الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨) [هود : ٣٨] فيه جواز مقابلة الجاهل والأحمق ونحوهما بمثل فعله ، ويشهد له النصوص نحو : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٩٤) [البقرة : ١٩٤] ، و (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (٤٠) [الشورى : ٤٠] و (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٦) [النحل : ١٢٦] وأشباهه.

(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠) [هود : ٤٠] عام فيهم خص بالاستثناء بعده (إِلَّا مَنْ سَبَقَ) [هود : ٤٠] وهو ابنه المذكور أنه غرق بعد.

(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] يحتج به الشيعة في أنهم المصيبون على قلتهم ، دون الجمهور على كثرتهم ، وقد سبق ، وجوابه عند (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] في «البقرة».

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) (٤٥) [هود : ٤٥] يحتج به من يرى العموم ، وأن له صيغة والتمسك به ؛ لأن نوحا إنما تمسك في هذا السؤال بعموم قوله ـ عزوجل ـ : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) [هود : ٤٠] وهو اسم جنس مضاف يفيد فيه العموم ، فصار تقدير سؤال نوح : إن ابني من أهلي وقد وعدتني بإنجاء أهلي ، ينتج قد وعدتني بإنجاء ابني.

(قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود : ٤٦] يحتمل وجوها :

أحدها : أن ابنك مخصوص في علمنا من عموم أهلك [وليس هو من أهلك] الناجين.

الثاني : أنه ليس من أهل دينك بدليل (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود : ٤٦] وحينئذ يكون الأهل في قوله ـ عزوجل ـ (أَهْلَكَ) [هود : ٤٠] مجازا عن الموافقين في الإيمان.

الثالث : ما قيل : إن هذا الولد كان ابن زوجته ، أو أنه ولد على فراشه من غيره بدليل (فخانتاهما) [التحريم : ١٠] (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [١٠٨ أ / م]

٣٤١

[هود : ٤٦] برفع عمل ونحوه مما لا يلي [ق : بعضه] بالأنبياء ، وعلى كل حال فلا بد [في هذه] القضية من استعمال المجاز في أهلك ، أو تخصيص عمومه بالابن المذكور ، أو تجوز نوح بولده / [٢٣٣ / ل] عن ابن امرأته ، فيحتج بها على استعمال المجاز والتخصيص في الكلام.

(فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] كأن نوحا لما قال : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] كان ذلك [نوع اعتراض منه أو تذكيرا لمن لا ينسى] ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ قد حكم بإنجاء أهله ، فحكمه لا يتغير ، فلا فرق بين شفاعة نوح في ابنه وعدمها ، فلذلك قوبل بهذا الكلام الذي يصعب موقعه فيقال : إن نوحا بكى من هذا الكلام دهرا طويلا.

[(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩) [هود : ٤٩] سبقت دلالتها على النبوة في «آل عمران».]

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٦) [هود : ٥٦] [زعم الاتحادية أن معنى ذلك سريانه ـ عزوجل ـ بذاته في العالم ، حتى في الدواب ، فلذلك أخذ بنواصيها ؛ لأنه الذي يحركها ويتحرك فيها].

[ولذلك زعم ابن العربي في «الفصوص» أن هودا أعلم الأنبياء وأعرفهم بسر الإلهية لأجل هذا الكلام] ومعنى الآية عند علماء التوحيد أنه [عزوجل] لما فطر الدواب على طباع لا مخرج لها عن مقتضاها كان من حيث القدرة آخذا [بنواصيها] ، وبحيث لا تتحرك إلا بمقتضى ما طبعها وفطرها عليه ، كذا قال الحكيم الترمذي في بعض كتبه.

(وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) (٥٩) [هود : ٥٩] لما كان دين الأنبياء واحدا في التوحيد وكلمتهم واحدة ، كان عصيان الواحد منهم كعصيان جميعهم ، وإلا فعاد ما عصوا بالحقيقة إلا من أرسل إليهم ، وهو هود وحده.

(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) (٧٤) [هود : ٧٤] فيه جواز الجدال حتى مع الأكابر ومن فوق رتبة الشخص إذا لم يعد ذلك إهانة لهم ، ولم يثر فتنة أو مفسدة راجحة كجدال إبراهيم ربه ، وقد أمرنا باتباع ملته.

(وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ

٣٤٢

بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) (٧٨) [هود : ٧٨] يحتج لها الشيعة على جواز التقية ، لأنه إنما سمح بنكاح بناته لاضطراره إلى صيانة أضيافه ، ولو لا ذلك لما سمح لهم بهن ، وقد سبق ذلك في «آل عمران».

(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨) [هود : ٩٧ ـ ٩٨] قاطعة في الرد على من زعم أنه مات مسلما ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ سلب عنه الرشاد بعد موته ، والمسلم لا يسلب عنه الرشاد بعد موته ، وهو ينتج المقصود.

