الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي

الإشارات الإلهيّة إلى المباحث الأصوليّة

المؤلف:

نجم الدين أبي الربيع سليمان بن عبدالقوي ابن عبدالكريم الطوفي الصرصري الحنبلي


المحقق: محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3779-4
الصفحات: ٦٩٦

حقية التالي ؛ فلأن الرؤية قد ثبت أنها من لوازم اللقاء ، وقد ثبت الملزوم فوجب ثبوت اللازم بالضرورة.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣٣) [الأنعام : ٣٣] هذا عام معهود أو عام أريد به الخاص ، أي : الذي يقولونه من التكذيب والكفر ، وإلا فقد كانوا يسلمون عليه ويعظمونه ويقاربونه في أمور كثيرة ، ومثل ذلك لا يحزنه.

(وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) [الأنعام : ٣٥] يحتج به على القدرية من وجهين ، أحدهما : أن المانع لهؤلاء من الهدى مشيئته ، ومشيئته واجبة فامتناع هداهم واجب ، وهو معنى الجبر.

الثاني : أن جمعهم على الهدى أصلح لهم ، وعند الخصم يجب عليه رعاية الأصلح ، فما باله لم يفعله.

والخصم يجيب عن الأول بمنع وجوب مشيئته ـ عزوجل ـ بل هي عنده حادثة لا في محل ، وهو من محالاتهم التي يأباها العقل ، وزعم أن معنى الآية ، أنه لو شاء لجبرهم على الهدى جبرا وقسرا ، لا أن مشيئته مانعة لهم عن الهدى.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦) [الأنعام : ٣٦] أي وهؤلاء كالموتى لا يسمعون ، ينتج أن هؤلاء لا يستجيبون يعني لداعي الهدى والحق ، وهذا يشير إلى قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) [الأنفال : ٢٣] أي : هؤلاء لم يسمعهم الله وكل من لم يسمعه الله ـ عزوجل ـ لا يستجيبون.

ومعنى كونه لم يسمعهم ، أنه لم يخلق فيهم داعيا لقبول الحق ، بل خلق فيهم الصوارف عنه فصاروا كالموتى لا يسمعون.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٧) [الأنعام : ٣٧] احتج بها اليهود والنصارى / [١٦٠ / ل] على جهة الإلزام للمسلمين على أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأت بآية ؛ لأن هؤلاء قومه الذين أرسل إليهم

٢٤١

قد أخبروا أنه لم يأت بآية ، ووافقهم هو على ذلك ، ولم ينازعهم فيه ، بل أحالهم في الآية على مجرد قدرة الله ـ عزوجل على إنزالها ومجرد القدرة على إنزالها ، لا يقتضي إنزالها ، فبقي على أصل العدم وبقي الحال على ما زعمه القوم من أنه لم يأت / [٧٥ / م] بآية. والجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا إنما كان بعد أن ظهرت آياته ، وبهرت ، لكن هؤلاء الكفار تلقوها بالعناد المحض ، وزعموا أنها سحر مستمر كما عاند فرعون آيات موسى ، وعاند اليهود آيات المسيح ، فكان قول الكفار : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) بناء منهم على أن ما جاءهم به من الآيات ليس بشيء ، بناء على عنادهم ، وسوء اعتقادهم.

الوجه الثاني : [أن معنى الآية : لو لا نزل عليه آية تضطرنا] إلى الإيمان به مثل أن نرى الملائكة ، أو نرى ربنا ونحوه. فأجاب الله ـ عزوجل ـ بأنه قادر على أن ينزل ذلك لكنه يفوت حكمة التكليف ؛ إذ المراد منهم الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري إذ هو غير مراد ، ولا نافع ، وإلا لنفع فرعون حين أدركه الغرق ، وعاين الحق ، ولنفع أهل النار ، فإنهم يؤمنون حينئذ ، لكن إيمانا اضطراريا لا ينفعهم.

وقد نقل عن الإمام أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ قال : لا يدخل النار إلا مؤمن ، فقيل له :

كيف ذلك؟ فتلا : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (٨٤) [غافر : ٨٤] ولعل الإشارة إلى هذا وقعت بقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣١) [الأعراف : ١٣١] أي : لا يعلمون وجه الحكمة في ترك اضطرارهم إلى الإيمان ، وفي الجواب وجه آخر أشير إليه في قوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) (٥٩) [الإسراء : ٥٩] وهو يشير إلى أن الآيات فترت عن كفار العرب فطلبوها ، فقيل لهم : إنما أمسكناها عنكم إبقاء عليكم ، لئلا تكذبوا بها ، فتهلكوا كما هلك من قبلكم.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) [الأنعام : ٣٨]

٢٤٢

احتج بها التناسخية ؛ وهم القائلون بتناسخ أرواح الحيوان بعضها في أجساد بعض بعد موته ، ووجه استدلالهم بها أنها تضمنت أن الدواب والطير أمم أمثال الناس ، وإنما يكونون أمثال الناس بتقدير أنهم كانوا على مثل حالهم ، ثم انتقلوا إلى صور الدواب والطير / [١٦١ / ل] ، وذلك معنى التناسخ.

وجوابه : أن التناسخ على رأي أهله قد تقرر في الكلام والحكمة أنه محال ، وأما هذه الآية فليست نصا فيه ولا ظاهرا ، فلا وجه للاستدلال بها عليه ، ولكن الأشياء نسبة فدليلهم كمدلولهم في الضعف والبعد عن العقل ، والآية تحتمل وجوها.

أحدها : أن الدواب والطير أمثالنا في العبادة ، بدليل (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١) [النور : ٤١] ، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٤٤) [الإسراء : ٤٤].

