الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

(١٠٦) [التوبة : ١٠٦] التردد هاهنا بالنسبة إلى السامعين ، أي : لا تدرون أي الأمرين يفعل بهم ، أما المتكلم سبحانه وتعالى فلا يلحقه التردد في شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، وهذه / [١٠١ ب / م] ترجع إلى صفة العلم.

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣] إلى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٤] فيه احتراز المتكلم في كلامه عما يرد عليه في حكاية أو تعليل أو نظم أو قياس ، وإجابته عن سؤال يتوقع وروده ، وبيانه أنه ـ عزوجل ـ لما نهى النبي والمؤمنين عن الاستغفار للمشركين قدر أن قائلا قال : فهذا إبراهيم استغفر لأبيه المشرك بقوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦] أفلا نتأسى به؟ ويقال : إن هذا وقع من بعض الناس ، فأجاب الله ـ عزوجل ـ عنه بأن ذاك كان لأن أباه وعده أن يؤمن ، فلما أصر على كفره تبرأ منه وترك استغفاره له ، وقد يقال : إن إبراهيم لم يرد باستغفاره لأبيه حقيقة الاستغفار ، إنما دعا له بما هو لازم المغفرة ، وهو الإيمان ، كأنه قال : اهد أبي ليصير أهلا للمغفرة ، يدل على هذا قوله : (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦] فلما علل بضلاله دل على أنه إنما دعا له بضد الضلال ، وهو الهدى والإيمان.

(وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١٥) [التوبة : ١١٥] احتج بها الفريقان ، أما الجمهور فلأنه ـ عزوجل ـ أسند الإضلال والهداية إلى نفسه.

وأما المعتزلة فلأنه أخبر أن حجته قائمة عليهم بأنه بين لهم ما يتقون ، فخالفوا ولم يتقوا ، وقد عرف الجواب. وهذا من المتشابه في أحكام الأفعال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩) [التوبة : ١١٩] يقال : إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ يوم السقيفة لما طلبت الأنصار الإمرة استدل عليهم بهذه الآية. وتقريره : إننا نحن الصادقون وقد أمرتم أن تكونوا مع الصادقين ، فأنتم أمرتم أن تكونوا معنا ؛ فتكونون تبعا لنا.

٣٢١

أما الأولى / [٢١٩ / ل] فلقوله عزوجل في سورة الحشر في صفة المهاجرين : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٨) [الحشر : ٨].

وأما الثانية / فلهذه الآية.

واعترض على هذا الاستدلال بوجوه : أحدها : لا نسلم أن الصدق وصف خاص بالمهاجرين ، بل هو وصف عام للصحابة وغيرهم من أهل التقوى : إذ كل متق صادق ، لقوله ـ عزوجل ـ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) [البقرة : ١٧٧].

فذكر خصال التقوى ، ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٧]. وقال ـ عزوجل ـ : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣) [الأحزاب : ٢٣] وكان أكثرهم من الأنصار يوم أحد.

الوجه الثاني : أن المأمور بالكون مع الصادقين هم عموم الذين آمنوا من المهاجرين والأنصار ، فلو صح الاستدلال المذكور

للزم إما اختصاص الأنصار بالإيمان دون المهاجرين أو أمر المهاجرين بأن يكونوا مع أنفسهم ، وكلاهما محال.

والوجه الثالث : / [١٠٢ أ / م] لا نسلم أن الكون مع الصادقين يقتضي متبوعيتهم ، ولا تبعية الكائن معهم ، بل هما سواء.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (١٢٢) [التوبة : ١٢٢] يحتج بها على أمور أحدها : قبول خبر الواحد ؛ لأن الطائفة تصدق على الواحد ، وقد جعل منذرا ، ووجب الحذر بإخباره ، ولو لا قبول خبره لما كان كذلك.

واعترض عليه : بأنا لا نسلم بأن الطائفة تصدق على الواحد ، سلمناه لكنها تصدق

٣٢٢

عليه وعلى غيره ، إما بالاشتراك أو التواطؤ أو الحقيقة والمجاز ، فيكون مجملا دلالة له ، ثم إنذاره وتحذيره يحتمل أنه إنما يقبل بقرينة ، فلا يستقل وحده بوجوب القبول.

الأمر الثاني : صحة فرض الكفاية : وهو إيجاب الفعل على جميع المكلفين مع سقوطه بفعل بعضهم. وتقريره من الآية : أنه خص المؤمنين على نفير طائفة منهم للتفقه في الدين ، وذلك يقتضي تكليف جميعهم بما يكفى فيه فعل طائفة منهم ، وهو المطلوب.