(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١) [هود : ١٠١] يحتج به المعتزلة إذ لو ذمهم على ما خلقه فيهم لكان ظالما لهم ، وقد عرف هذا وجوابه مرارا ، ثم ينتقض بالشخص القبيح الصورة فإنه مذموم بالطبع كالقرد / [١٠٨ ب / م] والخنزير ، ومن أشبههما من الناس ، وصورته مخلوقه لله ـ عزوجل ـ خلقا محضا بلا خلاف.

(وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) (١٠٤) [هود : ١٠٤] يحتج به على تناهي أيام العالم وانقضاء مدة الدنيا خلافا للدهرية / [٢٣٤ / ل] والفلاسفة حيث زعموا أن الزمان أزلي أبدي ، لا ابتداء له ولا انقضاء ، ولا أول ولا آخر ، وحجتهم أن الزمان لو كان حادثا لكان عدمه قبل وجوده ، وتلك القبلية من لواحق الزمان ، فيلزم وجود الزمان قبل وجوده وأنه محال.

وجوابه أن القبلية والبعدية من الأمور الإضافية التي هي عدم محض ، فلا نسلم أنها تلحق شيئا ، ولا يحلقها شيء ، سلمناه ، لكن قولكم : القبلية من لواحق الزمان تريدون الزمان الحقيقي الخارجي أو التقدير الذهني؟

الأول ممنوع ، والثاني مسلم ولا يلزم منه قدم الزمان الخارجي ، ولعلك تستغرب إثبات الزمان التقديري والدليل عليه وجهان :

أحدهما : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله النور يوم الأربعاء» (١) مع أن النور إنما هو حاصل النيرات الفلكية ، ومنها الشمس التي حركتها سبب وجود الزمان الحقيقي ، وذلك يقتضي

__________________

(١) رواه الطبري في تفسيره [١ / ٤٦] وأورده في تاريخه [١ / ٢٢].

٣٤٣

أنه خلق النور قبل الزمان الحقيقي ، ثم أخبر بأنه خلقه في زمان وهو الأربعاء ؛ ويلزم أن ذلك الزمان التقديري ذهني لا حقيقي خارجي.

الوجه الثاني : أن الزمان من لوازم الفعل ، ولذلك دل عليه بالالتزام ، ثم إنه يصح أن يقال : خلق الله الزمان فيجب أن يكون خلقه إياه في زمان تقديري ، وإلا لكان في زمان خارجي ، فيلزم وجوده قبل وجوده ، وأنه محال.

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١٠٧) [هود : ١٠٧] في أهل النار والجنة ، وقد استشكل هذا الاستثناء ، ولبعضهم فيه تصنيف مفرد ، والذي يتجه أن يقال فيه : أما في أهل النار فمعناه : إلا ما شاء الله من مقامهم في البرزخ أو في حال الحياة أو فيهما ، فإن ذلك كله في مدة دوام السماوات والأرض وليسوا حينئذ في النار ، أو معناه إلا ما شاء الله من مقامهم في الزمهرير فإنهم يستغيثون من النار ، فيخرجون إلى الزمهرير يعذبون به وهو البرد الشديد ، وهم حينئذ ليسوا في النار ، وأما في أهل الجنة فيحتمل إلا ما شاء الله من حضورهم في حظيرة القدس عند رؤية الرب ـ عزوجل ـ كل جمعة أو في أوقات الرؤية ، وذلك المقام خارج عن الجنة ثم يعودون إليها ، ويحتمل إلا : ما شاء الله من تنزههم في أقطار الملكوت فإنه واسع ، والجنة جزء يسير منه فيتنزهون فيه / [١٠٩ أ] ثم يعودون كما يخرج الناس من بساتينهم [للقاء ملوكهم ، والسّلام عليهم والتشرف برؤيتهم ، وكما يخرج الملوك من بساتينهم] للصيد ونحوه ، ثم يعودون إليها ، ويحتمل غير ذلك مما في علم الله ـ عزوجل ـ مما أراد بكلامه.

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢) [هود : ١١٢] كلمة / [٢٣٥ / ل] جامعة لخصال الإيمان والإسلام والإحسان ، تقتضي فعل كل مأمور وترك كل محظور ، ومن ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شيبتني هود وأخواتها» (١) أما هود فبهذه الكلمة ؛ لأنه خاف ألا يقوم بموجبها ، وألا يفي بها ، و [أما] أخواتها فسورة التكوير ، والانفطار ، والانشقاق ؛ لتضمنهن حكاية أمر الآخرة وأهوال القيامة ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من

__________________

(١) رواه الترمذي في كتاب تفسير القرآن [٣٢٩٣] وفي الشمائل [٤١] وأخرجه ابن سعد في الطبقات [١ / ٣٣٥] والمروزي في مسند أبي بكر [٣٠] والدارقطني في العلل [١ / ٢٠٠] وأبو نعيم في الحلية [٤ / ٣٥٠] وصححه الحاكم على شرط البخاري [٢ / ٣٤٤].

٣٤٤

أحب أن يرى القيامة رأي عين فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (١) [التكوير : ١](١).