الثاني : أنهم مثلنا في التكليف وإرسال الرسل فيهم ، بدليل (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣٦) / [٧٦ أ / م]) [النحل : ٣٦]. على ما ذهب إليه بعضهم في عمومه في أمم العقلاء ، وغيرهم.

الثالث : أنهم أمثالنا في أنهم عقلاء مدركون ، على ما ذهب إليه قوم.

الرابع : أنهم أمثالنا في أنهم يرزقون ، بدليل (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦) [هود : ٦] ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠) [العنكبوت : ٦٠].

الخامس : أنهم أمثالنا في أنهم يبعثون ، ويحشرون كما دل عليه آخر الآية ، ويحتمل غير ذلك مما يستبد الله ـ عزوجل ـ بعلمه ، [ومع هذه الاحتمالات القريبة الظاهرة ، أي شيء يبقى للتناسخ البعيد عنها يحتج عليه منها].

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي

٢٤٣

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٣٨) [الأنعام : ٣٨] يحتج به الظاهرية على إبطال القياس ، وتقريره أن كل حكم من أحكام الشرع الممكنة فهو شيء ، والكتاب لم يفرط فيه في شيء ، ينتج أن كل حكم من أحكام الشرع الممكنة لم يفرط فيه في الكتاب. وحينئذ لا حاجة إلى القياس ؛ لأنا نستفيد الأحكام من نصوص الكتاب وعموماته وظواهره ، وبيان السّنّة له ، وما لا حاجة بنا إليه فإثباته عبث ، والعبث باطل ، فإثبات القياس باطل وجوابه من وجهين :

أحدهما : أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الجامع لكليات العالم وجزئياته ، حتى إن الكتب المنزلة جميعها جزء منه ، وليس المراد به خصوص القرآن ، فلا يتم استدلالهم.

الثاني : سلمنا أنه المراد لكن القياس من جملة الأشياء التي لم يفرط في الكتاب فيها ، وهو حجة من حجج الشرع ، بدلالة مستفادة من الكتاب ، ثم ينتظم الدليل هكذا : القياس شيء والكتاب لم يفرط فيه في شيء ، فالقياس لم يفرط فيه في الكتاب.

وسيأتي القول فيه في موضع آخر ، إن شاء الله ـ عزوجل.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠) [الأنعام : ٤٠] هذا من قواصم الاعتزال في نسبة الهداية والإضلال إلى الله ـ عزوجل ـ وقد سبق مثله ، وسبب ذلك ما يخلقه الله ـ عزوجل ـ من الدواعي.

والصوارف في قلب الإنسان فيهتدي أو يضل بها.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠) / [١٦٢ / ل]) [الأنعام : ٤٠] الآيتين : هذا من أدلة التوحيد ، وتقريره أن الإله هو المفزوع إليه عند الشدائد ، ولا شيء من الأصنام ونحوها ، بل ومما سوى الله ـ عزوجل ـ [مفزوع إليه عند الشدائد ، تنتج لا شيء من الأصنام ، وما سوى الله ـ عزوجل ـ] بإله ، والمقدمتان واضحتان.

(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) (٤١) [الأنعام : ٤١] قدم المفعول لإفادته الحصر وهو من أدواته كما سبق. (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١] هذا شرط مخصص لعموم (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ

٢٤٤

يَرْشُدُونَ) (١٨٦) [البقرة : ١٨٦] أو مقيد لمطلقه ، كما مر.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣) [الأنعام : ٤٣] وما / [٧٦ ب / م] قبلها تدل على أن الله عزوجل ـ قد يمتحن عباده بالبأساء والضراء والمصائب ؛ رياضة لأنفسهم على الذل والضراعة ، وإليه الإشارة ب (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (٩٤) [الأعراف : ٩٤] ، ويدل على أن التضرع عند النوازل من أنجع الوسائل ، ووجهه أن كبرياء الإله ـ جل جلاله ـ يقتضي له الضراعة والذل ممن دونه ، فمن فعل ذلك رحم ، كقوم يونس عليه‌السلام لما أظلهم العذاب تضرعوا ، فسلموا ، ومن قسى قلبه فلم يتضرع فقد أخل بوظيفة الكبرياء ؛ وعرض نفسه للهلاك.

ومثل هذا بعينه يجري مع ملوك الأرض ، من ضرع لهم سلم ، ومن تجلد عليهم قصم ، وهو أنموذج لما ذكرنا ، ويقال : إن النمر يواثب الإنسان ما دام منتصب الشخص ، فإذا نام تركه ، وفي الأثر أن الله ـ عزوجل ـ أوحى إلى داود ـ عليه‌السلام ـ : يا داود ، خفني كما تخاف الأسد.

ومن كلام بعض الحكماء : القضاء والقدر سبعان ، فتماوت بين أيديهما ، فإن السبع لا يأكل الميتة. وهذه المسألة تتعلق بصفة الكبرياء.

(فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٤٣) [الأنعام : ٤٣] مع قوله ـ عزوجل ـ (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٠٨) [الأنعام : ١٠٨] فالله ـ عزوجل ـ يزين ما يشاء بخلق الدواعي إليه والصوارف عن غيره ، والشيطان يزين بالوسوسة وهي سبب ضعيف ، إنما جيء به لإقامة الحجة على الشيطان وفتنته ، من نسب إيجاد الشر إليه بالظلم والعدوان. (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦) [النساء : ٧٦] والعلة التامة الموجبة لكل شيء هي إرادة الله ـ عزوجل ـ وتصرفه.

٢٤٥

(فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٤٤) [الأنعام : ٤٤] هذا هو حقيقة الاستدراج ، وهو ضرب من ضروب القدر ، بل بحر من بحاره ، غرق فيه الخلائق إلا من تداركه الله ـ عزوجل ـ فأنقذه منه أو حفظه ابتداء عنه.

(فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) [الأنعام : ٤٥] يحتمل أمرين :

أحدهما : أن الظالمين هلكوا / [١٦٣ / ل] والله ـ عزوجل ـ باق يستحق الحمد أزلا وأبدا ، فتكون هذه راجعة إلى صفة البقاء الأزلي الأبدي.

والثاني : أن الظالمين لما هلكوا ، كان هلاكهم نعمة من الله ـ عزوجل ـ يستحق الحمد عليها ، إذ هلاك الظالم راحة للناس ، فهو مستريح ومستراح منه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (٤٦) [الأنعام : ٤٦] هي من دلائل التوحيد من جهة الأفعال وكمال القدرة والتصرف. وتقريره : أن الله عزوجل ـ هو المتصرف في سمعكم وأبصاركم وقلوبكم بالأخذ والرد ، وكل متصرف في ذلك فهو الإله فالله ـ عزوجل ـ / [٧٧ أ / م] هو الإله.

بيان الأولى : أن هذا التصرف ممكن ، وكل ممكن مقدور لله ـ عزوجل ـ فهذا التصرف مقدور لله ـ عزوجل.

بيان الثانية : أن المتصرف في ذلك يجب أن يكون تام القدرة ، وكل من وجب أن يكون تام القدرة فهو الإله.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) (٥٠) [الأنعام : ٥٠] يحتج به من يرى الملائكة أفضل من الأنبياء ، وقد سبق ذلك ، وتقريره هاهنا أن الكفار كانوا يعتقدون أن الملك أفضل من النبي ، ولهذا طلبوا رؤية الملائكة ، وأن يرسل إليهم ملك ، ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم على هذا الاعتقاد ، وقال : أنا لا أدعي أني ملك كما تعتقدون في الملك ، بل أنا بشر أتبع ما يوحى إليّ ، وحينئذ يقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرهم على

٢٤٦

اعتقاد تفضيل الملك ، وكل ما أقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه فهو حق ، وللخصم منع الأولى.

(وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (٥٣) [الأنعام : ٥٣] يحتج به على المعتزلة في أن الله ـ عزوجل ـ يفتن من يشاء ، بأن ينصب له أشراك الضلال ليضل ، ولو لم ينصبها لهم لما وقعوا فيها.

وشرح ذلك أن الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه كعمار بن ياسر ، وبلال ، وصهيب ، وسلمان ، وخباب ونحوهم ، أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقريبهم ومخالفة الكفار في طردهم وإبعادهم ، فلما فعل ذلك ، قال الكفار : لو كان الإسلام منّة ونعمة لما اختص بها هؤلاء دوننا ، فكان ذلك الأمر سببا لهذا الاستدلال الفاسد الموجب لفتنتهم والامتناع من الإسلام ، ولو أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبعاد المذكورين ، وتقريب الكفار ، لكان أشرح لصدورهم وأرغب لهم في الإسلام ، ويشهد لهذا قوله / [١٦٤ / ل] ـ عزوجل ـ (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) [الحج : ٥٣] وفي الآيتين دليل على أن أفعال الله ـ عزوجل ـ وأحكامه معللة بالحكم والمقاصد ، إذ علل فتن الكفار بقولهم أهؤلاء من الله عليهم؟ وعلل إلقاء الشيطان في أمنية النبي ـ عليه‌السلام ـ بفتنة المرضى القلوب.

(وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤) [الأنعام : ٥٤] يحتج به على لزوم قبول التوبة لأن الله ـ عزوجل ـ أخبر بقبولها بقوله : (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٤) [الأنعام : ٥٤] إذ هو مرادف لقوله : «ثم من تاب قبلت توبته» ، وكل ما أخبر الله ـ عزوجل ـ به فهو واقع لا محالة.

ثم المعتزلة يجعلون قبولها واجبا عليه ، والجمهور واجبا منه.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩) / [٧٧ ب / م]) [الأنعام : ٥٩] عام فيها ، وهي الخمس التي في آخر لقمان ببيان السّنّة ، وظاهر الآية أن المراد وعنده علم كل غيب كلي أو جزئي ، وباقي الآية كالشرح

٢٤٧

لذلك ؛ فمنه : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) [الأنعام : ٥٩] إلى آخر الآية من الغيوب الكلية والجزئية.

واختلف في المقتضي لعموم علمه ؛ فقالت المعتزلة : هو ذاته لا لصفة زائدة ، وقال الجمهور : هو العلم ، وهو صفة قائمة بذاته زائدة على مفهومها ، وقد سبق ذلك.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٦٠) [الأنعام : ٦٠] أي بالنوم ، سماه وفاة بجامع تعطل الحس فيهما ، ومن ثم قيل : النوم أخو الموت ، وقد جاء في بعض كتب الأولين : أن الأرواح تعرج إلى الله ـ عزوجل ـ في حال النوم ، فيلقي إليها من أمره [ما يشاء] فإذا عادت إلى الأجسام ألقت ذلك إلى النفوس والقلوب ، فحركت له الأعضاء والجوارح.

وإن ثبت هذا فلعله المراد بخلق الدواعي والصوارف ، وعند الفلاسفة أن النفس عالم علوي مطبوع على حب إدراك العلوم والحقائق ، لكنه تعلق بهذا البدن الطبيعي قسرا على جهة التدبير له ، فهي مشغولة به حالة اليقظة ، فإذا كان النوم تجردت ، وإلى عالمها العلوي توجهت ؛ لاقتناص المطالب العلمية ؛ وتحصيل الحقائق الكشفية الغيبية ، فتحصل من ذلك بحسب قوتها واستعدادها ، وشبهوا النفس بامرأة مربية لولدها ، فلا تزال مشغولة به ما دام يقظان فإذا نام انتهزت فرصة خلوتها وتوجهت إلى ما هو من / [١٦٥ / ل] همتها.