الأمر الثالث : أن التفقه في الدين فرض كفاية ، وهو واضح من الآية.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (١٢٤) [التوبة : ١٢٤] هذه ونظائرها تدل على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقصان ؛ خلافا لقوم ، وأصل الخلاف أن حقيقة الإيمان ما هي؟

إن قيل : هو التصديق المجرد لم يقبلهما ؛ إذ لا تفاوت في التصديق الجازم ، وإن قيل : هو التصديق مع العمل قولا وفعلا ـ قبلهما ؛ لأن القول والعمل / [٢٢٠ / ل] جزء الإيمان وهما يقبلان الزيادة والنقصان ، فجزء الإيمان يقبلهما ، فالإيمان يقبلهما.

ثم يعترض على المذهب الأول بأن الإيمان هو التصديق الاعتقادي لا العلمي ، والاعتقادي يقبل التفاوت قوة وضعفا ، وبحسب قبوله للتشكيك وعدمه. سلمنا أن الإيمان هو التصديق العلمي. لكن قد سبق في قصة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ وسؤاله أن يرى إحياء الموتى أن العلم على أضرب : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين ، وهذه مراتب متفاوته في القوة والضعف والزيادة والنقص.

وقول المتكلمين : إن العلم لا يقبل التفاوت إنما يريدون به العلم النظري ، أما باعتبار مراتبه المذكورة فيقبله.

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) [التوبة : ١٢٦] فيه إشارة إلى أن الفتن والبلايا والمحن قد تكون زواجر وروادع وتنبيهات للإنسان على ترك ذنبه والإقبال على ربه ـ عزوجل ـ فمن وفق فعل.

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١٢٧) [التوبة : ١٢٧] يحتمل أنه خرج / [١٠٢ ب / م] مخرج الدعاء عليهم ، ويحتمل أنه خبر عن أنه صرف قلوبهم عن اتباع

٣٢٣

القرآن ، والإجابة لداعي الإيمان.

وهو حجة الجمهور على خلق الأفعال بواسطة خلق الدواعي والصوارف.

قالت المعتزلة : إنه لم يصرف قلوبهم إلا بعد أن انصرفوا بأنفسهم ، فكان صرف قلوبهم عقوبة على انصرافهم الاختياري.

وأجيب بأن انصرافهم مكسوب لهم ، وصرف قلوبهم مخلوق لله ـ عزوجل ـ على ما عرف.

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) [التوبة : ١٢٨] الآيتين تضمنتا التوحيد والنبوة ، أعني رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبرهانهما ، سيأتي إن شاء الله ـ عزوجل ـ مع ما مضى به.

* * *

٣٢٤

القول في سورة يونس

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) (٢) [يونس : ٢] الإنذار عام ، والبشارة خاص.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) [يونس : ٤] فيه إثبات المعاد.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) [يونس : ٤] علل إعادة الخلق بمجازاتهم ، فدل على جواز تعليل أفعاله بالحكم كما سبق ، وكذلك (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) [يونس : ٥] يدل على التعليل.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (٩) [يونس : ٩] الباء علية أو عوضية عند المعتزلة ، سببية عند الجمهور. / [٢٢١ / ل].

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٦) [يونس : ١٦] هذا من أدلة النبوة ، وتقريره : إني قد عشت فيكم عمرا قبل دعواي النبوة ، فلو كنت مدعيا متقولا للقرآن من عندي مختلقا له لفعلت ذلك من أول وقت ، واللازم باطل ، فالملزوم كذلك ، وذلك يدل على أنني إنما أتبع ما يوحى إليّ في زمن بتخصيص الله ـ عزوجل.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) (٢١) [يونس : ٢١] فيه جواز إطلاق المكر

٣٢٥

على فعل الله ـ عزوجل ـ والماكر عليه ، ومنه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) [آل عمران : ٥٤] واشترط بعضهم لذلك أن يقابل بمكر الغير نحو : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠) [النمل : ٥٠] وفيه نظر ؛ بدليل قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) [الأعراف : ٩٩] ولم يقابله مكر غيره.

والمكر والاستدراج متقاربان أو مستويان ؛ لاشتراكهما في تحصيل المقصود بطريق خفي لطيف.

(إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) [يونس : ٢١] يعني الحفظة ، وقد سبق ذكرهم في الأنعام.

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢) [يونس : ٢٢] يحتج به الجمهور ؛ لأنه أضاف التسيير إليه مع أنه ظاهرا من الخلق ، فدل على أنه يسيرهم خلقا وهم يسيرون كسبا ، وتسييره لهم بخلق التسيير والحركات منهم أو بخلق الدواعي والصوارف ، أو بكلا الأمرين.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢) [يونس : ٢٢] فيه دليل التوحيد ، كما سبق في الأنعام.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٥) / [١٠٣ أ / م] [يونس : ٢٥] هذا من القواصم للمعتزلة ؛ لأنه دعاء عاما وهدى خاصا لمن شاء ؛ فدل على أن الهدى بفضله والضلال بقدره ، كل ذلك مستند إلى سابق علمه.