ونظير هذه الكلمة قوله ـ عزوجل ـ لموسى وهارون : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨٩) [يونس : ٨٩] وفي وصف الأولياء (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٣٠) [فصلت : ٣٠].

(فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٢) [هود : ١١٢] أي وليستقم من تاب معك كما أمر ، وهو أمر بالاستقامة لجميع الأمة ، ولن يقوم بذلك إلا معان موفق.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (١١٤) [هود : ١١٤] يحتج به من قال بالمحابطة والمقاصة بين الحسنات والسيئات ، ومعناه : أنهما إن استويا تساقطا أو حبط أحدهما بالآخر ، وإن تفاوتا سقط القدر المشترك من الطرفين وبقي الزائد له أو عليه ، وهذا مقتضى العدل ووضع الموازين القسط. نعم الحسنات والسيئات فيهن كبائر وصغائر ، فالصغيرة تسقط بمثلها وكذا الكبيرة ، أما الصغيرة مع الكبيرة إذا تقابلتا فالسيئة الكبيرة تسقط الحسنة الصغيرة ، وأما العكس ففيه نظر ، إلا أن يتفضل الله ـ عزوجل ـ ويسامح.

وهذا كله إذا صح الأساس وهو الإيمان ، أما مع الكفر فلا توجد الحسنة ، وإن وجدت عادت هباء منثورا.

(فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) (١١٦) [هود : ١١٦] تضمنت الذم لأكثر القرون الخالية على ترك إنكار المنكر ، وذلك يقتضي وجوبه ونجاة فاعله وهلاك تاركه ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من أصول الإسلام ومهمات الدين.

__________________

(١) أخرجه أحمد [٢ / ٢٧] [٤٨٠٦] والترمذي ح [٣٣٣٠] [٩ / ٦٩] وصححه الألباني في الصحيحة [١٠٨١].

٣٤٥

(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١١٧) [هود : ١١٧] يحتج به المعتزلة كما في نظيره في «الأنعام» (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (١١٨) [هود : ١١٨] يحتج به الجمهور كنظائره السابقة.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) [هود : ١١٨ ـ ١١٩].

أي وللخلاف خلقهم ؛ كقوله ـ عزوجل : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (١٧٩) [الأعراف : ١٧٩] / [٢٣٦ / ل ، وقيل : للرحمة / [١٠٩ ب / م] خلقهم ، فإن أريد به عموم الناس فباطل ، إذ أكثرهم للعذاب كما ثبت ، وإن أريد البعض فيبقى تقديره ، ولذلك خلق من رحم أي : وللرحمة خلق من رحم ، وهو متجه على ما فيه من ضعف ، فالأشبه الأول بدليل تمام الآية : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩].

* * *

٣٤٦

القول في سورة يوسف

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢) [يوسف : ٢] يحتج به من قال بقدم القرآن ، وأنه منزل غير مخلوق ، وعارضه الخصم بنحوه ، (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) [الحديد : ٢٥].

و (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٣) [الزخرف : ٣] ، والحديد مخلوق ، مع أنه منزل ، وكل مجعول مخلوق ، وقد وقعت المناظرة في هذا بين عبد العزيز المكي وبشر المريسي على ما ذكر في كتاب «الحيدة».

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [يوسف : ٤] يحتج به على أن النجوم في الرؤيا تدل على قوم أشراف ، وذكر في «التوراة والسير» أن يوسف رأى مع رؤية النجوم رؤيا أخرى ، وهي أنه رأى كأنه وإخوته احتطبوا حطبا ، وربطوا حزمهم وأقاموها ليرفعوها ؛ فجاء حزم إخوته حتى سجدت لحزمته ، وهي كرؤيا النجوم في التأويل.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢١) [يوسف : ٢١].

أي إذا أراد أمرا غلب عليه وفعله نحو (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) [الطلاق : ٣] ويحتج به الجبرية ، لأن مقتضاه : أنه إذا أراد فعلا أو حالا من إنسان غلب عليه ، وإذا غلب عليه كان الإنسان مجبورا عليه قطعا.

وقيل : غالب على أمره يوسف يدبره وينصره ويحسن عاقبته ، والأول أظهر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف : ٢١] أي لا يعلمون أن الله غالب على أمره ؛ لغلبة أحكام الحس عليهم ، فإذا لم يدركوا ذلك بحسهم لم يعلموه ، إنما يعلمه أقلهم ممن جاوز حكم الحس إلى حكم العقل نظرا واستدلالا ، أو كشفا واطلاعا ، كما

٣٤٧

حكي عن بعض أهل الكشف أنه قال : «إن هؤلاء المعتزلة يشككوننا في العيان ، إنا والله لنرى المعاصي تنزل من السماء على جوارح العباد كالغمام» أو كما قال.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٢٤) [يوسف : ٢٤] هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه لو لا / [٢٣٧ / ل] رؤية البرهان [لهم إذ همت به ، وذلك يقتضي أنه لم يهم بالمعصية.

