الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

وإذا احتمل سبيل المؤمنين هذه المعاني امتنع تعينه للإجماع ، أو نقول حينئذ : تبقى الآية فيه ظاهرا لا قاطعا ، ثم يلزم المحال من وجهين : أحدهما إثبات القاعدة القاطعة بالظاهر المحتمل ، وهو إثبات الأقوى بالأضعف ، وهو باطل.

والثاني : أن الظاهر إنما عمل به بالإجماع ، فلو أثبت الإجماع بالظاهر لزم الدور ، وأنه محال لاستناد الإجماع إلى نفسه بواسطة العمل بالظاهر.

الوجه الرابع : قوله في الطريقة الثانية : اتباع غير سبيل المؤمنين متوعد عليه [يتوجه عليه] أسئلة :

أحدها : الوجه الأول على الطريقة الأولى.

الثاني : أن غير لا يتعرف بالإضافة ، وحينئذ يبقى تقدير الكلام : ويتبع غير سبيل المؤمنين أي ويتبع مغايرا لسبيل المؤمنين وحينئذ يكون هذا مطلقا في غير سبيل المؤمنين ، لا عاما في كل ما غاير سبيل المؤمنين وإذا كان الأمر كذلك احتمل [أن يكون السبيل المتوعد عليه المغاير لسبيل المؤمنين سبيلا معهودا هو سبيل] الكفر.

ويحصل بذلك الوفاء بوظيفة اللفظ المطلق فلا يبقى اللفظ واجب التناول للإجماع.

ويجاب عن هذا بأن غير إذا تعين ما أضيفت إليه ، تعرفت نحو هذا الحق غير الباطل ، وهاهنا قد تعين ما أضيفت إليه وهو سبيل المؤمنين [فتعرفت به].

الثالث : أن اللام في المؤمنين يحتمل أنها للعموم ، فيقرب ما قلتم ، ويحتمل أنها لبعض معهود منهم ، فيبقى تقديره : ويتبع غير سبيل قوم مخصوصين من المؤمنين ؛ فلا يكون المراد / [١١٥ / ل] به الإجماع ، ثم نقول : ما ذكرتم من الدليل لو دل على أن الإجماع حجة لكان عندنا ما / [٥٤ ب / م] يعارضه ، وذلك من وجوه :

أحدها : أن ابن عباس خالف عثمان في حجب الأم باثنين من الإخوة والأخوات ؛ وقال : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك. فاحتج عليه عثمان بالإجماع قبله ، وفي عصره على ذلك ؛ فلم يرجع ابن عباس إليه واستمر ابن عباس على خلافه ، ولم ينكر عليه عثمان ولا أخذ على يده ورده إلى إجماع الناس ؛ ولو كان الإجماع حجة لما استمر ابن عباس على خلافه ، ولا أقره عثمان على ذلك. وأيضا فأحد الأمرين لازم ، إما أن ما احتج به عثمان ليس بإجماع مع أنه إجماع الشيخين في عصرهما فغيره في عصرهما فغيره في الأعصار بعد ذلك أولى أن لا يكون إجماعا ، أو أن ابن عباس خالف الإجماع ، وأقره عثمان على ذلك.

الوجه الثاني : أن ابن مسعود كان لا يجوز لمن عدم الماء أن يتيمم كما ثبت في البخاري في مناظرته أبا موسى على ذلك ، وهذا منه مخالف للنصّ والإجماع ؛ فإن كان ابن مسعود

١٨١

مصيبا في ذلك كان الإجماع على جواز التيمم لعادم الماء ، فلا يكون الإجماع حجة لجواز الخطأ فيه ، وإن كان مخطئا فالصحابة لم ينكروا عليه مخالفته للإجماع ، فيكون إجماعهم على ترك الإنكار خطأ ، فلا يكون الإجماع [حجة لما] ذكرنا.

الثالث : أن الإجماع : هو اتفاق مجتهدي المؤمنين على أمر ديني ، والمؤمن من اتصف بالإيمان ، والإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وبذلك فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جبريل ـ عليه‌السلام ـ المتفق عليه (١) ، ثم إن المؤمنين المتصفين بهذا الإيمان المصدقين بهذه الأركان ـ قد اشتهر انقسامهم إلى نيف وسبعين فرقة منهم من يرى الإجماع حجة ، ومنهم من لا يراه ؛ كالشيعة والخوارج والنظام (٢) ، ومن تابعهم.

فإن أريد بالإجماع سبيل المجتهدين من طوائف الأمة كلها النيف والسبعين لم ينكر وجوده ؛ لأن بعضهم ينكر كونه حجة [فلا يمكن اعتبار موافقته في الإجماع ؛ لأن اعتباره في الإجماع فرع على كونه يرى الإجماع حجة] ، والأصل منتف فالفرع أولى.

وإن أريد بالإجماع سبيل المجتهدين من بعض طوائف الأمة / [١١٦ / ل] فهؤلاء بعض المؤمنين ، والآية إنما نزلت على وجوب اتباع سبيل مجتهدي (٣) جميع المؤمنين لا سبيل مجتهدي بعضهم.

واعلم أن هذه إشكالات صعبة على الإجماع عند من هو فاضل يدري ما يقول.

ويقال له : ولا تظن هذا غريبا مني ، فقد وقفت على شرح وريقات إمام الحرمين ، للشيخ الإمام الفاضل تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري ، المعروف بالفركاح الدمشقي (٤). وقد زيف فيها أدلة الإجماع بأسرها / [٥٥ أ / م] ولم يعتمد منها إلا على ما هو تحلة القسم. والذي يقتضيه النظر أن الإجماع أحد أدلة الشرع كالنص والقياس ؛ وربما قدم عليه الظاهر كما قدمه ابن عباس عليه ؛ إذ قدم ظاهر : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ

__________________

(١) رواه البخاري [١ / ٢٧] [٤ / ١٧٩٣] ح [٥٠ ، ٤٤٩٩] ومسلم [١ / ٣٩ ، ٤٠] ح [٩ ، ١٠].