(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦) [يونس : ٢٦] ذكر أهل التفسير أن الزيادة هي رؤية الله ـ عزوجل ـ وهذا وإن يكن قاطعا ، لكنه يؤكد أدلة الرؤية.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ

٣٢٦

الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣١) [يونس : ٣١] تضمنت دليل التوحيد من وجوه :

أحدها : أن الله ـ عزوجل ـ هو الرازق من السماوات والأرض بالمطر والنبات ، وكل من كان كذلك فهو الإله الحق.

الثاني : أنه ـ عزوجل ـ هو الذي يملك السمع والأبصار وكل من ملك السمع والأبصار هو الإله الحق ، ومعناه يتصرف في السمع والبصر فلا يدركان شيئا من مدركاتهما إلا بإذنه وإرادته ، وتعلق به الاتحادية ؛ قالوا : لم يملك ذلك إلا وهو سار في الأجسام / [٢٢٢ / ل] ، وليس بلازم ، وهذا المغناطيس يتصرف في الحديد من غير سريان ولا ملابسة.

وقد سبق القول معهم في الأنعام.

الثالث : أنه ـ عزوجل ـ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي.

الرابع : أنه يدبر الأمر ، أي أمر السماوات والأرض بالتحريك والتسكين والتسخير والتصريف ، والتقدير. وقد وافق الكفار المخاطبون بهذا الخطاب على هذه الوجوه كلها بقولهم : هو الله ، وكل من كان كذلك فهو الإله الحق ، فالله ـ عزوجل ـ هو الإله الحق ، وليس بعد الحق إلا الضلال ؛ إذ لا واسطة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال. فإن أجبتم إلى التوحيد وإلا فأنتم ضلال.

(كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) [يونس : ٣٣] أي خرجوا عن الإيمان بالكفر (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٣٣] احتج به الجمهور لأنه ـ عزوجل ـ أخبر بأن كلمته حقت عليهم بالكفر ، وكل من حقت عليه الكلمة بالكفر لا يؤمن واستحال منه الإيمان ؛ فهؤلاء لا يؤمنون. ومعنى حقت عليهم الكلمة تعلق العلم والإرادة الأزليان بكفرهم ، وكل ما تعلقا به كان واجب الوقوع ، فكفر هؤلاء واجب الوقوع ، وكل واجب الوقوع من الإنسان فهو مجبور عليه ، فهؤلاء مجبورون على كفرهم ، والجور غير لازم لما سبق في مقدمة الكتاب.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٣٤) [يونس : ٣٤] الآيتين تضمنتا دليلين على التوحيد أحدهما هكذا : الله ـ عزوجل ـ يبدأ الخلق ثم يعيده ، وشركاء الكفار أي آلهتهم التي ادعوا أنها شركاء في

٣٢٧

الإلهية لا تبدأ الخلق ولا تعيده ، فشركاؤهم ليسوا آلهة.

الثاني : أن شركاءهم لا يملكون الهداية إلى الحق ، والإله ـ عزوجل ـ يهدي إلى الحق ؛ فشركاؤهم ليسوا إلها.

وهذه براهين واضحة ؛ لأن بدء الخلق والهداية إلى / [١٠٣ ب / م] الحق وغيرها أمور ممكنة ، والله ـ عزوجل ـ قادر على جميع الممكنات ، والأصنام جماد لا تقدر على شيء من الممكنات ، فالله ـ عزوجل ـ ليس هو الأصنام ، وينعكس كنفسه : الأصنام ليست هي الله ـ عزوجل.

(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦) [يونس : ٣٦] / [٢٢٣ / ل] احتج به من منع العمل بخبر الواحد ؛ لأنه إنما يفيد الظن ، وهو لا يغني عن الحق.

وأجيب بأن الآية إنما منعت من اتباع الظن في التوحيد ونحوه من القطعيات ، أما العمليات فلا.

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٧) [يونس : ٣٧] أي : لا ينبغي للقرآن أن يكون من عند غير الله ؛ لأنه معجز في نفسه عبارة ومعنى ، وذلك لا يقدر عليه إلا الله ـ عزوجل ـ وهذا من مسائل القرآن وإعجازه ودلائل النبوة.

ودليل إعجازه الآية بعده :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٨] وتقريره : إنكم إما أن تسلموا أنه من عند الله ـ عزوجل ـ فيلزمكم الإيمان به وبمن جاء به ، أو لا تسلموا ذلك وتدعوا أن محمدا افتراه ؛ فيلزمكم أن تأتوا بسورة مثله تفترونها لتصححوا دعواكم في افترائه ، وإلا فأنتم كاذبون خاطئون في دعواكم. وقد سبق نحو هذا في أول البقرة. ثم إنه تنزل معهم في التحدي بالقرآن من مثله إلى عشر سور إلى سورة مثله.

(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤١) [يونس : ٤١] وعيدية محكمة أو منسوخة بآية القتال.

٣٢٨

(إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤) [يونس : ٤٤] يحتج بها المعتزلة على مذهبهم ؛ لأنه لو خلق أفعالهم ، ثم عاقبهم لكان [ظالما لهم] واللازم باطل.