والثاني : أن الهم بها وجد منه ، فلولا رؤية البرهان] لأمضى ما هم به وفعله ، فيتعلق به من يتكلم في عصمة الأنبياء ، ولا حجة فيه ؛ لأن الهم بالمعصية إنما يكون معصية إذا تمكن من القلب / [١١٠ أ / م] وصار عزما مؤكدا ، وما دون ذلك فهو خطرات غير قارة ، وحديث نفس معفو عنه ، وقد أخبر الله ـ عزوجل ـ أنه صرف عنه السوء والفحشاء ، وأنه من عباده المخلصين ، ومن هذه صفته فليس لأحد عليه متعلق.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٦) [يوسف : ٢٦] دليل على تعليق الأحكام بالقرائن والأمارات المناسبة ، وعلى ترجيح إحدى الدعوتين أو البينتين [إذا تعارضتا بمرجح مناسب ؛ لأنه رجح هاهنا قول يوسف بقد قميصه من دبر مع استوائهما) في عدم البينة ، فكذلك في الاستواء في وجود البينة من الطرفين لتكافؤ الطرفين في الصورتين (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١) [يوسف : ٣١] يحتج به من فضل الملائكة على البشر ولا حجة فيه لوجهين :

أحدهما : أن هذا قول نساء كوافر قليلات عقل ودين ، قد غلب عليهن الهوى فلا يسمع.

الثاني : أن تفضيلهن الملك هاهنا إنما هو في الحسن والجمال ؛ لاقتضاء الحال ذلك ، وليس محل النزاع ، إنما الخلاف في الفضل والكمال وارتفاع الدرجة عند ذي الجلال وذلك إنما يعرف عن الأنبياء لا عن النساء.

٣٤٨

(قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٣) [يوسف : ٣٣] تقتضي ألا عاصم من المعصية وغيرها إلا الله ـ عزوجل ـ وبقياس العكس وقواطع الأدلة : أن لا موبق فيها إلا الله ـ عزوجل ـ وذلك بما يقدر من أسباب العصمة أو الوصمة ، ويخلقه من الدواعي والصوارف والهمة.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٣٧) [يوسف : ٣٧] الآيتين ، يستدل بهما على ، ترك الباطل واتباع الحق يورث التعليم من الله ـ عزوجل ـ لأن يوسف ـ عليه‌السلام ـ علل تعليم الله ـ عزوجل ـ له تأويل الرؤيا بتركه ملة الكفار واتباعه ملة آبائه الأبرار ، وتعليمه تأويل الرؤيا يحتمل أنه بالوحي على لسان الملك ، ويحتمل أنه بالإلهام ، أو بتحريك الفكر على النظر والاستدلال.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) [يوسف : ٣٩] استدلال من يوسف ـ عليه‌السلام ـ على التوحيد لإرشاد أصحابه في السجن ، فقد كان داعيا إلى الله ـ عزوجل ـ في كل حال من شدة ورخاء.

وتقريره : أن الله ـ عزوجل ـ رب واحد ، والرب الواحد خير من الأرباب المتفرقين ، أما الأولى فلما سيأتي إن شاء الله ـ عزوجل ـ من براهين التوحيد.

وأما الثانية : فلأن / [٢٣٨ / ل] / [١١٠ ب / م] أحكام الواحد متفقة ، وأحكام المتفرقين متفرقة مختلفة ، والاتفاق خير من الفرقة ، وبالقياس على الشاهد أن الرعية مع ملك واحد أصلح حالا من ملوك ، والعبد مع سيد واحد أحسن حالا منه مع جماعة سادة.

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٤٠) [يوسف : ٤٠] يحتج به من رأى أن الاسم هو المسمى ؛ لأنه المعبود لا الاسم ، ولا حجة فيه كما سبق.

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) (٤٢) [يوسف : ٤٢] فيه أن علم التعبير علم مظنون ، وقد يقطع بالتأويل بقرائن ، أو اطراد عادة ، ونحوه.

٣٤٩

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] إنساء الشيطان بوسوسته ، والشيطان ووسوسته من قدر الله ـ عزوجل ـ وأسبابه المقدرة ، فإلى ربك المنتهى في كل شيء ، وإليه يرجع الأمر كله.