وقد اختلف في أن الروح والنفس شيء واحد ، أو شيئان مختلفان ، فإن صح أنهما شيئان ، أمكن صحة القولين ، أعني قول الفلاسفة في النفس ، وما جاء في بعض الكتب القديمة في الروح ، وتكون النفس تحصل العلوم والروح تأتي بالأمر بالمحتوم ، وعلم ذلك تحقيقا عند الله ـ عزوجل.

(ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) [الأنعام : ٦٠] أي في النهار عن نوم الليل (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) [الأنعام : ٦٠] وهو أجل الحياة ، (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) [الأنعام : ٦٠] بالموت ثم البعث (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) [المائدة : ١٠٥] أي ويجازيكم عليه ، وهذه المسألة مركبة من أنواع من أصول الدين.

(وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٦١) [الأنعام : ٦١] وهم الكرام الكاتبون ، مع كل

٢٤٨

مكلف اثنان منهم يحفظون عليه أعماله.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) [الانفطار : ١٠ ـ ١٢] (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) [ق : ١٨] وبعض الزنادقة ينكرهم ؛ لأنه لا يراهم ، ويلزمه أن ينكر الهواء المالئ للفضاء لأنه لا يراه ، وأن ينكر عقله / [٧٨ أ / م] ونفسه وروحه ؛ لأنه لا يرى شيئا من ذلك.

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٦٣) [الأنعام : ٦٣] الآيتين من أدلة التوحيد ، وتقريره كما سبق في (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٤٠) [الأنعام : ٤٠].

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (٦٦) [الأنعام : ٦٦] يعني القرآن ، الدليل على حقيقته وجوه :

أحدها : أنه معجز في نفسه ، وكل معجز حق.

الثاني : ظهور معجزات غيره على يد من جاء به وأخبر بحقيقته.

الثالث : ما تضمنه من الأخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة ، فكان الإخبار مطابقا مع وجوه أخر.

(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) (٦٦) [الأنعام : ٦٦] منسوخ بآية السيف. أو خارج مخرج الوعيد ، فهو محكم.

(وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) [الأنعام : ٦٨] دلت هذه الآية على أن الناسي غير مكلف ، لقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) [الأنعام : ٦٨] دل على أن قعوده معهم حال النسيان غير منهي عنه ؛ لأنه فيه معذور بالنسيان ، ولو كان مكلفا حينئذ لتعلق به النهي ، وإذا ثبت هذا في الناسي ألحق به الساهي والمخطئ والجاهل والمكره ، يؤكد ذلك

٢٤٩

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه (١)» ولأن توجه التكليف مع هذه الأعذار تكليف ما لا يطاق ، وأنه مرفوع ، ويتفرع / [٦٦ / ل] عن هذا الأصل مسائل كثيرة من العبادات والعادات فيسقط لهذه الأعذار الإثم ، والحكم المختص بالله ـ عزوجل ـ دون الحكم المتعلق بحقوق الآدميين ، كدية الخطأ ، وقيمة المتلف خطأ ونحوه ، لأن ذلك من باب العدل ، والأعذار لا تؤثر في سقوط العدل ، بخلاف التكليف.

(قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١) [الأنعام : ٧١] هذا من أدلة التوحيد ، وقد سبق تقريره في المائدة (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٧٦) [المائدة : ٧٦].

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٧٣) [الأنعام : ٧٣] فيه إثبات النفخ في الصور ، [وقد تكرر ذكره] في القرآن ، وهو أمر من أحكام اليوم الآخر ورد به القرآن هكذا ، وبينته السّنّة بأنه قرن عظيم كسعة السماوات والأرض ، قد التقمه ملك يسمى إسرافيل ، وجثى على ركبتيه ينتظر متى يؤمر ، فينفخ فيه نفخا مزعجا جدا ، وعند ذلك تقوم الساعة ، ويبعث الموتى ونحو ذلك من أمور الآخرة.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) [الأنعام : ٧٣] أي أن الله ـ عزوجل ـ يعلم ما غاب عن خلقه وما شهدوه ، فالغيب إنما هو بالنسبة إليهم [لا إليه ، إذ] لا يغيب عنه شيء علما ولا رؤية.

واعلم أن العالم على ضربين : عالم غيب ، وهو ما غاب عن المخلوق : [٧٨ ب / م] وعالم شهادة ، وهو ما شهده كالسماوات والأرض والجبال والبحار وسائر الجزئيات العنصرية ، وعالم الغيب أشرف من عالم الشهادة لوجوه :

أحدها : أن الله ـ عزوجل ـ من قبيل الغيب ، ولذلك جعله أبو عمرو بن العلاء اسما

__________________

(١) رواه ابن ماجة في كتاب الطلاق [١ / ٦٥٩ / ٢٠٤٥] وابن حبان [١ / ١٧٨ / ١٤٣] والدارقطني [٣ / ١٣٩] والطبراني [١١ / ٨٩ / ١١١٤١] والبيهقي [٨ / ٢٦٤] والحاكم [١ / ٢٥٨] [٢ / ٥٩].

٢٥٠

من أسمائه ، فقال في قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ٣] أي : يؤمنون بالله.

الثاني : أن ما غاب عنا تشوقت النفس إليه عزيزا ، وما شوهد سئمته فصار ملولا وذليلا إلا ما خصه دليل.