وأجاب المجبرة بأنا لا نسلم ذلك ، وإنما يلزمكم أن لو كان يعلم أنه لو فوض إليهم أفعالهم لخلصوا من اللائمة ، أما وهو يعلم أنه لو فوض إليهم لكانوا ظالمين أيضا فلا.

والكسبية قالوا : إنما يلزم الظلم أن لو لم يكن لهم مع خلقه كسب ، أما ولهم كسب يناسب العقاب عليه فلا.

(قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٤٩) [يونس : ٤٩] أي فأملك لنفسي ضرا ونفعا بمشيئته هو لي كسب وله خلق ، وإن كان الاستثناء منقطعا ؛ فالنفي قبله عام مطرد.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٥٩) [يونس : ٥٩] يحتج به وبنظائره على صحة الاستدلال بالسبر والتقسيم ، وهو حصر الأقسام وإبطالها سوى المدعى عليه ؛ مثاله هاهنا : إنكم أيها الكفار حرمتم بعض / [٢٢٤ / ل] ما رزقتموه ، فلا يخلو تحريمكم لذلك إما أن يكون بإذن شرعي أو افتراء منكم ، والأول باطل ؛ لأن الشرع خصمكم ، وهو ينكر الإذن لكم فتعين الثاني ، وهو أنكم حرمتموه افتراء [١٠٤ أ / م] على الله كذبا عليه ، وما كان كذلك لا يلتفت إليه ، وقد سبق نحو هذا في أواخر الأنعام.

(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) [يونس : ٦١] هذا يحتج به الصوفية في وجوب دوام المراقبة لدوام الشهادة ، وفي الأثر «اتقوا الله في الخلوات فإن الشاهد هو الحاكم» ، وربما تعلقت الاتحادية بهذا على أنه شاهد بذاته ، وما ذاك إلا لسريانه في العالم واستتاره باطنا بهم وظاهرا ، وسياق الآية يقتضي أنه شاهد بعلمه وهو (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦١) [يونس : ٦١].

(لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ

٣٢٩

الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٤) [يونس : ٦٤] روي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن البشرى في الدنيا هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له (١).

وأما البشرى في الآخرة فقيل : رؤية الله ـ عزوجل ـ كالزيادة في (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٦) [يونس : ٢٦] والأشبه أنها قول الملائكة. (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت : ٣٠].

(قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦٨) [يونس : ٦٨] إشارة إلى أن الولد إنما يكون لافتقار إلى نصرته من ذلة أو التكثر به من قلة ، والله ـ عزوجل ـ غني بذاته من كل جهة عما سواه ، وأشار بأن لهما في السماوات ، وما في الأرض إلى أمرين :

أحدهما : بيان مستند غناه الذي أثبته لنفسه.

والثاني : منافاة الملكية للولدية ، كما سبق في البقرة.

والغني هو الذي لا يحتاج في وجوده ولا دوامه ولا في كماله إلى غيره ، وقيل : هو من لا مزاج له يحتاج لتغيره إلى ما يحتاج إليه ذوات الأمزجة.

(إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا) [يونس : ٦٨] أي لا حجة عندكم على اتخاذه ولدا ، وهو يقتضي أن ما لا حجة عليه ، لا يثبت.

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (٧١) [يونس : ٧١] يستشهد به على أن الإجماع لغة هو الاتفاق / [٢٢٥ / ل] والعزم ، إذ المعنى اتفقوا واعزموا على ما تريدون.

__________________

(١) أخرجه أحمد [٢٧٦٦٣] [٦ / ٤٥٢] وأيضا [٢٧٦٢٧] [٦ / ٤٤٧] وابن جرير [١١ / ١٣٥] ـ [١١ / ١٣٤] وابن أبي شيبة في المصنف [٧ / ٢٣٠] والبيهقي في الشعب [٤ / ٤٧٥١] وعلقه ابن عبد البر في التمهيد [٥٩ / ٥] وأخرجه أحمد [٢٧٦٢٨] [٦ / ٤٤٧].

٣٣٠

(وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (٨٤) [يونس : ٨٤] يقتضي أن التوكل من مهمات الإيمان حتى يكاد يكون شرطا فيه أو على كماله ، وشواهده كثيرة ، وتوجيهه أن التوكل هو التفويض ، ومن لا يفوض إلى الله ـ عزوجل ـ فكأنه لم يرض به ربا ومدبرا ، فإن كان ذلك عن عمد واحتقار لشأن القدرة فهو كفر ، وإن كان من ضعف وغلبة جزع فهو نقص من الإيمان أو كماله.

(وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) (٨٨) [يونس : ٨٨] يقال : إنها انقلبت حجارة وحصى ، وهو مسخ في الجماد ، وقد [قال بعض العلماء المحققين المتأخرين رضي الله عنهم :] رأيت بسفح جبل المقطم بالقاهرة حصى مستديرا منقوشا على هيئة الدنانير ، وحتى لم أشك أول ما رأيتها أنها دنانير وهي كثيرة جدا يجمع منها / [١٠٤ ب / م] قناطير كثيرة ، زعم الناس هناك أن هذا موضع خزائن فرعون ، وأن هذا مما مسخ [من ماله ، ثم إني رأيت] في أحد أهرام الجيزة بمصر أحجارا فيها حصى (ملصق) على هيئة الدنانير ، فترددت حينئذ فيما قيل من أن ذلك مما مسخ من مال فرعون ، إذ الأهرام قبل فرعون بدهور ، ثم زال عني التردد لاحتمال أن مال فرعون مسخ على هيئة تلك الأحجار القديمة ، كما مسخ بعض الناس على صورة القردة والخنازير ، أو لأن ذلك عذاب عذب الله ـ عزوجل ـ به قوما قبل آل فرعون فمسخ أموالهم ، غير ذلك من الاحتمالات.

قوله تعالى : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا) [يونس : ٨٨] أي اربط عليها فلا يدخلها الإيمان كالوعاء المربوط وهو الطبع والختم بما يخلق فيها من دواعي الكفر والصوارف عن الإيمان.

(وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩٠) [يونس : ٩٠] يحتج به من [لا علم له] أن فرعون مات مسلما ، وهو خلاف النصوص والإجماع ، أما النصوص فقوله ـ عزوجل ـ بعد هذه مقرعا له : (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) [يونس : ٩١] وهذا إنكار من

٣٣١

الله ـ عزوجل ـ : يتضمن نفى قبول توبته ، وأيضا قوله ـ عزوجل ـ (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) [الذاريات : ٤٠] يعني فرعون أتى بما يلام عليه وهذا ذم له ، ولو مات مسلما لما أثنى عليه بالذم / [٢٢٦ / ل] ، وكذلك (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) (٨) [القصص : ٨] ، (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٤٦) [غافر : ٤٦] وحكمه وحكم آله واحد ؛ إذ قد حكم على الجميع بأنهم كانوا خاطئين ، وأما الإجماع فمشهور على ذلك وعلى جواز لعنة فرعون ، [وإنما أظهر هذه المقالة الشيخ محيي الدين بن العربي الأندلسي الحاتمي صاحب فصوص الحكم] ، والإجماع قبله على خلافه ، وإن ادعى ذلك كشفا ، فالكشف لا يرفع حكم الإجماع الظاهر ، كما أن القدر الباطن لا يرفع حكم الكسب الظاهر.

(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) (٩٢) [يونس : ٩٢] أي لمن بعدك وسمى البعد خلفا ، لأن الناس متوجهون إلى الآخرة ، فمن بعدهم متوجه إليها خلفهم ، أو لأن من بعده خلفه في ملكه ، أو لأن جهة خلف خلاف قدام ، [وهذا يقتضي تسمية قدام خلفا ، إذ كل منهما خلاف صاحبه ، وليس ببعيد ، كما يسمى قدام] وراء في نحو ذلك : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩) [الكهف : ٧٩] أي : أمامهم ؛ لأن فيهما معنى المواراة وكذا فيهما معنى المخالفة.

(وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٩٣) [يونس : ٩٣] ونظيره في الجاثية ، وآل عمران (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) / [١٠٥ أ / م] [آل عمران : ١٩] يحتج بذلك الفلاسفة ، وبعض المتكلمين على ترجيح علم المعقولات على السمعيات ، وجعل

٣٣٢

المعقول أصلا محكما يرد إليه السمعي الذي هو كالفرع المجمل ، ولذلك تراهم إذ لاح لهم في حكم ما يعتقدونه برهانا ، عولوا عليه واشتغلوا بتأويل السمعيات المخالفة له توفيقا بين الأدلة. وتقرير احتجاجهم من هذه الآية أن الله ـ عزوجل ـ أخبر عن بني إسرائيل أنهم مكثوا برهة متفقين قبل أن يأتيهم العلم السمعي ؛ فلما جاءهم اختلفوا ، وإنما كانوا قبل ورود السمع يعتمدون على سياسة العقل والعرف ونحوه ، والاتفاق محمود والاختلاف مذموم ، فدل على أن تصرف العقل أوثق وأوفق من ظواهر السمع لما في تصرف العقل من الحزم وعدم قبول التأويل ، وفي السمعيات من الإجمال والاشتراك والترددات المانعة من الحزم القابلة للتأويل ، وهذه مسألة أصولية وهي أن النقليات هل تفيد اليقين أم لا؟ فيه أقوال :

ثالثها : أنها تفيد بانضمام قرائن إليها لا بمجردها ، [ووجه النفي مطلقا أن النقليات يتوقف إفادتها اليقين على أمور غير متيقنة لعدم المجاز والإضمار والنقل والاشتراك والتخصيص ونحوها ، وكل ما توقف على غير المتيقن فهو غير متيقن.