(٢) هو ابن إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري توفي سنة ٢٣١ ه‍ انظر البرهان [١ / ٦٧٦] وتاريخ بغداد [٦ / ٩٧].

(٣) هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني الأصولي توفي سنة ٤٧٨ ه‍ انظر شذرات الذهب [٣ / ٢٥٨] وفيات الأعيان [٣ / ١٦٧].

(٤) هو أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري ولد سنة ٦٢٤ ه‍ وتوفي سنة ٦٩٠ ه‍ انظر شذرات الذهب ٧ / ٧٢١.

١٨٢

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (١١) [النساء : ١١] على الإجماع الذي احتج به عثمان مع أنه أقوى الإجماعات إذ هو إجماع الصحابة الذي خالفت الظاهرية فيما سواه من الإجماعات.

وكما قدم ابن مسعود القياس المصلحي على الإجماع على جواز التيمم لعادم الماء حيث قال : لو أجزنا لهم التيمم لأوشك إذا برد الماء على أحدهم أن يتيمم والماء حاضر.

قوله عزوجل : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) [النساء : ١١٧] يعني الكفار العابدين للأوثان : ما يدعون منها إلا إناثا ، كاللات والعزى ومناة ونحوها.

(وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) [النساء : ١١٧] وهو الذي سول لهم عبادتها وكلمهم من أجوافها ، أما غير الوثنيين من العرب فقد دعوا من دون الله ـ عزوجل ـ الملائكة والكواكب وغيرها.

فهذا العام مخصوص بهؤلاء ، أو عام أريد به الخاص وهم الوثنيون من العرب.

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) (١١٩) [النساء : ١١٩] عام أريد به الخاص ؛ إذ لم يبتكوا [آذان جميع الأنعام ، ولا غيروا جميع خلق الله ، عزوجل.

(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) (١٢٠) [النساء : ١٢٠] عام مطرد.

(أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) [النساء : ١٢١] ، عام أريد به من مات على هذه الأوصاف منهم ، وهي عبادة الأوثان وما بعدها.

(وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً) (١٢١) [النساء : ١٢١] عام مطرد.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) [النساء : ١٢٢] عام مطرد.

١٨٣

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣] عام خص بما عفا الله ـ عزوجل ـ عنه إما تفضلا أو بشفاعة ، أو سقط مقاصة.

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤) [النساء : ١٢٤] عام مطرد بشرط الموت على ذلك.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٢٨) [النساء : ١٢٨] عام خص بما إذا أفضى إلى مفسدة راجحة ، أو فساد لا يتدارك فتركه خير.

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] هذا عام مطرد باعتبار الفطرة المطبوع عليها الإنسان أنه يشح ويبخل ، / [١١٧ / ل] فلا تناقض.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩) [الحشر : ٩] كما أن الإنسان طبع على الشهوة ، ولا ينافيه وجود معصوم من آثارها.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً) (١٣١) [النساء : ١٣١] عام مطرد شاهده (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٣٢) [النساء : ١٣٢] تكرر في القرآن ، وهو عام مطرد (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (١٣٤) [النساء : ١٣٤] عام مطرد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ

١٨٤

تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١٣٥) [النساء : ١٣٥] عام في أمر المؤمنين بذلك وكذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١٣٦) [النساء : ١٣٦] عام مطرد فيمن كفر بهذه الأركان أو بعضها ، وهي أركان / [٥٥ ب / م] الإيمان كما سبق.

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١٣٨) [النساء : ١٣٨] عام فيمن مات منافقا.

(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) [النساء : ١٣٩] عام مطرد.

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] عام مطرد.

(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (١٤٣) [النساء : ١٤٣] عام مطرد ، وهو حجة على المعتزلة ، وقد سبق مثله.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) (١٤٥) [النساء : ١٤٥] عام فيمن مات منافقا.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (١٤٦) [النساء : ١٤٦] عام مطرد.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) (١٤٨) [النساء : ١٤٨] يحتج بدليل خطابه على استحباب الجهر بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ خلافا لبعض متكلمي العصر ؛ حيث قال ـ فيما بلغنا عنه ـ : لا يستحب.

وبيانه أن مفهوم (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) [النساء : ١٤٨] أنه يحب الجهر بالحسن من القول ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيرها من الأذكار من حسن القول ، فيحب الله ـ عزوجل ـ الجهر بها لكن بشرط أمن الرياء والعجب ونحوه من المحبطات ،

١٨٥

فإن خاف شيئا من ذلك فالإسرار أفضل ، وربما وجب.

وتحقيق القسمة : أن الذاكر وكل طائع إن قصد التأسي به وأمن المحبط استحب له الجهر ، وإن خاف المحبط أو لم يقصد التأسي أو قصده ، وليس أهلا له وجب الإسرار ، وإن قصد التأسي وخاف المحبط فالأحوط الإسرار.

وإن لم يقصد التأسي ؛ ولا خاف المحبط جاز الأمران ، وفي أيهما أفضل؟ احتمالان ؛ أصحهما الإسرار للحديث : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» (١). / [١١٨ / ل] واختصاص ذكره بالذات القديمة أفضل من ذكره في ملأ الملائكة ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً.)

(أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (١٥١) [النساء : ١٥١] اعلم أن هذا توسط في الصورة ، وهو انحراف في الحقيقة ، فلذلك ذم بخلاف باقي التوسطات نحو : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (٢٩) [الإسراء ٢٩].