الثالث : أنه حيث ذكر قدّم فلا يكاد أن يقال : عالم الشهادة والغيب ، وذلك لدليل شرفه على طريق العرب في تقديم الأهم ، سواء قلنا : الواو للترتيب أو لا ، وعالم الغيب [والشهادة هو المشار إليه بقوله ـ عزوجل ـ (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ) [الحاقة : ٣٨] ثم لنذكر أقسام العالمين : أما عالم الغيب ، فهو إما قديم أو حادث ، فالقديم هو الله ـ عزوجل ـ ولا تنكرن إدراجنا له تحت العالم فإنما هذا مجاز والمعنى مفهوم ، والحادث على أقسام :

أحدها : الملائكة.

والثاني : العقول.

والثالث : / [١٦٧ / ل] النفوس.

والرابع : النار ، والذي يرى منها إنما هو [مظهر لها] أو أثر من آثارها ، وأما حقيقتها فجوهر لا يرى كالهواء ، وأولى لأن موضعها أعلى من موضعه.

والخامس : الهواء.

والسادس : الجن والشياطين ؛ لأنهم فرع النار التي هي غير مرئية.

السابع : ما وراء العالم من قبيل الغيب ، ومن ثم اختلف فيه : هل هو خلاء أو ملاء؟.

الثامن : الآخرة غيب والدنيا شهادة.

التاسع : النوم غيب واليقظة شهادة ، والحيوان يتقلب بينهما كل يوم وليلة ، ويكشف للإنسان في منامه كشوفات غيبية.

ولقد أحسن الشيخ نجم الدين بن إسرائيل في قوله :

وإذا غدت للمؤمن يقظاته

حجب فموطن كشفه الأحلام

ومما يشبه ذلك المرض المغيب للذهن الذي يعرض فيه الاستغراق «كالبرسام» ونحوه حال الموت وغيره ، فإن الكشوفات تحصل فيه كثيرا ، وهو مشهور ، والمنام من أفضل أحوال الغيب ، إذ كان جزءا من النبوة ، وقد أوحي إلى الأنبياء في المنام كثيرا.

العاشر : الرجال السالكون إلى الله ـ عزوجل ـ إذا تمكنوا حصل لهم سكر ، وصحو ،

٢٥١

وهما غيب وشهادة ، ثم إن الغيب والشهادة قد يلزمان موضعهما من الخفاء والظهور ، وقد ينتقلان فيتعاقبان على موضع واحد كالسماء وزينتها النجومية ، هي غيب في النهار ، وشهادة في الليل ، وقد يتعدد موضعهما كزيد وعمرو غاب أحدهما عنك وشاهدت الآخر ، فهما غيب وشهادة ، وتفصيل ذلك يكثر / [٧٩ أ / م] وليس هو المقصود ، وإنما المقصود أن اللذة ضربان : حسية كالأكل والشرب والنكاح ، وعقلية كإدراك الحقائق العقلية ، والمعاني الروحانية ، والأولى شهادة والثانية غيب.

وإذا ثبت لنا أن عالم الغيب أفضل من عالم الشهادة ثبت أن اللذة العقلية أفضل من الحسية ، ومن فوائد العلم بذلك الجد في طلبها ، وسهولة الموت على النفس في العبور إليها.

فإن قيل : قد جعلتم الشياطين من عالم الغيب ، وزعمتم أنه أفضل من عالم الشهادة ؛ فيلزم أن الشياطين أفضل من الآدميين.

قلنا : الشياطين لهم جهتان :

إحداهما : كونهم من عالم الغيب.

والثانية : كونهم شياطين أشرارا.

فمن الجهة الأولى لا يمتنع أنهم أفضل من بني آدم ، ومن الجهة الثانية الكلاب / [١٦٨ / ل] أفضل منهم كما قيل في بني آدم من جهة كونهم أناسا عقلاء هم أفضل من البهائم ، ومن غلب هواه منهم على عقله كانت البهيمة أفضل منه.

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٧٥) [الأنعام : ٧٥] هذا يدل على أن قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠) [البقرة : ٢٦٠] أراد به طمأنينة العيان كما ذكر في موضعه ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ أخبر أنه أراه الملكوت ليوقن وإحياء الموتى من قبيل الملكوت الغيبي.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) [الأنعام : ٧٦] الآيات ، حاصلها أنه استدل بحركات الكواكب وأفولها على عدم إلهيتها وربوبيتها ، وذلك بناء على مقدمات :

الأولى : إثبات الأعراض ، وهي ما لا يقوم بنفسه ؛ فيفتقر إلى موضوع يقوم به ،

٢٥٢

كالحركة والسكون ، والألوان والطعوم والأراييج والأكوان ، وهي الاجتماع والافتراق وغير ذلك من الأعراض ، [وإثباتها شهادة بالحس.

[الثانية : أن الأعراض] مغايرة للجواهر بدليل أن الجوهر الواحد يعاقب عليه الأضداد من الأعراض كالحركة والسكون والسواد والبياض ، وذاته في الحالين واحدة فالجوهر الباقي غير العرض الفاني.

الثالثة : أن الأعراض لا تنفك عن الجواهر ؛ إذ لو انفكت عنها لزم قيام العرض بذاته ، وأنه محال.

الرابعة : أن الأعراض حادثة ؛ لأنها تتعاقب على الجواهر وجودا وعدما مسبوقا بعضها ببعض ، والحدوث من لوازم المسبوقية ، والملزوم موجود قطعا ، فاللازم كذلك.

الخامسة : أن ما لا ينفك عن الحادث أو لا ينفك عنه الحادث يجب أن يكون حادثا ، إذ لو كان قديما مع أنه لم يفارق الحادث لزم تقدمه على الحادث ؛ وذلك يوجب انفكاكه عن الحادث فيما قبل وجود الحادث ، وذلك يستلزم أنه انفك عن الحادث / [٧٩ ب / م] على تقدير أنه لم ينفك عنه ، وأنه محال ؛ ولأن زيدا وعمرا لو ولدا في ساعة واحدة ، ثم استمرا إلى تسعين سنة من مولدهما استحال أن يكون أحدهما مائة دون الآخر.

وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت حدوث الجواهر لعدم انفكاكها عن الأعراض الحادثة ، وينتظم البرهان هكذا : الجوهر لا يفارق الحوادث وكل ما لا يفارق الحوادث حادث ، فالجوهر حادث.

والعالم إما جواهر وإما أعراض ، وقد ثبت حدوثهما فالعالم المؤلف منهما بأسره حادث ، والحادث إما أن يكون الموجد له هو ، وهو محال ، أو غيره فهو إما حادث ؛ فيلزم الدور ، أو التسلسل ، أو قديم ، وهو المطلوب ، كما سبق تقريره ، فهذه الطريقة العامة في إثبات حدوث العالم ، وقدم الصانع ، وهي مستفادة من إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في مقامه هذا النظري ، ولقد أوتي رشده من قبل ومتكلمو الإسلام تلاميذه في هذه الطريقة ، وهي من أيسر الطرق وأحسنها ، والرشد الإبراهيمي عليها ظاهر ، ونور برهانها ساطع باهر.

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٨٠) [الأنعام : ٨٠] اعلم أن المعتزلة لما كانوا ينكرون كون العلم صفة زائدة على مفهوم الذات تأولوا نحو : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

٢٥٣

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥) [البقرة : ٢٥٥] على معنى معلومة ، ونحو : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) [النساء : ١٦٦] على معنى أنزله وهو يعلمه ، وأما هذه الآية ، ونحوها فلا يمكنهم تأويلها بذلك إذ لا يصح أن يقال : وسع ربي كل شيء معلوما ولا : وهو يعلم ، ولا : وسع ربي كل شيء ذاتا ، ولا حالا ؛ فتعين إثبات العلم هاهنا معنى قائما بذاته ، إذ التقدير : وسع علم ربي كل شيء ، كما يقال : طاب زيد نفسا ، أي : طابت نفس زيد ، وتفقأ الكبش شحما أي تفقأ شحم الكبش ، فهذه الآية ونحوها قوية في هذه الآية.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٨٢) [الأنعام : ٨٢] وقد وردت السّنّة بتفسير الظلم هاهنا بالشرك استدلالا بقول لقمان : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [لقمان : ١٣] فعلى هذا لا حجة فيه للمعتزلة ، وإن حمل الظلم على ظاهره العام ، أمكنهم أن يحتجوا به على أن صاحب الكبيرة مخلد في النار ، إذا لم يتب منها ، إذ يكون مفهوم الآية : أن من آمن وخلط إيمانه بظلم ما ؛ فليس له أمن ، ولا هو مهتد ، وهو ظاهر في دعواهم إن لم يكن قاطعا م [٨٠ / أم].

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (٨٣) [الأنعام : ٨٣] هذه الحجة المشار إليها ، إما استدلاله المتقدم على عدم ربوبية النجوم ، أو حجة أخرى على التوحيد ؛ لأن قومه كانوا صابئة مشركين ، وهما إنما كان يناظرهم على التوحيد ؛ واحتجاجه عليهم إنما كان بدليل العقل ، إذ لم يكن هناك سمع يلزمهم ، وأدلة العقل هي الطريقة الكلامية ، وفي هذا شرف عظيم للكلام وأهله ، إذ جعل الله الكلام حجة له أضافها إليه ، وجعل صدورها عنه بقوله ـ عزوجل ـ (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الأنعام : ٨٣] فيه إشارة إلى ارتفاع درجة المتكلمين عند الله ـ عزوجل ـ كما رفع درجة إبراهيم على قومه بالحجة البالغة الغالبة.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ

٢٥٤

داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨٤) [الأنعام : ٨٤] أي : ومن ذرية إبراهيم : (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) إلى (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) هذا يرد على اليهود دعواهم السابقة : أن النسب في شرع التوراة لا يلحق من جهة الأم ، حتى زعموا أن المسيح ليس هو ابن داود ، وذلك لأن القرآن شرك بين عيسى وسائر النبيين المذكورين معه في كونهم من ذرية إبراهيم مع أن عيسى (انتمى) إليه من جهة أمه ، فدل على بطلان دعوى اليهود ، اللهم إلا أن يريدوا أن العصوبة لا تثبت من جهة الأم فهذا نعم ؛ لأن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود إنما هم أجداد المسيح لأمه ، وليسوا بعصبة ، وليعلم أن أيوب ذكر في هؤلاء النبيين الذين هم من ذرية إبراهيم ، مع أن أيوب ليس من بني إسرائيل إنما هو من بني العيص بن إسحاق ؛ فأيوب هو ابن أخي إسرائيل ؛ لأن العيص ويعقوب إسرائيل هما ابنا إسحاق بن إبراهيم فأيوب هو ابن عم بني إسرائيل لا أخوهم من ولد إسرائيل ، وجميع الأنبياء من بني إسرائيل إلا اثني عشر منهم أيوب ، وهم : آدم ، إدريس ، نوح ، وهود ، صالح ، إبراهيم ، لوط ، إسحاق ، إسماعيل ، إسرائيل وهو يعقوب ، أيوب ، محمد ـ صلّى الله عليهم أجمعين.

(وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦) [الأنعام : ٨٦] يحتمل أن هؤلاء جميعهم من حيث هم جمع فضلوا على جميع العالمين ، ويحتمل أن كل واحد منهم فضل على عالم زمانه أو على من عدا باقي النبيين أو بعضهم.

(وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧) [الأنعام : ٨٧] هذا العموم لا يتناول عيسى ، إذ لا أب له ولا ذرية ، فهو مخصوص به.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٨) [الأنعام : ٨٨] يحتج به على المعتزلة من وجهين :

أحدهما : أنه] أضاف الهدى إليه ؛ فدل على أنه منه لا من العبد.

الثاني : أنه أخبر أنه يهدي بهداه من يشاء ، فجعل مناط الهداية المشيئة لا غيرها من طاعة أو استعداد ونحوه ، ولا يجوز حمل الهدى هاهنا على الإرشاد ؛ لأن / [٨٠ ب / م] الإرشاد [عام لا يخص ؛ بل هو للمؤمن والكافر بدليل (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٧) [فصلت :

٢٥٥

١٧] غير أن المؤمن يوفق فيهتدي ، والكافر يخذل فلا يهتدي ، وبالجملة الإرشاد] لا يلزم منه حصول الرشاد.

(ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٨) [الأنعام : ٨٨] ظاهر هذا أنه راجع إلى الأنبياء المذكورين وآبائهم وذرياتهم وإخوانهم ، فيدل على أن الأنبياء يجوز عليهم الشرك ، وأنهم إنما عصموا من وقوعه منهم لا من جوازه عليهم ، ونظيره (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥) [الزمر : ٦٥].

قوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) (٩٠) [الأنعام : ٩٠] يحتج بهذا على أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من جميع هؤلاء الأنبياء ، لأنه أمر بالاقتداء بجميعهم ، والاقتداء بهم فعل مثل ما فعلوا ، ولا بد أنه امتثل هذا الأمر لانعقاد الإجماع على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، حينئذ قد فعل وحده من الطاعة مثل ما فعل هؤلاء جميعهم ، والواحد إذا فعل مثل ما فعل الجماعة كان أفضل منهم.

ويحكى أن هذه المسألة وقعت في زمن الشيخ عز الدين بن عبد السّلام (١) فأفتى فيها بأنه عليه الصلاة والسّلام ـ كان أفضل من كل واحد منهم ، لا أنه أفضل من جميعهم ، فتمالأ جماعة من علماء عصره على تكفيره ، فعصمه الله ـ عزوجل ـ منهم.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١) [الأنعام : ٩١] دعوى منهم عامة ، في نفي الإنزال.

(قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى) [الأنعام : ٩١] نقض للدعوى العامة بهذه الصورة الجزئية ، ويحتج بهذا من يرى أن العام نص في كل فرد من أفراده ، إذ لو لم

__________________

(١) هو عبد العزيز بن عبد السّلام بن القاسم السلمي الدمشقي عز الدين الملقب بسلطان العلماء توفي سنة ٦٦٠ ه‍ انظر الفتح المبين [٢ / ٧٣].

٢٥٦

يكن كذلك لجاز أن تكون تلك الصورة الخاصة غير مراده من العام ، فلا ينتقض بها.

وقد اختلف في أن العام نص في أفراده ، أم لا؟

على قولين ؛ أحدهما : هو نص فيها لما ذكرناه.

والثاني : ليس نصا فيها وإلا كان تخصيص العام نسخا للقدر المخصوص منه ، إذ هو رفع للحكم في المنصوص عليه.

ويحتمل أن يكون نصا في أفراده في النفي دون الإثبات لاعتضاد العام المنفي بالنفي الأصلي دون المثبت ، فإذا قيل : لا رجل في الدار [أو : ما في الدار] من رجل ، كان نصا في نفي كل رجل فينتقض بزيد إذا كان فيها ، لأن النفي اللفظي اعتضد بالنفي الأصلي ؛ فحصل منها النص على نفي كل فرد بخلاف قولنا : الرجال في الدار ؛ إذ هو إثبات فلم يوافقه النفي الأصلي ، فلم يحصل التعاضد على النص على كل فرد ، فلا ينتقض بزيد إذا لم يكن فيها ، وهذا بحث جيد بادئ الرأي ، وعند النظر فيه لا يخلو من كلام.

(وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) / [٨١ أ / م] [الأنعام : ٩١] الكلام في عمومه كما في (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣) / [١٧٢ / ل]) [النساء : ١١٣] وقد سبق.

(قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٩١) [الأنعام : ٩١] أي قل : أنزله الله (ثُمَّ ذَرْهُمْ) يعني المنكرين (فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) [الأنعام : ٩١] ويستشهد به الصوفية ، وأهل السلوك على الانقطاع عن الناس بالقلب أو القالب أو بهما ؛ فيقولون : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ.)

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤) [الأنعام : ٩٤] هذا يحتمل أن يقال لهم يوم القيامة ؛ فيكون (ما خَوَّلْناكُمْ) [الأنعام : ٩٤] عاما مطردا ، ويحتمل أنه عقيب الموت فيكون مخصوصا بما يصحب أحدهم من الكفن من جملة من خوله.

٢٥٧

(إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٩٥) [الأنعام : ٩٥] عام أريد به الخاص ، وهو الحب والنوى الذي انفلق عن الشجر والزرع ، أما غيره فذلك يتلف في الأرض ، فلا يفلق عن شيء.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٩٧) [الأنعام : ٩٧] عام أريد به الخاص ، وهي النجوم التي لها هداية ، كالقطب والجدي والفرقدين ، ونحوها دون ما لا هداية له كالسيارة ، فإنها مشرقة ومغربة ومتوسطة ، فلا دلالة لها على جهة بعينها.

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٩٩) [الأنعام : ٩٩] هو عام مطرد في أن كل نبات ، فإنما هو خارج بماء السماء ، إذ ليس المراد بماء السماء المطر وحده ، بل كل ما في الأرض من بحر ونهر وعين ، وغير ذلك ، فأصله من السماء بدليل : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١) [الزمر : ٢١] ، (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) (١٨) [المؤمنون : ١٨].

(بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧) [البقرة : ١١٧] تضمنت خمس جمل كلها عام مطرد.

قوله ـ عزوجل ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠٣] احتج بها [فريقان : أحدهما :] المعتزلة على نفي الرؤية ؛ لأنه ـ عزوجل ـ تمدح بأنه يدرك الأبصار [وهو اللطيف] ولا تدركه ، ولو جازت رؤيته ، لما كان فيه تمدح. وجوابه من وجوه :

أحدها : أنه إنما تمدح بأن الأبصار لا تدركه لا بأنها لا يجوز أن تدركه.

الثاني : أن الإدراك ينبني على الإحاطة ، ونحن لا ندعيها ، وإنما ندعي الرؤية وإحداهما

٢٥٨

غير الأخرى.

الثالث : أن معنى الآية نفي رؤيته في الدنيا لا في الآخرة ، ونزاعنا فيه.

الرابع : أن الأبصار عام أريد به الخاص ، وهو أبصار الكفار في الآخرة ، بدليل : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) [المطففين : ١٥] وهو ضعيف.

الخامس : أن الآية عام خص بقوله : ـ عزوجل ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) / [١٧٣ / ل]) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وتمام الكلام في هذه المسألة يأتي في الأعراف ، وغيرها إن شاء الله ـ عزوجل.

الفريق الثاني : الاتحادية ، وهم القائلون بأن الباري ـ عزوجل ـ سار بذاته في الوجود كسريان الماء في العود / [٨١ ب / م] ووجه احتجاجهم بها أنه ـ عزوجل ـ أخبر أنه في كل حال من الأحوال يدرك الخلق وهم لا يدركونه ، وما ذاك إلا لأنه سار بذاته فيهم كالهواء الساري في العالم المتخلل لأجرامه ، ثم بين ذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٤) [الملك : ١٤] إشارة إلى أنه للطافة ذاته سرى في العالم ؛ فهو يراهم ، و [هم] لا يرونه للطافته وكذلك هو للطافته ؛ وسريانه فيهم خبير بأحوالهم ، وأكدوا هذا الاستدلال ، بقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (١٦) [ق : ١٦] (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) (٨٥) [الواقعة : ٨٥].

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤) [الحديد : ٤] ، (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦) [طه : ٤٦] (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (١٥) [الشعراء : ١٥] (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

٢٥٩

[المجادلة : ٧] الآيات مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المصلي يناجي ربه» (١) «إن الله بين أحدكم وبين قبلته» (٢) «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا ، إنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» (٣).

قالوا : وهذه نصوص كثيرة ظاهرة في أنه مع العالم بذاته ، فلا يجوز تأويلها على أنه معهم بعلمه ، لوجهين :

أحدهما : أنه خلاف الظاهر ، ولا قاطع يوجبه.

الثاني : أن المخالف فريقان :

أحدهما : لا يرى تأويل آيات الصفات ؛ فلا يجوز له تأويل هذه النصوص وإلا لزمه التأويل في الباقي.

والثاني : من يرى التأويل لكن التأويل لا بد له من دليل موجب له ، قاطع أو راجح على المؤول ، وكل دليل يبديه مما يوجب التأويل يلزمه مثله في مذهب التأويل ؛ فيستوي التأويل وعدمه في لزوم المحال عليه عنده ، وحينئذ يترجح ترك التأويل ؛ لأنه الأصل.

بيان ذلك المؤول لهذه الآيات على العلم إما مثبت للجهة ، أو ناف لها ، فإن كان مثبتا للجهة ؛ فهو إنما يتأول هذه الآيات على أنها بالعلم ؛ لئلا يلزم من سريان الذات القديمة في العالم مباشرتها للمحدثات ؛ فيجري عليها ما يجري على المحدثات ، أو لئلا يلزمها التحيز والانحصار في داخل كرة العالم. وكلا الأمرين باطل ، أما الأول فلأن الزئبق يباشر غيره من الجواهر ، وهو / [١٧٤ / ل] بطبيعته وصقالته لا يتلوث بها ، ولا يتأثر ؛ فجاز أن يكون للذات القديمة خاصة تمنعها من التأثر بالمحدثات عن مباشرتها لها ، وأما الثاني فلازم لهم في كونه على العرش مختصا بذاته بجهة فوق ، فإنه حينئذ لا يخلو من أن يكون مطابقا للعرش في المقدار ، أو أصغر أو أكبر ، وعلى كل تقدير يلزم منه التحيز والجسمية أو الجوهرية فقد لزمهم من مذهبهم ما فروا منه في مذهب الاتحاد ، وإن كان نافيا للجهة ؛ فهو إنما يفر من سريانه بذاته في الوجود من لزوم التحيز والانحصار ، وهو لازم له قطعا ؛ لأن نفاة / [٨٢ أ / م] الجهة اتفقوا على أن الباري

__________________

(١) رواه مالك [١ / ٨٠] ح [١٧٧] والنسائي في الكبرى [٢ / ٢٦٤] ح [٣٣٦٤] و [٥ / ٣٢] ح [٨٠٩١].

(٢) رواه البخاري [١ / ١٥٩ ، ١٦١] ح [٣٩٧ ، ٤٠٧].

(٣) رواه البخاري [٤ / ١٥٤١] ح [٣٩٦٨] وأبو داود [٢ / ٨٧] ح [١٥٢٦] والنسائي [٤ / ٣٩٨] ح [٧٦٧٩] و [٥ / ٢٥٥] ح [٨٨٢٤] وابن حبان [٣ / ٨٤] ح [٨٠٤].

٢٦٠