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) (٤٧) [يوسف : ٤٧] قيل : معناه ازرعوا ، فهو خبر بمعنى الأمر ، أو أمر بلفظ الخبر ، وقيل : هو خبر لفظا ومعنى ، ففيه إذن جواز إطلاق الخبر بتأويل الرؤيا على تقدير صدقها ، ولا يشترط أن يقول : إن صدقت رؤياك يكون كذا وكذا ، ولا يكون مسيئا بترك ذلك ، كما قال بعض المعبرين.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٨) [يوسف : ٥٨] يستشهد به الشيعة في غيبة الإمام ، وأنه موجود ولكن أكثر الناس لا يعرفونه ، وإن رأوه كما أن إخوة يوسف رأوه فعرفهم ولم يعرفوه ، وهو قياس تمثيل لا يفيد عندهم في الفرعيات ، فما الظن بالدينيات.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧) [يوسف : ٦٧] قيل : خشي عليهم من العين ؛ لأنهم كانوا ذوي رواء حسن ، فخاف عليهم ، وهي الحاجة التي كانت في نفسه ، فقضاها ، وقد أثنى الله ـ عزوجل ـ عليه بذلك ، فقال : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٦٨) [يوسف : ٦٨] ووافق ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «العين حق» (١) ، فاتفق على ذلك شرعنا وشرع من قبلنا ، فتأكد حكمها ، وفي كيفية الإصابة بالعين خلاف ؛ فقيل : هو سم ينفصل عن العين لخبث [في النفس] ؛ فيتصل الشيء مع الشعاع البصري ، فيغيره.

وقيل : وهم قوة نفس تنفعل له الأجسام العنصرية ، كانفعال الحديد للمغناطيس ،

__________________

(١) رواه مسلم في كتاب السّلام ح [٤٢ / ٢١٨٨] [١٤ / ٢٤٥].

٣٥٠

والعاشق للمعشوق ، والنجوم لما تؤثر فيه على رأي أهلها.

وقيل : هو تغير يحدثه الله ـ عزوجل ـ مقارنا لرؤية الرائي تنبيها له على أن الدار دار تغير وزوال ، فلا يغتر بما هي عليه من حسن الحال تزهيدا له فيها / [١١١ أ / م] وترغيبا عنها ، وقيل غير ذلك.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) [يوسف : ٧٠] إلى آخر القصة ، إن كان قوله ـ عزوجل ـ :

(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١١٢) [النساء : ١١٢] عاما مطلقا في جميع الشرائع والأمم فيحتمل / [٢٣٩ / ل] أنه مخصوص بهذه الواقعة ونحوها مما أذن الله ـ عزوجل ـ فيه ؛ أو تضمن مصلحة لا يسمى خطيئة حتى يخص به عموم الخطيئة.

(ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) (٨١) [يوسف : ٨١] يحتج به من رأى الظن نوع علم ؛ لأنهم سموا ما حصل لهم علما ، وإنما كان ظنا باطلا لظهور كذبه بعد بأن ابنه سرق تهمة ولم يسرق حقيقة.

وأجيب بأنهم سموا الظن علما مجازا لما شابه العلم في قوته ، وبالجملة فبين العلم والظن قدر مشترك يصلح علاقة للتجوز ، وهو الرجحان ونظير هذه المسألة في «سبحان» و «الامتحان».

(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢) [يوسف : ٨٢] أي : أهلها وهو من باب مجاز الحذف والنقصان ، والمجاز إما بزيادة نحو (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] أو بنقصان نحو (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أو بنقل واستعارة نحو (وَجْهَ النَّهارِ) [آل عمران : ٧٢] و (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (٢٤) [الإسراء : ٢٤] وأشباه ذلك.

(قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) (٩٥) [يوسف : ٩٥] أي : الذي سبق في قولهم : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ

٣٥١

مُبِينٍ) (٨) [يوسف : ٨] وليس المراد ضلالا في الدين ، بل في حب يوسف ، والمبالغة في الحب تسمى ضلالا.

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٩٦) [يوسف : ٩٦] يقال : إن هذا القميص كان من حرير الجنة ، جاء به جبريل ـ عليه‌السلام ـ فكساه يوسف ، أو وضع في قصبة ، أو نحوها ، وعلق في عنقه.

وبكل حال هذه معجزة [ليوسف ـ عليه‌السلام ـ].

(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (١٠٠) [يوسف : ١٠٠] أي سجود تحية لا عبادة ، ولم يزل الناس كذلك حتى حرمه الإسلام تمييزا لله ـ عزوجل ـ بهذه العبادة الخاصة دون غيره ، فمن سجد لغير الله ـ عزوجل ـ قاصدا لعبادته عالما بتحريم ذلك ، كفر.

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (١٠٢) [يوسف : ١٠٢] حجة على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما مر في «هود» ، و «آل عمران» ، وإنما قال ذلك في موضع ، وتلك في آخر ، ذهابا إلى القصص تارة وإلى القصة أخرى.

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣) [يوسف : ١٠٣] أخبر الله [ـ عزوجل ـ بذلك لعلمه أنه سيصرف أكثرهم عن الإيمان بما سيخلقه] فيهم من الدواعي والصوارف.

(وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦) [يوسف : ١٠٦] يعني الكفار كانوا يؤمنون بالله أنه الخالق ، ومع ذلك يشركون الأصنام في العبادة والإيمان وهو التصديق بالله ـ عزوجل ـ لا ينافي الشرك ، إنما الذي ينافي الشرك هو التوحيد وهم كانوا / [١١١ ب / م] يؤمنون بالله ـ عزوجل ـ وجودا وخلقا / [٢٤٠ / ل] وغير ذلك ، ولكن لا يوحدونه عبادة.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) [يوسف : ١١٠] بالتشديد أي : كذبهم قومهم ؛ فلا يتابعهم أحد.