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) [الإسراء ١١٠].

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) الفرقان [٦٧] ونحوها ، فإن التوسط فيها محمود.

وتحقيق ذلك أن الحق لما كان تابعا للبرهان فتارة يكون في الوسط ، وتارة يكون في الطرف ، فإذا كان في الوسط كان التطرف انحرافا مذموما ، كما في قوله عزوجل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء ٢٩] فهذان طرفان مذمومان والحق في الواسطة ، وهو القصد بين الإسراف والتقتير ، وإذا كان الحق في الطرف كان التوسط انحرافا مذموما كما في هذه الآية ، فإن الإنسان إما يؤمن بالله ـ عزوجل ـ وبرسله ، أو يكفر بهما جميعا ، أو يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض ، فالحق في الطرف الأول ، فالثاني مع الواسطة انحراف باطل ، والغالب هو القسم الأول ، وهو كون

__________________

(١) رواه البخاري [٦ / ٢٦٩٤] [٦٩٧٠] ومسلم [٤ / ٢٠٦١ ، ٢٠٦٧] ح [٢٦٧٥].

١٨٦

الصواب في الواسطة فمن ثم ورد : «خير الأمور / [٥٦ أ / م] أوساطها» (١) وقال الشاعر :

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

بناء على الغالب والتحقيق ما قلناه وهذه القاعدة شبيهة بقياس الشبه ، إذا كان معناه تردد الواسطة بين طرفين ، فيلحق بأشبههما بها.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) (١٥٣) [النساء : ١٥٣] يحتج بها المعتزلة على عدم جواز الرؤية ، وقد سبق ذلك في البقرة.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (١٥٥) [النساء : ١٥٥] يحتج بها المعتزلة والجمهور ، أما المعتزلة فقالوا : الطبع على قلوبهم كان عقوبة على كفر ، صدر عنهم بخلقهم ، وإلا استحال أن يعاقبهم على فعله.

والجمهور قالوا : كما طبع عليها آخرا عقوبة طبع عليها أولا إبعادا أو بغضا بحسب سابق العلم.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) [النساء : ١٥٧] هذا أعنى (رَسُولَ اللهِ ،) تخصيص من الله ـ عزوجل ـ لعيسى ـ عليه‌السلام ـ [وتنويها بذكره] بإثبات رسالته ، وليس من قول اليهود ؛ إذ لو كان من قولهم لكان ذلك اعترافا منهم برسالته ، وذلك / [١١٩ / ل] مع اعترافهم بقتله على زعمهم وافتخارهم به ، محال.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [النساء : ١٥٧] اختلف أهل الملل في قتل المسيح وصلبه ، فادعاه اليهود والنصارى ، وأنكره المسلمون.

__________________

(١) رواه ابن أبي شيبة [٧ / ١٧٩] والبيهقي [٥ / ٢٦١] وابن سعد [٧ / ١٤٢] وعزاه المناوي للبيهقي [٦ / ٣١٧] ورواه أبو نعيم في الحلية [٢ / ٢٨٦] والبيهقي في شعب الإيمان [٥ / ٢٦١] ح [٦٦٠١] من حديث مطرف.

١٨٧

أما اليهود فادعوه على جهة التشفي بالمسيح حيث بدل دين التوراة ، وأحل السبت ونحو ذلك.

وأما النصارى فادعوه على جهة المرتبة للمسيح والتشنيع على اليهود بقتل داع إلى الحق ، واحتجوا بأن التواتر ثابت بين اليهود والنصارى والمجوس على قتل المسيح وصلبه قبل ظهور ملة الإسلام ، وهو سبب العداوة بين اليهود والنصارى ، وبأن قتل المسيح ثابت في الإنجيل المتواتر ، وكل ما ثبت في الإنجيل المتواتر فهو حق ثابت في نفس الأمر.

أما أنه ثابت في الإنجيل فمشاهد بالعيان لمن نظر فيه. وأما أن الإنجيل متواتر فلإطباق النصارى عليه في شرق الأرض وغربها كإطباق المسلمين على القرآن ، وأما أن ما ثبت في المتواتر فهو حق ؛ فلأن التواتر يفيد العلم قطعا ، وأيضا فلأن الإنجيل معصوم ، وما ثبت في الكتاب المعصوم فهو حق.

احتج المسلمون بوجهين : أحدهما : أن نفي قتل المسيح ثابت في القرآن المعصوم ، وكل ما ثبت في القرآن المعصوم فهو حق معصوم ؛ فنفي قتل المسيح حق معصوم ، أما أن نفي قتله ثابت في القرآن ، فلهذه الآية (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] وأما أن القرآن معصوم فلقيام البرهان على أنه كلام الله ـ عزوجل ـ وكلام الله ـ عزوجل ـ معصوم.

وأما أن ما ثبت في المعصوم معصوم ؛ فلأنه جزء من المعصوم ، وجزء المعصوم معصوم ، فثبت بذلك نفي قتل المسيح ، فلو ثبت قتله مع ذلك لاجتمع النقيضان ، وأنه محال. / [٥٦ أ / م] الوجه الثاني : أن قتل المسيح لو ثبت لتواتر قتله ، كتواتر مولده ، ودعواه التي ادعاها ، واللازم باطل فالملزوم كذلك.

بيان الملازمة أن قتل المسيح بعد ظهور أمره وانتشار دعوته ، وظهور الخوارق على يده أمر شنيع جدا في العقول والطباع ، كما أن ولادته من غير أب أمر غريب في العادات والعقول ، فلو كان لقتله أصل لوجب اشتهاره اشتهارا مساويا لولادته ، ولو اشتهر كذلك لتواتر كتواتره لقضاء العادات بتواتر المشهورات.