ثم تفرع على هذا مسألة أخرى وهي إذا تعارض السمع وما أدركه العقل في أحكام العقائد فأيهما يقدم؟ فالمحدثون قدموا السمع لاحتمال غلط العقل في الأمور الإلهية ونحوها ، والشرع أوثق منه في ذلك وغيره ، والمتكلمون كالأشاعرة والمعتزلة والفلاسفة قدموا مدرك العقل ؛ لأن السمع إنما ثبت بدليل العقل فلو قدم السمع عليه كان ذلك قدحا في الأصل بالفرع ثم في الفرع تبعا لأصله ، وأنه باطل] والجواب عن شبهتهم من الآية أن العلم أعم من السمعي وغيره ، والعام لا يدل على الخاص ، فلا نسلم أن المراد : فما اختلفوا حتى جاءهم العلم السمعي ، بل هو أعم من ذلك وحينئذ يلزمكم في العلم العقلي ما ألزمتمونا في السمعي ، سلمناه ، لكن قد سماه علما ، وهو في العرف والإدراك الجازم الذي لا يحتمل النقيض ، ومثل هذا كيف يختلف فيه أو يكون / [٢٢٧ / ل] سببا للاختلاف؟! سلمناه لكن ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو كان اختلافهم بعد مجيء العلم من جهة العلم لكن جهة اختلافهم أعم من ذلك ، ثم قد عينت بجهة البغي بينهم لقوله ـ عزوجل ـ / [١٠٥ ب / م] : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩) [آل عمران : ١٩] والاختلاف بغيا لا يوجب العلم غيا.

(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ

٣٣٣

لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (٩٤) [يونس : ٩٤] قد يتوهم من ظاهرها أنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ اعترضه شك في بعض الأوقات فيما أنزل إليه كما توهمه بعض النصارى ، فأورده متعلقا به.

وليس كذلك لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من الشك والارتياب لقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (١) [الشرح : ١] وإنما وجه الآية صرف الخطاب إلى من يجوز عليه الشك من أتباعه وأخصامه ، نحو (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣) [الرعد : ٤٣] (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧) [الأنبياء : ٧] فإن لم يكن بد من صرف الكلام إليه على ظاهر اللفظ ، فمعناه على تقدير :

إن تشك فاسأل وإن كان ذلك التقدير لا يقع نحو (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢) [الأنبياء : ٢٢] أي لو قدر آلهة أخرى ، لزم الفساد ، لكن ذلك التقدير ممتنع ، وهذا يتخرج على ما سبق من أن الأنبياء معصومون من وقوع الكفر ، لا من جوازه عقلا.

(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) (٩٦) [يونس : ٩٦] سبق نظيرها في أوائل السورة ، والكلام عليه ، وحاصله صرفهم عن الإيمان بما يخلقه فيهم من الدواعي والصوارف.

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) [يونس : ٩٨] يعني آمنت عند معاينة العذاب ، ونظيره (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) (٩١) [يونس : ٩١] ، (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) (٥١) [يونس : ٥١] ، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) (٨٥) [غافر : ٨٥] (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٢) [الفرقان : ٢٢]. وحاصل ذلك أن

٣٣٤

الإيمان عند العيان ، يبقى اضطراريا ، والمعتبر النافع إنما هو الاختياري دون الاضراري.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] احتج الجمهور بها على مذهبهم كنظائرها ، ومعناها : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بما يخلق فيهم من دواعيه ، وتأولها المعتزلة على معنى لو شاء / [٢٢٨ / ل] لأجبرهم على الإيمان واضطرهم إليه بدليل (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] ، لكن الإيمان الاضطراري غير معتبر ، فلذلك لم يجبرهم [فالمنفي عنهم] هو إجبارهم على الإيمان وإلجاؤهم واضطرارهم إليه ، لا لهدايتهم وإرشادهم إليه ، وعند الجمهور المنفي مشيئة [إيمانهم لا غير ، ثم إن المشيئة] لا تخلو من التعلق بالضدين جميعا ، فلما لم [تتعلق] بإيمانهم لزم أنها تعلقت بكفرهم وتعلقها موجب لوقوع / [١٠٦ أ / م] متعلقها ، فكفر الكفار وعصيان العصاة واجب الوقوع بغيره ، وهو تعلق الإرادة به ، وهو يقوي مقالة الجبرية.

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠) [يونس : ١٠٠] أي يمتنع الإيمان من نفس إلا بإذن الله] ، أي إرادته ومشيئته ، فهذه اقتضت مع التي قبلها أن إذن الله ـ عزوجل ـ وإرادته ومشيئته ، فهذه اقتضت مع التي قبلها أن إذن الله ـ عزوجل ـ وإرادته مناط ومدار للإيمان وجودا وعدما ، إن وجدت الإرادة للإيمان وجد ، وإن انتفت انتفى. وذلك يقوي مقالة الجمهور ، ويحتج بآخر الآية من يرى أن العلوم العقلية سبب للعصمة من رجس الكفر والضلال ، بطريق قياس العكس ، لأنها اقتضت وقوع الرجس بمن لا يعقل ، وهو يقتضي أن من يعقل لا يلحقه رجس ، والمراد بمن يعقل أي يستخرج الأحكام الحقة الحقيقية بالأنظار العقلية ، وهذا أحق بشرط مساعدة التوفيق ، وإلا فكم من حكيم زل وذي نظر ضل.