٣٥٢

(جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] بإمالة قلوب الناس إليهم ، و (كُذِبُوا) [يوسف : ١١٠] بالتخفيف أي : أخلفهم الله ـ عزوجل ـ وعده في النصرة ، وأنهم ليسوا على شيء (جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١١٠] بإنجائهم ومن اتبعهم ، وإهلاك الكافرين. وقد أنكرت عائشة ـ رضي الله عنها ـ هذا التأويل تنزيها للأنبياء عن الشك في أمرهم ، واختارت الوجه الأول أو نحوه ، وليس ما أنكرته بالمنكر ، إذ الإنسان يطرأ عليه لخوف أو حزن أو مرض أو هم وغم ـ أحوال يقول ويظن فيها أقوالا وظنونا هو فيها معذور ؛ لغلبة ذلك الحال ، ألا ترى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما تراخى [عنه الوحي في مبادئ أمره خرج ليتردى من شواهق الجبال وجدا لانقطاع الوحي] والرسل يوم القيامة يقال لهم : ما ذا أجبتم؟ فيقولون : لا علم لنا. ينسون أو يشدهون لغلبة تلك الحال عليهم ، ثم يتذكرون فيشهدون بما علموا ، فكذا ظن الرسل هاهنا أنهم قد كذبوا هو من هذا الباب ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

* * *

٣٥٣

القول في سورة الرعد

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢) [الرعد : ٢] المشهور أن معناه ترون السماء بغير عمد ؛ لأنها كرة مستديرة لا حاجة إلى عمد ، قيل : لا عمد لها ترونه ، فيفهم أن لها عمدا لا ترى ، وليس بشيء ؛ إذ كونها بغير عمد أدل على القدرة والحكمة.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣) [الرعد : ٣] أي جعل كل واحد منهما يغشى صاحبه ، وسبب ذلك دوران الشمس في فلكها ؛ فإذا غابت حالت الأرض بينها وبين الفضاء فأظلم فكان الليل ، وإذا طلعت قابلت الفضاء فأضاء ، فكان النهار.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤) [الرعد : ٤] يحتج بها المتكلمون على أن الله ـ عزوجل ـ يفعل بالقدرة والاختيار لا بالطبع والإيجاب خلافا للفلاسفة ، ووجهه أن الشجر إذا سقي بماء واحد فلو كان المؤثر فيه فاعلا بالطبع لاتفق في الأكل ؛ لأن الماء واحد وأثر الطبع يتحد ؛ فيتعين الاتفاق في الأكل ، فلما اختلف أكله مع اتحاد الماء دل على أن / [٢٤١ / ل] اختلافه من جهة اختيار الصانع.

فإن قيل : لعل اختلاف الثمار في طعومها وألوانها من قبيل اختلاف طبائع الشجر ، أو اختلاف القوابل كالشمس تفعل بالطبع ، وهي تبيض الثوب / [١١٢ أ / م] وتسود وجه القصار.

فالجواب : لا نسلم أن الشمس تفعل بطبعها ، ولا الماء ولا النار [يفعل شيئا] من ذلك بطبعه ، بل هذه الأشياء أسباب ، والفاعل الخالق وهو الله ـ عزوجل ـ ثم إن اختلاف الطبائع والقوابل بفعل الله ـ عزوجل ـ إذ هو خالق كل شيء. وذلك يدل على الفاعل المختار ، وإلا لاتحدت الطبائع والقوابل أيضا.

٣٥٤

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥) [الرعد : ٥] دل هذا الكلام على البعث والمعاد ؛ لأنه لما أنكر تعجبهم منه ، دل على أن وقوعه ممكن ، وليس بعجب ، ثم إنه كفرهم وتوعدهم على إنكار المعاد فدل على وجوب اعتقاد وقوعه ، إذ الوعيد لا يكون إلا على محرم ، فدل على [أن إنكارهم] للمعاد محرم ؛ فيكون الاعتراف به واجبا.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) [الرعد : ٧] ربما احتج به الشيعة على وجوب الإمامة أو وجود الإمام ، ولا دلالة فيه على ذلك ؛ إذ المراد لكل قوم رسول يرشدهم إلى الحق ، أو لكل قوم هاد هو الله ـ عزوجل ـ يهدي من يشاء منهم ؛ كأنه قال : يسألونك الآيات ، وليس ذلك إليك ، إنما أنت منذر كسائر الرسل قبلك ، أو أنت منذر وأنا الهادي ، كما قيل : «فإني واعظ والله هادي».

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) (٨) [الرعد : ٨] هذا من مفاتح الغيب الخمس ، وإنما علمه لأنه خلقه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤].

(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) (١١) [الرعد : ١١] يحتج به الجمهور ؛ لأن السوء يعم المعاصي وغيرها من البلاء.