بيان انتفائه اللازم أنه لو تواتر قتله كتواتر مولده لما اختلف فيه كما لم / [١٢٠ / ل] يختلف في مولده ، لكن رأينا الخلاف وقع في قتله ، ولم يقع في مولده ودعوته ، فدل على أن قتله لم يتواتر ، وإلا لكان أحد المتواترين المتساويين في القوة مختلفا فيه دون الآخر ، وأنه محال.

وحاصل هذا الدليل أن تواتر قتله لازم [لقتله ، واللازم منتف فالقتل منتف ، وإنما قلنا :

١٨٨

إن المتواتر منتف ؛ لأن الاتفاق عليه بتقدير وقوعه لازم له ، والاتفاق منتف ؛ فالتواتر منتف.

والجواب عن شبهتهم قوله : التواتر ثابت بين الملل الثلاث على قتل المسيح.

قلنا : لا نسلم التواتر عندهم ، سلمناه ، لكن التواتر إنما يحتج به إذا كان داعيه متفقا وليس كذلك هاهنا ؛ لأن داعي اليهود إلى إثباته التشفي بالمسيح ، وداعي النصارى إلى إثباته التعدي على اليهود والتشنيع عليهم ، وأما داعي المجوس فيحتمل أنه التقليد للطائفتين ، ويحتمل أنه السخرية بهم ، ويحتمل أنه استدراجهم إلى الضلال ، إذ لم يوافقوهم في التنبيه من هذا التواتر مركب الداعي محتمل للباطل فلا يسمع.

سلمنا ثبوت التواتر بينهم لكن لا نسلم لهم على قتل عين المسيح ، بل على قتل شخص ظن الراءون أنه المسيح ، ولا يلزم من ذلك أنه عين المسيح لاحتمال أنه شبه لهم ، كما جزم به القرآن ، ويدل على تحقيق ذلك أن في الإنجيل أنهم لما أخذوا المسيح ليقتلوه أظلم الوجود من الساعة الثالثة من النهار إلى الساعة التاسعة حتى ظن الناس أن الساعة قد قامت ، ففي هذه المدة المزعجة ألقي شبه المسيح إما على بعض تلاميذه وأحبائه منحه له وفداء للمسيح به ، أو على عدوه يهوذا الأسخريوطي الذي دل عليه وأسلمه كيدا له ومكرا به ، فقتل وعرج بالمسيح ، وهذا الاحتمال لا ينتفي أبدا ، وما لم ينتف لا تتم حجتهم ، ولا تسلم من كدورات الظن ، فلا يعتمد عليها في مقام القطع ، وأما كون قتله سببا للعداوة بين اليهود والنصارى فبناء على اعتقادهم الفاسد في أن اليهود قتلته ؛ فلا حجة فيه.

قوله : قتل المسيح ثابت في الإنجيل المتواتر.

قلنا : أما أنه ثابت في / [٥٧ أ / م] الإنجيل فنعم ، وذلك لا يضرنا ، كما لا يضركم إثبات تنبيه المجوس ونبوة نبيهم زرادشت في كتبهم.

وأما كون الإنجيل متواترا فممنوع ؛ لأنه إنما ألف على جهة التأريخ ، وحفظ سيرة المسيح بعد أن رفع وقتل وصلب على زعمكم بنحو ثمانين سنة ، معتمدا في جمعه على أربعة ، وهم : لوقا ومرقص ويوحنا ومتى ، ومثل هذا لا يحصل به التواتر ، ودعوى النصارى أن هؤلاء كانوا أنبياء معصومين حل عليهم روح القدس دعوى خيال تورث الخبال تكاد تزول منها الجبال ، فلا تسمع قوله : أطبقت النصارى عليه في شرق البلاد وغربها كإطباق المسلمين على القرآن.

قلنا : التواتر لا يثبت بمجرد الإطباق ، وإنما يثبت بوجود حقيقته وشروطه ، وهي اتفاق العدد الكثير المأمون تواطؤه على الكذب على الإخبار عن محسوس مع اتفاق الطرفين

١٨٩

والواسطة في هذه القيود ، وهذا المعنى موجود في إطباق المسلمين على نقل القرآن ، وليس موجودا في نقل النصارى للإنجيل ، فإن الطرف الأول الذي على عهد المسيح لم يكونوا على شرط التواتر لقلتهم وضعفهم ، حتى إن المسيح ـ على زعمكم ـ قتل قتل اللصوص وصلب بين لصين ، وما استطلقوا جثته إلا استطلاقا من هيردوس الملك ، حتى دفنوها ، وإن بطرس رئيس الحواريين وأشجعهم وأصدقهم في محبة المسيح [لما سئل عن المسيح] أنكره في ليلة واحدة قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، ثم لم تزل الملة المسيحية خاملة مستضعفة مع اليهود لا يجسر أحد أن يتظاهر بذكر المسيح ولا بسيرته ، ولا بالإنجيل حتى ظهر قسطنطين ابن قسطنطين فأظهرها ، وذلك بين من السنين نحو ثلاثمائة سنة ؛ فأين التواتر وما هذا شأنه.

وكذا قوله : إن الإنجيل معصوم. وهو ممنوع ؛ لأن المعصوم له تفسيرات ، أحدهما : يراد به كلام الله ـ عزوجل ـ ورسله والإنجيل [الذي بأيدي النصارى ليس كلام الله عزوجل إلا على زعمهم أن المسيح هو الله والإنجيل] كلامه وذلك بناء ممنوع [على ممنوع] ، وليس هو كلام المسيح جميعه بل بعضه كلامه وأكثره حكايات ومجريات من كلام غيره شبيه بالسيرة والتاريخ.