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١) [يونس : ١٠١].

فيه إيجاب النظر ؛ لأنه مأمور به ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب ، وقد سبق هذا في أوامر الأعراف ، وكيفية النظر فيما في السماوات والأرض قد سبق أيضا.

(وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] أي عن قوم انتفى إيمانهم لتعلق مشيئة الله ـ عزوجل ـ بانتفائه ، أي لا ينفع النظر في الآيات والتدبر لعجائب المصنوعات ، قوما حقت عليهم كلمة العذاب فضرب بينهم وبين الإيمان حجاب.

٣٣٥

(وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (١٠٦) [يونس : ١٠٦] هذا أمر بالتوحيد ونهي عن الشرك ، وبرهانه معه ، وهو الاستدلال بعدم القدرة على النفع الضر على عدم الإلهية ، كما تقرر في «المائدة».

(فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس : ١٠٦] أي بوضع الدعاء والعبادة / [٢٢٩ / ل] غير موضعهما ، وهو يشير إلى أن العصمة للأنبياء إنما هي من وقوع الكفر لا جوازه.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) [الأنعام : ١٧] حجة مؤكدة لما قبلها على التوحيد ، بدليل الطرد والعكس نحو (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) [فاطر : ٢] وتقريره : أن الله ـ عزوجل ـ هو الذي يدور النفع والضر والخير والشر مع إرادته وجودا وعدما ، وكل من كان كذلك فهو الإله الحق ، فالله ـ عزوجل ـ هو الإله الحق ، ومقدمتاه بينتان.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) [يونس : ١٠٨] يحتج به المعتزلة ؛ إذ نسب الهدى والضلال / [١٠٦ ب / م] إلى المخلوق لا إلى نفسه ، وجوابه : أنه أضافه إليهم باعتبار أنهم محله أو كاسبوه ، أو على تقدير أنه لو فوض إليهم خلقه لكان منهم إما ضلالا ، وإما هدى.

(قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (١٠٨) [يونس : ١٠٨] وعيدي محكم أو منسوخ بآية القتال (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) [التوبة : ٥].

٣٣٦

القول في سورة هود

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) [هود : ١] يستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ، إذ ظاهره تراخي التفصيل عن وقت إنزاله ؛ لأن (ثم) تقتضي التراخي ، ويحتمل أنها لمجرد العطف كالواو أو تنبيها على تعظيم المنة أو العناية بالتفصيل كما تقول : أطعمت فلانا ثم كسوته وآويته ، ثم زوجته ، ونحو ذلك فلا يدل على المدعى.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (٢) [هود : ٢] فيه إثبات التوحيد والنبوة ، وسيأتي برهانه إن شاء الله عزوجل.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) (٣) [هود : ٣] هكذا هو الترتيب الطبيعي ، أن يستغفر مما فعل ، ثم يتوب عن أن يفعل ، إذ الاستغفار طلب المغفرة لما وقع ، والتوبة : العزم على ألا يوقع شيئا من الذنوب بعده.

ولما قدم التوبة على الاستغفار في قوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٤) [المائدة : ٧٤] لم يعطف / [٢٣٠ / ل] الاستغفار ، ثم لهذا المعنى (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) [هود : ٦] يحتج به على أن عموم الرزق من الله ـ عزوجل ـ حلاله وحرامه ، خلافا للمعتزلة فيه كما سبق في أول «البقرة».

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] هذا يحتج به من رأى العرش سريرا أو جرما مستعليا بالجملة ، ونفي تفسيره بالملك أو نحوه مما تأوله نفاة الاستواء ؛ إذ لا يصح أن يقال : وكان ملكه على الماء.

وقد جاء في الحديث : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟

٣٣٧

قال : «كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء» (١) والعماء ممدودا هو الغيم الرقيق.

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] هو تعليل لخلق السماوات والأرض بالابتلاء ، ويحتج به على تعليل أفعاله ، وأحكامه ـ سبحانه وتعالى ـ.

(وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [هود : ٧] فيه إثبات البعث.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) [هود : ١٣] فيه إثبات إعجاز القرآن والتحدي به ، وإثبات النبوة بذلك على ما سبق في «البقرة» و «يونس».

(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) [هود : ١٤] يحتج بها الجمهور على إثبات العلم صفة زائدة على مفهوم الذات وعلى قياسه سائر الصفات ، تأوله المعتزلة على معنى أنزله ، وهو يعلمه إما بذاته أو بعالميته : [١٠٧ أ / م] ولا يلزم من ذلك أن يكون هناك صفة زائدة.

