراز من لزوم الدور والتسلسل.

فائدة :

الدور : توقف وجود الشيء على نفسه : إما بغير واسطة ، أو بواسطة متحدة ؛ كتوقف «أ» على «ب» و «ب» على «أ» أو متعددة ، إما متناهية ؛ كتوقف «أ» / [٩ / ب / م] على «ب» و «ب» على «ج» و «ج» على «د» ، و «د» على «ه» ، [و «ه» على «أ»] أو غير متناهية ؛ كتوقف «ه» على «ز» ، وتوقف «ز» على «ح» وهلم جرا ، إلى غير النهاية ، وهو محال.

والتسلسل : تعلق كل سبب بآخر قبله وتوقفه عليه ، إلى غير النهاية ، وهو محال.

وعلى حدوث العالم ووجود الصانع أسئلة يأتي منها ما اعترض لنا ، إن شاء الله عزوجل.

قوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) [البقرة : ٢٢] ، فيه تنبيه على كيفية النظر ، وكيفيته تستدعي تحققه ووجوبه ، وسيأتي بيانه ـ إن شاء الله عزوجل ـ وقد سبق حد النظر ، وهو يفضي في وجود الصانع وحدوث العالم إلى ما سبق من الاستدلال بدليل الدور والتسلسل ، وقد احتج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهما ، إذ قيل له حين قال : «لا عدوى» ـ : يا رسول الله ، ما بال الإبل ـ تكون كالظباء فيخالطها البعير الأجرب فتجرب؟ قال : «فمن أعدى الأول؟!» (١) يعني : لو كان كل أجرب يستدعي أجرب يعديه لزم تسلسل الجربى ، لكنه باطل بالعيان ؛ إذ البعير الأول لم يستدع أجرب يعديه.

أو يقال : لو كانت العدوى لازمة ، لكان البعير الأول : إما أن تعديه الإبل التي أعداها هو ؛ فيلزم الدور ، أو غيره فيلزم التسلسل. وانظر إلى قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ : «فمن أعدى الأول؟» مع قوله عزوجل ـ : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ

__________________

(١) رواه البخاري [٥ / ٢١٦١] [٥٣٨٧] ورواه مسلم [١٤ / ١٧٤٢] ج [٢٢٢٠].

٣٨

جَدِيدٍ) (١٥) [ق : ١٥] كيف [كان] كل منهما ثلاث كلمات تضمنت دليلا عقليا عظيما أسهب في تقريره المتكلمون ، وذلك دليل على تشابه الكلامين ، وأنه عليه ـ الصلاة والسّلام ـ مؤيد من العلي الأعلى ما ينطق عن الهوى.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) [البقرة : ٢٣].

هذه من مسائل النبوات ، وهي تتضمن إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقريره معجزه وهو القرآن ، وتقرير الدليل : أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو [كان كاذبا] في دعوى النبوة لأمكنكم أن تعارضوا معجزه ـ وهو القرآن ـ ولو بسورة منه ، لكن لا يمكنكم معارضته ؛ فيلزم أنه ليس بكاذب ؛ فهو إذن صادق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] أي : من مثل محمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ تنبيه على وجه صدقه ؛ وهو أن صدور مثل هذا الكلام المعجز للخلق عن أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب ، يدل على صدقه قطعا ؛ كما أن / [٢٠ / ل] قلب العصا حية وإحياء الموتى ، ممن لم يشتغل بعلم السحر ولا الطلب ، يدل على صدقه.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة : ٢٤] معجز معترض في هذا الاستدلال ؛ لأنه إخبار عن غيب ، بأنهم لا يعارضون القرآن ، وكان كما قال. ولقد كان هذا مما يقوي دواعيهم على تعاطي المعارضة ، فلو قدروا عليها لفعلوها ، ثم لكذبوه في خبره ، وقالوا : زعمت أنا لن نفعل وها نحن قد فعلنا ؛ فلما لم يعارضوه مع توفر الدواعي على المعارضة ، دل على العجز والإعجاز.

قوله عزوجل : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة : ٢٤].

مع قوله عزوجل : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣) [آل عمران : ١٣٣].

يحتج بهما على وجود الجنة والنار في الخارج ، خلافا للمعتزلة ؛ إذ قالوا : إنما هما موجودتان في العلم لا في الخارج.

حجة الجمهور : هذا النص ؛ إذ المعدوم لا يقال له : «أعدّ» فهو معد ؛ ولأنه قد ثبت أن

٣٩

آدم ـ عليه‌السلام ـ دخل الجنة ثم أخرج منها (١) وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الجنة والنار ليلة الإسراء ، (٢) وأن أرواح الشهداء في حواصل طير في الجنة (٣).

احتج الخصم بأن الحاجة إليهما إنما هي في الآخرة ، فإيجادهما قبلها عبث.

وأجيب بالمنع ، بل في ذلك ترغيب وترهيب كآلات العقوبة ؛ كالصلابة ونحوها ، يعدها السلطان ترهيبا للأشرار ، وآلات الثواب والإنعام ترغيبا للأخيار.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥) [البقرة : ٢٥].

يقتضي أن المعاد جسماني فيه أكل ثمار ونكاح أزواج ، خلافا للفلاسفة والنصارى القائلين بأن المعاد روحاني ، لا أكل فيه ولا نكاح ، وإنما الثواب والعقاب هناك بالقرب من الله ـ عزوجل ـ والبعد منه ، أو بالتذاذ النفس بالعقائد الحقة وتجردها عن الهيئات الطبيعية الرذيلة وتألمها بخلاف ذلك.

فالجواب : أن هذا بناء منهم على استحالة إعادة الأجسام ، وسيأتي الكلام معهم فيه ، إن شاء الله ـ عزوجل ـ فإذا ثبت المعاد الجسماني جاز وجود الأكل وغيره من لواحق الطبيعة ، وقد أخبر به الشرع ؛ فكان واجب الوقوع سمعا ، ولأن أولياء الله ـ عزوجل ـ تعبدوا له بترك الملاذ والشهوات ، والحكمة تقتضي تعويضهم عنها بمثلها أو خير منها من جنسها ، وعلى هذا كلام ربما ذكرناه بعد ، إن شاء الله ـ عزوجل.

قوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا

__________________

(١) صحيح مسلم كتاب الجمعة (١٧) (٨٥٤) و (١١٨ ، [٨٥٤]) وانظر المسند [٢ / ٥٤٠] وصححه ابن خزيمة [٢ / ١٧٢٩] ورواه أحمد [٢ / ٤٠١] وأبو داود [١٠٤٦] والترمذي [٤٨٨ ، ٤٩١] والنسائي [٣ / ٨٩] وصححه ابن حيان [٧ / ٢٧٧٢] والحاكم [١ / ٢٧٨ ـ ٢٧٩].

(٢) انظر تفسير ابن كثير [٨ / ٣٧٣].

(٣) صحيح مسلم كتاب الإمارة [١٢١] [١٨٨٧] وأخرجه الترمذي كتاب تفسير القرآن [٣٠١١] وابن ماجة كتاب الجهاد [٢٨٠١].

٤٠