والثاني : أن يراد به المحفوظ من التناقض [والتهافت وليس الإنجيل كذلك إذ قد بين الناس فيه من التناقض] كثيرا جدا على ما استقصيناه في كتاب مفرد ، ولو لم يكن من ذلك إلا التهافت الذي في قصة صلب المسيح لكان كافيا حتى احتاج شراحه والمفسرون له إلى تكلف بعيد في إزالته ، ولم يزل ، فأين الإنجيل والحالة هذه من العصمة ، وقد تكلم في تهافت الإنجيل [والرد على] جماعة منهم أبو محمد بن حزم (١) وابن عوف / [٥٧ ب / م] الزهري الإسكندري (٢) وتقي الدين صالح الخطيب القوصي ، وأحسنوا ، وأجودهم ابن عوف ، فلقد شفى وكفى.

فتبين بما ذكرناه ضعف ، بل بطلان دعواهم في قتل المسيح إن شاء الله ، عزوجل.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) (١٥٧) / [١٢١ / ل] [النساء : ١٥٧] هذا يحتمل أنه نفي ليقين القتل ، ويحتمل أنه يقين لنفي القتل ، وهو المراد ، وإن شئت يحتمل أن القتل منفي التيقن أو

__________________

(١) هو علي بن أحمد سعيد بن حزم بن غالب أبو محمد الآمدي الظاهري [٣٨٤ ـ ٤٥٦ ه‍] انظر البداية والنهاية [١٢ / ٩١] وشذرات الذهب [٣ / ٢٩٩] ومعجم الأدباء [١٢ / ٢٣٥ ـ ٢٥٧].

(٢) رشيد الدين أبو الفضل عبد العزيز بن عبد الوهاب ابن العلامة أبي طاهر إسماعيل بن مكي الزهري الإسكندري المالكي توفي سنة ٦٤٧ ه‍ انظر شذرات الذهب.

١٩٠

متيقن النفي ، وهو المراد.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٦٣) [النساء : ١٦٣] يحتج به على أمرين أحدهما : أن آدم لم يكن نبيا ، وإلا لبدأ بذكره في هذا السياق ؛ لأنه أبلغ.

ويجاب عنه بوجهين :

أحدهما : أن آدم دخل في قوله ـ عزوجل ـ : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤) [النساء : ١٦٤] وقد سبقت قصة آدم.

الثاني : أن ذلك منقوض بإدريس هو نبي باتفاق ، ولم يصرح به هنا.

الأمر الثاني : أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه لاستواء الوحي إلى نبينا وغيره من النبيين ؛ لأن الشرائع متلقاة عن الوحي ، فإذا استوى الجميع في الوحي استووا في الشرائع.

وأجيب بأن المراد كما أوحينا إليهم في التوحيد ونحوه من قواعد الأصول ردا على تثليث النصارى المذكورين قبل هذه الآية وبعدها بدليل : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٤٨) [المائدة : ٤٨] والجمع بينهما بما ذكرناه من استواء الشرائع في الأصول التي لا تقبل التغيير دون الفروع التي تقبله.

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١٦٤) [النساء : ١٦٤] يحتج به الصوتية على أنه كلمه بحرف وصوت ، ووجهه أنه أكد الفعل بالمصدر إرادة لحقيقة الكلام وهو بالحرف والصوت.

احتج الآخرون بما سبق ، وبأنه إنما أكده بالمصدر لئلا يظن أنه كلمه إلهاما أو في الرؤيا أو نحو ذلك ، وتأوله بعض المعتزلة على أنه كلّمه بإظهار المحن من الكلم وهو الجرح ، بدليل : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ

١٩١

تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠) [طه : ٤٠] وهو ضعيف بعيد.

(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (١٦٥) [النساء : ١٦٥] يحتج به على أن الله ـ عزوجل ـ لو لم يرسل الرسل إلى خلقه لم تقم حجته عليهم.

ونظير ذلك : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١٣٤) [طه : ١٣٤].

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧) [القصص : ٤٧] وتحقيق هذا أن حجة الله ـ عزوجل ـ على ضربين : خفية يستبد بعلمها ، وظاهرة يشاركه في العلم بها خلقه ، فالأولى : قائمة على الخلق بدون الرسل ؛ إذ هو سبحانه وتعالى غير متهم في حكمه وعدله.

والثانية : لا تقوم بدون الرسل ، أقوى الحجتين وأظهرهما ، فأخذ الله ـ عزوجل ـ بها ؛ لأنها أحوط لدفع تهمة الجور عنه من الكفار ؛ إذ لو عاقبهم بحسب علمه فيهم لقالوا : ما أنصفتنا ، لو أنذرتنا برسول ، / [١٢٢ / ل] لما توجهت لك علينا حجة ، ثم ترتب على هذا أن العقل [لا حكم] له إذ / [٥٨ أ / م] لو كان له حكم لما توقف قيام حجة الله ـ عزوجل ـ على خلقه على بعثة الرسل ، إذ كان العقل كافيا في قيام الحجة ، وهذه الآية من هذا الوجه موافقة لقوله عزوجل ـ : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥) [الإسراء : ١٥] ولم يقل حتى نجعل لكم عقولا ، غير أن تحقيق محل النزاع ما هو ، فالجمهور يحكون عن المعتزلة أنهم يقولون : العقل حاكم ، وهي عبارة فيها إجمال وشناعة لإيهامه الشرك في الحكم كما أشركوا في خلق الأفعال ، والمعتزلة يفسرون مرادهم بأن العقل جعله الله ـ عزوجل ـ مدركا لحسن الحسن وقبح القبيح ، بحيث يقتضي من جهة الحكمة المناسبة والمناسبة الحكمية أن يثاب على الأول ، ويعاقب على الثاني ، وأن الحسن والقبح مدركان بالعقل ، كما يدركان بالشرع ، وأن الشرع مؤكد لحكم العقل في ذلك

١٩٢

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) [النساء : ١٦٦] ونظيره : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) [هود : ١٤] ، اعلم أن الناس اتفقوا إلا من عساه شذ منهم على أن الله ـ عزوجل ـ عالم قادر مريد حي متكلم سميع بصير قديم باق.