قوله ـ عزوجل ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧) [هود : ١٧] تعلقت به الشيعة في أن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ هو حليفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لأن الذي على بينة من ربه هو النبي عليه‌السلام] بدليل قوله : (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥٧) [الأنعام : ٥٧] والشاهد منه هو

__________________

(١) رواه أحمد في المسند [٤ / ١١] ورواه أيضا [٤ / ١٢] وابنه عبد الله في السنة [١ / ٤٥٠] والترمذي ، كتاب تفسير القرآن [٣١٠٨] والطيالسي في مسنده [١٠٩٣] والطبراني في الكبير [١٩ / ٤٦٨] والبيهقي في الأسماء والصفات [٢ / ٨٠١] وابن حبان في الثقات [٥ / ٤٩٦].

٣٣٨

علي لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عليا مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي» وفي رواية «ولي كل مؤمن». لأن الإمام خليفة النبي ـ عليه‌السلام ـ والنبي شاهد على الأمة فكذا خليفته ، فدل ذلك على أن عليا هو الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأجابت السّنّة عن هذا : بأن المراد بقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧) [٢٣١ ل] [هود : ١٧] هو القرآن من الله ـ عزوجل ـ شاهد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق ، لأنه معجزه الأكبر ، يدل عليه قوله : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى) [هود : ١٧] أي : ومن قبل الشاهد كتاب موسى ، فدل على أن الشاهد وكتاب موسى من جنس واحد ، وعليّ ليس من جنس كتاب موسى ، فلا يكون مرادا من الآية.

وهذا بحث جيد من الطرفين ، ومن جهة الجمهور أجود ، ومأخذ الخلاف أن الضمير في «منه» يحتمل رجوعه إلى من كان وإلى ربه ، فحمله الشيعة على الأول ، والجمهور على الثاني ، وهو أقرب المذكورين.

ويحتمل أن المراد بقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) [هود : ١٧] أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [هود : ١٧] فدل على أن المراد بمن كان جمع لا مفرد ، وحينئذ يسقط الاستدلال به بالكلية.

و (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) (٢٠) [هود : ٢٠] يحتج به الجبرية على أنهم لجبرهم على الكفر لم يستطيعوا الإيمان ، وتأوله المعتزلة على أنهم لشدة كراهتهم للإيمان ما كانوا يستطيعون سماع دلائله ، كما يقال : فلان ما يستطيع أن يسمع بذكر فلان ونحوه.

(وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٣١) [هود : ٣١] يحتج به من يرى أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وقد سبق ذلك.

٣٣٩

(قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٢) [هود : ٣٢] يحتج به على مشروعية الجدال في إظهار الحق وإخفاء الباطل ؛ لأن الآية دلت على أن نوحا فعله وأكثر منه مع قومه ، خصوصا في أصول الدين مع الكفار والمبتدعة ، كما فعل نوح عليه‌السلام.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١٣) [الشورى : ١٣].

(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٣٤) [هود : ٣٤] ، يحتج بها الجمهور على أن الله ـ عزوجل ـ يريد إغواء بعض الخلق ، ومراد الله ـ عزوجل ـ واجب ، فإغواء هؤلاء واجب ، هو / [١٠٧ ب / م] المراد بخلق الأفعال ، إذ لا معنى لخلقها إلا إيجادها واختراعها بأسباب موجبة لها ، والإغواء منها.

ولعل المعتزلة يتأولون ذلك على أن (يغويكم) معناه يصيبهم غاوين ، من باب أجبنت الرجل وأبخلته أي أصبته ، ووجدته جبانا وبخيلا.

(وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦) / [٢٣٢ / ل] [هود : ٣٦] يحتج به من يرى تكليف ما لا يطاق ، وتقريره أن نوحا أخبر أن قومه لم يؤمن في المستقبل أحد منهم ، وخبر الله ـ عزوجل ـ صدق ومتعلقه جازم لا خلف فيه ، ثم إنهم مع ذلك لم ينقطع الخطاب التكليفي عنهم ، حينئذ هم مأمورون بالإيمان مع استحالة وقوعه منهم ، وهو تكليف ما لا يطاق أو تكليف بالمحال ، لا يقال : إن تعلق العلم والإخبار الإلهي بعد إيمانهم لا يوجب صيرورته منهم محالا ؛ لأن العلم كاشف عن الحقائق لا مؤثر فيها ، لأنا نقول : تعلق العلم بعدم إيمانهم يقتضي تعلق الإرادة والقدرة بذلك أيضا ؛ لئلا تتنافى الصفات القديمة في متعلقاتها ، وحينئذ يبقى إيمانهم خلاف المعلوم والمخبر به والمراد والمقدور ، وذلك يوجب استحالته قطعا.

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا

٣٤٠