القول في سورة غافر
(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٤) [غافر : ٤] فيه ذم الجدال بالباطل ، إذ المراد يجادل في آيات الله ليبطلها ، كما قال بعد : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) (٥) [غافر : ٥].
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٦) [غافر : ٦] أي : وجبت ولزمهم / [١٧٥ أ / م] حكمها مع تعلق العلم والإرادة بكفرهم ، ويلزم الجبر.
واعلم أن الجبر على ضربين : جبر محسوس ، كمن يقبض على أطواق شخص ويجره إلى الدار ، وجبر معقول كمن يزين له دخولها بما يخيله إليه من الأسباب المقتضية لذلك ، أو يجذبه إلى ذلك بجاذب حالي نفساني ، ونحوه.
والضرب الأول من الجبر مجمع على عدمه في أحكام القدر ، وإنما النزاع في الضرب الثاني فالجبرية أثبتوه ، والمعتزلة نفوه.
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٧) [غافر : ٧] احتج بها من فضل مؤمني البشر على الملائكة ؛ لأنهم لم يستغفروا لهم إلا وقد علموا أنهم أشق عملا وأفضل منزلة.
وقال بعضهم : بل الملائكة أتقياء ، فتقواهم حملتهم على الاستغفار للمؤمنين ، جبرا لما وقع منهم في حقهم بقولهم في البدء : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٣٠) [البقرة : ٣٠] وهذه كلمة استرسلت على جميع أفراد بني آدم / [٣٦٤ ل] ، فالكافر ونحوه وقعت منه موقعها ، والمؤمن لم تقع منه موقعها ؛ فرأوها غيبة أو قذفا ؛ فاستدركوها بالاستغفار لهم ، وهذا حكم من اغتاب شخصا أو قذفه أو يعرفه ما قال فيه ، ويستوهب منه ، فإن لم يمكنه تعريفه استغفر له حتى يعلم أنه قد