ثم اختلفوا ، فالجمهور على أنه كذلك لمعان قديمة زائدة على مفهوم ذاته ، قائمة بها كالحياة والعلم والقدرة وكذلك سائرها.

وذهب المعتزلة ومن تابعهم إلى أن لا صفة هناك ثبوتية زائدة ، ثم اختلفوا ، فقال بعضهم : معنى كونه عالما قادرا حيا : أنه ليس بجاهل ولا عاجز ولا ميت ، وكذلك سائرها ويسمون السلبية.

وقال آخرون : هو كذلك لمعان ليست موجودة ولا معدومة ، وهي مشتقة من المعاني الثبوتية سموها أحوالا كالعالمية والقادرية والحيية ، وهي كونه عالما قادرا حيا ، حجة الجمهور هذه الآية (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) [النساء : ١٦٦] دل على أن له علما [والمعقول منه] صفة ثبوتية زائدة ، وأيضا القرآن عربي ولغة العرب أن العالم من قام به العلم ، وهو وصف ثبوتي ، وأيضا (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧) [هود : ١٠٧] مع أن الفعل مشتق من المصدر ، وهو الإرادة ، وقد وجد الفعل المشتق ، فوجب أن يكون الإرادة المشتق منها موجودة ، وإذا ثبت هذا في العلم والإرادة ، وجب مثله في باقي الصفات ، إذ لا قائل بالفرق ، وتأول الخصم (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) على معنى أنزله وهو يعلمه احترازا من أن / [١٢٣ / ل] يكون ساهيا أو غافلا. حجة الخصم : لو كان عالما بعلم قائم بذاته زائد على مفهومها قديم ، لزم تعدد التقديم ، وأيضا افتقار الذات إلى غيرها في كمالها وهما محالان ، وجوابه أن المحال إنما هو تعدد الذوات القديمة ، لا الذات والصفات ، وكذلك افتقار الذات إلى / [٥٨ ب / م] غيرها في وجودها ، هو المحال لا في غيره ، وافتقارها إلى غير خارج عنها ، لا إلى غير قائم بها ، لا ينفك عنها مع أن المحال الذي ادعاه أصحاب الأحوال لا موجودا ولا معدوما غير معقول.

واستقصاء البحث في هذا في موضع آخر ، وإنما هذا إشارة إلى مأخذ المذهبين.

١٩٣

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) [النساء : ١٧١] فيها مباحث :

الأول : إثبات رسالة المسيح ـ عليه‌السلام ـ خلافا لليهود ، وسنذكر برهانه في سورة المائدة ـ إن شاء الله ـ عزوجل.

الثاني : معنى كونه كلمة الله ـ عزوجل ـ عند المسلمين أنه خلقه بكلمته ، وهي «كن» التي يخلق بها الأشياء ، وخص عيسى بتسميته كلمة تشريفا ، نحو : ناقة الله ، وبيت الله ، ومعناه عند النصارى أن كلمة الله الحقيقية التي هي من صفة النطق حلت في مريم ، واستحالت لحما ودما حتى تكوّن منها عيسى ، وهو محال لوجوه :

أحدها : انتقال الصفة مجردة عن محلها إلى غيره يوجب قيامها بنفسها ، فيما بين المحلين المنتقل عنه وإليه.

الثاني : حلول الصفة القديمة في المحل الحادث ، وهو مريم.

الثالث : استحالة القديم وتغيره.

الرابع : استحالة الصفة التي لا قيام لها بذاتها ذاتا قائمة بنفسها ، والكل محال.

الثالث : ألقاها إلى مريم ، معناه : عند المسلمين ما حكي في سورة مريم ، وغيرها من تعرض الملك لها ، ونفخه في فمها ، أو جيب درعها حتى حملت بالمسيح ، وعندهم حلول الكلمة القديمة فيها كما مر ، وبطلانه بما سبق.

الرابع : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) [النساء : ١٧١] معناه عند المسلمين أنه روح مخلوق خاص ، سلكه في المسيح له قوة إظهار الخوارق والتعدي إلى التغيير كتصيير الطين ضربا من الطير ، وعندهم أنه روح من ذات الله ـ

١٩٤

عزوجل ـ وبه كان إلها عندهم ، قالوا : لأن «من» للتبعيض وقد أخبر أن المسيح روح منه وهو المسمى روح القدس ، وهو صفة الله القديمة يعني حياته ، وهي أحد الأقانيم القديمة الثلاثة.

والجواب أن «منه» هاهنا لابتداء الغاية لا للتبعيض كقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٣) / [١٢٤ / ل]) [الجاثية : ١٣] أي ابتداؤه منه ومن فضله ، وكذلك (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) [النساء : ١٧١] أي الله ـ عزوجل ـ مبدأ هذا الروح خلقا ، لئلا يظن قدمه ، ولو كان روح المسيح هو حياة الله ـ عزوجل ـ لكان إما جميع روحه أو بعضه فإن كان الأول لزم بقاؤه بعد انتقال حياته إلى المسيح بلا حياة ؛ فيكون قد مات الأب لحياة الابن ، وأنه محال ، وإن كان الثاني لزم تبعيض حياة الله ـ عزوجل ـ وهو محال لوجهين :

أحدهما : أنها صفة فلو تبعضت لكانت جسما ، وذلك / [٥٩ أ / م] انقلاب الحقائق ، إذ صارت الصفة ذاتا.