وينتظم الدليل هكذا : الله ـ عزوجل ـ يريد المعاصي ، وكل ما أراده الله ـ عزوجل ـ لا مرد له فالله عزوجل إذا أراد المعصية من قوم فلا مرد لها ، وحينئذ تصير واجبة منهم ، وذلك المراد بخلقه إياها ، أو هكذا المعاصي مراد الله ، وذلك مراد لله [فلا مرد له] فالمعاصي لا مرد لها. والخصم ينازع في المقدمة الأولى.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢) [الرعد : ١٢] قيل : هو سوط ملك السحاب إذا ساقه به ، أو (وري) النار ، وعند الحكماء هو نار أو نور يحصل باصطكاك أجرام السحاب بعضها ببعض ، والسحاب عندهم بخار ودخان يحتقن في الأرض / [٢٤٢ / ل] والجبال ؛ فيندفع خارجا ؛ فتحمله الريح صاعدا ، فإذا لقي

٣٥٥

برد الهواء اجتمع وتكاثف ؛ ثم انعصر ؛ فنزلت رطوبته مطرا ، والصواعق نار تتكون عن الدخانية المتراقية من الأرض.

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤) [الرعد : ١٤] أي هو المدعو إلها حقا لا غيره ، وما دعي من دونه كالأصنام ونحوها ليست آلهة ؛ لأنها لا تستجيب ولا تنفع ، وقد سبق نظم الدليل على ذلك.

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (١٦) [الرعد : ١٦] يحتج بعمومه على أنه ـ عزوجل ـ خالق الأفعال من خير وشر وطاعة ومعصية ، وتقريره أن أفعال العباد شيء ، وكل شيء مخلوق لله ـ عزوجل ـ ؛ فأفعال / [١٢٢ ب / م] العباد مخلوقة لله ـ عزوجل ـ والخصم يدعي تخصيص الثانية بما سوى المعاصي بدليله العدلي زعم ، والصواب طرد العموم فيها ، تصحيحا لرأي الجمهور.

(وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد : ١٦] أي واحد لا خالق معه ، ولا شريك ، قهار لمن سواه على ما يريد منه بخلق الدواعي والصوارف ، ونحو ذلك من الأسباب الغالبة ، ومع ذلك فله الحجة البالغة ، ويحتج على المعتزلة أيضا بقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد : ١٦] ولو صح ما قالته المعتزلة من أن الناس خالقون لأفعالهم ، لكان له شركاء يخلقون كخلقه ، وإنه محال.

[وأجاب الخصم بأن الخلق على ضربين ، خلق أعيان وخلق أعراض ؛ فخلق الأعيان وبعض الأعراض كالألوان ونحوها مختص بالله ـ عزوجل ـ فإثباته لغيره هو الكفر والشرك الذي أنكره في الآية ، وخلق بعض الأعراض ، وهي أفعال الحيوان غير مختص به بل يشاركه فيه الناس ، وذلك ليس بشرك وهذا كما أن معلوماته ضربان :

أحدهما : اختص به كالغيوب.

والثاني : مشروك فيه معلومات البشر].

٣٥٦

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧) [الرعد : ٢٧] أي : ليست الآيات موجبة للهداية ، ولا عدمها موجبا للضلال ، بل ذلك دائر مع المشيئة وجودا وعدما.

ويحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ هو الهادي المضل لمن يشاء بخلق الهدى والضلال.

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١) [الرعد : ٣١] فيه حجة لهم كما مر في نظائره.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) (٣٨) [الرعد : ٣٨] أي أن الكفار يجهلون ، ويظنون أن الأمر المعجز إلى النبي ، وليس كذلك ، بل أمره إلى الله ـ عزوجل ـ فالنبي لا يستطيع أن يأتي إلا بإذن الله عزوجل.

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) [الرعد : ٣٨] أي للآيات أجل وقت ستأتيكم فيه ، وإليه الإشارة بقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠) [يونس : ٢٠] أي وقت مجيئها عند حلول أجله ، وهذه ونحوها من مسائل النبوات والمعجزات.

(يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩) [الرعد : ٣٩] هذا يعم النسخ التكليفي ، كنسخ إباحة الخمر بتحريمها ، والتكويني كنسخ الإماتة بالإحياء وعكسه ، ونقص العمر وزيادته باعتبار ما في اللوح المحفوظ ، ويستقر الواقع على مطابقة العلم الأزلي القائم بالذات ، المشار إليه بأم الكتاب ، فالكتاب يطلق على القرآن وغيره من الكتب المنزلة / [١١٣ أ / م] وعلى اللوح المحفوظ ، وأم الكتاب أي : أصل الكتب هو [العلم] القائم بذاته ـ عزوجل.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ

٣٥٧

وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٤١) [الرعد : ٤١] أي لا معارض ممانع ولا مستدرك ، ولا طاعن على حكمته كإبليس ونحوه ، فحاصله أنه لا ناقض لحكمه ولا طاعن في حكمته ، وفيها إشارة إلى نحو (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣) [الأنبياء : ٢٣] في التسليم للأقدار والأحكام.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) [الرعد : ٤٣] لما قدح الكفار في رسالته أمر بمحاكمتهم إلى من عنده علم الكتاب ، وهم علماء بني إسرائيل ممن عرف الحق فاتبعه كعبد الله بن سلام ونحوه ؛ لأنهم يعلمون أنه نبي موعود به في الكتب السابقة على لسان الأنبياء المتقدمين.