والثاني : أن الحياة صفة بسيطة ، فلو تبعضت لزم انقلاب البسيط مركبا ، وأنه محال.

الخامس : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [النساء : ١٧١] أي اعتقدوا المسيح رسولا.

كسائر الرسل ، ولا تعتقدوه إلها ؛ لأن ذلك غلو في الدين ، كما ذكر في صدر الآية.

السادس : (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ) [النساء : ١٧١] هو نهي لهم عن التثليث ، ومعناه عندهم أن الله ـ عزوجل ـ جوهر ، ذو ثلاثة أقانيم ، وعنوا بالجوهر القائم بذاته الغني عن محل يقوم به أو يقومه ، وبالأقانيم الصفات ، أو القوى ، وهي كونه موجودا ناطقا حيا ، فأقنوم الوجود سموه أبا ، وأقنوم النطق سموه ابنا ، وهو الكلمة المسيحية ، وأقنوم الحياة سموه روح القدس.

قالوا : فقولنا : الأب والابن وروح القدس [كقول المسلمين : الله الرحمن الرحيم ، ثم إنهم زعموا أن كل واحد من الأب والابن وروح القدس إله] كامل بالحد والحقيقة ، وأنهم مع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة [في خبط كثير وتخليط] غزير منه ما لا يعقل ، ومنه ما لا تساعده

١٩٥

الشبهة فضلا عن الحجة ، فلهذا قيل لهم : انتهوا عن هذا الاعتقاد الباطل الذي ليس له حاصل ولا وراءه طائل يكن الانتهاء عنه خيرا لكم.

(إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) [النساء : ١٧١] أي من كل الجهات لا تعدد ولا انقسام له بوجه ؛ فقولكم : الأب والابن وروح القدس إله واحد ، تناقض ؛ لأنكم كثرتموه [أولا ثم] وحدتموه ثانيا ، وهو [تهافت وتلاعب من الشيطان بعقولكم] وهذا بخلاف قول المسلمين :

(بسم الله الرّحمن الرّحيم) (١) ، لأنهم يقولون ذلك على معنى أن الذات الإلهية واحدة لكنها متصفة بصفات كمالية ، فإن اقتصرتم أنتم على مثل ذلك وافقتم ، وإن تماديتم في تخليطكم المذكور فلكم الويل والثبور.

السابع : (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (١٧١) / [١٢٥ / ل]) [النساء : ١٧١] أي تنزه عن الولد ؛ إذ ما سواه في السماوات والأرض مملوك له ، والملك ينافي الولدية ، كما سبق في البقرة ، والبحث مع النصارى طويل ، أفردنا له عدة تعاليق.

قوله ـ عزوجل ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً) (١٧٢) [النساء : ١٧٢].

لما زعمت النصارى إلهية المسيح قيل لهم : إن المسيح نفسه لن يستنكف ، ولا يأنف من الإقرار بالعبودية فأنتم يا نصارى في تنزيهه عنها فضولية ، ثم احتج بهذه الآية من يرى أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وتقريره أن هذا السياق في مثل هذا المقام يقتضي أن المذكور آخرا أفضل كما يقال : إن فلانا لا / [٥٩ / ب] يستنكف عن خدمته أو زيارته الوزير ، ولا السلطان. وذلك يقتضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء ؛ لأن المسيح من أفضلهم ، فإذا كانت الملائكة أفضل منه فغيره ممن هو أفضل منه بطريق أولى.

واعترض عليه بأنا لا نسلم صحة ما ادعيتم ، سلمناه ، لكن الآية إنما تضمنت تفضيل الملائكة المقربين على المسيح ؛ فلا يلزم تفضيل غيرهم عليه ، ولا تفضيل أحد من الملائكة على غيره من الأنبياء.

واعلم أن الآية شديدة الظهور في تفضيل الملائكة ، ولها شواهد أخر من الكتاب والسّنّة

١٩٦

والنظر ، أما الكتاب فقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) [الأنعام : ٥٠].

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١) [يوسف : ٣١].

وقوله ـ عزوجل ـ في بني آدم (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٧٠) [الإسراء ٧٠] ولم يقل : على جميع من خلقنا ، مع أن بني آدم فضلوا على من سوى الملائكة فلم يبق أحد ينبغي أن لا يكونوا فضلوا عليه إلا الملائكة ، ثم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حكاية عن الله ـ عزوجل : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ، ذكرته في ملأ خير منهم» تصريح بأن الملائكة أفضل من بني آدم ، ويتناول عموم الأنبياء.

وأما النظر فلأن الملائكة رسل الله ـ عزوجل ـ إلى [الأنبياء : بغير واسطة ، ورسل الله بغير واسطة أفضل من رسله بواسطة ، وأيضا فالأنبياء] للملائكة كالأمم للنبيين ، والرسول أفضل من أمته ، ولأن الملائكة معلمون والأنبياء متعلمون منهم ، والمعلم المفيد أفضل من المتعلم المستفيد ، والأدلة على هذا كثيرة ، غير أنه مذهب المعتزلة والفلاسفة ، والجمهور على خلافهم لوجوه :

أحدها : أن الأنبياء بهم قامت حجة الله ـ عزوجل ـ على خلقه ، بخلاف الملائكة حتى قال الله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً.)

الثاني : أن الأنبياء في الدعاء إلى الله وإقامة حججه على خلقه أشد تعبا ونصبا لما جرى عليهم من التكذيب والأذى والثواب والفضيلة / [١٢٦ / ل] على قدر المشقة.

الثالث : أن آدم أبا البشر سجد له الملائكة ، والمسجود له أفضل من الساجد ، ثم في الأنبياء من هو أفضل من آدم ـ عليه‌السلام ـ فهو أولى بأن يكون أفضل من الملائكة.

الرابع : أن الناس في الموقف إنما يستشفعون بالأنبياء في تخفيف الموقف عنهم لا بالملائكة ، ولو كانوا أفضل من الأنبياء لكانوا أولى بالشفاعة.

الخامس : أن الأنبياء عبدوا الله ـ عزوجل ـ ، ورضي عنهم مع معارضة الشهوة

١٩٧

والغضب المجبول عليهما البشر ، وعبادة الملائكة مع تجردهم عنها ، والعبادة أفضل لشدتها ومشقتها / ٦٠ أ / م] فالعابد أفضل.

السادس : أن إبليس وهاروت وماروت كانوا من خيار الملائكة ، وصدر عنهم ما لم يصدر مثله أو بعضه إلا عن شرار بني آدم ، والحجاج من الطرفين كثير.

وذهب قوم إلى أن خواص البشر أفضل من الملائكة والملائكة أفضل من عامة البشر.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٧٣) [النساء : ١٧٣] يحتج به المعتزلة ، إذ لو كانت أعمالهم مخلوقة له لكان منه العوض والمعوض وقد سبق هذا وجوابه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) [النساء : ١٧٤] يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه يعني القرآن برهان أي حجة لله ـ عزوجل ـ على خلقه ، لما اشتمل عليه من حجج التوحيد والنبوات ، وغير ذلك ، ويحتمل أنه برهان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسالته ، وتقريره أن القرآن معجز ، وكل معجز برهان على صدق من جاء به ، فالقرآن برهان على صدق من جاء به ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد سبق تقرير كونه معجزا فيما أقول وهو ظاهر.

واعلم أن القرآن من حيث هو حجة لله ـ عزوجل ـ ولرسوله يسمى برهانا ، ومن حيث هو مرشد للخلق إلى مصالح معاشهم ومعادهم كاشف عنهم للعمى قائد لهم إلى الهدى يسمى نورا.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١٧٦) [النساء : ١٧٦] ، أي يبين لكم طريق الهدى. لئلا تضلوا ، وقيل : يبين طرق الضلال لتجتنبوها من باب قول القائل :

عرفت الشر ولا للشر ، لكن لتوقيه ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

١٩٨

القول في سورة المائدة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ١] خطاب عام.

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] وهي العهود والمواثيق ، وهو عام مخصوص بالعقود الفاسدة ، والمتضمنة للمفاسد الراجحة ، كاشتراط أهل الحرب في الهدنة رد من جاء من نسائهم إلينا مسلما ، أو على أن يدفع إليهم مصحف ، ونحو ذلك ، فلا يجب الوفاء به.

(أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] عام خص بالاستثناء بعده.

(إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) [المائدة : ١] / [١٢٧ / ل] وهو ما تضمنته الآية بعد وهي (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) [المائدة : ٣].

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١) [المائدة : ١] عام مطرد.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) [المائدة : ٢] عام مخصوص بأحوال الضرورات ، كإحلال مكة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة من نهار ، وحكم ذلك باق عند الحاجة ، وكإحلالهم من الإحرام للإحصار ، ونحو ذلك ، وشعائر الله ـ عزوجل ـ حرماته المعظمة.

(وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ) [المائدة : ٢] عام كالذي قبله في التخصيص الضروري.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) [المائدة : ٢] أي من الإحرام ، (فَاصْطادُوا) إباحة ، واختلف في الأمر الوارد بعد الحظر هل / [٦٠ ب / م] هو للإباحة ، أو على مقتضاه الأصلي وجوبا ، أو غيره؟

١٩٩

فيه قولان (١) : فمن قال : هو على مقتضاه الوضعي ، قال : خرج نحو (فَاصْطادُوا.)

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠) الجمعة [١٠] بدليل خاص.

(وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) [المائدة : ٢] عام في كل بر وتقوى ، يخص منه ما عجز عنه ، أو عارضه مفسدة راجحة كالنهي عن منكر ، يثير فتنة عامة والأمر بمعروف يفوت أهم منه ، فلا يتعاون عليه (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا) [المائدة : ٢] عام أيضا يخص منه ما استكره عليه ، أو جهل تحريمه ، أو تضمن مصلحة راجحة لقوم هموا بفسق عام كالقتل والزنا وإتلاف المال ، وأمكن إشغالهم وتعويقهم عن ذلك بسماع الملاهي أو شرب شراب ونحوه مما مفسدته أقل من مفسدة ما هموا به ، جاز إعانتهم عليه ، وربما وجب.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ) [المائدة : ٣] عام في تحريمها ، ويخص بما خصت به الميتة في المخمصة ونحوه.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) [المائدة : ٣] عام خص بالاستثناء.

(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) [المائدة : ٣] وكذلك هو مخصص للأربعة قبلها فما أدركت تذكيته منها حل ، وهذا استثناء رجع إلى جمل ، وهل يرجع الاستثناء إلى ما قبله فقط ، أو إلى جميع ما تقدمه مما يصلح رجوعه إليه ، أو يوقف فيه؟ فيه أقوال : موضعها سورة النور ، إن شاء الله ، عزوجل.

(وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) [المائدة : ٣] عام إلا في ضرورة يستباح بها الكفر ، ونحوه.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) [المائدة : ٣] أي جميعه أكل المحرمات ، والاستقسام وهو عام في كونه فسقا ، إلا ما استبيح منه بالتخصيص ، فلا فسق فيه.

__________________

(١) انظر المسألة في المستصفى للغزالي [١ / ٤٣٥] والأحكام للآمدي [٢ / ٢٦٠] ونهاية السول [٢ / ٣٥] وشرح الكوكب المنير [٣ / ٥٦].

٢٠٠