وقيل : المراد بمن عنده علم الكتاب هو الله ـ عزوجل ـ عنده علم كل شيء في كتاب مبين. أي : إن أنكرتم رسالتي ، فيكفيني الله شهيدا على صدقي ، وهو يقضي بيني وبينكم بالنصرة في الدنيا والآخرة ، وكذلك كان ، والله ـ عزوجل ـ أعلم بالصواب.

٣٥٨

القول في سورة إبراهيم

(الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) [إبراهيم : ١] فيها تعليل إنزال الكتاب بإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، ويحتج به على تعليل الأحكام الإلهية بالحكم والمقاصد.

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم : ١] إشارة إلى أن لا خارج عن ظلمة الضلال إلا بإذنه ـ عزوجل ـ ويحتج به على القدرية في أن إذن الله ـ عزوجل ـ وإرادته مدار الضلال والهدى وجودا وعدما.

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٤) [إبراهيم : ٤] يستدل به على أن اللغات اصطلاحية ؛ إذ لو كانت توقيفية لكان التوقيف على لسان الرسول ؛ فيحتاج إلى توقيف آخر ، ويلزم التسلسل ، وإذا كانت اصطلاحية لم يلزم ذلك ، وانقطع التسلسل بالاصطلاح.

(فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) [إبراهيم : ٤] يحتج به الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ هو الهادي المضل ، وأن مدار ذلك على مشيئته.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠) [إبراهيم : ١٠] هذا تنبيه من الرسل على الاستدلال على وجود الصانع بوجود العالم ، وهو استدلال على المؤثر بأثره ، وعلى اللازم بوجود ملزومه. وتقريره : أن السماوات والأرض أثر وفعل ؛ فلا بد لهما من مؤثر وفاعل ، والمؤثر في وجودهما غيرهما قطعا ، وهو الله ـ عزوجل ـ ثم إن معرفة الرسل بوجود الصانع هل هي نظرية / [٢٤٤ / ل] بهذا الطريق ونحوه كإبراهيم في استدلاله بأفول الكواكب على ما مر ، أو بطريق الكشف / [١١٣ ب / م] والعيان تخصيصا من الله ـ عزوجل ـ لهم بذلك؟ هو محل نظر ، والأشبه أنه ـ عزوجل ـ درجهم إلى معرفته بالنظر والاستدلال أولا ، ثم بالكشف والعيان آخرا حتى تمت المعرفة كما نظر إبراهيم ـ عليه‌السلام في أحوال الكواكب أولا ، ثم سأل طمأنينة القلب بالكشف العياني ثانيا ،

٣٥٩

وكما قال يوسف عليه‌السلام : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣٩) [يوسف : ٣٩] والظاهر أنه إنما أرشد إلى الله ـ عزوجل ـ بالطريق النظري الذي عرف به.

(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (١٠) [إبراهيم : ١٠] هذه شبهة الكفار ، وتقريرها : أننا نحن وأنتم بشر ؛ فلستم أولى بالرسالة منا ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ، (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ) أي حجة ومعجزة وبرهان على صدقكم يكون مرجحا لدعواكم.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) [إبراهيم : ١١] أي ما ذكرتموه من أننا وإياكم بشر مسلم ، لكن قولكم : لستم أولى بالرسالة منا ـ ممنوع ، وقولكم : يلزم الترجيح بلا مرجح ، قلنا : المرجح لنا عليكم منة الله ـ عزوجل ـ علينا دونكم.

فإن الله يمن على من يشاء من عباده دون بعض بإرادته واختياره وسابق علمه في خلقه ، وأما الآية والمعجز ؛ فموقوف على إذن الله ـ عزوجل ـ وأمره ليس إلينا بل هو يؤيدنا بذلك إذا شاء. واعلم أن هذا يوهم أن هؤلاء الرسل دعوا إلى الله ـ عزوجل ـ بلا معجز ، ثم أحالوا بالمعجز على إذن الله ـ عزوجل ـ وليس كذلك لقوله ـ عزوجل ـ في صدر القصة : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) (٩) [إبراهيم : ٩] وهي الحجج والآيات الظاهرة ، لكن لما عاندهم قومهم وطلبوا منهم آيات أخر عنادا ، أحالوهم على إذن الله ـ عزوجل ـ وهو كذلك ردا لعنادهم.

فإن قيل : لعل البينات التي جاءت بها هذه الرسل بينات نظرية وهي الحجج الاستدلالية كقولهم : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ

٣٦٠